كشط الفتى النتوء البارز من فردة الحذاء ، وكان قبل دقائق قد وضعها بشكل جانبي قرب المدفأة النفطية ليأخذ الجلد تمدده المناسب. سحب الخيوط.. غرز الابرة السميكة في الجانب الأيمن من الحذاء.. أصوات السيارات تخترق رأس المرأة الجالسة على المصطبة في دكان الاسكافي ، تحاول أن تبعد عنها الضجر بالتطلع الى الزمن الشائخ في صف الأبنية الصدئة على الجانب.الآخر من الشارع.. تصدمها اللافتات المعلقة على واجهات تلك الأبنية ، والاعلانات المنقوشة على أعمدة الشارع فوق الأبواب ، بخطوط رديئة وألوان متعددة.. "نبيع ونشتري الأدوات الكهربائية على اختلاف أنواعها".. "عيادة الدكتور سالم الجنابي".. "تمور العافية ".. "فندق آخر النهار".. "شربت الحلوة ".. "فلافل حسنين ".. "أحذية التمساح "..
افتر ثغرها وهي ترى جموع التماسيح الخارجة من النهر ، تلقى جسرها المحرشف الطويل على الشاطيء بأرجل رخوة عارية من أيما حذاء.. أوقف خيالها صوت الاسكافي.
– تفضلي..
أخذت فردة الحذاء واطمأنت الى حسن إصلاحها ، ثم ناولته الفردة الثانية.. وقفت صبية متسولة عند الباب ، حاول الاسكافي تجاهلها ثم لم يجد بدا من الاستجابة لتوسلاتها.
– الله يخلي أولادك.
ابتسم الاسكافي الذي لم يبلغ الرابعة عشرة ، وانهمك باصلاح الفردة الثانية ، دست الصبية قطعة النقود في كيس قماش قطني وراحت تنظر بعينين متوسلتين الى المرأة فتشاغلت عنها بالتطلع الى صور الفنانين المعلقة على الحائط الى جانب الجلود المدبوغة ، وحين ابتعدت ، شعرت المرأة بوخزة ضمير ما لبثت أن بددتها بالنظر الى الشارع ثانية.
فندق "آخر النهار" يطو قليلا عن الأبنية المجاورة ، ختمبا بثلاثة طوابق شرفاتها كونكريتية تحكي زمنا فقد رائحته ، وبنوا فذ خشبية محشوة بالخرق البالية وقطع الكارتون ، وطر طول الشرفات المتآكلة امتدت حبال الغسيل تحمل ملابس رجالية حائلة اللون _ بيجامات وقمصان وألبسة داخلية _ وفي الزوايا تكدست قطع الحديد وأخشاب وبراميل.. كما انتصبت في كل شرفة مبردة هواء أكل حوافها الصدأ.. الصعود الى الفندق يمر عبر سلم حجري ضيق يكاد لا يبين من العتمة.. انتبهت ثانية الى صوت الاسكافي.
– إصلاحها يتأخر.. انظري.
وبسط قاعدة الحذاء ذي الكعب المكسور في الوقت الذي دخل فيه رجل كبير السن ، فرد عباءته وجلس قريبا من المرأة تسبقه أنقاسه العالية كأنه يعاني من ضيق في التنفس.. راح يخلع فردتي حذائه فانبعثت من جواربه الصوفية رائحة انتشرت في زوايا المكان الضيق مما جعل المرأة تنهض وتقف قرب باب المحل.
انهمك الاسكافي في إصلاح فردة حذاء الرجل فامتعضت المرأة وواجهت هذا التجاوز بالتطلع الى الشارع.. لاحظت الصبية المتسولة تعترض طريق أحد المدرة.. يبدو أنها ألحت كثيرا مما أضطره لدفعها فتحاشت السقوط بالاستناد الى أحدى ركائز الشارع ، يداها مفتوحتان على حركة توعد وفمها ينفتح بالسباب.. لاشك أنها تلعن الزمن الذي رماها الى هذه المهنة المذلة.
خطت المرأة صوب محل ادوات الزينة ، وراحت عيناها تستعرضان.. أحمر شفاه ، أقراط ، مناديل ورقية وأخرى من القماش الحريري المزهر ، علب مرطب الجلد، أقلام كحل.. وفجأة سقط بصرها على المرآة المعلقة على جدار الخزانة الزجاجية.. شعرت من خلال شحوب وجهها وجفاف شفتيها بأن السنوات قد سرقتها قبل الأوان.
تفضلي..
ومن دون أن تنظر الى الرجل القابع تحت أضواء النيون خطت بضع خطوات وشاهدت المتسولة تخرج من دكان للخردوات وتدخل محلا للألبسة الجاهزة.. تساءلت : ترى كم تكسب هذه الصبية في اليوم الواحد ؟ ثم وجدت نفسها قبالة >كان الحلويات والمعجنات.. صاح شاب من وراء الزجاج.
شعرت بأن نبرة صوته تنزح عنها ملابسها فاجتازته الى محل للحلي الذهبية.. قطع الذهب تلهث تحت الأضواء الساطعة.. صف للقلائد وأخر للميداليات ، وثالث للمشابك والمحابس.. وفي أرضية المعرض المغطاة بقطعة ساتان وردي، استقرت خبات الخرز الزرق المخضرة ، وذات اللون الأحمر والشذري.. طاردها صوت الرجل البدين من داخل المحل :
– الذهب للذهب.. تفضلي..
لفحتها رائحة الكباب المشوي وهي تمر من أمام أحد المطاعم فأشعرتها كم هي جائعة.. ثم تغيرت الرائحة ، صارت مشبعة بالرطوبة وطعم السمك عندما وقفت تنظر الى النهر من أعلى الجرف ، وكانت النوارس تقتنص زادها بحركات استعراضية. تنفست بعمق وحانت منها التفاتة الى تمثال ينتصب وسط ساحة صغيرة لرجل مطرق الرأس كأنه يشكو الاهمال الذي أحاط بقاعدته ، وقبالة دكان للخياطة لكزتها المتسولة
– من مال الله..
قالت المرآة:
– لم يعطني الله يعد..
كانت فردة حذائها _ عندما رجعت – ما تزال مركونة بين كومة الأحذية التالفة نظرت بحنق الى الاسكافي فأسرع هذا بالاعتذار ، لاحظت خلو المصطبة من الرجل زي الجوارب الصوفية فاتخذت مكانها متوترة.. شعرت بأن أصابع قدميها
تعرقت داخل النعال الأسفنجي فحررتها وراحت تحكها..
تذكرت أن عليها أن تشتري عددا من أرغفة الخبز ، وكيلو من الطماطم ، وعلبة لبن وبعض البتوليات ، راحت تجمع في ذهنها ثم شطبت على البتوليات وأنقصت عدد الأرغفة ، تذكرت أيضا أن عليها تسديد ديون الجزار وبائع الخضر، وأجور الكهرباء فاقترحت على نفسها أن تتنازل عن بعض المقتنيات ، وحين استعرضت ما لديها من أثاث ، لم تجد ما يفي بذلك.. منذ عام باعت معظم ما يمكن أن يباع.. الكراسي والفرش وبعض الصحون.. سبق ذلك ، الثلاجة والراديو والسجادتان اللتان ورثتهما عن أمها، والكؤوس الفضية هدية إحدى صديقاتها عندما تزوجت.. ثم خزانة الملابس الوحيدة ، والمكواة.. وعاشت صراعا نفسيا عميقا قبل أن تبيع ملابس زوجها المتوفى الى محل للألبسة المستعملة.. ومع ذلك فإنها تحمد الله كثيرا لأنها تملك البيت الذي يأويها..
كانت قد خرجت توا من دكان الاسكافي عندما زعقت سيارة واصطدمت بسيارة ثانية فتناثر الزجاج على أسفلت الشارع ، نزل سائقا السيارتين وراح أحدهما يشتم الأخر، تجمع الناس وحاول بعضهم فض الاشتباك ، وسط الجميع كانت المتسولة تلكز هذا وتمد يدها الى ذاك بتوسل مهين ، تدس النقود في الكيس الذي انتفخ ، ثم تمد يدها ثانية.. أطل البعض من شرفات فندق "أخر النهار" بفانيلاتهم المتسخة وبيجاماتهم المخططة.. سحب أحد السائقين قضيبا من صندوق سيار ته ، وقبل أن يهوي به على رأس الثاني سبقته الأيادي وانتزعت القضيب من بين يديه.. صرخ طفل وأسرعت فتاة تحمل حقيبة ملابس.. ركض صبي وانزوى خلف كشك للسجائر.. التصقت المتسولة بالمرأة فاجتاحها فيض من أمومة لم يشأ الله أن يمنحها إياها من قبل.. غطت جلبة الشارع على ثرثرة العابرين.. وجدت بعض السيارات طريقا فرعيا فسلكته متحاشية الازدحام.. أفلتت المتسولة جسدها فجأة وأسرعت صوب رجل تبدو عليه الوجاهة أكثر مما يجب.. تذكرت المرأة أنها لم تنقد الاسكافي أجره فعادت مسرعة اليه ، وحين مدت يدها الى حافظة نقودها اكتشفت أنها سرقت.
كان السير قد أخذ هجراه.. لم يبق سوى الزجاج المتناثر ورجل مرور يتوسط السائقين الصامتين على مضض ، يسجل في دفتره بعض الملاحظات.. امرأة تحذر طفلها من عبور الشارع وقطة تعبره بلا خوف.. وعند باب "آخر النهار" كانت الصبية المتسولة تهم بصعود السلم الحجري.. بدت أكبر سنا بصحبة الرجل الذي تبدو عليه الوجاهة أكثر مما يجب.
هدية حسين (قاصة من العراق)