ما من شك في أن موضوع "وجهة النظر" “Point de vue” ظلت منذ القرن التاسع عشر – وما تزال – حتى هذه السنوات إشكالية مطروحة تثير نقاشات متعددة ومتنوعة لدى السرديين والمنظرين والمبدعين باعتبارها مكونا من مكونات الخطاب السردي. فتعددت مدارسها واتجاهاتها من انجليزية وألمانية وفرنسية حتى كادت تصبح معضلة، ذلك لأنها مقولة متعلقة أساسا بالكتابة الروائية، والرواية عالم لا يحده حد ولا ينتهي الى تصنيف، بالإضافة الى أننا " لا ندرك المتن الحكائي إدراكا مباشرا وأوليا كما في المسرح مثلا، وانما من خلال إدراك سابق له هو إدراك السارد الذي يتغير بدوره بتغير تموضعاته، واختلاف أنواع العلاقات التي يقيمها مع شخصيات عالمه التخييلي. "(1).
وهكذا فإن مصطلح "وجهة النظر" قد مر عبر السنوات بمراحل مختلفة تبعا للسرديين والمنظرين حتى وصل الى "التبئير" “Focalisation” على يد المنظر الناقد جيرار جنيت Gerard Genette. مرورا بالناقد الألماني ستانزيل Stanzel ووصولا الى تزفيتان تودوروف T. Todorov هذا الذي اعتمد مصطلح "الرؤية " من أرضية ج. بويون J.Pouilon مع بعض التغييرات وبإضافة المظهر المتعدد للحادثة نفسها وسماها "الرؤية المجسادية" أو "المجسمة" “Stereoscopique” حينما تتعدد الأوصاف لحادثة واحدة.وهذه الرؤيويات هي: (2)
1- الرؤية من الخلف Vision par derriere (3)
وهي الرؤية التي تستعملها غالبا القصة الكلاسيكية، في هذا المجال فإن الراوي يعرف أكثر مما يعرفه البطل، وهو لا يهتم بإعلامنا بالطريقة التي حصل بواسطتها على معلوماته. تستوي عنده في ذلك جميع الشخصيات على اختلاف مستوياتها. كل هذا كي يزودنا بتفاصيل عالم يهيمن عليه بشكل تام، وكأنه إله، ويفترض أن تحكي الروايات التي من هذا النوع بضمير الغائب. ويرمز لها (سارد شخصية) أي أن السارد أكثر معرفة من الشخصية.
2- الرؤية مع Vision – avec (المصاحبة)
إنها الأكثر انتشارا خصوصا في الموجة الجديدة للكتابة الروائية. حيث يعرض العالم التخييلي من منظور ذاتي داخلي لشخصية روائية بعينها. ويمكن أن نميز هنا شكلا فرعيا يتم الحكي فيه بضمير المتكلم، وبذلك تتطابق شخصية السارد بالشخصية الروائية (السارد = الشخصية) ولا علاقة له إطلاقا بنوعية الضمير المستعمل في السرد، وهكذا يمكن أن يتحول الحكي بعد ذلك لضمير الغائب دون أن يفقد القارىء الانطباع السابق المتعلق بكون السارد شخصية مشاركة في الرواية.
3- الرؤية من الخارج Vision du dehors
هذه الرؤية هي مجرد اصطلاح. وفيها يكون السارد أقل معرفة من أي شخصية (السارد< الشخصية) إن الأمر هنا لا يعدو أن يكون مجرد مسألة تقنية متواضع عليها، لأننا إذا ما افترضنا جهلا كاملا للراوي بكل شيء، فهذا يعني أن الرواية لن يكون لها أي معنى وتصبر غير مفهومة.
وأما جيرار جنيت فإنه يستعمل مصطلح التبئير ويقسمه الى ثلاثة أنواع هي:(4)
أ- محكي ذو تبئير داخلي ثابت
Récit á focalisation internefixe
إنه يعرض كل شيء من خلال وعي شخصية واحدة، مما يؤدي حتما لتضييق مجال الرؤية، وحصرها في شخصية واحدة بعينها، لدرجة تصبر معها الشخصيات الأخرى مسطحة.
ب- محكي ذو تبئير داخلي متنوع
Récit focalisation internerariable
إن السرد يبدأ مبأرا على شخصية أول ينتقل بعدها لشخصية أخرى قبل أن يعود من جديد ليركز على الشخصية الأولى.
ح – محكي ذو تبئير داخلي متعدد
Récit focalisation Interne Maltiple
كما يحدث في الروايات البوليسية وروايات المراسلة مثلا التي يتم فيها عرض الحدث الواحد مرات عديدة ومن وجهات نظر شخصيات مختلفة.
وعليه فإننا نمثل لكل ذلك بالرسم التالي.
الرؤية من الخلف
محكي ذو التبئير الصفر
السارد
>
الشخصية
محكي ذو سارد عارف مهيمن (إله)
الروية مع (المصاحبة)
تبئير داخلي:
ثابت أو متغير أو متعدد
السارد
=
الشخصية
محكي ذو وجهة نظر
الرؤية من الخارج
محكي ذو تبيئر خارجي
السارد
<
الشخصية
محكي موضوعي
J. Pouillon
ج. بويون
Gerard Genette
جيرارجينيت
Todorov
تودوروف
النقد الانجلو
سكسوني
إننا ونحن نعرض لمصطلح "جهة النظر" بهذه الآراء، إنما لنؤكد على أن المقولة ما تزال تثير كثيرا من الآراء المتداخلة حينا والمتعددة أحيانا، وأن الروائيين يبدعون إبداعهم وفي أنفسهم
شيء من هذا الذي اختلف فيه السر ديون اختلافهم، ولذلك لا نعدم أن نجد ذلك أيضا على مستوى الروايات وعوالمها المتخيلة.
إن مصطلح "وجهة النظر" يأخذ دلالات متعددة قد تكون موقفا ورؤية للعالم والحياة والانسان، وقد يعني "العلاقة بين المؤلف والراوي وموضوع الرواية " (6).
هل يجب أن نؤكد على أن رواية "رمل الماية " محاكمة للتاريخ، تاريخ الحكام وقد زيفه الوراقون كتبة الكذب، استنطاق للمغيب والمسكوت عنه، مرثية حزينة للمدن المسروقة وقد باعها حكامها بأبخس الأثمان، تعرية لمحاكم التفتيش التي تتوالد وتتناسخ عبر العصور والأزمنة، في دورة لا تمل التوقف ولا تريده، تمجيد حنون للمسحوقين والعمال والفوالين في الأسواق الشعبية والأزقة والحواري، وهكذا كان البشير الموريسكي فوالا يحكي الفجيعة والفاجعة، متحديا آلة التعذيب الجهنمية، مواجها نفسه والآخرين بالحكاية، ولا شيء سوى الحكاية منشدا "النشيد الاندلسي المقموع (7) حتى التهلكة والاحتراق المعظم ! وللتعبير عن كل ذلك تنهض الرواية في عمومها، وعبر فصولها السبعة عشر على مجموعة من الساردين الذين في معظمهم يتخذون ضمير المتكلم أداة للسرد، وضمير الغائب، وهما معا وجهان لعملة واحدة، ويتم السرد بتقنيات متعددة لعل أبرزها هيمنة المنولوج الداخلي الذي "يسمح بثلاث طرائق لتشخيص الحياة النفسية لشخوص الرواية:
أ – المحكي النفسي القائم على خطاب السارد عن الحياة الداخلية لشخصية ما.
ب – المنولوج المنقول وهو خطاب ذهني على لسان شخصية ما.
ج – المنولوج المسرد وهو خطاب ذهني لإحدى الشخصيات يورده خطاب السارد. (8).
بناء على ما تقدم، لن نجانب الصواب – بعد قراءاتنا المتعددة للرواية على أن الرؤية المعتمدة هي الرؤية المصاحبة بتعبير تودوروف والتبئير الداخلي المتنوع بتعبير جينيت.
إن أعوان السرد/ الشخصيات ينهض كل واحد منهم بالسرد، يحكون أنفسهم ويعكسون البشير الموريسكي البؤرة المركزية للرواية،هذا الأخير الذي نجد صوته مهيمنا عبر التداعي والأحلام والذكريات والتماهي في شخصيات تاريخية كابن رشد والخلاج والبسطامي وأهل الكهف وأبي ذر الغفاري وغيرهم، ابتداء بالحاكم الرابع مرورا بعبدالله محمد الصغير ووصولا الى شهريار بن المقتدر الحفيد والذي هو في صراع معهم "لا أملك القدرة لأكون محمد الصغير، ولا لأكون شهريار بن المقتدر حاكم الجملكية " (9) إنه ينحاز الى العمال والكادحين والفوالين الذين لا يقولون إلا الحقيقة "كتبت نشيدا أندلسيا جديدا سميته "سينتصر شعبنا" تذكرت فيه الوجوه القمحية التي سقطت بين الأتربة في جبال البشرات، كان الجو مثلجا. وأنا يا سيدي لا أكتب إلا في الشتاءات (10). وهكذا تشترك كل الأصوات في تمجيد البشير، هذا الشيخ عبدالرحمن المجذوب يقول "سأحكي يا ماريوشا" الموريسكي في دمي، وحزنه في قلبي وذاكرته مآلي. سأحكي وأموت على الرصيف منتشيا بصدق الحكاية وسحرها. بل علينا جميعا أن نشترك في صياغة الحكاية. إنهم يقتلون العيون التي ترى أكثر من مد البصر، ويبيدون الوجوه التي تعودت على صفاء الحقيقة. لنشترك جميعا أيها السادة في وضع خطوط جديدة للمأساة التي لبسناها قبل أن أعود الى حيوانات الحديقة الوطنية." (11).
وهذه ماريوشا تعلن "الذي أعرفه هو البشير الذي عشش صدره بالجراح والأحزان. البشير الآن هو ما تبقى من التاريخ الموريسكي. هو العذوبة عينها. هو الحنين الذي يسرق منا بالتقسيط. هو الذاكرة المحررة والمحررة التي أجبروها على الانكسار تحت وطأة الأصداء التي كان يضخمها السطل الألماني الرنان " (12). بالاضافة الى العلماء / الحكماء السبعة الذين كانوا يعرفون كل شيء عنه وكانوا ينتظرون مجيئه ليكون المخلص والمنقذ والبشارة. ألم تكن وصيته لهم "على العلماء أن لا يتركوا الليلة السابعة تمر بهدوء (…) ن.ف.ق.ف.و. لم يعرفها الحكيم، حتى وهو يغسل يديه وذاكرته في دم محظياته، قلبه مليء بالظلام الداكن يا سيدي، تقول ماريوشا، نحن فهمنا وصيتك. أدركنا أنك تدعونا للوحدة لكسر الشوكة. النون (نحن) الفاء (الفقراء) القاف (قوتنا). الفاء (في) الواو (وحدتنا) (13)
أليسة هي صرخة اليسار "يا عمال العالم اتحدوا" إلا هذا الاتحاد في رمل الماية كان بين عمال البحر والبسطاء والعلماء / المثقفين.
وتلتقي وجهات النظر في بؤرة مركزية يمثلها البشير حتى أن الحكيم شهريار في لحظة تعرية مع نفسه يصرخ صراخه: "يا امرأة خليك من الكلام الفارغ الذي تقرئينه في كتب التاريخ. التاريخ مزور وبدون استثناء." (14).
ويمكن أن نمثل لذلك بما يلي:
|البشير = ماريونشا = عبدالرحمن المجذوب = العمال = العلماء. |
#
في تعارض وتضاد مع ( بينهما سور)
| الحكيم شهريار = دنيازاد = الشماليون = الوراقون |
وهكذا تصبح الرؤية /وجهة النظر ضد القصر وحاشيته، إنها نظرة ايديولوجية واضحة تؤكدها الرواية. وهذا صراخ البراح، يمثل انتصار البسطاء "يا السامعين ما تسمعوا الا سمع الخير. عام الجوع راح. والزمان ولى. والقصر اللي كان عالي طاح، والطير المحبوس على. يا السامعين ما تسمعوا الا سمع الخير" (15)..
فالليلة السابعة أكلت كلغاتها.
و "باختين " يؤكدها: "المتكلم في الرواية هو دائما، وبدرجات مختلفة منتج إيديولوجيا وكلماته هي دائما عينة ايديولوجية (Ideologeme) (16).
وهكذا يغدو، أخيرا واسيني امتدادا للبشير، وتغدو ماريوشا امتدادا لماريانة، ألم تصرخ ماريوشا في وجهه بعد أن فتحت الباب: "واسيني!؟ لماذا خرجت اليوم. حالة الحصار أعلنت ابتداء من هذا الصباح !؟".،
فيما يدخل البشير الكهف، هذا "واسيني" يخرج، فالمواجهة مستمرة والتوقف ليس الآن !
"وبهذا المعنى فإن النص المتعدد الأصوات (Polyphonique) ليس له إلا أيديولوجية واحدة: هي الأيديولوجية المشكلة (For matrice) الحاملة للشكل" (17).
وهذا "واسيني" [ والاسم يحمل معنى المواساة مثلما كان البشير يحمل معنى البشارة ] يقول:
"يريدون كتابا للدواوين والوراقين، في قلبي يا ماريوشا عذابات البشير ونشيده، وجنون سيدي عبدالرحمن المجذوب وصدقك الذي لا يضاهي" (18).
وهكذا فإن "النص التخييلي لا ينتج اعتباريا إلا من طرف مبارد، وفعليا من طرف مؤلفه (الحقيقي) ولا يتوسط بينهما أي شخص،وكل نوع من الانجاز النصي لا يمكن أن ينسب الا لهذا أو لذاك." (19).
الهوامش
1- عبدالعالي بوطيب. مفهوم الرؤية السردية في الخطاب الروائي بين الائتلاف والاختلاف – مجلة فصول. عدد 4 شتاء 1993. ص:68.
2- تزفيتان تودوروف، مقولات الحكاية الأدبية. ت عبدالعزيز شبيل. مجلة العرب والفكر العالمي. عدد 10 ربيع 1990. ص: 111.
3- عبدالعالي بوطيب , مفهوم الرؤية السردية في الخطاب الروائي بين الائتلاف والاختلاف. مجلة فصول. عدد 4 شتاء 1992 ص: 72,73 (بتصرف).
4- مرجع سبق ذكره ص: 74.
5- Christine Achour Convergences Critiques. Introductiona lacuture Simone Rezzoug Lifetailes Opu. Alges. P. 198.
6- انجيل بطرس سمعان. وجهة النظر في الرواية المصرية – فصول عدد 2.1982. ص103.
7- مشري بن خليفة – رمل الماية: النشيد الاندلسي المقموع – أسبوعية المسار المغاربي، الجزائر. 24 يونيو 1991 ص: 20
8- محمد برادة – الرواية أفقا للشكل والخطاب المتعددين، مجلة فصول عدد 4شتاء 1993ص:19.
9- رمل الماية ص: 414.
10- رمل الماية ص: 371
11- رمل الماية ص: 208.
12- رمل الماية ص: 475.
13- رمل الماية ص: 408- 409.
14- رمل الماية ص: 300.
15- رمل الماية ص: 466.
16-ميخائيل باختين.الخطاب الروائي. ت محمد برادة ص 90.
17- حميد لحميداني. حول مفهوم الفهم الفولدماني والحوارية الباختينية. مجلة دراسات سميائية. أدبية. لسانية. عدد 1. خريف 1987 ص: 125. نقلا عن:
Julio Kristira voir La preface de octa poefique de Dostoievski. T. denesse pae Isab ele Kolitech eff. Seuil. 1970.P.16.
18- رمل الماية ص 502.
19- عبدالقادر الشاوي اشكالية الرؤية السردية (السارد أو الصوت السردي) مجلة دراسات سميائية. أدبية، لسانية. العدد 2 شتاء/ربيع 87/88 ص:77.
جمال فوغالي (كاتب جزائري)