لعل من بين أفضل ما انتجته اختبارات سعدي يوسف الشعرية، قصيدته التي تسعى الى تجريد القول عن زوائده، محاولة الاقتراب من اتجاه يمكن أن نسميه مجازا: الشعرية الخالصة، أو الشعر الصافي، وهو اصطلاح يقبل الكثير من الا حتمالات، وسنحاول أن ننسب اليه هذه الصفة بما يمكن أن يقاربها في النزعة التصويرية imagism التي أكدت التقشف والتخلي عن الزوائد في القول، فهي تضع المشهد الشعري أمام الناظر كما لو أنه لوحة هادئة توميء الى عوالمها الباطنية وتتهرب من الانفعال المباشر برشاقة. وعبر هذا الميل استطاع سعدي يوسف أن يتفرد بقصيدة تخلو قدر طاقتها من الفصاحة الشكلانية والاسلوب المترفع، أو الموروث الشفاهي الذي يعتمد على الصوت الجهوري والأداء المسرحي في جانبه التطهيري. أي ذاك الذي يهدف التنفيس عن توتر ويقيس المسافة الدرامية بينه وبين القاريء بما يثيره فيه من امكانية التجاوب مع عاطفته الحماسية. لأن نجاح الشعر العربي عامة ارتبط بما يضمره من عنفوان وقوة الاناشيد الحماسية منذ امريء القيس حتى شعر رواد الحداثة العربية الى ما بعد منتصف هذا القرن. كما نستطيع أن نقول إن الميل الى التصويرية في أداء سعدي يوسف كان معبره نحو التخلص من رومانسية الشعر الثوري الذي كان هو نفسه أحد أهم ممثليه. بيد أن هذه النزعة لا تقتصر عند تشخيصها، على خلو القصيدة من الخطابية والرومانسية، بل تتمثل بأبعاد أخرى يدفعنا التصور الى أنها تتشابه مع مصدرها الأصلي الذي يلتقي بمحض الصدفة أو التأثر بالفروع، بحداثة الشعر الانجلو-امريكي مطلع هذا القرن، في الاتجاه الذي وضعه مجموعة من الشعراء في المقدمة منهم عزرا باوند.
النزعة التصويرية من حيث هي توجه أسلوبي لدى باوند، كانت تعنيا لتوكيد على الصلابة النحتية في القصيدة المشغولة بدقة وصرامة، مع الايجاز والتكثيف (1)، وهي تعبر عن تطلع جيل ما قبل الحرب العالمية الأولى للتعبير الشعري وفق وسائل تخلو من الانفعال العاطفي وتنزع الى أن تكون أكثر موضوعية وتشذيبا، في رغبة للابتعاد عن الرومانسية وفصاحة المرحلة الفيكتورية المتصنعة وتأثيراتها اللاحقة، أما بصفتها مدرسة فقد ظهرت كحركة حداثة ضمت مجموعة من الشعراء الامريكان والانجليز، أعلنوا عن أنفسهم في برنامج صدر في لندن 1912. وفي خضم تنظيراتهم أكدوا أنهم ورثة مجموعة من التيارات والحركات التي سبقتهم، وفي المقدمة منها اتجاه توماس ارنست هولم T.E.Hulme وكانت محاضراته وملاحظاته التي جمعها هربرت ريد في كتابه لاحقا Speculations) تأملات) بمثابة الاعلان عن تبدل في الحساسية الفنية في كل الميادين الفنية حيث أكد اتجاهها نحو هندسة الصورة، وتخليها عن عاطفية وحذلقة الرومانس. ورأى أن النزعة الجديدة بمثابة احياء للكلاسيكية التي تتميز بالتواضع ومعرفة الشاعر حدوده حيث يدرك أن أي خروج عن هذه الحدود يولد انطباعا بافتقاده الصدق، والافتقاد الى الصدق يجعله بحاجة الى الزخارف والتنميق. ويعد هولم أول من انتبه الى القصيدة البصرية في أسلوبيتها الشرقية. (2)
كما ترى النزعة التصويرية أن لها مشتركات مع حركات أخرى تسبقها ومنها البارانسية Parassian في ميلها نحو الموضوعية، والكمال التقني، ودقة الوصف، والصرامة، وذلك كردة فعل على النزعة العاطفية وانعدام الدقة في لفظ المدرسة الرومانسية، البارانسية نمت بالتوازي مع الميل نحو الواقعية في الدراما والرواية التي ميزت أواخر القرن التاسع عشر (3). كما تحدد النزعة التصويرية صلتها بواقعية الشعر الحر التي يمثلها والت ويتمان ومنحى قصيدته في مقاربة الواقع الصلب المرئي الملموس.
القصيدة المطلوبة والحالة هذه تصبح مركبا مكثفا تدخل فيه عناصر من الرسم والنحت والموسيقى أو الايقاع في حركته الخفية، وسيتحدث عزرا باوند في تقصي تجربته الشعرية عن علاقة قصيدته بالخطوط والألوان والرسم عموما متأثرا بتنظيرات كاندنسكي في الرسم. وسيعرف الصورة على أنها: "لب الشعر الصلب. هي الشيء الذي يكشف بواسطته الشعر شكله المتميز الذي يوازي الفنون الأخرى. وفي الصورة بالذات يحصل الشاعر على الاداة أو الوسيط المنتمي اليه حيث تتجاوز الكلمة الى عوالم أبعد منها" (4). لعل أهم منعطف في تطور مشروع الحداثة عند عزرا باوند ومجموعة شعراء تلك الفترة اكتشافهم نوعية الكتابة الصينية وقيمتها البيانية حيث تميز الأشياء مصيرها الخاص من غير حاجة الى التفسير والشرح.
ويميز كلينث بروكس Brooks المنظر الأمريكي القصيدة الصينية واليابانية بخصيصة يسميها (سطوة الصورة الواحدة التي تستخدم في العادة الايحاء والتلميح، متجنبة بعناية التصريح) (5).
ولعل الأداء الشعري لدى سعدي يوسف كان يرهص قبل نضوج مشروعه، بذلك الميل نحو تجنب الثرثرة في الشعر والابتعاد عن الايقاع العالي المصوت والصور المبهرة المتشظية، فهو أقرب الى اللطافة في ملامسة الأشياء بدقة ورهافة.
وفي حديث له عن الشعر الصافي يرى أدان بلنا الحيدري وهو يحاول هذا النوع من الشعر، أدخل أدوات وعناصر على قصيدته ومنها: الموسيقى، التكرار، الاختصار، الايماء، النظر الى الداخل، احكام النسيج، رهافة معادلات عمارته… أن ما تعلمته من تجربة الحيدري اطلالة الشاعر على الفنون الأخرى: الرسم والموسيقى والفن المعماري" (6).
في هذه الحالة علينا أن نبحث في قصيدة سعدي يوسف عما يمكن أن نسميه النزعة التصويرية في اتجاهها الى نقاء الشعر من شوائب الكلام، خارج اطار استذكارا ته التنظيرية. وما يفيدنا تتبع خطواته الأكثر نضجا في الشعر العراقي والعربي عموما من خلال مجموعة من القصائد التي توخت معالجة الموضوع الشعري مباشرة دون زوائد أسلوبية. ولعل ذلك الميل في شعره يمثل خلاصة جهد كان يظهر ضمن القصيدة الواحدة المتكاملة، أو ضمن مقطع أو مقاطع من قصيدته. ونحسب أن هذه النزعة تشكل هوية شعره المتميز الأكثر وضوحا والذي طمست غزارة انتاجه بعض معالمه، ولاسيما في السنوات العشر الأخيرة. فعدد كبير من قصائد التسعينات لديه تحاول الاتجاه شكليا الى هذا المنحى: البساطة، الاختزال، الصورة الواحدة، التخفف من الوجد، والعاطفة المحتدمة، ولكنها تفتقد في الغالب الى زخم قصيدته التي تجسد تجربة روحية عميقة.
وفي ايضاح ما نعنيه من تصور عن اهم اتجاه في شعر سعدي يوسف، ستفيدنا قصيدة (البرج) 1973 من ديوانه (تحت جدارية فائق حسن) كعمل يمثل خلاصة تجريبه الناضج في سنوات خصبه الأولى، فهي قصيدة صارمة ومباشرة ونظيفة حسب تعبير اصحاب النزعة التصويرية وهي بصرية من حيث مكونات نسيجها اللغوي ونبرتها الخفيضة ووضوح النزعة التشكيلية في صياغتها:
"كلما ضقت بالسهل، واجهني عاليا..
كان صخر الجبال القريبة ينمو عليهن وتنمو على
الصخر أعشابه
كان برجا قديما
منه أبصر حتى القلاع موطأة، والسماء التي يحتويها
سديما
كان برجا قديما
مائلا لليسار قليلا، ومنهدم الباب
يدخله الصاعدون
ويخرج منه الذين يرون النجوم القريبة.
ولقد يأخذ السائحون
في حقائبهم بعض أحجاره.. للمعارض والكتب
والمدن المستريبة.
وهو يسخر، في صمته، عليا..
مشرعا بابه المنهدم
مائلا لليسار قليلا
مائلا في المعارض والكتب والمدن المشتريبة هما مقيما
كان برجا قديما".
هذه القصيدة تعتمد على الصورة المهيمنة للجماد، الثابت المستقر في المكان. يضع الشاعر التخطيطات الأولى لها حين ما تكتمل على هيئة شكل امامنا. العناصر فيها تشخيصية تجسد تشكيلا مكانيا يوحي باستقراره، وهو يستدعي الى ذهننا العنصر النحتي فيه، حيث تحذف الاضطرابات الانفعالية التي تهبط في العادة بالمتحرك الى دوامة الانشطة الجزئية في الاشياء في حين يقيها الصقل الصامت الساكن في استمرارية ثباتها (6).
يركز الشاعر انتباه القاريء على هذه البؤرة (الجماد) ويجعلها ساطعة واضحة، عبر تكرار الزمن المستقر (كان برجا قديما). في لمسات قليلة وموحية يوبأ حركة هذا الجماد، فصخور الجبال التي تنمو متواشجة مع نمو اعشابه تواصل الظاهرة الزمنية في ديمومتها المتواترة. يحرك الشاعر الهواء قليلا حوله (مائلا لليسار قليلا، ومنهدم الباب) يظهر من هذه الحركة ايقاعها الداخلي والهاديء في حالين لهذا الشيء -مائل، منهدم – بيد ان الزمن عبر هاتين الحركتين يخلو من طابعه التوتري، اي من زمنيته الواهنة، ليصبح ذاتيا او أمنيا او مطلقا ان شئنا، لأن الحركة الخفيفة تدخل هذا (الشيء المرئي) في موقف نوعي. انها نتجا به نحو الانفعال أي الرؤية التي يتحدث عنها تودروف، تلك التي تسمح بوصف الانتقال من الخطاب الى التخيل، ويدلنا على هذا الحضور في الايقونات، فالوجه الرئيسي موجه نحو المشاهد، في حين أنه ينبغي أن يكون – حسب المشهد المعروض موجها نحو المحادث. الرؤية حسبما يصفها تودروف حيلة التخيل أو بلاغته (7)، وحيلة التخيل في هذه القصيدة تعتمد في فهمها على قوانين تختلف قليلا عن تلك التي تحكم علاقة القاريء مع القصيدة الوجدانية. فلدينا هنا صورة واحدة تواجه قارئها حين تدرك شكل الشيء المعروض لذاته لا للعاطفة التي تحف به، فنحن ننتقص من هذه التجربة الانفعالية عندما نؤولها كما هو متداول، على أنها تعني تخيلا، صيغة قضية معنوية مجسدة، فبعضنا يمكن أن يسأل ببساطة كما هو الطريق المفني الى اللغز في الحكاية الشعبية: ما هذا الشيء الذي يشبه البرج في ميلانه القليل الى اليسار؟، وما البرج الذي (يسخر في صمته، عاليا../ مشرعا بابه المنهدم قليلا). وربما نحاول التنقيب عن معان فكرية أو معنوية، بيد أن جمال القصيدة مستمد من لغز صيرورتها في زمن خارج الزمن العارض للموا قف سواء كانت فكرية أو سياسية. انها تتخفف من عبء المعنى عندما يكتفي الشيء الموصوف بجماله الذاتي مبتعدا عن قدرته على محاكاة الفكرة. كما أن هذه الصورة تكتمل عندما نستطيع عزل العناصر التجريدية عن التجربة الذهنية لنتلمس واقعيتها. فعنصر المفارقة الشعرية ينبثق في لحظة ادراكنا البعد الروحي للصورة المجسدة في التشكيل سواء كان نحتا أو رسما أو صورة شعرية توازي الفن التشكيلي ولا تحاكيه لأن الفن الشعري لا يحاكي التشكيل في كل الأحوال. أي أننا نكون قادرين على أن نحرر هذه الصورة من الرمز والاشارة التبسيطية والوجد الرومانسي، عندما ندرك قوة الايماء فيها أو اللمحة التي تمر عابرة في خاطرنا بما يشبه الانخطافة بعيدا عن الاحساس بدراميتها أو بقدرتنا على تفسيرها.
وفي قصيدة أخرى يكون للفعل أهمية تصويرية خارج زمنية حدوثه. نصه (القنفذ) 1979 يرسم هيئة حيوان بطيء الحركة (يكمن في قارته القديمة / منكمشا، بين تراب الشمس والعشب المسائي / وحيدا، / بطنه الأبيض مشدود كجلد القوس / والعينان تشتفان صوت النمل / والرجفة في الماء الذي يخترق الجذع / وتشتفان ما يلمسه الطفل إذا جن / وما تأتي به الأشجار، أو تأتيه.. / والقنفذ / هذا الكامن المأخوذ بالأشياء في قارته القديمة / والمحتبي في الغفلة العظمى / الذي ان ظنه الأطفال يوما / كرة الأسمال يلهون بها، / أو حسبته المرأة الصخر الذي يدلك رجليها / وأفعى النخل ان ظنته فأرا هامدا / ما حل من حبوته. لكنه في أول الليل / وفي قارته القديمة، يسعى / بطيئا ضاحك العينين / مسرورا بأن الأرض فيها هذه الفتنة.)
هذا السرد الذي تكمن فيه سخرية خفية، يبدو فيه ما يشبه الاذعان الى قوانين النثر في الكتابة الشعرية ونجد تطبيقاتها في الكثير من شعر هذا الشاعر. فالنص بما يقوله لنا عن طبيعة فيزيائية للحيوان، يثير ملس الاحساس به، البصر يحيلنا الى المنظر الواقعي لا المتخيل أو الشعري في حالته، منظر هذا الكائن المسحور بعالمه الباطني، فوصفه التفصيلي وضع بين أيدينا حالتين من التضاد: الخشونة الظاهرية ونعومة الباطن. وعبر تصويره الصفات الأولية التي تدركها حواسنا: الحجم والشكل والحركة، أحالنا الى البؤرة الشعرية التي تتمحور حول المدرك الحسي في هذه الحالة. صفات هذا الكائن المنظورة تتحول الى مواهب في التخفي تمنح لصورته بعدها الملتبس. فبتحوله الى صورة الجماد يبني حوله متاريس تمنع عنه الأذى، وتلك مفارقة سردية لا تمت الى الشعر بصلة كبيرة، بل تميل الى النثر العقلي في معرفة طبيعة الأشياء وفي كمسها. ما أدركا الشاعر من معنى يبقى ضائعا ومفتقدا لشعريته لأن احالة اشاراته في كل الأحوال واقعية. غير أن بمقدورنا ادراكها تحت تأثير مستويين من الوعي ذاتي وعام وعندما يتحقق الأول تصبح للغة تقرير الحقائق أو اللغة النثرية في بعدها العقلي وظيفة شعرية، ربما ينسبها الشاعر عند تفسيره مضمون القصيدة الى صفات الرجل الذي يتخذ هيئة القنفذ (المتقنفذ) (8). ولكنه في هذه الحالة ينزع عنها بداهة اللحظة التشكيلية التي يضع فيها الشاعر اللمسات الأخيرة للوحته حيث ينقلب كائنه المضحك الى ما هو عليه من حالة شعرية سيسل فيها قائل النص احساس الحيوان الباطني (مسرورا بأن الأرض فيها هذه الفتنة) هذا هو الانحراف أو حركة الالتفاف التي تحقق حيلة التخيل، لا في طرافة المفارقة بين الكائن وفعله، بل في ممكنات السكون والحركة في رسم الصورة المرئية. طقس الشعر هنا يحاول أن يغير بعض شعائره، فالأثر الذاتي المتحقق عند المتلقي لا يعتني بعاطفية الرسالة أو انفعا ليتها ولكنه يهتم ببصريتها وبصوريتها.
المخيلة التصويرية تتحول من عالم الطبيعة الخارجي الى نظام ترميزاته في قصيدته (الجوهر) 1989 بعد تجريد بعض مكوناتها عن المشخصات العينية، وتبقى الصلة بين الذات والموضوع تعكس الرغبة الحيادية في نقل المرئي الى المشاهد. وهو نص يذكرنا بشعر التصوف مع أن سعدي يوسف لم يلتجيء الى تقليد هذا الضرب من الشعر أو التشبه بمفرداته الا نادرا وهي ميزة تحسب لصالح هذا الشاعر. يوقع القائل هنا بموسيقى خفيفة على المعنى من دون أن يستخدم العاطفة:
" بينما كانت الريح تدخل في دوحة الجوز
قلت لها: هل تبيتين فيها ؟
قالت الريح: من كان مثلي نبيها
بات يسري..
ولكنني، لحظة، استريح
قلت هامسا: ومن كان مثلي يا ريح؟
ردت: عدمت الشبيها."
لنرسم تشكيلا هندسيا لهذا النص لكي نلامس موضوعه، ومنجد أمامنا دائرة في متخيل مفترض. الاطار العام للحركة يدفع تصورنا نحو هذا الشكل الدائري. هناك دوحة الجوز التي تدخلها الريح، ونستطيع ادراكها حسيا. وهناك سكون متحرك في ذلك الحوار بين الريح وقائل النص يحرضنا على تخيل صيغة استراحة الريح، وهو تخيل روحي أكثر منه ماديا لأن زمنيته ضائعة توميء الى عالم باطني من دون أن تفصل فيه. الريح تفلت من المستقر بما لها من صفة اختارها القائل من أجلها. فهي هنا تتردد ضمن مجاز عقلي أعم من الاستعارة. ولكن أين التأويل في هذه الفقرة ؟ لعلنا نجده في صيغة الحوار وفي مضمونه ودلالته. أي في توق القائل الى التشبه بالريح تلك التي تخالف صفاتها فهي في الأصل لاستقر لها، ولكنها تدخل الآن في حيز مكاني يبدو القائل عاجزا عن أن ينسب لنفسا صفة تبدل طبعها.
الأهم في هذا التعبير الصورة التشكيلية التي تجذبنا: طريقة نحتها، اختصارها. الايماءة التي تشير الى العالم الباطني والضربة الأخيرة فيها. نستطيع أن نتحدث عن الوعي مجسدا في صورة، صورة تنطوي على حركة دينامية رشيقة دائرية تلف النص وتتهرب من الواقع الصلب مع أنها تصفه في لمسة واحدة.
في النصوص الثلاثة نستطيع أن نمسك الميزات التي تشكل القاسم المشترك في تجربة سعدي يوسف في هذا الميدان ومن أبرزها: سطوة الصورة الواحدة، الاختزال، التهرب من المعنى المباشر، الصيغة التشكيلية ل وضع لمسات قصيدته. انه يقول: "الشاعر يكتب بعينيه وأنامله ومسمعه. وثمة آلة عود خفية، صغيرة، كالتي جاء بها الشاعر الصيني هان فوك من ذلك المنبع قرب النهر العظيم. هذا العود الخفي، يهب كل ما ترده العين، وتلمسه الأنامل وتستقبله الآذان، ايقاعه الخاص المتفرد" (9).
لعل تجديد سعدي يوسف وفق هذا المنحى، كان من أهم مشاريعه، بيد أنه لم يسع الى استكماله عبر محاولة ايجاد مخرج للتخلص من عبء التفعيلة، لأن طموح الشاعر بقي محصورا في اطار موسيقى ما سمي بالشعر الحر، في حين يوفر هذا المشروع بتكوينه التقني لغة وعوالم، وامكانات أرحب للانطلاق خارج نظام الوقفة في أقل تقدير، تلك التي تظهر في الكثير من نصوصه كحواجز كابحة تعوق امكانية تقدمه نحو قول عصري يستخدم لغة طليقة من دون محددات.
الكثير من قصائد هذا الشاعر الجيدة تعتمد على بداهة طبع وعفوية، غير أنه في الوقت عينه شديد الانشغال بالكيفية التي يؤلف فيها تركيبة قصيدته، وسنجد في العديد من النماذج التي ترجمها لمجموعة من الشعراء ما يدلنا على مشتركات بين شعره وشعرهم. فهو يختار ما يترجمه وفق هوى شعره أو وفق استشعارات وجدانية وجمالية تربطه مع الشعراء الذين ينقل عنهم. وفي معرض حديثه عن الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس الذي قدمه الى القاريء العربي يقول "وراء قصيدته جهد عظيم، وروح مصفاة، صافية، أوصلت قصيدة الحياة اليومية لديه، الى هذه القطعة الغريبة من البلور". (10) وليس مصادفة أن نجد في رصد الاشياء على نحو تعبيري وأخر صوري لدى ويتسوس ما يرجح تلك الميزة التي تتشابه وقصيدة سعدي يوسف، وعلى وجه الخصوص تلك التي تتبع فيها حالات الأشياء في الطبيعة: الورقة، الغيم، الشجرة الى ما اليه من صور ساكنة تتفتح على علاقة تأمل وتمعن بين مركبات الأشياء في ذاتها لا في انتسابها الى ما هو خارج عنها. في حين نجد الكثير من قصائده مشبعة بالصيغة التعبيرية في الافصاح عن تلك العلاقة، أي بما له من قدرة على اقامة علاقة ذاتية حميمية مع الأشياء. ان تجاور الصيغتين في شعر سعدي يوسف يدلنا على مشهد واحد من مشاهد تجريبه المنوع، ولكن هذين النهجين هما الأكثر وضوحا في شغله. ويظهر الاختلاف بينهما في جانب مهم من تجربته التي تشبع التعبيرية فيها الصيغة الرومانسية، في حين تحاول التصويرية التقليل من قوة حضور الرومانس في نصه أي علاقة الذات بموضوعها.
يكتب سعدي يوسف في (الينبوع) 1982:
"لكنني للبحر، هذا البحر، أرجع
احتوي عدنا بجيب قميصي الصيفي
المسها كأني المس امرأة السواحل
والقباب البيض
والأهل الذين نأوا…
ويهتف بي دمي
أني الى الأمواج أرجع
أحتوي عدنا بجيب قميصي الصيفي
أحملها كوردة ساحر
وأقول للعشاق: هذه وردتي
فتقدموا للبحر
أن سميه صدف
وأن شميمه أحمر…"
ويكتب في نصه (الجزائر) 1980
" في المقهى
رائحة الصوف، وشمس غاربة
والساعة
ثابتة عند الثالثة…
القهوة الباردة.
يدخل شرطي في المقهى
يجلس في زاوية، ينظر نحو الساعة، جديا
ويعدل ساعته،،
يأتيه النادل بالقهوة ساخنة،
يشربها
ويغادر.
أنظر نحو الساعة في الحائط
: هل كانت في الثانية ؟
المقهى يكتظ / ويمضي النادل نحو الباب
ويغلق باب المقهى."
القصيدتان تجسدان تجربة ذاتية، بيد أن الإدراك الأدبي للمكان لدى الشاعر يظهر في طريقتين للأداء، فانتساب الفاعل الى المدينة في النص الأول تنتظمه علاقة انصهار، ولفرط المودة التي يستشعرها بتبادل المواقع بينه وبين الشيء المرصود، يكون هو الذي يحتوي المدينة في جيبه، في حين تقتني المحبة في هكذا ظرف أن تضمه هي اليها، المقطع يفيض بذلك السحر الغنائي الذي يقرب الأشياء من بعضها ويربطها بدف ء المشاعر. روما نسيته تتبدى في تناغم الذات مع الطبيعة، الشعور بحلول المثالي في الواقعي على نحو تعبيري، والفاعلية الحاسمة في هذه الصورة تكون للذات الفردية التي تمتزج مع موضوعها. فتغدو عدن – المدينة، مكانا عاطفيا تضفي عليه محبة الشاعر الأوصاف التي تشكل هيئته المجسدة. في حين يستخدم الشاعر في القصيدة الثانية المنطق التصويري لبث اشاراته عن المكان، فالجزائر تختصر بمقهى، في حين كان يرى الى المدينة الأولى على أنها البحر في اتساعه. تمثل أمامنا نسقا من التبدلات الطفيفة في حركة الصورة في القصيدة الثانية التي يقف منها المصور على مبعدة وينقلها بحياد عاطفي، فهناك ما يشبه الثبات على زمن تتوقف عنده الساعة المعلقة على الحائط وهناك روائح سرية يشيعها المكان – رائحة الصوف، وشمس غاربة – وهي تشير الى تلك اللمسات الهادئة التي يرتب بها منظر الطبيعة الصامتة في اللوحة اجراء طفيفا يطرأ على الايقاع حين يدخل الشرطي ويهرع النادل اليه. ولكن حركة المادة تبقى باطنية، مع أن كل اشاراته توحي بواقعية الحالة وزمنيتها. إن تجريد الصورة وسرية حركتها تعكسها موضعة الذات في موقع ادراكها الكلي في الحالة التي تمثلها المدينة، عبر رصد الجزء الصغير فيها (المقهى) وهنا يمكن أن نلحظ الفرق البين في اتجاهات شعره بين تعبيريته والنزعة الأخرى التي تقرب من الاسلوب التصويري.
تطور مشروع سعدي يوسف فيما يمكن أن نسميه المقاربة الموضوعية للحالات والأشياء، ولعل شغله في السنوات الأخيرة يميل في الغالب الى هذا النوع من الشعر. انه يجد الأسباب الأكثر رجحانا لترك المسافة بينه وبين مواضيعه بعد أن تقدم به العمر، ولم يعد الرومانس والغناء العاطفي يستهويه. بيد أن ما يكتبه الآن لا يمت الا بصلة ضعيفة الى ما برع به في السابق وعبر قصائد قليلة أو في مقاطع محدودة ندرك صوت سعدي الذي نتعرف عليه ويفلت منا كما لو أنه أقرب الى الصدى الواهن لتجاربه المهمة. نعثر في ديوانه (محاولات) الصادر في 1990 على مجموعة من النصوص القصار التي يحاول فيها الشاعر تعزيز تجريبه في الشغل التصويري، بل ويستعين في واحدة منها (خريف وامتثالات لابيات يابانية) 1987 بقصيدة شاعرة يابانية من القرن التاسع، وأول ما نلحظ في هذه القصيدة ذلك الخلل البين في هارموني تركيبها بين اللطافة التي تمس فيها الشاعرة الأشياء وبين شغل سعدي الذي تثقل خطواته سنوات العمر وكثرة الانتاج فتبهت صوره ويضطر الى الافاضة والاسترسال بدل أن يحضر ويصقل صورته من الشوائب:
الشاعرة تقول:
: "قمر بهي/ كما سرت / تناءت أبعد فأبعد/ سماء مجهولة"
ويقول سعدي: "سعفة في البعيد، في المسجد التركي تهتز./ والجبال الرمادية موسوقة باعبائنا../ أيان نمضي الى الغلال، ونمضي عن بهاء الجبال،/ نتركه للريح والنمل والارانب والثلج،/ أتركي لي رسالة في صناديق البريد التي / تخلى ذووها عن مفاتيحها، سأسأل عنهم / واحدا واحدا، لأخذها من واحد، ليته / يفيق فيهديني صباحي تحية وسلاما.." كم تتباعد قصيدته هنا عن مسارها الأول الذي كان يعتمد تجربة روحية ثرة ومتأنية، في حين يتكيء في الكثير من نصوصه الجديدة على فراغ يجعل منها خاوية تشكو من نثرية قولها وضعفه. فهو يكتب فـي (ذكرى المدينة) 1989.
"الجنود يغنون / جاءوا هنا، بقطار الضواحي/ وأقاموا معسكرهم، في دقائق.. / أما قطار الضواحي/ فهو ينقلنا منذ شهر وشهر وشهر / بعيدا / وفي عربات الخواف / الى ما وراء الضواحي".
وفي النص الذي كتبه في العام 1993 تحت عنوان (الى الامام) يقول:
"الرايات / خافقة، تحت سماء / تتكون بعد…/ أما نحن المنذورين لنحملها/ تحت الريح / وتحت المطر/ فعلينا أن نتكون أيضا".
الراية هنا وسيلة ايضاح متداولة في الشعر السياسي، ومما يزيد ضعف استخدامها، محاولة الشاعر أن يخلق مفارقة نثرية بين كلمتي (تتكون) و (نتكون)، حيث يشح معجمه اللغوي وتغيب البداهة عنه، تلك التي ميزت قوله في النصوص الناجحة.
أصدر سعدي يوسف منذ منتصف الثمانينات مجموعة كبيرة من الدواوين الشعرية تجاوزت العشرة ولكن القليل منها ينتسب الى شعره الأول من حيث النوع. ومشطته كما هي الحال مع كل الشعراء الذين نالوا مكانة متميزة، تصميمهم على افراغ تجاربهم الأول من قيمتها الأصلية والاعجاب بالنفس والنرجسية التي يصنعها النقاد المتملقون والصحافة، تنسي الشاعر قيمة التوجس والخوف من الفشل ومن ضياع ما ربحه في سيرته الأولى فيمضي مصمما اشباع تجاربه من دون جدوى. يكفي الشاعر عشر قصائد أو أكثر قليلا لكي يبرهن على أهميته، فإن جعل نتاجه يتردد بين حدود هذا النجاح فقد استطاع المحافظة على منجزه. غير أن الاسراف في التجريب وتكرار الصيغ القديمة تحدث اللبس عند قارئه. ان نتاج سعدي يوسف الغزير في السنوات الأخيرة، أضاع قيمة شعره وبعثر الكثير من جهوده، فبدت قصائده الضعيفة وكأنها تأكل تجارب عمره المتألقة، بل غطت بكثرتها ومحاولتها التشبه بنصوصه الناجحة على وهج شعره المتميز. ولنا كقراء مؤمنين بأهمية موهبته أن ندافع عن منجزه بمعزل عن كل معاول التهديم التي لحقته على يد الشاعر سعدي يوسف ذاته.
اللغة الحية والتحرر من البلاغة
تعرف الشعرية على أنها لغة التصوير وبناء الشعر هو بناء صوري قبل كل شيء. وطبيعة التصوير في قصيدة سعدي يوسف ترتبه بمرجعيات ذهنه وهي في الغالب سوسيولوجية وان اعتمدت الادراك الحدسي. ان قيمه اللغوية تكونت في حاضنة التوازن بين اشارات الموقف الاجتماعي التي تتداعى الى ذهنه في العادة، وبين التدفق العفوي لانفعالاته وانتباهاته الى المحيط. وشعره في الغالب يتخذ ناظم الحكاية. فهناك وحدات سردية يظهر لها حافز رئيسي وحوافز جانبية هي أقرب الى التداعيات، وتتكاثر محاورها في توقيع تكراراته ولعبة الاختلاف والمفارقة بين الصور التي تشكلها الاشارات. غير أن من المهم أن ندرك أن شعره بأغلبه هو شخصي وحميمي وتركيبه النفسي أو نازعه الداخلي ينحو باتجاه الضعف لا القوة، ونقصد هنا أن منطق قوله يقوم على التواضع ولا يتطلب الفخامة ولا يتوسم المهيب والجليل والسامي في القول. وهذا النوع من النصوص التي توحي بالعظمة، شديد الارتباط بالشعائر وطقوسها الموسيقية. لهذا تجنب سعدي يوسف النص الملحمي قدر ما يستطيع. ولعل شغله في واحد من ميزاته المهمة توجه بوعيه أو بدونه، نحو تطوير مشروع الرواد في محاولتهم الابتعاد عن شعرية المرحلة التي سبقتهم تلك التي تظهر آثارها في شعرهم على رغم توجهات مشروعهم الأساسي، ومنها الايقاع الواضح، الايقاع النفسي والصوتي الذي يسعى الى أسر المستمع ويوقعه في شباك البلاغة الساطعة المؤثرة،. والتعاطي مع الأساطير بثيماتها وشخصياتها على نحو يوازي ما يفعله الشاعر في التراث من استخدام الصورة الجاهزة. ولكن محاولة استيعاب الأجناس الأدبية الأخرى ضمن النسيج الشعري من قصة ومسرح ونص نثري كانت من بين منجزات قصيدة الشعر الحر. وكما حدث ل تجارب التحولات الشعرية في بلدان العالم المختلفة، كانت ترجمة الشعر العالمي الى العربية من بين المؤثرات الايجابية التي ساعدت على صياغة الشكل الشعري الجديد الذي سمي لاحقا: الشعر الحر. فالترجمة النشوية للشعر عن الانجليزية والفرنسية زعزعت الاعتقاد السائد بارتباط الشعر بالوزن والقافية، ولم يجر تمثل واستيعاب هذا النمط من الذائقة الجديدة والرحابة الايقاعية التي ولدتها الترجمة، الا في العودة الى الأوزان الحرة التي تداولها العرب في السابق وهي البند والموشح. كما أن فضل الترجمات على الشعر الحديث كان في تخصيب خيال القصيدة العربية بالصور المبتكرة التي حررتها من نمطية خيالها ومتداوله الثابت، وباعدت المسافة بين الدال والمدلول الذي ما كان يقبله البيت الشعري التراثي بوحدته المنغلقة على ذاتها. ان تفكير الشاعر العربي الكلاسيكي يخضع في العادة الى ترابطات وتواز نات في الأداء التعبيري يختلف في منطقه عن التفكير المعاصر في الشعر على صعيد تنظيم المعاني واقامة القرائن بينها، والحق أن مشروع قصيدة الشعر الحر لم يكن مجرد مسعى لتطوير الشكل الشعري، بل هو نتيجة تحول في الذوق وطراز المعيشة، وأسلوب تلقي المعلومة واعادة تمثلها، ولم يقطف الشعر ثماره الا في فاصلة زمنية من أكثر الفواصل أهمية في التاريخ العربي المعاصر، تلك التي نتجت عن نضوج صيغ الاتصال بالغرب، ليس على مستوى الادب وحسب، بل على مستويات أخرى متعددة. وظهرت نتائجه الأكثر وضوحا في تطوير الرواية والقصة القصيرة والمباحث العقلية المختلفة. مشروع الشعر الحر كان ثورة جمالية بدأت فيه القصيدة الجديدة التخلص من قيم الشعرية القديمة والانفتاح على أفق النثر وسعة مداه. ويقول عبدالواحد لؤلؤ في معرض حديثه عن أسلوب السياب: "أن بدرا قد طور الكتابة الشعرية لتصبح أقرب الى لغة النثر، ويذهب عنها الافتعال الذي ورثه الشعراء عن القرون الخوالي" (11) وبين الجيل الثاني لرواد ذلك الشعر، اتجه سعدي يوسف منذ اختباراته الأولى نحو التخلص من تونات القصيدة عالية النبرة، ومناخاتها التوقيعية التي تشكل ضمن سمات الشعر العربي أهم ميزة تحدد نجاح الشاعر. ويبقى شعر سعدي يوسف قياسا على نص أدونيس وكتاب قصيدة النثر، والموجة الشعرية الستينية في العراق شعرا محافظا، لم تبلغ به الجرأة حد كسر قيود التفعيلة أو خلق مناخات تخريبية تحدث اشكالية في المشهد الشعري العربي. بيد أن من المهم أن ننتبه الى أن عمل هذا الشاعر كان ينحو في جانب كبير منه نحو الافادة من قيم النثر التي بدأت تحوز مكانة مهمة في العراق في نهاية الخمسينات وهي الفترة التي كتب فيها سعدي يوسف بدايات شعره. فقد بدأ فن القصة القصيرة والرواية ينافس الشعر في جذب اهتمام المثقفين العراقيين، ولعل بدايات سعدي يوسف الشعرية التي تحفل بالمواضيع المشخصنة ومناخاتها ونزوعها نحو معالجة القضية الاجتماعية ميلودراميا عبر الشخصيات المتداولة: العامل، الفلاح الرجل الصغير، الحزبي، المرأة المسكينة ومواضيع أخرى. ونجد في أسلوب تناولها شعريا ما يمكن أن نتصوره على تماس مع القصة القصيرة التي برزت نماذجها عند عبدالملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وشاكر خصباك وغيرهم، أن ما طوره سعدي يوسف ضمن مشروع قصيدة الرواد هو تعزيز القيم النثرية في النص الشعري، أو المني في كسر طوق عادات التفكير الشعري التقليدي الذي يجد حصانة ومريدين في العراق ربما أكثر من بقية البلدان العربية. كانت قصيدة الشعر الحر محاولة لتخطي صرامة تلك القيم في اتجاهها نحو مستويات متنوعة للحوار وتعدد الأصوات داخل النص، فالشاعر والحالة هذه وصل الى درجة من الاستقلال تؤهله لكي يخلق شروطا أفضل للتعبير عن صوته المعاصر بقيود أقل صرامة من السابق. بدأت تدخل قصيدة الشعر الحر الشخصيات غير البطولية والمحكية العراقية والأغنية والقصص الشعبي والشعار السياسي وما نشيت الصحيفة والحوار والأقنعة المتعددة وغيرها. ان النزوع الى الافادة من الثقافة الشعبية والشفافية منها على وجه التحديد، كان يتجه بشعر الريادة الى بلورة خصوصية محلية كانت معبر هذا الشعر نحو تعدد النماذج وتخطي صرامة البلاغة الشعرية التي توحد طرق تعبير الشعراء العرب حتى وأن اختلفت مواضيعهم.
تبلور مشروع التحديث الثقافي في العراق في ظل تقارب وتمازج التخوم بين الاجناس الأدبية والفنية، فكانت حركة التشكيل في العراق سباقة الى تأسيس تقاليد محلية على صعيد اللغة الفنية،. استعان بها الشعر لاحقا في وضع أصول كسر قدسية اللغة الشعرية المتعارفة، وكان مشروع بلورة الشخصية العراقية في التشكيل يمر عبر الافادة من الطقوس البدائية والحياة المحلية اليومية، فظهرت في لوحات الفنانين ومنحوتاتهم المادة الفلكلورية وملامح الناس الفقراء. وليس من باب التجاوز القول إن حركة الشعر الحر مطلع الخمسينات كانت تستند على الأقل الى أساسين في دافع التجديد تشبها بالفن التشكيلي، أساطير بلاد الرافدين والتقرب من الثقافة الشفافية. وجرى التخفف من ثقل المعجم اللغوي السابق عبر ادخال النثرية والعامية الى الشعر وتركيب بنية الجملة على نحو يقرب من المنطق العامي. ومنجد هذا الأمر في شعر نازك الملائكة وبلند الحيدري والبياتي وتطبيقاته الأكثر تصميما لدى السياب. ان ما يسمى بتهجين الأنواع الأدبية التي تحدث عنها نقاد الأدب في الغرب كانت نتيجة الثورة الصناعية وتثوير وسائل الاتصال ويمكن أن نرى ما يشابهه في كل التحولات الأدبية في العالم ومنه عالمنا العربي. دخلت الشعر لغة الصحافة والحوار اليومي وصور القصيدة الشعبية والأغنية الفلكلورية والملح والاشارات المازحة. ولم تكن محاولة ردم الهوة بين المحكية والفصحى محض جهود عفوية في الشعر العراقي المعاصر، بل إن بعض تلك الجهود كان يكبس موقفا متصنعا كما الحال في بعض شعر السياب، في حين يأتي استخدام الملائكة لبنية اللغة المحكية وعلى وجه الخصوص في التعبير عن عاطفة الحب لديها، ما يجعل بعض قصائدها أكثر ألفة وطبيعية مع أنها لم تستخدم المحكية كمفردة. أما عبدالوهاب البياتي فإن لغته اليومية والتقريرية في أحيان جعلت من قصيدته الأكثر شعبية بين القراء العرب وفي شعره نجد الكثير من الأغاني والأمثال العراقية مضمنة أو محررة أو مفصحة. لم تعد هناك ألفاظ مقدسة وأخرى وضيعة في اللغة الشعرية التي تطورت وفق هذا النسق حتى غدت حقول التبادل في الشعر العربي بين الشفافية والمكتوبة على درجة من الشفافية حددت على اثرها اتجاهات جديدة ل الكتابة. وبظهور شعر مظفر النواب بالمحكية العراقية دخلت القصيدة الريفية الجنوبية بصورها ومناخاتها ضمن مكونات النسيج الثقافي العراقي كمعادل لأفضل النتاجات الشعرية، إن لم نقل أنها تفوقت عليها. استطاعت قصيدة النواب حسم التردد حول قيمة الشعر الشعبي، فهي نقلت ما يمكن أن نسميه تجاوزا الحساسية الغربية في القصيدة العربية المعاصرة الى نسيج الشعر الشعبي، في وقت جعلت من اللهجة الريفية بتركيبة جملها البصرية وبذلك الفيض الحسي لاشاراتها الجنسية الصريحة ما يعكس ذلك التوطن الزماني والمكاني للغة في ملفوظها الصوتي والبصري وفي نوع تعاطيها مع الجسد ورغائبه. كشف النواب عن مكنون الرقة والليونة الموسيقية وبراعة الصيغ البلاغية في اللغة التي تسمى وحشية أو بدائية. الذي يهمنا من الأمر أن لغة القصيدة الشعبية تبدو على نقيض مع لغة التراث التي ما كان بمقدور الشعر المعاصر التخلص منها بسهولة، كما أنها أزالت الحواجز في ازدواجية اللفظ ومن ثمة ازدواجية أسلوب التفكير أو انشطاره بين اللهجة المحكية والمكتوبة. ويشير سعدي يوسف الى تأثيرات قصيدة النواب على شعره، فيقول: "أعانني مظفر النواب في أن أكون شاعرا.. "الريل وحمد" بالذات أعانتني. في تلك الأيام، كان الهتاف محببا، بل كان أصيلا، وتجيء "الريل وحمد قصة حب، كانت تسبح ضد التيار.
ومن يكون الشاعر، ان لم يسبح ضد التيار؟" (12).. بدت قصيدة النواب بزخمها ومنجزها الجمال المتميز كما لو أنها أعادت الاعتبار الى صوت الناس المبعدين في أقصى الجنوب، سكنة الأهوار والقرى المنسية وصوت المرأة وأغانيها وترديداتها في تلك المناطق ومعظم قصائد النواب بصوت الأنثى وعاطفتها.
وفي مبحثها عن لغة القرن العشرين ترى الانجليزية ليزا جيفريز ان الشعراء الذين يمثلون المجموعات المضطهدة أو المبعدة أكثر استخداما في شعرهم للمحكية المحلية التي بواسطتها يخالفون النمط اللغوي السائد، فاللهجة الشعبية ترد في العادة في الشعر النسوي الذي يعبر عن اضطهاد المرأة وبين شعراء الاثنيات المهمشة. (13).
ان الرغبة في توظيف اللغة النثرية والمحكية، بقيت ضمن حدود ممكنات مرحلتها تعود باستمرار الى استحكامات القصيدة الأولى. ولكنها كانت تمهد للاتجاه نحو قصيدة النثر في صيغتها المتطورة التي لا تعني التخلي عن الوزن والقافية وحسب، بل خلق عادات لفظية جديدة في الشعر. فكانت قصيدة سعدي يوسف تمثل التوسط بين مرحلتين، جيل الريادة والمرحلة الستينية في العراق التي ظهرت على يد الشعراء الذين اختلف مشروعهم عن مشروع السياب والبياتي والملائكة.
وعسى الا يشه بنا القول إن تصورنا أن هناك بعض تشابه في المناخ العام بين ثقافة السبعينات في البلدان العربية وبين ثقافة العشرينات في الغرب، ولن نحسب أنفسنا متجاوزين الحد إن تخيلنا أن اتجاه التطور الشعري الانجلو-امريكي في العشرينات يكاد يكون متشابها في ظروف نضجه نسبيا مع ظروف نشأة الحداثة العربية في البلدان العربية التي تستمد ثقافتها من مرجعية انجليزية مع الأخذ في الاعتبار الفارق الحضاري بين الاثنين. ومنجد أن حداثة مطلع هذا القرن العالمية الشعرية في انجلترا وأمريكا، كانت شديدة الارتباط بنمو الرواية وتطورها وتوطد مكانتها بين الاجناس الأدبية الأخرى، وانصراف مجموعة من الشعراء عن فن الشعر اليها. يذكر أحد دارسي عزرا باوند بأن ما تعلمه باوند من فترة اقامته في باريس واحتكاكه بالثقافة الفرنسية هو اختزال الحد بين تخوم النثر والشعر، حين غدت اللغة الشعرية من مقومات الرواية والمادة القصصية. كما أن تأثره برواد الحداثة الذين سبقوه وعاصروه، كان يقوم على جهد أكثر من قرن تعززت فيه الأساليب الروائية في الغرب حتى بلغت درجات متطورة في علاقتها بالشعر، ويشير الى أساليب فلوبير وتورغينيف باعتبار ثقافة الأخير ثقافة فرنسية (14). فكان رد الشعراء على اختلال موازين القوى تطبيق لغة القص في الميدان الشعري (15).
ولعل من بين أفضل نتائج ذلك التلاقح بين الأجناس الأدبية في الحداثة الغربية التخلى هن الفائض البلاغي في الشعر مقابل البحث عن الدقة في التفصيل. ويرى عزرا باوند بأن النقطة المركزية في الاتجاه التصويري تقوم على رغبة الشاعر في الخيار بين طيف واسع من الدقائق المهمة لاختيار تفصيل أو تفصيلين يمكن لهما أن يقوما مقام بقية التفاصيل "ان دخل في تفكير (التفصيل المثير) تلك الدقيقة المفردة التي اذا ما اختيرت بحرص كاف وقدمت بدقة كافية لاستطاعت أن ترغم القاريء على أن يستدعي تلقائيا كل التفاصيل والدقائق الأخرى المتضمنة في هذا التفصيل" (16) انه يسميها ضمن استطراداته، (النثرية الثمينة) التي لا يجيد فيها الشعراء الالقاء ولكنهم يميلون الى الغناء.
ومن باب أولى أن نتذكر أن كل مشاريع الحداثة في الشعر العربي كانت تقوم على الافادة من قيم النثر، ولكن صيغ تجاوز بنية الخيال الشعري الكلاسيكية المتماسكة تحتاج الى وقت واستيعاب طويل. وضمن مسعى سعدي يوسف للعسل على شغل يشكل اضافة الى قصيدة جيل الريادة في الشعر الحر، جرب الكثير من الأساليب، ومن بينها قصيدة التفاصيل اليومية التي أصبحت مصطلحا أكثر التسميات التصاقا بشعره. ومن بين أوجب ما ينطبق على صيغتها من سمات، ميلها الى توظيف قيم النثر في الشعر أو قيم القص ان صح التصور. وفي مقدمة ترجمته (أوراق العشب) لوالت ويتمان يتحدث سعدي عن العلاقة بين المضمون وشطر القصيدة الحرة أو قصيدة ويتمان النثرية: "وفاء ويتمان لاناسه، يبدأ من حرية الحركة، وينتهي بالتقاط الحوار، مع كل المسافة المتضمنة بين الابتداء والانتهاء، هذا الوفاء (المتقنوي) للناس، الذي يبرز في التفصيل الفني سوف يجد له تعبيرا آخر، تعبيرا متمما، في الأفكار والآراء التي يقدمها الشاعر، والتي يعمم فيها نتائج ملحوظاته ومشاهداته، كما يجد التعبير في الموقف الذي يتخذه الشاعر داخل حركة القصيدة نفسها من مسألة معينة، محققا أنموذجا جيدا في بلورة المضمون الفني للاثر الشعري". وسنجد عند تتبعنا مسار سعدي يوسف، الكثير من التجارب التي تفيدنا في تقصي هذه النزعة التي نحسب أن مشروع تطوير قصيدة الشعر الحر كان شديد الصلة بها. بيد أننا نستطيع أن نميز الكثير من المتذبذبات في منحى الحداثة في مشروع سعدي يوسف، وفي طريقة استثماره لما يمكن أن نسميه الافادة من قيم النثر، ففي النص الواحد قد نشهد تقاطع ذلك المشروع وتشابكا في مسارات تفترق وتلتقي على اختلاف أو توافق. ولعل سعدي يوسف من أكثر الشعراء اضطرابا ضمن حدود كونه الشعري، لأن قيمه الفنية غير مستقرة. غير أن من المجدي أن نفهم أن عقلانية هذا الشاعر في فهم الكليات الاجتماعية، يقابلها نفي لتحكم الوعي في تحديد مسار اللحظة الفنية لديه. أي أن لحظة الخلق لا تخضع الى اعتبارات تلك العقلانية على مستوى المخيلة وتشكيل الصورة في أقل تقدير. ولا يعني تمسك سعدي يوسف بالوزن الشعري، عزوفه عن القيم النثرية، مع أنه لم يكتب قصيدة النثر، لأن من المناسب أن نفرق هنا بين النظم والشعر، فالعملية الشعرية حسب محددات جان كوهين "تجري على مستويي اللغة معا: الصوتي والدلالي، وان الحظوة لا ريب للمستوى الدلالي. ويشهد لذلك أن القصيدة النثرية موجودة شعريا في حين أن النظم الحرفي (الصوتي) ليس له إلا وجود موسيقى فحسب، فيمكن للشعر ان يستغني عن النظم في كل الاحوال".(18) ولا يكمن الفارق بين النثر والشعر في الجانب الشكلي وحسب، بل في نمط خاص من العلاقات بين الدال والمدلول يسميها كوهين العلاقات السلبية في الشعر، فالصور التي تتكون منها اللغة الشعرية والمخصومة بتميزها، تعتمد الى خرق قواعد اللغة العادية وتتكون وفق ما يسمى بقانون الانزياح ذلك الذي يجري وفقه نزاع الوظيفة – المعنى فالجملة الشعرية تسند الى ألفاظها وظيفة يعجز معنى الألفاظ عن ادائها اللغة الشعرية. وان كان مشروع الحداثة في القصيدة الجديدة قام على الافادة من قيم النثر وهي في جانب كبير منها عقلية، فهل هذا يعني أن رواد هذا المشروع حاولوا الفاء نزاع الوظيفة _ المعنى أو تضييق الفجوة بينهما في أقل تقدير ؟، ما حصل هو العكس في جانب من هذا المشروع وفي الجانب الآخر تم تضييق الفجوة عبر اللغة التقريرية ولفة النثر. وكلما اتجه الشعر نحو الغموض زادت الفجوة بين الوظيفة والمعنى في الشعر. بيد أن طبيعة ترتيب القول الشعري على نحو يقربه من السرد وما يحويه من تواتر وتكرار ومشاهد تحاكي الأعمال المسرحية والسينمائية تعزز نزعة النثر الشعري ليس في جانبها التقني وحسب، بل في طبيعة تركيبتها الخيالية. أن سعي سعدي يوسف نحو كتابة المسرح الشعري والقصيدة التي تتشبه بالأسلوب السينمائي، يدخل ضمن هذا التوجه في شعره الذي يقوم في الغالب على السرد. ويبقى عمل سعدي يوسف الأهم في هذا المسعى يرتكز على اللغة واختيار المواضيع، والتفصيل في الموضوع أي طريقة عرضه.
الأداء الشخصي وتعبيره الجمالي
تميز مشروع سعدي يوسف في جانب منه، بالعمل على تكريس أسلوب الارتجال في الكلام الشعري وتقليد اللغة اليومية وطرق التفكير العادي. وهذا الأداء يتناقض مع صرامة الشعر الكلاسيكي ويتعارض مع الأجواء الغرائبية التي تحفل بها حداثة الستينات، ولكنه في الوقت عينه عرضة الى احتمال التبسيط والنثرية الفجة وعامية الصور، ان لم يكن الشاعر قادرا على التحكم بحساسية موقفه. وهكذا سار سعدي يوسف برهافة على نهج يحتاج نجاحه الى مواصفات تبدو سهلة ولكنها تحفل بالصعوبات. وقصيدته التي اتبعت هذا الاسلوب سميت بقصيدة التفاصيل اليومية. ولم يسعفنا الحظ لمعرفة الكتابات التي أطلقت على نصه هذه التسمية أول مرة، ولكنها تبدو خير معبر عن أهم منحى في شعره. فهذا النوع من نصوصه يتميز بعفوية اللغة وخلوها من التكلف وصورتها المباشرة وتتبعها الوجود اليومي العارض للأشياء في تفصيل دقيق. وهي في كل الأحوال تكشف عن طريقة جديدة للتراسل بين الشاعر وقارئه، حيث ينطلق النص من نبرة التصاق وكسب الثقة كما لو أن الشاعر يتوجه بكلامه الى شخص يعرفه أو يخصه بالكلام. وليس لنا أن ندرك تلك الأوصاف الاعتباطية الا بما ميز القدماء الاساليب ومن بينها الاسلوب الفخم أو الجليل وجعلوا بعضها من النوع البسيط الذي تحتفظ الكلمات وفق ترتيبه بانعكاسات الأشياء التي تشير اليها.
وعندما يختار الشاعر الأوصاف العينية لا المجردة فهو يختار ما يصل القاريء دون جهد ومشقة، ولكن تلك البساطة تستوي في شعرية يعز الامساك بسر امتناعها عن التقليد. لعل تعريف هذا النوع من الشعر أصبح من الصعوبة بمكان، ما ترك النقاد غير قادرين على التوصل الى صيغة لتحديد الاقيسة الجمالية التي تدل عليه. ولنا أن نجتزيء تصورات عن الأفكار التي تفيء بعض جوانبه، وأهمها واقعية هذا الشعر، وهو مصطلح ينطبق على القص أكثر من انطباقه على الشعر. وفي استخدامه النسبي يشير الى تحرر الشعر من هيمنة الجنس الأدبي الواحد، ويتحقق لدى سعدي يوسف بالأخذ بتقنية القص ليس عبر الأسلوب السردي فقط، بل أيضا باستخدام التعبير اللغوي الذي يناسبه، وتقنية التعبير الشعري تقوم على تشويش الابلاغ أو اضعاف بنيات خطابه الحقيقي، في حين يعمل نص سعدي على نحو يجعل هدفه توضيح الابلاغ لا تشويشه ورفع اللبس عن المعنى. تلك المباشرة في القول منحت قصيدته آفاقا أرحب من واقعيتها كمحاكاة مجردة. وهنا تواجهنا مشكلة التوفيق بين سمتين في شعره: استغراقا في الوصف من جهة والاقتصاد في الكلام من جهة أخرى، والجمع بين السمتين يتحقق بصعوبة كبيرة عند غيره. في حين يشكل الامعان في التفصيل ل نصا ما يشبه البلاغة البديلة التي تولدها القيم اللغوية الجديدة. هذا النوع من التعبير يتقصد اعادة الثقة الى اللغة المأهولة ومفردات الناس العادية، ويشكل بمناخه الجديد ما يشبه عامل الانزياح في القصائد الأخرى. الاستطراد أو الاسترسال في الكلام لا يعادل هنا الحشو في سرد القصة،بل هو بيت القصيد في التورية العامة لنصه، لان التفصيل يؤدي الى امتصاص عاطفية الموقف ويساعد القول على اظهار حياده المطلوب، عدا عن هذا هناك الهدف الأكثر أهمية وهو الابتعاد عن صيغة الابلاغ القديمة بمحسناتها البيانية. في قصيدته "سقوط فندق النهرين" 1974 من ديوانه "الليال كلها" سيكون العنوان دليلنا الى تفصيلات الوصف الذي لا يستخدم الاستعارة أو المجاز حين يعرضه، فهو يشير الى صفات واقعية ويمعن في تفصيل وجودها العيني:
" لا تبعد الصحراء عنه
واذا يدور النخل في غرفاته، يغبر مثل الماء
في النهر القريب، وفي الأنابيب القديمة
كانت طوابقه الثلاثة
مبنية بالجص والآجر، ينفتح الزجاج الانجليزي الثخين بها
على بار الحديقة والزوارق
ولربما كان الطريق اليه أقصر حين تختار اليمين
ولربما فكرت: ما أبها الحدائق."
حد الحكاية هنا يتركز على وصف المكان الذي تشير الصفات الى واقعيته لحين ما يستدير الشاعر الى التفصيل الثاني في الأفعال ويظهر من خلاله العنصر الدرامي في فعل التذكر وهو يعتمد على هذا التفصيل في اظهار المفارقة:
"في فندق النهرين
عاشرنا، وقامرنا
وفي غرفاته.. يوما تزوجنا
وجئنا بعد أن دارت بنا السنوات
جئنا نجر صغارنا، يتعرفون على حدائقه
وكنا مرهقين بما تحملنا
لم ندر أن الجص والآجر..
لم نشعر بأن الماء كان يسيل
أن السقف…
آه… وبعد أن دارت بنا السنوات
جئنا نجر صغارنا، يتعرفون على حدائقه
وكنا مرهقين بما تحملنا."
تلتقي الصيغتان في هذا النص: الامعان في التفصيل والحذف، والأول يقوم مقام التورية فالتأكيد عي الوصف الموضوعي ودقة الملاحظة يضع لمسات الشاعر الشخصية على هذا الشعر وهو يظهر لبس الحقيقة من الوهم بخلق تورية اللباقة،. هناك ترجيعة بعيدة لسخرية خفية وحنين في الوقت ذاته وهو الذي يجعل من زمن هذا الان كما لو أنه مجرد ذكرى منتهية. ماض بعيد يرمز الى انتهاء حياة وسقوط عوالم قديمة. والصيغة الثانية التي تقوم عي الحذف والاختصار وتتولى هنا تنحية الثيمة الاصلية التي قيلت من أجلها القصيدة، فالعبارات الناقصة (لم ندر أن الجص والآجر…/لم نشعر بأن بالماء كان يسيل…/ ان السقف…) تتعرض الى حذف يستدل عليه القاريء في السياق أو يدله عليه التفصيل الذي يعقبه (آه.. بعد أن دارت بنا السنوات) أي أن الانفعال هو المضمر أو المحذوف من القول.
ولا يركن سعدي يوسف الى صيغة محددة في استراداته القصصية التي يدخلها الى الشعر، ولكن نظامه الجمالي هذا يبقى يتشبث في تفصيله بموقف تقوم فيه العبارة بتضييق المعنى بدل أن توسعه كما هي العادة في الشعر، لانه يؤكد على الوصف المباشر في وقت يكون بواسطته قادرا على الانتقال الى المحسنات الأسلوبية عند الضرورة القصوى. ينقل في نصه "خاطرة غير متشنجة" 1972 تجربة بسيطة هي جلوسه على شاطيء دجلة، ولكنه يلح على واقعية حدوثها على نحو يتوجه فيه الى قاريء كأنما يخصه بالكلام:
"فكرت: ان الحياة جميلة
تظل ضرورية كالزوارق والجسر..
ها أنت تخدع حتى العبارة،"
النعت في جملته لا يمضي به بعيدا عما تشاهده عيناه وهو جالس على النهر في تلك اللحظة التي يسجل فيها قوله. ومنذ دخوله المشهد يظل قريبا من تجربته الحسية التي لا يؤولها الا بما يحقق من خلالها الاتحاد بين الشاعر والاشياء التي يصادفها:
"أقول صباحا لدجلة../ أن الصباح الذي كان مغتسلا بالعشب يقتادني من يدي، ويجلسني قباله: / هذه المصطبة "
ينحرف التفصيل هنا عن غايته عندما يكتسي الجماد روحا، ولكنه يكون ممهدا الى تفصيل أكثر امعانا في واقعيته:
"يبتديء الجسر/ يبتديء الباص أحمر رحلته،/ تتبعه أنت.. / يبدو لك الباص وسط الجسر مرتجفا ثابتا، / لحظة.. ثم يمضي / الى آخر الجسر..)
تشكل اللغة الحية الملتقطة من اليومي ومن أمور الناس العادية عادته الخام في قصيدة التفاصيل اليومية، بيد أن تلك اللغة مزودة ببصيرة نقدية يبثها على هيئة اشارات بين سطور الوصف. في قصيدته "بغداد الجديدة" يتحدث عن حي أقيم في اطراف بغداد هاجر اليه سكنة الأحياء الشعبية القديمة فيغدو مدينة شبه عصرية ريفية. والعنوان يوحي باللبس هل المقصود بغداد أم المقصود هذا الحي الذي يبعثر بالشاعر تكوينه في أوصاف سريعة ولكن بعض تهكم في قوله يخلط بينه وبين بغداد الام في حلتها المهلهلة:
"في المقهى، تجلس حول الشاي المر/ وفي السوق تبيع الجبن / وأكباد الجاموس،/ وتنفض كل دكاكين ملابسها المستعملة المكوية / باحثة عن عظم في صحن حساء".
البيانات التقريرية تبدو سهلة الادراك على قاريء لا يدهشه ما نقله اليه الشاعر من حالة ميدانية، وسيلة ايضاحية عن مدينة ضمن وسائل كثيرة لا تثير الحساسية الشعرية، ولكن الشاعر يعرف كيف يستدير في الضربة الأخيرة وفي خط التلاقي مع التوضيح التفصيلي عن بغداد الجديدة: "في الفجر تدور على كل منازلها / وتوقظ كل بنيها/ تدفعهم وسط الشارع…/ آلافا ينتظرون السير الى بغداد" ولن يكون لهذا الاسلوب، اسلوب الضربة من قيمة تذكر وهو الذي تعارف عليه كل الشعر الحديث. ولكن البقاء على الايقاع الوصفي يفصح عن وسيلة في التفكير يدرك المرء فيها أن الشعر معني بأن يتظاهر بأنه ليس شعرا. الواقعية في هذا الشعر نسبية ولكن خياله شديد الارتباط بأشياء الأمكنة الملموسة، حسيتها، حدثها،توقيتها المحدد: "تركنا على رملة بين وهران والمغرب البربري/ برانسنا، وارتحلنا الى زمن لائذ بالنخيل،/ الطيور ترافقنا، والسفينة تندى من المطر/المتدافع والموج، هذا الصباح الأخير، وهذي / الصنوبرة المستقيمة، أغطية النوم منثورة / في مخدع من ودعونا، وفي غرفة الفندق الساحلي." قصيدته (انتهاءات) 1976 عن المغرب العربي تحفل بالتوريات والمجازات.غير أن كل استدلالاته تشير الى ممكنات الوقائع والأوصاف والحوادث التي يستخدمها كمواد أولية تفصيلية يجتاز بواسطتها خياله عالم الواقع الى عالم الخيال الشعري.
وهو في خلطه بين الأزمنة واستثماره تشظي الأمكنة في الذاكرة الشعرية يستعد باستمرار الى تفكيك عوالمه وتجاربه وينتقل فيها بين النص المطول المركب والقصيدة الصغيرة المختصرة ذات المشهد الواحد التي يعدها استراحة في الهاجرة (20). يعد نصه الطويل (اعلان سياحي عن حاج عمران) 1983 من بين النصوص المهمة التي أفاد فيها من قيم النثر وهو توج سيرته بين قلة من الشعراء العرب الذين لديهم القدرة على اعادة الثقة الى الفن في استشرافه البعد الجمالي ضمن تراجيديا الواقع السياسي. فهذه القصيدة التي نشرت بعد احتلال القوات الايرانية منطقة في شمال العراق تسمى حاج عمران، كانت بمثابة رحلة نقدية جارحة لتقص المناطق الخبيثة في الواقع العراقي تاريخا وراهنا على نحو استخدم فيه الشاعر معارفه واستشعاراته الرهيفة للتجول في حقل شديد الالتباس سياسيا وصعب التفسير والتقصي. يتجه الشاعر الى استخدام التوتر بين حدي المديح واللوم والهجاء، والخط العام يقرب النص من المرثية التاريخية. وربما أراد أن يجعل منه نصا ملحميا، لأن أسلوبه الذي يحاول الافادة من تقنيات الحداثة يستعين بالطقس الملحمي، فمسرحه الرثائي يرفع القول الى نبرة شمولية، تجعله ممسكا بمشهد تاريخي واسع يحركه بدراية بين حدي التسامي والتهكم، والملحمة حسب التعريف الأوسطي تقوم على مبدأ المديح والتسامي في القول (21). وفي هذا النص يتلبس المديح أقنعة مختلفة ومنها الانتقاص من القيمة، الرؤية المأساوية، المغايرة وهو مدح الشيء بعد ذمه الى ما اليه من طرائق للتوصل الى تصعيد النبرة الفجائعية.
هذه القصيدة وصافة وتتراكم فيها الصور الحسية والذهنية وتتشظى لتنتظم مساحة واسعة من أطياف الكلام التي لم يبقها الشاعر على نمط واحد، لأن انتقالا ته الايقاعية والأسلوبية مباغتة وهي لا تستقر على وتم واحد. انها تتخذ في ترتيبها، صيغة الاسكتش الأولى الذي يعمد الى فن الضربات السريعة، فتتحرك الصور بطلاقة بين تخوم تتراكم اشاراتها التاريخية في كل جملة يخطها. النزعة النثرية تتبدى في طريقة تنظيمه التي تقوم على اعتباره نصا مفتوحا يقترب من اللعب الحر الذي يداخل الشعر فيه التقرير والاشارة الساخرة والتعليق والاستشهاد بنص نثري أو شعري. كما أن طبيعة التشظي في هذا النص تجعل مساحة ابلاغه منوعة وواسعة، ولكنها محصورة ضمن حدث معين، يصوره الشاعر مستعينا بالمشهد المتحرك للجموع والشخصيات التي تمثل التاريخ. ان تداعياته تعبر المكان في عمليات تجاورية وتشابهية على مستوى الأسماء في انشاد أوركسترالي حزين، فما ضيعا الحاضر يعيد الى الذاكرة ذلك الماضي الممتد بحروبه وسلامه، باندحاراته وانتصاراته:
"مقونيون في منعطف النسيم
أو خياله روس يجرون بغالا
أو رعاة الماعز الماكر يمضون برشاشاتهم والجبنة البيضاء
هل أشعلها عبدالسلام البرزاني كما يشعل عود التبغ
لا تترك راوندوز الا حسرة مدبوغة بالجوز في الكفين
أي الشجرات استنطقت للنقشبندين نجم القطب؟ "
تعمد التوطئة هنا الى احداث علاقة بين مجموعة من المدركات التي تقترن بمنطق مشترك. منطق يربه وحدة المكان الثابتة بزمنيتها المتحركة بتاريخيتها التي تدور حوله ان صح التصور. يرى الشاعر الى هذا الموقع على نحو يتضمن في جانب من خصائصه بعض المتعارفات الفولكلورية، ولكن البعد التاريخي يبقى هو المهيمن بواقعيته وبالفانتازيا التي يحفل بها.
التواتر والتكرار احدى صفات هذه القصيدة التي تقربها من الطابع القصصي، واللازمة فيها تعيد المحور الأساسي في تمفصله حول فقرة ثابتة: "بلاد بين نهرين /بلاد بين سيفين" ان طريقة الابلاغ تعتمد في جانب أساسي منها على عناصر الصراع بين الثيمات وهي تاريخية تتألف من: ماضي الحضارات القديمة التي عبرت العراق وعناصر التحاور بينها ساكنة، وحاضر سياسي وعناصر التحاور فيه مع الماضي مراعية. القصيدة أقرب الى خطاطة تركيبتها السردية كما أشرنا تنتظم على وحدة أساسية وهي وحدة المكان وهي ثابتة ولكنها تشكل الحافز الأول للقول والحوافز الأخرى التي تحف بها متحركة. ويولي الشاعر أهمية للتفاصيل في استذكاراته التاريخية، فهو يحتكم هنا أيضا الى نازعه الأول في التقريب ما بين الحياة اليومية وبين قوانينها العامة، وستؤدي تلك التفاصيل وظيفة الحوافز الثانوية. لنقرأ فقرة من نصه وضعها بين قوسين كي يبتكر لها بنية مستقلة تحصر الوقفات الايقاعية ضمن كون خاص بها:
"في هذه الزاوية – التيه من العالم صارت سفن العالم أحجارا،
وفي الزاوية – التيه أقام المجلس القومي للأحقاد بستانا من
الأحجار والبارود، برق من وراء النهر. ورد من بخارى. سبحة
من "قم". وجه أرمني. هدأت أمواج "فان"، ارتجف
الناقوس
في الهدأة. سريان. يزيدون، عنف تركماني. وفلاحون من
آشور. ما أحلى نبيذ القرية. الأنصار في كهف. وبوب
دينار في/ الميراج 200."
وبمقدورنا أن نتخيل أن تلك البنية التي أراد الشاعر عزلها بوضعها بين قوسين، تفضي الى ما بعدها بيسر لأن لازمة القصيدة تتول استئناف الربط بين الوحدات عن على الايقاع والمعنى، ولكن التناسب الذي يريد أن يصنعه ضمن وحدات القصيدة تجعل التشابه من حيث التقنية ممكنا بين القول الشعري الذي يعيد انتاج الحقيقة التاريخية على نحو خيالي، والتقارير التي تعتمد على الوقائع دون تأويل. انه يحقق هذا على مستوى المعنى باصطناع الحياد العاطفي، وعلى مستوى الشكل بموازنة ايقاعات النثر والشر لكي تتساوق. هل التكرار في لازمته يحمل المعني ذاته، أم أنه في كل موقع يؤدي وظيفة تختلف عن السابق ؟ بين استشهادين تختلف الدلالة: "حين مات الاسكندر كانت 300 بلدة ومدينة في بلاد ما بين النهرين تحمل اسمه" أو (كان المقتدر كلما شاغبه العامة، أعطى جنده الأموال حتى أكلوه)… وبينهما تتغير اللازمة بالضرورة: (يا بلادا بين نهرين / بلادا بين سيفين /بلادا مرة، تافهة الحكام).
يتميز طبع هذه القصيدة بالبداهة وتعرف هذه السمة بخصيصتين: (رشاقة المخيلة واتجاهها بثبات نحو هدف مقبول، وقدرة الشاعر على الفصل أو الحكم بين شيء وآخر وتجميع الأفكار، وضعها معا بسرعة وتنوع، حيثما يمكن ايجاد تشابه او توافق) (22). وسيكون بمقدورنا والحالة هذه أن نلاحظ الترادفات والتحالفات والتوريات في هذه القصيدة بما يبعدها عن الاطار البلاغي لكي لا تمتص محسنات الفصاحة زخم الأفكار وقراءة التاريخ في هذا العمل. يصبح النثر والحالة هذه ممسكا بذلك الملمس الصلب لقسوة الوقائع حين تقطب لعبة التداعي جناسا سهلا يندفع في زخم الأسئلة المحرقة "يادما من بابل: ما الفرق بين مفارز الأعوام والاعدام ؟" ولكن الضمير يتغير من الشخص الثالث الى الشخص الأول المخاطب حيث يتماهى صوت الشاعر مع صوت يأتيه من أعماق التاريخ، لنلحظ نبرة التسامي في القول "لو كانت يدي كالجذر لاستوقفت ثيراني مجنحة، لأوقفت الغزاة / مسمرين بسحر آلهتي وابنائي على أسرار أوروك../ " فالشاعر هنا يستخدم صوتا يتبدى وكأنه ملك سومري، ولكن القناع الشعري سرعان ما يتبدل في لجة الاختلاف في الضمائر ليصبح حوار الحاضر أكثر مرارة وهو يخاطب البلاد التي يرثيها "كانت ساعة التوقيت أمضى منك.. أمضى من رضا ساعاتك / المائية، استسلمت للبدو الأولى جاءوا من الاطراف، من تلك / القرى الملقاة بالحرف الكبير على خرائط عسكري العالم / القاسي." "والأجلاف يدفعون من تلك القرى المتوحشات اليك. أنت / البنت في تلك الجرار السومرية. أنت. أنت. النبتة الخزف / الجميلة في الجداريات./ أنت الماء والأسماء.. لكن / العواصم أحكمت توقيتها… وأتى البداة / وأنت منهكة / مدعاة / بلاد بين نهرين / بلاد بين سيفين ".
لتشخيص العنصر الضروري في أي أثر شعري سنتعرف حسب تصور ياكبسون على نمطين أساسيين في السلوك اللفظي: الاختيار والتأليف، والأول "ناتج على قاعدة المماثلة والمشابهة والمغايرة والترادف والطباق بينما يعتمد التأليف وبناء المتوالية على المجاورة " (23).
والاختيار هنا يقدم فيه المكان (بلاد ما بين النهرين)، وهو كناية عن موصوف عرف به العراق القديم، ويأتي الترادف والمشابهة (بلاد بين السيفين) لتأكيد المدح بما يشبه الذم (بلادا بين حاج عمران والبصرة / بلادا بين القتل والثورة) ثم يستبدل المكان بعلاقة المخالفة والتماثل حيث يدخل الاسم بمثابة الكرد في برنامج تنظيم المعلومة د«حانة البحار. خيل الموصل، ديانا، وحرفيات اشور. ملوك / الحضر، السريان، شقلاوة، باب الشيخ. شلالات بيخال، سماء المنتهى، الزقورة، البردي في الأهوار، فهد، والعشائر، واللينيون، والطيار في الميغ، وأهل الكوفة، المنفي في السلمان، والجندي في مقهى بسامراء، والعمال في الميناء / امسوا كلهم في غابة الرمش" المفارقة هنا أن ترادف الأسماء والمواقع والحالات، لا تأتي كمحسن بلاغي، بل هي اثبات لقول يتناقض مع ما هو مطلوب منه. فالتداعي أو التذكر يجعل من تلك الذكريات محض طيف زائل. ان نبرة الرثاء تشير الى قيمة جمع تلك الأشياء التي لا تتشابه الا في درجة المحبة التي يعبر عنها القائل توقعا لزوالها. بيد أن التوليف بين عناصر الاختيار لا يحصر في مقطع محدد بل في المتوالية التي يبني عليها هيكل القصيدة.
نظام الأحداث (آلمتن) يقوم على الأفعال وهي تجري في زمن متداخل لأنه زمن متخيل كصيغة شعرية أو حتى قصصية، بيد أن مرجعية القول أي تاريخيته تقوم في جانب كثير منها على الوقائع المتداولة أو المدونة ل التاريخ، وسعدي يوسف يشير الى بعضها في قصيدته "اعلان سياحي" كمراجع يضعها بين أقواس. وبمقدورنا أن نتابع زمنين واقعيين: الماضي بتدرجاته: البعيد والموغل بالقدم والقريب، ثم الحاضر بأطيافه ويضعهما ضمن منظورهما الشعري في حركة التخيل أو حركة السرد التي تملك هي الأخرى زمنها الخاص أي الزمن السردي: "ماذا يفعل الأطفال في (أوروك)؟ ماذا يرتجي الكائن ؟ / والعراف ؟ والأسرى الذين استسلموا لله بالآلاف / والقتل ؟ / أيأتون بلادا بين سيفين ؟/ اقتنت أحجار كردستان ميكانزم تدمير الربيئة / لم تكن فيتنام بالجغرافيا. في "سواره توكة" كانت العربات وهي / تحمل هاونات الفرقة العشرين تجهش كالبغال./ يقول جندي احتياط: لست أدري كيف لا يتمرد العرفاء؟/ أمس استسلمت احدى السرايا تحت جنح الليل./ أخرس أيها الجندي. واخرس أيها النخل الممزق بين خرمشهر/ والأهواز، صوتي عمة فقدت بنيها. طفلة / تختض في المنفى. وكردستان تنأى في مضائقها،/ وتسألنا ديانا عن ديانا.." لكي يستدعي الواقعة، يسردها ويسجل حوار الجنود فيها. أنه يوثق شعريا ما لا يستطيع التاريخ أن يوثقه إلا على هيئة رواية ويتعامل مع عادته من خلال امتثال النص الشعري الى قوانين القص لكي يصنع شعريته من الظلال الرحبة للأوجه المتشابكة في قوله. الشاعر يتجه عمقا عبر الحوار واختلاف الضمائر وتبدل النبرات الى تلك المناطق الغامضة في الذاكرة الجماعية، محافظا على التوازن بين المظهر الاستقرائي التحليلي وفانتازيا القول وتوهجاته الخيالية.
عبر الكثير من النصوص ندرك تلك النقلة النوعية التي استطاع سعدي يوسف أن يتخطى من خلالها مرحلة الريادة بالافادة من قيم النثر. ومع أن نظام التفعيلة تولى كبح جماح رغبته هذه في الكثير من قصائده غير أن نزعا القص كانت تطفى على ضرورات النظم لديه لتشكل ميزة من ميزات قصيدته.
الهوامش
1- Fowler, Roger(ed.) Modern Gritical Terms, Routiedge, London,1973.p.123.
2-Hulme, T.E, Speculations, Essays On Humanism and the Philosophy of Art, Edited by Hebert Read, Routledge, London, (1924, 1960) p. 311.
3- The New Encyclopaedia Britannica – V. 9 – p. 164.
4- Brooks, Cleanth and Warren, Robert Penn Understanding Poetry, HBJ, Orlando, 4ty edition, 1988 p. 69.
5- سعدي يوسف – خطوات الكنغر – دار المدى – دمشق 1997، ص 157.
6- يشير هيجل الى أن الوسط الذي يعمل فيه فن النحت يصور الروح في كليتها المستقرة وسكونها الهاديء أي أنه يصور السمات الجوهرية للشخصيات. راجع فلسفة الروح – ولتر ستيس ت: امام عبدالفتاح امام. دار التنوير للنشر بيروت 1983، ص159.
7- تزفتان تودوروف – الشعرية – ت: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة. دار توبقال – الدار البيضاء 1990، ص 51.
8- سعدي يوسف – يوميات المنفى الأخير – الهمداني – عدن 1983، ص 204.
9- سعدي يوسف – خطوات الكنغر – دار المدى دمشق 1997، ص 17 ا.
10- سعدي يوسف -مقدمة (ايماءات) يانيس ريتسوس – دار ابن رشد -بيروت 1979.
11- عبدالواحد لؤلؤة -البحث عن معنى (دراسات نقدية) دار الحرية – بغداد 1973.
12- سعدي يوسف – يوميات المنفى الأخير – دار الهمداني – عدن 1983، ص 193.
13-Jeffries, Lesley – The Language -of Twentieth Century Poetry, The Macmillan Press – London 1993 p. 25.
14- Davie, Donald – Pound 2 the Chaucer Press – London 1975.
15- يقول عزرا باوند: يجب أن يكون الشعر في بساطته مثل أفضل نثر لموبلسان وأصعب نثر لستاندال. المصدر السابق 39.
16- المصدر نفسه، ص 38.
17- سعدي يوسف – والت ويتمان،مقدمة (أوراق العشب) – وزارة الاعلام – بغداد 1976.
18- جان كوهن – بنية اللغة الشعرية ت: محمد الولي ومحمد العمري – دار توبقال – الدار البيضاء 1986، ص 52.
19- سعدي يوسف – يوميات المنفى الأخير، ص 197.
20- الملحمة سرد قصصي شعري مسهب رفيع الاسلوب يحكي عن أعمال بطولية موضوعة الى حد ما على غرار الملاحم المبكرة مجهولة المؤلف. انظر معجم المصطلحات الأدبية – اعداد ابراهيم فتحي – المؤسسة العامة للناشرين المتحدين – تونس 1986، ص 344.
21- مصطلح البداهة Wit يعني في الأصل ملكة المعرفة بعامة (سواء بالعقل أو الحواس) ثم صار يعني في أيام شكسبير المعرفة الرقيقة والمزاح، أو حضور البديهة والابتكار، أو اللوذعية وتعريفها التحليلي هي انها ملكة رؤية التشابهات الصعبة بين موضوعات بعيدة جدا عن التشابه، انظر النقد لدى الكلاسية الجديدة – وليام. ك، ويمزات وكلينث بروكس – ت: حسام الخطيب ومحيى الدين صبحي – مطبعة جامعة دمشق 1974، ص 336.
22- رومان ياكبسون – قضايا الشعرية – ت: محمد الولي ومبارك حنوز – دار توبقال – الدار البيضاء 1988، ص 33.
* فصل من كتاب سيصدر قريبا عن سعدي يوسف.
فاطمة المحسن (ناقدة عربية تقيم في لندن)