عندما تساقطت الأقنعة نظر اليها ولم يستطع أن يخفي ضعفه. انسابت منه دمعة أولى كانت بلون رغبتها، والثانية كانت غصة في الحلق، كالخطيئة الأولى،.أعرب عن نفسه وعن نبرة صوته الطفولية، عن أحلامه المدفونة في حب عميق، ودرجات الطيف التي تداعبه في الخيال، دوما هو طفل وديع – بقرار قديم – في الآحاد والجمع يذهب الى القداس يداوم على طقس التناول، وعلى الاعتراف وتلتصق بصدره قطعة جلدية عتيقة لصليب ينتظر من يتعلق به في الليل يخلعه عنه، وينتظر أن تأتي أطياف ملائكة تصحبه الى كون وردي (كلنا إخوة)، وفي الصباح يتذكر من جديد أن من صفعني على الخد الأيمن أعطيته خدي الأيسر.
أحيانا ما يتمادى في لعبته عله يتجاوز رغباته المحتدمة، يناطح نفسه، ويتكور خلف حصون وهمية. كلمات كثيرة صارت محرمة "أحبك" "أشتهيك". كلمات أكثر صارت أخدودا تنزلق داخله بدائية ("أحبك حقا"، "أشتهيك حقا"). نحن في انتظار الخلاص في غضونه نتقمص يسوع والمجدلية، ونرقب الطريق تحسبا لاشارات المرور.
"هذا عطري تميمة لك
هذه أحجار الدنيا
جمعتها لك
هذا منديلي أثر لك
في الدنيا والآخرة
هل تعرفني ؟ هل تراني حقا؟ أم هل عرفت أنا نفسي ؟
من تعاريج وجهك أولد من جديد. من خندق رغبتك المقدس أبعث قديسة أزلية، تتغير ملامحي وتندمج في أيقوناتك المتضاربة، في رعشة سبتمبر التي تنتابك حينما يتطلع اليك الخدام بحثا عن الخلاص. "أحبك" جدلتها مع قريناتي من القديسات، وصرنا نترنم بها في كل قداس. صرنا نتناول خبزك ويسري في عروقنا نبيذك. ذلك عهدنا. الذي يخترق الزمن. فلتتذكرني يا يسوع في ابتسامة أمك الماكرة، وفي الزفير الأخير فوق الصليب الذي أقلك الي.
أحلق فوقك الآن.. أرسم لك وجها غير الذي تعرفين.. أهبك اسم العذراء.. أسورك بعيدا عن عالم الدنس.. يامجدلية..دعيني أحافظ على صورتك الطاهرة.. في نحت وجهي..ذ ثقوب يدي.. وقدمي.. في قلبي.."
علمه يسوع الا يشتهي.. علمه يسوع "محبة البشر".
صار العاشق.. وصار الناسك.. وراء أقنعة الرب.. صار يتلمس نورا ويتلذذ برغبة مخفقة.. وعندما تتهاوى الأقنعة يتمخض عن ضعفه.. عن عبرا ته.. التي بخطيئتها، مجدليته التائهة في متاهات الرب.
ثم حانت اللحظة. وضعوا له تاجه، ومنحوه أدوات مثيرة كفيلة بصنع أيقونات أبدية، ابتلع هواء أورشليم لحله.، وأخذت ذر:ته تسري في خلاياه.. وكانت الروح الكرنفالية قد تفشت تماما بين الحواريين، انزوى يهوذا في مكان ما يراجع حساباته، وراح يوحنا يدون كل ما تقع عليه عيناه من أحداث، بينما بطرس يتساءل في صمت (هل هكذا تكون البدايات العظيمة)..
أورشليم حتما لم تشهد يوما بهذا القيظ. تجمع الأوكسجين كله في رئتين غير آدميتين. والمرأة تهرول من بعيد كأنما لتلقي بنفسها من على حافة الكون. في الطريق تعثرت في أحجار غليظة سقطت من قبل أسفل قدميها العاريتين عندما كان كل من له خطيئة يغازلها بحجر، وبين نهديها يعتصر المنديل على الجسد الذي قارب على مفارقة الروح. عند وصولها كان الموكب كله معدا، والرجل في كامل بهائه، رآها فبدأت المراسم.
ركعت المجدلية وقبلت قدميه كأنما في الحلم، فرفعها من تحت إبطيها وقطرة دم تنزلق من جبينه الى عينيه. "مغفورة لك خطايا كي" (1) وأغمض عليها. حتى التصقت ملامحه برائحة نهديها وايقاع قلبها الجنائزي. راحت شفتاه تبارك بشرتها وتسر لها بآلام الصعود. وهي لاهثة تنز من قدميها جروح الطريق. وعلى المنديل عشرة أصابع ترتجف، ومن تحته مشات الشعيرات الخشنة تنتصب رغبة في الفداء. والرحيل. منحها صورته (الوحيدة الصادقة) على قطعة أبدية. امتزجت فيها رائحة امرأة خاطئة ورجل غير آدمي. ضمتها بين ثنايا قلبها وتبعته في موكبه. وكلما ضغط تاج الشوك في صدرها ربتت العذراء على رأسها وكأنما تذكرها أن الأسماء سوف تتطابق رغم كل شيء. حفر له طريقا يزيح كل الأحجار التي لم تنلهما، وأخذ يتمتم بكلمات لم يعلمها غيره.
هناك ازداد الصخب. وهو يعتلي صليبه ويشكل منه تميمة أبدية. كان جسده يشبه الرب (نبيلا ومتسامحا) وزفراته التي بهواء أورشليم كله تجوب أنقاس الحاضرين وتشبعهم حياة أطل الجميع من داخله وفضل الا ينظر الى مريمتيه لأن القطرة الوحيدة التي انزلقت الى عينيه كانت قد وجدت لها مجرى في العروق.
لم تفارق الروح الجسد بالطبع ولم تتوزع عل الكهنوت، بل الجسد الذي تساقط منها من تلقاء نفسها ابتكر له روحا جديدة لا يمكنها أن تحل الا في أحشاء المجدلية وجرتها:
"كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش الى الأبد. بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع الى حياة أبدية". (2).
هكذا غرب نهار الجمعة الحزينة. سارع اليهود بدفنه كي لا يرتبكوا في يوم عطلتهم. وبعد دقائق بدأ يوم جديد، وبعده أخر، وبعده آخر، حتى تبدى لهما في يوم القيامة، عند فناء الدار. كانتا تعيدان هندسة كل شيء على شاكلة جسده، وتحصيان ذرات التراب التي باركها بقدميه. قيل إنه زار نيقوديموس وزميله فيما بعد،وقيل إنه ظل هائما في أورشليم حول تلاميذه، ورسله خمسين يوما، لكننا كلنا نعرف أن الرجل الذي اختزن دعاءه حتى لا ترهق أعداءه عند دفنه لم يكن بحاجة لأن يعود ليلقن رسله الأسرار فيتوزعون عل انحاء العالم، بل لم يكن أساسا بحاجة الى الأسماء التي تسهم في تصنيف الأمور وتضيف للفة ذلك البعد السحري، ك ن يكون هناك سبت للغفران ينقطعون فيه للصلاة والبكاء، والاغتسال من ذنب أحدهما، ذلك الذي انتحر على صليب أو الآخر الذي انتحر عشيته وهو يتمم حساباته.
بعد ثلاث شموس قيل هذا هو لكن لا تقربوه فإنه "جسدا ليس كأجسادكم". وقيل "هذه هي روحي ابن الرب، فلتتقاسموا أسرارها، وليسري فيكم نفحها، وليحل في تلاميذكم من بعدكم ذرية في العالم تحافظ على تعاليم الرب وتجسد كهنوته". وقيلت أيضا أشياء أخرى كثيرة ولدت أسماء كأحد الزعف، وكيوم الغطاس، وظلت هناك الأسرار التي لم يعلنها أحد، وظلت هناك الخمسون يوما التي لم يدونها أحد. سقطت من التقويم، أو تحولت هي أيضا نفحات سرية كالروح التي انطوى عليها ماء الجرة. تطابقت الأسماء بالفعل، وصارت المر أتان قرينتين. لرجلهما. تقاربت الملامح كثيرا، ونبرة الصوت، والمفردات التي كان يتداولها يسوع. سورت المجدلية بئرها بالأحجار القديمة، وراحت تغزل أغنيات تليق بفناء الجسد في روح المعشوق.
هو هو
نور العالم.
من يتبعه فلا يمشي في الظلمة
بل يكون له
نور الحيوة" (3)
"وحدي أنا أعرف ما كتبت بأصبعك على الأرض قبل أن يخرجوا واحدا فواحدا. وحدي أنا أعرف ما كان يدور بخلدك عندما انتصبت ولم تنظر أحدا سواي. كنت أنا في وسط الدائرة وحيدة. إلا من نورك. الذي مس لحل جوانبي. ذهبت. ولم أخطي، أبدا من بعد".
واستقرت هناك. حيث يزورها عظم لا يكسر منه (4)، وعطش لا يروى الا من ماء البئر. ماء الجرة. راح يناديها ويتلذذ بأصدائه في حشاها. فيتحرك الماء. ويتشكل فيما يشبهه. تتأمل فيه فتنعكس على وجهها ملامحه. لذلك لم تندهش عندما سال من جنبه ماء لما طعنه العسكر بحربة هناك، ففيه كان سر الحياة،وعند فناء الدار لحان موعدا قديما للقاء، بعد أن تتآكل الأقنعة، بعد أن يكون قد مضى الى حيث لا يقدرون هم أن يأتوا. وتلاشى العالم.
الذي لسنا منه. الذي نحتاج فيه ثقوبا كي نتعرف. فهكذا يا عزيزي يأتي الخلاص. وننطق كلماتنا. ونتحرر من حصوننا وعبراتنا. دون أن نسقط يسوع والمجدلية. اللذين في حلولهما في بئرنا سر اكتمال الدائرة.
ــــــــــــــ
1- من أحدى أيقونات الكنيسة المعلقة التي تجسد مريم الخاطئة وهي تقبل قدمي السيد المسيح (طبق الأصل).
2- انجيل يوحنا الاصحاح 4: آية 13/ 14.
3- انجيل يوحنا – الاصحاح 8.
4- انجيل يوحنا – الاصحاح 19.
نورا أمين (كاتبة من مصر)