القلم صولجان. ولكن ما أقل الملوك بين الكتاب.. كانت هذه العبارة هي صيحة جبران خليل جبران. ومن حقه أن يقولها. ذلك أن كتابه »النبي« منذ صدوره وهو ثاني كتاب يوزع بعد الإنجيل على مستوى العالم باللغة الإنجليزية. وهذه العبارة تلخص سيرة يوسف إدريس الكتابية والإبداعية. كان قلمه هو صولجانه. وكان واحدا من القلة الشديدة التي جعلت منهم الكتابة -والكتابة وحدها- ملكا . بمعنى تصدر صفوف الكتاب وحمل الراية. وشرعيته جاءت فقط من فعل الكتابة.
هذه شهادتي عن يوسف إدريس كما عرفته في حياته. وقراءتي به خلال وجوده في الدنيا وبعد رحيله عن العالم الذي يكمل هذه الأيام عشر سنوات وهي مناسبة كنت أتصور أن المثقفين العرب – والمصريون جزء منهم – سيتوقفون أمامها بالقدر الذي تتطلبه من الدرس والفهم والتمعن. لأنها المرة الأخيرة في حياة الكثير منهم التي ستمر علينا. فمن منا سيكون حيا عندما تمر عشرون سنة على رحيله? هذا علاوة على أني أعترض على الاحتفال بموت الكاتب. وأفضل أن يكون الاحتفال بميلاده. فالموت موت. الموت نهاية. وعلينا أن نحاول قهر الموت. في حين أن الميلاد حياة. وإن كنا نحتفل بميلاد الكاتب طالما هو يعيش معنا. ما أن يموت حتى نعتبر أن موته هو التاريخ الوحيد الباقي. وكأن من يموت منا قد أهدانا أكبر هدية وآخر هدية يمكن أن يقدمها لنا ألا وهي موته وانسحابه. وترك الساحة الوهمية خالية من وجوده. وإن كانت مصر الرسمية قد رفضت الاحتفال بمرور عشر سنوات على رحيله. ولولا الاحتفالية الضخمة والطويلة التي أقامتها ورشة الزيتون الإبداعية. والملف الذي نشرته جريدة أخبار الأدب تحت عنوان: أجمل ما كتب يوسف. ما كان هناك شيء يذكر. أقول إن كان الموقف المصري لا يدعو سوى للخجل. فأنا أذكر من الآن المجلس الأعلى للثقافة ولجنة القصة به. إن يوسف إدريس ولد في 19/5/1927. وتوفي 2/8/1991. وفي التاسع عشر من مايو سنة 2002 يكون عيد ميلاده الخامس والسبعون. وهى مناسبة جيدة وجميلة. لاحتفال ضخم يليق بيوسف إدريس. كما أن الفرصة الزمنية التي تفصلنا عنا كافية للاستعداد لمثل هذه المناسبة الكبيرة.
أبدأ بيوسف الذي كان بيننا وأذكر أنني أجريت حوارا معه ولم أجد سوى جزء من بيت شعري لصلاح عبد الصبور. أعتقد أنه من قصيدته رحلة في الليل يقول:
السندباد كالإعصار أن يهدأ يمت
مشبها يوسف إدريس بالسندباد. في هذه العبارة الشعرية الدالة. وأذكر أنه رفض المقابلة بعد النشر. بما فيها الكلام الذي قاله. ومع هذا توقف طويلا أمام عبارة صلاح عبدالصبور. وقال لي إن الصواب الوحيد الذي كتبته هو العبارة التي استعرتها من صلاح عبد الصبور. أما أسئلتي وإجاباته على الأسئلة فهي قصة أخرى. لقد قال عنه سعد الدين وهبة: إنه العاصفة التي تسكن بدنا وزوجا وقال عنه نجيب محفوظ – بعد رحيله للأسف:
– كانت أسعد أيامه أيام العطاء وأتعس أيامه, أيام الانتظار, وحتى المرض والتجارب المرة. كان على أتم الاستعداد للمصالحة معها والرضا بها إذا وهبته مادة جديدة أو فتحت له نافذة مغلقة أو خصته بحقيقة خافية من حقائق الوجود.
على أنه لابد من الاعتراف. وقد أصبح في الناحية الأخرى من الكون, أنه لحظة رحيله عن العالم. لم تتوصل علاقته بجيل الستينات, وهو أهم ظاهرة أدبية فرضت نفسها على الواقع الثقافي الذي خرج إلى الدنيا بعده. أقول إن هذه العلاقة لم تصل إلى صيغة حقيقية من الود والتفاهم والاستقرار وأسباب ذلك كثيرة.
كان كالعاصفة. لم يتصرف مثل غيره. لم يخف آراءه الحقيقية في أبناء هذا الجيل. وفي نتاجاته الأدبية. ولم يرسم على وجهه قناعا من المجاملات الدبلوماسية التي لا تقدم ولا تؤخر. حيث يقول بعض الجمل شديدة العمومية حسب كل موقف. كان في العلاقة قدر من الانتقاء من جانبه. وهذا حقه ودرجة المواجهة التي أزعجت الآخرين, الذين كانوا يبحثون عن علاقات محملية أقرب إلى العلاقات العامة. الآن يمكن القول إن علاقته بمعظم أبناء الأجيال التي جاءت بعده شابها عدم القدرة على التواصل والاستمرار في التلاقي.
وربما كان الوحيد, من جيل الأساتذة, الذي حل هذه المعضلة هو نجيب محفوظ. وذلك من خلال اهتدائه المبكر إلى عبقرية فكرة المقهى. فالمقهى مكان عام يسهل اللقاء فيه. وابتداء من كازينو الأوبرا مرورا بمقهى ريش وعلي بابا وكازينو قصر النيل وأخيرا العديد من الفنادق والكازينوهات وبيوت الأصدقاء, ثمة أماكن ثابتة يمكن للإنسان أن يلتقي بنجيب محفوظ فيها. وثبات المكان واستمرارية إمكانية اللقاء يعطي العلاقة بعدا إنسانيا . خاصة وأن فكرة التزاور في البيوت, لا تتم سوى في إطار العلاقة الإنسانية شديدة الحميمية, وأماكن العمل لا تصلح لمثل هذه اللقاءات.
عن نفسي كانت أكثر المرات التي رأيته واقتربت منه كانت سفريات خارج مصر لحضور ندوات أو مؤتمرات أدبية.. وعندما كان يتم هذا السفر إلى دولة عربية شقيقة. كانت تأخذه منا جاليات عربية إدريسية.. كانت موجودة في كل العواصم العربية تقريبا . وعندما نصل إلى مصر, وبعد الخروج من المطار كنا نقول لبعضنا: إلى اللقاء في سفرية قادمة.
ومما جعل الصلة الإنسانية شائكة وصعبة تخرج من حالة معقدة لكي تدخل في حالات أكثر تعقيدا . أنه عندما اضطر إلى التوقف عن الكتابة الأدبية الإبداعية في سنواته الأخيرة. وعلى الرغم من أن صمت الفنان حق من حقوقه. والصمت قد يكون معبرا عن الفنان مثل الكتابة. ولكننا حاولنا العدوان على هذا الحق. تحولت مسألة توقفه عن الكتابة إلى معزوفة وصلت إلى حد التكرار الممل وعندما كان يصدر عملا متوسطا لم نكن نتوقف عن جلده ومحاسبته ومحاكمته. لدرجة أنه كتب حول هذا الموضوع في مقدمة كتابه »الإيدز العربي« الصادر عن دار المستقبل العربي. 1989. تحت عنوان: كلمة – أيضا – لا بد منها:
– »أريد أن أتكلم بصراحة في موضوع أنا متهم به. فمنذ سنوات قامت حملة ضدي. تذكر على هيئة اتهام وكأنه اتهام بالخيانة العظمى. لماذا تركت الأعمال الأدبية ومنها القصة والرواية والمسرحية واتجهت إلى المقالة الصحفية? «
ويكتب ردا على هذا الاتهام:
– »يا ناس أتريدون من رجل يرى الحريق يلتهم بيته. أن يترك إطفاءه للآخرين. وأن ينتحي ركنا من هذا البيت المحروق ويكتب قصة أو رواية عن هذا الحريق الذي بدأ يمسك بجلبابه.? إني إنما أدافع في مقالاتي تلك دفاعا يوميا عن وجودي اليومي وعن كل قيمي وكل ما أؤمن به. وأذود عن عرضي وعرضكم وشرفي وشرفكم ولا أفعل هذا خارج دائرة الكتابة. فأنا لم أنضم إلى حزب ولا كونت تنظيما أو هاجرت إلى فرنسا أو انجلترا وإنما أنا قاعد في داري القاهرية إلى الأبد. أحاول بكل ما أملك من جهد أن أقوم بدوري ككاتب«.
ثم يكتب عن مقالاته الأخيرة:
– »إنها نوع من الفن الانطباعي المكتوب قد يملك صفات القصة ولكنه ليس قصة. وبعض خصائص الشعر ولكنه ليس شعرا وفيه ملامح المسرح ولكنه ليس مسرحا , وإن احتوى على عناصر كثيرة من الدراما«.
وعندما كتب يوسف إدريس هذه المقالات ونشرها متفرقة. بل وعندما جمعها في كتب. وصلت إلى ثلاثة عشر كتابا . لم نأخذها مأخذ الجد. ولم نقرأها بعناية ولم نتوقف أمامها بالقدر المطلوب. ربما لأننا تعودناه قصاصا وروائيا وكاتبا مسرحيا فقط. ونظرنا إلى هذه المقالات باعتبارها كتابة صحفية. كنا نعتقد أن مرحلة الكاتب الموسوعي قد ولت. وإن طه حسين والعقاد آخر الكتاب الموسوعيين, مع أن الموهبة وحدها قادرة على أن تكسر القوانين وتخلق لنفسها قاعدتها الخاصة بعيدا عن أي تصورات. كان الموقف من هذه المقالات فيه قدر من مصادرة حقه في أن يكتب كتابة أخرى. تفرض من داخلها قوانينها الخاصة. رحنا نطبق عليه مقولة سخيفة تقول إن عصرنا هو عصر التخصص الحاد. مع أن هذا الكلام يمكن أن يكون مقبولا في مجالات العلم ولكن لا يمكن قبوله في الخلق الأدبي والإبداع الفني.
أكثر من عشر سنوات من عمره. هي السنوات الأخيرة وهي قمة نضجه الحقيقي. قررنا أن نتعامل فيها مع نتاجاته بدرجة من اللامبالاة. سواء عندما كانت تنشر في الصحف أو بعد جمعها في كتب. كان هو مستمرا في التطور حسب رؤيته الخاصة. في حين أننا رفضنا التعامل سوى مع يوسف إدريس الذي عرفناه ابتداء من الخمسينات. يوسف القاص والراوي والكاتب المسرحي يوسف إدريس صاحب أرخص ليال. والحرام والفرافير. كنا قد وضعناه في قالب صنعناه نحن له. وقررنا أن نحبسه في هذا القالب. ورفضنا حقه المشروع الطبيعي في أن يطور نفسه بالطريقة التي يراها مناسبة. كان هناك صراع بين يوسف الذي نريده بحق ونتمناه ونحلم به, وبين يوسف كما يرى هو نفسه ويطورها. وعندما اختار هو الشكل المناسب رفضنا نحن ذلك. لاجدال في أنه يقف في مقدمة الكتاب في عصره شهرة ومعرفة من قبل الناس. وإن كان هناك من لا يعرفه. وهو شاغل الناس والدنيا. فلابد وأن الموقف يصبح أكثر سوءا ألف مرة مع غيره. لابد من فرز الأمر جيدا . ومحاولة معرفة أين يكمن الخطأ في هذه القضية. من المسؤول. هل هو الكاتب. أم المتلقي أم الوسائل التي توصل بينهما معا . لابد وأن هناك خطأ في أحد أضلاع هذا المثلث.
عندما كتب يوسف إدريس مقاله الجميل والبديع ؛مشروع وفاة توفيق الحكيم« وهو المقال الأخير في كتابه: الإيدز العربي. توقف أمام صورة الواقع الثقافي كما يراها كتب:
– ؛ كل شيء بدأ يتغير. بدأت الألوان الزاهية تبهت. ومصر التي في قلوبنا وأرواحنا تتوارى تحت وابل من أقدام غلاظ كثيرة. وضجات عالية وغوغائية, فكأنما قد انفتح مزراب من باطن الأرض وخرجت مجموعة من الواغش البشري سدت الأفق. بدأت لقاءاتنا في الأهرام تقل. وبدأت أمرض. وبدأ الناس يتسللون من بيتنا مهاجرين ومنفيين وناقمين بأنفسهم ومبتلين سيان. بدأ المسرح يتغير. تنطفئ الأضواء الحقيقية المسلطة على أبطال حقيقيين. وتضاء على نماذج من ورق. ومسخ وهيافات. وتحولت الفيلهارمونيك أوركسترا إلى واحدة ونصف. فجة قبيحة عارية الوجه بلا أدنى حياء. وكتبت أنا مقالة إسمها: تعالوا ننظف مصر. وكأنما كانت الحشرجة الأخيرة لملحمة فكرية إبداعية توشك أن تبتلعها مياه المجاري التي كانت قد أغرقت حي روض الفرج.
وأضحك وأنا أتذكر الأعوام من 75 إلى 80 وصرخات المتشنجين تنعي على الكتاب قلة إبداعهم ونكوصهم وانتهاءهم, فكأنما يمكن لكاتب لديه أى ذرة من ذوق أو حس للجمال أن يبدع ليضع باقة زهور وسط – وآسف جدا للكلمة – »بكابورت«.
عدت من رحلة العلاج إلى الخارج عام 77 لأجد برج الدور السادس – أوبرج توفيق الحكيم كما أرجو أن يطلق الأهرام عليه – ساكنا والأبواب مغلقة. ونجيب محفوظ أصبح يأتي مرة فقط كل خميس. وتوفيق الحكيم أيام وأيام. ولويس عوض في جامعة لوس أنجلوس. وبنت الشاطئ في المغرب وحسين فوزي في فرنسا. وزكي نجيب محمود يرسل المقالة من المنزل. وصلاح طاهر في مرسمه.
وبدأ إنتاج آخر يطل على الساحة.. خطب ناعقة, وعواءات وهلوسات وميكروفونات والعذاب قد حل على أهل المدينة بلا ذنب جنوه وبلا جريرة. وبطيئة بطيئة ثقيلة كوقع أحذية الأمن المركزي, مضت الأيام. إن مشروع الحياة الفردية يستمد وجوده من أمة حية. أما إذا بدأت عيناها تجحظ. وتنكتم في جوفها الأنفاس.
فماذا يبقى من مشاريع الوجود?!
انتهت شهادة يوسف إدريس. ولكن المشكلة ما زالت قائمة على أرض الواقع. لقد تراجع ما كان يمكن أن يسمى الضمير الثقافي العام. وهو الذي يقي جماعة المثقفين من الزلل والخطأ العام. في السنوات الأخيرة كانت هناك حالة تربص. الكل يتربص بالكل والجميع يحصي أخطاء الجميع. والمثقفون بشر. يصيبون ويخطئون. ولكن المشكلة هي في التوقف أكثر مما ينبغي أمام الخطأ. وتحويله إلى خطيئة وإغفال الإنجاز.
وقد نال يوسف إدريس من هذا الجو المريض النصيب الأكبر. كان الرجل نجما منذ أول يوم في حياته. فنظرنا إلى هذه النجومية على أنها جريمة. وكانت فيه كل مقومات الزعامة. فقلنا لهذا توقف عن الكتابة. وكان له حضور طاغ في كل مكان يذهب إليه. فقررنا أنه تحول إلى شخصية عامة. ولذلك توقف الكاتب في أعماقه. وقد دفعه اعتزازه بنفسه أن يشترط قبل قبوله زيارة أي بلد عربي شقيق أن يستقبله رئيس هذا البلد. وهذا أقل حقوقه المشروعة.. ففسرنا الأمر على أنه انحياز لأصحاب السلطة أكثر من انحيازه للناس.
هذا عن زمن الحضور. فماذا عن سنوات الغياب العشر?! إن كان قدر صدر عنه في حياته أحد عشر كتابا . أولها صادر سنة 1976 والأخير سنة 1991م. فلم يصدر في السنوات العشر الأولى بعد رحيله سوى كتابين فقط. مع أنه من المفروض أن يتضاعف ما يصدر عنه بعد رحيله. لأنه بموته يكون قد اكتمل مشروعه الكتابي ووصل إلى قول ما يمكن أن يسمى بالكلمة الأخيرة. ولهذا فإن الدراسة عنه تصل إلى مستوى الشهادة النهائية له.
الكتاب الأول هو البحث عن اليقين المراوغ لفاروق عبد القادر. وعلى الرغم من أن فاروق وضع يده على قضية هامة وخطيرة بشأن نتاج يوسف إدريس. كانت تصلح موضوعا لرسائل جامعية كثيرة. أو دراسات ميدانية فريدة, إلا أنه لم يتقدم أحد للعمل في هذه المساحة التي اكتشفها فاروق عبد القادر. اكتشف فاروق عبد القادر أن يوسف إدريس كان يغير ويعدل ويبدل في عناوين مؤلفاته. فالمقال يحوله إلى قصة قصيرة. بين كتاب وآخر. وعنوان الكتاب يتغير بين طبعة وأخرى. بل أن محتويات المجموعة تختلف. من طبعة لأخرى. والأمثلة على ذلك كثيرة. لا داعي للخوض فيها وهي موجودة في كتاب فاروق عبد القادر لمن يشاء العودة إليه. وتحدث عن الحيرة التي ستعانيها الأجيال القادمة في التعامل مع نتاج يوسف إدريس. والحل الذي توصل إليه فاروق عبد القادر هو التعامل مع الطبعات الأولى من هذه الأعمال فقط. وعدم الالتفات إلى ما صدر بعد ذلك. وفي تصوري الشخصي أن هذه الحالة تعبير عن قلق وتوتر يوسف إدريس الداخلي الذي كان يحرمه من الاستقرار على حالة واحدة لفترة من الزمن. وتصوره أن نصه يظل ملكا له حتى بعد نشره. وجزءا منه ولا ينفصل عنه. مع أن جميع الأدباء يقولون إن النص بعد نشره لا يصبح له صلة بمبدعه وصاحبه أبدا . بل يصبح ملكا لمن يقرأه فقط.
الكتاب الثاني هو: تزييف السرد. خطاب الشخصية الريفية في الأدب. للباحث العراقي فاتح عبد السلام وحسبما جاء في الخبر الصحفي المنشور عن هذا الكتاب. فإن صاحبه يقدم دراسة نقدية خاصة لمجمل نتاج يوسف إدريس. خصوصا ما يتعلق بسرد قصص وأحداث الريف المصري.
وعلى الرغم من أن حياة يوسف إدريس قد شهدت تحويل اثني عشر عملا أدبيا لأفلام سينمائية فقط. من بين نتاجه الأدبي الذي يتعدى الـ350 قصة قصيرة صدرت في 12 مجموعة قصصية. وعشر روايات: تسع مسرحيات و 13 كتابا تحتوي على مقالاته الصحفية. وما جرى تحويله أقل من القليل في حياته. وقد جرى تحويل البعض بصورة عشوائية. مثل قصة »مشوار« التي تحولت إلى فيلم عنوانه: العسكري شبراوي. ورائعته الجميلة العسكري الأسود التي أصبحت حلاوة الروح ورواية كما أنه قد جرى تقديم العديد من العروض المسرحية عن مسرحياته. إلا أنه وعلى مدى هذه السنوات العشر من غيابه. لم يتم تحويل سوى قصة قصيرة طويلة: أكان لابد يا لي أن تضيء النور!! إلى فيلم أخرجه: مروان وحيد حامد. وكاد أن يتحول إلى معركة جديدة ضد يوسف واتهامه بالكفر حتى وهو في قبره. وقد تدخل الروائي يوسف ابوريه. وأعلن أن يوسف إدريس قال له في حياته. أنه يقصد رجال يوليو برمز الشيخ عبد العال. بقصة كفاحه في حي الباطنية وقصة صراعه مع لي لي. تلك الغانية التي راودته عن نفسه. ثم تركه للمصلين وهم سجود وذهابه إلى ؛لي لي«. وهناك مسلسل ظل يتعثر لسنوات في التليفزيون عن روايته البيضاء.
خلال هذه السنوات تم العثور على ابنه بهاء في الطريق إلى مدينة برج العرب في الساحل الشمالي.ميتا . وحاولت ابنته نسمة الكتابة ونشرت بعض الأعمال. وإن كانت لم تستمر في النشر بعد الاندفاعة الأولى. وخلالها تعاقدت زوجته التي أصبحت أرملته مع قسم النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. وذلك من أجل تسويق أعماله للترجمة إلى لغات العالم. ورغم مضي أكثر من ثلاث سنوات على هذا التعاقد, لم نسمع عن أعمال له جرت ترجمتها إلى أي لغة من لغات العالم. نكتة هذه السنوات العشر هي اكتشاف أن قريته البيروم محافظة الشرقية هي التي القرية التي خرج منها نبيه سرحان شاعر العامية. التي فر هاربا إلى إسرائيل سنة 1968. وأصبح مواطنا إسرائيليا يهاجم بلده من إذاعة الأعداء. وهي واقعة لا دلالة لها سوى سوء بخت وقلة حظ يوسف إدريس حيا وميتا . وأنا أوردها بصورة أقرب إلى النكتة السخيفة.
إنني أتساءل : الشاعر: كيف طوت مصر صفحة يوسف إدريس بهذه الصورة خلال عشر سنوات فقط? وهي فركة كعب قصيرة في أعمار الشعوب?! هل هذا بسبب حضوره الكاسح المكتسح في حياته? أم أنه نمط الحياة الجديد الذي من أهم سماته أن تكون ذاكرة الشعوب ملعونة. تنظر إلى الماضي في غضب سلبي. وليس ذلك الغضب الخلاق الإيجابي?!
يوسف إدريس نفسه تنبأ بهذه الحالة من اللامبالاة في سنوات عمره الأخيرة. من يعد إلى مقالاته سيكتشف تكرار كلمات مثل الأذان في مالطة. ويموت الزمار. في كل ما كتبه في هذه السنوات الرمادية من أخريات حياته.
بعد انتحار الروائي الياباني يوكيومشيميا يكتب يوسف إدريس. مع العلم أن هذا الانتحار تم مبكرا جدا قبل رحيل يوسف إدريس بعشرين سنة كاملة. ومع هذا نكتشف أن الإحساس المأساوي باللاوجودي بدأ يتسلل إلى كتابة يوسف إدريس عندما كتب عن ذلك:
– لقد انتحر ميشيما في اللحظة التي أدرك فيها أن دعوته بلا جدوى وبلا صدى. وككاتب اكتشف أنه يكتب في فراغ وبلا صدى.
ثم ينتقل في الجزء الثاني من نفس المقطع متكلما عن الكاتب العربي:
– إن دور الكاتب المسموح به في الوطن العربي هو دور الكومبارس. وأن حديثه أشبه بمنولوج متصل وكأنه يؤذن في مالطة.
وفي ندوة عقدت في بيروت سنة 1974 وكان عنوانها: »هل للأديب العربي دور«?
– ما الذي يحدث إن نهضنا ذات صباح فوجدنا أنه ليس ثمة كتاب ولا مجلة ولا ثقافة? أغلب الظن أن أحدا لن يشعر بالخسارة.
لقد تنبأ يوسف إدريس بالطريقة التي تعاملت مصر بها مع غيابه. أعتقد أنه لا مفاجأة له حيث هو هناك في دار الخلود.
يوسف القعيد كاتب وروائي من مصر