السادسة صباحا..
ترن ترن ترن ترن ترن
صباح ككل الصباحات البائسة .. غرفة ككل الغرف الكئيبه . سرير ككل الأسرة الرخيصة .. اياب من النوم ككل اياب رحلة مخفورة بالاعاصير والعواصف .. تستفيق مهرولا الحمام يسبقك وجهك الذي يشبه سقطة الذات .. تغسل بالماء والصابون دون الكوابيس الليلية .. تتمرأى.. موسى الملاذ يجتث لحيتك من جذورها.. محاولات يائسة من رجاب الكولونيا الرخيصة لاخفاء رائحتك النتنة .. والعمامة بئر عميا تخبي، في جوفها "قشرة " وحمقا وأشياء أخرى.
ترى أي يوم هذا الذي تمني نفسك ان يكون أقل بؤسا من الامس .. واي بهجة تلك التي تعد بها قلبا ذبلت في روحه أزهار القرنفل فاخشوشن واخشوشب .. وما ادراك انك لن تعود الى غرفتك أخر الليل خالي الو فاض الا من رئة تتنفس الهزيمة ورأس ثقيل موبوء بالاسئلة الحيري.
قديما ، حين كنت صغيرا غريرا ، حيث الطفولة جنتك الخرافية ، وحيث لا نصل يغازل حاضرتك الملساء ، ولا شيء يوقف مد أحلامك الوردية (اذ اليأس بيضة لم تفقس بعد) قديما حين كنت صغيرا غريرا .. أتذكر؟! .. كانت ثمة خريطة من الضحك مرسومة في رأسك .. نوارس البهجة تسرح في ردهات روحك .. شموع الليل الفرحة تضيء المدن السوداء في قلبك .. والسعادة جزيرة خضراء تغدق عليك من بقلها وقثائها وفوهها وعدسها وبصلها.
كنت صغيرا ، وكانت همومك صغيرة على قدر سنك . أما اليوم فقد كبرت .. ونبتت لك لحية تستمرىء التخلص منها كل صباح ، وشارب تفاخر بتمسيد طرفيه .. واتسعت حدقتاك بالشكل الذي يتيح لهما مطاردة الحسناوات .. وطالت سبابتك وباتت قادرة على مجابهة الانوف المتعجرفة .. وكبر لسانك وامتلك القدرة على السب واللعن .. كبرت وكبر كل شيء معك فاحترقت خريطة الضحك ، وتفرق رمادها بين قبائل الحزن ، ولم يعد ثمة شيء يذكرك بها سوى شظايا تبعث على التقزز. السابعة والربع صباحا:
وحتى تقوقعك في المقعد الخلفي ، وانغماسك في التدخين بشراهة لن ينسيك إياه .. فالقلق قاتل مأجور يعرف طريقا جيدا الى امثالك من الذين ابتلت اجسادهم اكثر مما ينبغي.. وهذه المرة سيغذي القلق فيك خوفك من عدم تمكن الباص من الوصول في الوقت المحدد ،وما سيترتب على ذلك من عدم تمكنك من التوقيع على دفترا لحضور.. انت لا تحب هذه الوظيفة لا تنكر.. مهما قلت لي ان أي شيء يساوي كل شيء فلن أصدقك .. مهما تشدقت بأن الوظيفة زوجة على الطريقة التقليدية تقبل بها مرغما وتحبها تعودا فلن تقنعني.. انا اعرفك جيدا.. لا تحب ان يفرض عليك شيء.. لا تحب ان يكون لك رئيس مباشر ولا غير مباشر .. تريد ان تظل عصفورا طليقا ريشه من تسكع وجناحاه من حرية ، تنام متى شئت ، وتصحو متى اردت .. اعرفك جيدا .. اذا لم تتوافر لك مطالبك المستحيلة هذه فسترفض .. لديك من التمرد ما لو دخلت به مغارة الاربعين لصا لدمرتها.. يفتنك الرفض بلا جدواه الآسر فتنسى نفسك ، وتسمح لمخيلتك ان تورق نجمة كبيرة ساطعة في السماء تتخيل نفسك على عرشها، تنظر الى الكائنات الآدمية من على ، وتشير ببنصرك : "ذاك من سيلمع حذائي.. وتلك من ستدلك خاصرتي بماء الورد.. واولئك من سيكشرن عني الذباب ، كلهم يحاولون الظفر ببركات رضاي.. ولكني لن أرضى بسهولة .. لن أرضى..
لن أر…"
والحقيقة المرة ان ضغطة واحدة فقط على فوهة المبيد الحشري كفيلة بإعادتك الى واقعك الأليم .
الثانية والنصف ظهرا:
أين ستذهب ؟! .. ها أنت قد افرج عنك بكفالة قدرها سبع عشرة ساعة ، هي ما يفصلك عن السابعة والنصف من صباح الغد (موعد حبسك الجديد).. خرجت لتنقب عن أوكسجين لك وحدك بعد ان كانت عشر رئات تزاحمك عليه في حجرة ضيقة ، عدا رئات المراجعين الذين لا ينفكون يتقاطرون كالذباب .. اين ستذهب ؟!.. انت لم تتعود الرجوع الى غرفتك مبكرا هكذا.. وعلى ما ستعود مبكرا؟!.. لا زوجة تشحذ شفتيها لتستقبلك بهما.. ولا ولد مشاكسا يطيح بكيس البرتقال من يدك قبل ان تضعه على المنضدة .
قديما حين كنت صغيرا غريرا كنت مستعدا لان تحلم بأشياء ساذجة كهذه .. أتذكر؟! .. كنت تحلم بأنثى مائية ودودة العينين ، مرآة للمطلق ،لذة لنص تكتبه بجسدك الذي ارضعته الارض خواءها فانتفخ .. كان ذلك في المامي.. أما اليوم ، وقد ثبت الى رشدك وتبت من خطيئة الحلم ، فإنك مستعد لان تقسم بأغلظ الايمان انك كنت ابله .
فأين ستذهب ايها الابله ؟!.. اين ستذهب ؟!
السادسة مساء
ميزة البحر وقت الاصيل انه يمنحك فرصة التوحد بالذات .. تتجول في فضاءاتها الممتدة .. تحاورها .. تجادلها.. تشاكسها.. تلعنها .. وكل ذلك دون ان تنبس ببنت شفة .. عزلة لذيذة تزيد من متعتها مراقبتك لخطوات الشمس وهي تسافر رويدا رويدا نحو الظلام .. انت تحب الغروب كثيرا ، أعرف ذلك .. قلت لي مرة انه يذكرك بنفسك … بأحلامك .. اذكر ايضا انك قلت انك تمقت الشروق لانه يمثل بالنسبة لك نقطة البداية ليوم بائس .
التاسعة مساء:
كالوردة سيان الدمعة .. كالبوح لم يكتمل . كالذاكرة ثقبها الالم .. كالشوكة في حلقوم الرغبة .. كالشرخ في جدارا للحظة الغوغائية .. كالدش البارد على جسد الحلم المتوهج .. كألف ليلة وليلة بلا حكايات ولا صباح .. كالفيبوبة .. كاللا جدوى كالتفاهة .. تنزوي وحيدا في الركن .. قدامك عل الطاولة ثلاث كؤوس فارغة ورابعة تحتضر، ومنفضة حزينة .. وخيال لإمرأة عدوانية أحببتها ذات يوم .. تمرر كمك على عينك بسرعة كي تمنع دمعة من السقوط ..
الليلة ، وانت "تشرب غياب الاصدقاء، وتلعق الطحلب المتبقي من نثار حبيبتك " الليلة ، وانت تمارس رذيلة الصمت ، وترجم زانية الكلام .. الليلة، وقد فقدت القدرة على التمييز بين القمح والحمق ، وبين البروز والبراز.. الليلة وقد تورطت في كل ذلك ، لديك متسع من الفقدان لتبك": فقدان خريطة الضحك .. ونوارس البهجة .. وشموع الليل الفرحة .. وفقدان احلامك الوردية .. تقلب في ذاكرتك المثقوبة ماضيات ايامك جرحا جرحا.. وتخطط لتواليها قبرا قبرا.. وتكلم صمتك : "ياأنت .. أما سئمت هذا البرد؟!.. اما سئمت دمعتك عادة الضحك ؟ .. يا أنت جف حلقك ، فمن أين لك بلعاب لتنف على الوحل الرابض فيك ؟!.. يا أنت .. ما أنت ؟!.. حلكة تغتال بياض الليل ؟.. جدث متحرك أعير سجنة مجنون ؟!.. سنجاب نافق نقرت بؤبؤه بومة الوقت :؟!.."
وتنتبه ان رماد سيجارتك خر صريعا على حجرك ، وصنع في الدشداشة ثقبا صغيرا "بحجم الدمعة " فترتعد
الواحدة صباحا:
رئة تتنفس الهزيمة ، ورأس ثقيل موبوء بالاسئلة الحيري ، يستلقيان على سرير ككل الاسرة الرخيصة ، في غرفة ككل الغرف الكئيبة ، في ليلة ككل الليالي البائسة .. يستجديان النوم . لابد أن يناما..
بعد خمس ساعات فقط سيتحتم عليهما ان يبدآ يوما جديدا آخر لرجل مهزوم.
سليمان المعمري(قاص من سلطنة عمان)