منذ أن مزقت أمي حبلها السري، معلنة انفصالي بعيدا عنها، وصوتي تتدلى في ألم على جوانب بطني المتورمة، تتخبط أثناء سيري. بلا أمل في استقرار أو شفاء، سدت عوامل المناخ مساماتها وألهبتها البثور، حتى ذبلت وتشوه منظرها، وأثارت عطف العيون.
نصحوها بأن تأتي بريال فضة مختوم بسر الحكماء. وتلفه بمنديل محلاوي، وتشده على صرتي جيدا، كي تستقر في وضعها الملائم، وأن تداوم على رش بودرة السلفا والخمس خمسات عليها، لكن لم تفلح الوصفات، حتى كبرت على آلامها، وعرف جسدي لحن الصبايا، أخوضه كل شهر، وتنتشر في وجهي نفس البثور، أبكي من ألمي وتبكي أمي لي، وألمح في صوتها راحة البال وهي تطمئن أبي عن حالي، تداعب يداها بطني، وترحن أصابعها عند دائرة الريال الفضة، وتبتسم، ويواتيني عبر الميناء نفير السفن الغادية والرائحة، فأرقب من النافذة حكمة الرحيل، وموجات أغانيه الحزينة، وأنا أودع أمي الى الضفة الأخرى لتأتي بسر الحكماء.
قالوا لها إن السر في مغارات بنفسجية، محفوظة حباته بين أشياء الأميرة الصغيرة، داخل عين ذهبية، هي رصد الروح وأمل الفتح، من يلمسها يتمدد قلبه نازفا كقطع العجين المخمورة، التي كانت تكورها جدتي على أسطح الكنب والألواح العتيقة، لا هادي ولا دليل الى صرخات الزمن عندما تعلن لصاحب الحاجة : أنا هنا.
طمأنتني أمي أنها ستعود بسر الحكماء، وبدأت أزف البشرى لكل الذين تألموا.
يدفعني الاكتمال الى الأعماق، وأرهف السمع في الليل الى حجرة أمي، وصوت امرأة تنادي، وهي تضم أبي الى صدرها، وأسعي وراءها لضم الخيوط المبعثرة، وأنتظر البشرى، يوم أن تلتحم صرتي ببطني، وتصبح مفتاحا طبيعيا للغزل. وعندما أهفو الى فراشي يستحثني الألم على هرشها بأظافري، فتجرح الصخور جوانبي، وتهيج على رائحة الدم الوحوش، بقبحها وجمالها، بدنسها وطهارتها، بشبق العيون نفسه، وعطف الباحثين عن الفرص، أتقوقع في نهاية الأيام الخمسة كشيء هلامي، لا وجود له إلا فوق المناضد تطفيه هدير أمواجي بقايا اللفائف المخترقة.
وفي الصباح يتأكد لي أن دائرة الريال الفضة في صرتي، أمست دوائر لونها غميق، كلون البقع على ملاءات سرير أمي، لحظة أن ضمت المرأة الى صدرها أبي ورجالا أخوين، وأن هذه الدوائر السوداء سترصدها الخرائط والتواريخ، وتغزوها حتما الجيوش التي أعرفها، وربما احتلها الأعداء الذين أعرفهم، بعدما يعثرون على سر الحكمة.
لم يكن بي من شعور منذ أفلت من صلب الأمان، سوى احساس بأنني مهضومة، قذفني جوف مظلم، الى سراديب أشد ظلمة، أخوضها منهكة النفس، شديدة الهضم، تتخللها لحظات نور، لا أدري إن كانت شمس بيننا، أم عيون أحد الوحوش تترقبني، الشي ء الوحيد الذي تأكدت منه تماما، أن سنين الكآبة بأثقالها على لحفي حتى وصلت الى هذه المرحلة من الأمان النسبي، وقدر من الصمود أواجه به أفعال الرجال في الليل، وحجرة واحدة في البيت القديم، حددت اقامتي بين جدرانها، أستحم وأطبخ وأكتب وأحلم وأقضي حاجتي فيها، رضيت بها حتى تواتيني البشرى، وتطرد عن جلدي رائحة البيت القديم ودوائره البالية.
كان صبري طويلا، لكن الأيادي التي تمتد أطول وتلقي بي في طريق أخرى، ويؤكدون جميعا أن هذا هو المكسب المبين، يهمسون في أذني:.
لا تتركي لها البيت، خذي الحجرة واقعدي على قلبها، حقك أنت وأخوتك، أرضكم الأخيرة، وعليك أن ترضي بهذا الحل الآن، وأن تمني القلب وتشرحي الصدر وتطردي الخوف بعيدا، وتحبسي القلق مع اليأس في أسفل الرأس، وترمي بالشك بعيدا، وتذرعي بالصبر، وتفاءلي بالجنة، حتى تعود أمك، وتأتيك بسر الحكمة.
في هذه الأثناء أعلن أبي عن إيمانه المفاجيء بزواج الصبايا مبكرا، وأنه الحل لكل الدوائر السوداء التي يرى في منتصف قطرها أيامنا التي كانت، ورأيتهم يحملون في الظلام الأزرق عشقي الجديد، وأوصاهم محمدي النجار بالمرور داخل المخابي،، حتى لا تردهم وحوش الأعماق، فتقصف فرحتنا، وحذرهم الا تخدش الحوائط زهو العفش الجديد.
كان علي أن أبتسم في فرح والا انتبه لصغير الانذارات المتقطع وهو يفلق أبواب القلب.
وفي ليلة الدخلة دفنت رأسي بين ركبتي، وحضنت ما تبقى من عروستي الصغيرة خشية قذائف الأعداء، وعيون الرجل التي تنهش لحمي، وعندما رأى صرتي تتدلى على جوانب بطني المتورمة، واصل التفتيش في بقاياي، ولم يصل داخلي الى رائحة السر المنتظر، فخارت همته ونسي، وفي الليالي التالية أحاطني كثعبان، ورأيت في عيونه سفالة الظلمة، أنزع أوراق النتيجة وأمحو بها لزوجة البقع على الملاءة، وأميل على جنبي الأيمن وأسبح في نوم عميق، فأرى عروستي الصغيرة محطمة بين ركامنا تحملها عربة تسابق دوي الانفجارات، ونساء متشحات بالسواد. ويونيو الحزين، ولفحة الروح في مجير لياليه، ورجالا كثيرين يمرون على بئر القلب، وكلما مروا عليها مروا ثقا لا، نزحوا من مائه، ونزعوا من جلده رقائق الورد، وعمروها نبيذا وتبادلوا الانخاب على موائد العشاء، تاركين على العتبات نظراتهم المغايرة، تكوى الليالي القادمة وتحرمني العودة الى فرحتي الأولى.
كنت أخشي جحوظ العينين من طول النظر على ما ليس في اليد، حتى أمست بلا عيون، أنقب جدران المياه مرات ومرات، كي استطيع الرؤية من جديد، وعلى طول هذا الممر الكئيب تملؤني شواهد مرعبة، يوم أن تكاثرت البقع على ملاءة السرير، ورسمت في العينين دوائر سوداء، كدوائر الريالات الفضة، أرى في منتصف قطرها أيامي التي كانت ويوم أن خانتني صداقاتي القديمة ويوم أن حملت عروستي الصغيرة في أحضاني، ودوي القاذفات يلاحق عربة ركامنا، وحطت بنا بعد ساعات داخل حجرة فوق سطح منزل، يملؤه أطفال لحيرون، لا يكفون عن البكاء، ندخل دورة المياه فيه على عجل، ونستحم على بينة من الجميع.
أنت وهذا الشهر تتبادلان _ دائما – الهزيمة وأنخاب الدم، جسد هش وأحلام مؤجلة لا يقوى قريني على احتمالها وتحقيقها، سيظل يونيو شهر المراجع والأعاصير الكاشفة، وسيظل توقي الى الاكتمال يؤرقني، وستظل أنت مصلوبا على ريح ضعفك، ربما تشتد يوما، وتفك قيودك، وتبحر من جديد، فتصد الأبواب عن عيونهم، يومها لن تواني حبيسة بين جدران أربعة كالصندوق المظلم، تنهش العيون لحمي في مشهد متحفي، كمومياء عاجزة تنتظر كلمة السجان الأخيرة، لا تملك حق التفريط فيها، والافلات من صداها، ولا أجد سواها مخرجا.
هواجس الجدران الأربعة تخنقني، تدفعني الأيادي دفعا الى اختصار الأدوار وسرعة الاحلال، فأمتطي أحصنة الأخوين،وأدع حصاني فارغا بلا دور، أحلم بالعبور الى الضفة الأخرى، أستقبل السر الذي غاب في الليل، لكن يقف السؤال في حلقي، هل أخطأته ؟ أكاد أشم رائحة عرقه بين الجوانب، تكاد حوائط البيت القديم تهتف باسمه، تمر لياليه بلا نسمة، ولا رد منه سوى الفلظة الجديدة والخشونة المتاحة، تستقبل سكين جدرانه رقبتي كل ليلة، وألقي بها في سلام المخمورين، كالقتيل في صندوق مظلم أبدعت يده في صنعه، ألوذ بالصمت، وأحتمي في أصوات المتطوعين وهم يرددون :
طغى النور.. طغى النور، أميز بينهم صوت أبي، فأدرك أن الابتعاد عن البيت القديم، هو قرين الاقتراب وأن حياتي مع هذا الرجل مجرد مرحلة، لن أحمل منها أية ذكرى، سوى المقامرة.
لم يبق إلا العجز، كان يلقي بي بلا اكتراث، كاشفا وجهي أمام الجميع، انتظرت منه كثيرا هذه الكلمة، وكنت أتساءل : ماذا لو قالها ؟ لو نطق بها بيسر وهدوء؟ أي جدران ستحمل رائحتي؟ قلت لن أطلبها، وليفرح بعنائها المقدس وحده، حتى لا تخنقني حبال الندم والتبريرات المؤرقة، وسابني هناك بيتي الجديد، وأحلامي المؤجلة، وأدفن جسدي عن العيون في ثرى القرم، واستحم في شواطئها، وأتذكر، كما علمتني أمي، كيف أزوغ عن حد الأشياء الجارح،وساجد أنقاس الحارات ونفير السفن العابرة تنتظرني على ناصية الشارع، عند مدخل الميناء، وساجد في العيون سند الأهل، وكأنهم يعلمون بما حدث.
سأقاومه.. وأخطط بعصاي لأرد جنوده عن أرضي الأخيرة، وأمزق أوراق النتيجة بلا حسرة، ولن ألتفت لبقية الشهور، تأكل الوحدة أيامي، لكنني الآن أعلم على أي كرسي أجلس، تكفيني صورتهما وشكل البقع الدائرية كالريالات الفضة، عندما دخلت عليهما فوجدتهما عرا يا، لأزيل قبل عودتي رائحتي عن جدرانه، وأزيله من داخلي، وأمحو بصمات يدي من الأكواب والأطباق ومقابض الأبواب، ومن أنقاسه لن أترك شيئا هنا، وسأطفيء مجير الليالي، واذا تقابلنا يوما وجها لوجه، لن أتردد في الابتسام ومصافحته، وربما سأضحك بمل ء فمي على نكاته السخيفة وتنظيراته الباردة، فقد أدركتني الهزيمة، وعلي أن أعترف بالحصار داخل هذه الدائرة السوداء من الأسئلة لن أكتشف حقيقتها قبل وصول البشرى، ويدركني سر الحكمة.
مجدي حسنين (كاتب وصحفي من مصر)