طيف اللويهي
قاصَّة عُمانية
تدور المروحة في الليوان وتجلس الجدة تحتها بصمتٍ يذوب مع خفة الهواء الصادر، بينما يضطرب المكان باجتماع أولادها الثلاثة وابنتها الوحيدة بعدما حل المغرب على القرية، وأحفادها الذين إما أن يملؤوا البيت بصخب لهوهم أو يذهبوا لدكان سلامة المجاور للمنزل. تذهب زوجات الأبناء وبناتهن ليحضرن العشاء داخل المطبخ الصغير جدًا الذي سرعان ما يمتلئ بضجيج أحاديثهن وأصواتهن العالية حتى يطغى حضورهن على صوت صمام الطنجرة. تراقب الفتيات بصمتٍ تعابير وجوه الأمهات مع أحاديثهن التي تتقلب من موضوع لآخر، من ضحكات عالية لسيل من التذمر عما يدور في منازلهن، حتى ينقطع صوت الطنجرة بعد نضوج البقوليات بداخلها، لتعم لحظة صمت تتوقف فيها النساء عن الحديث. ينهق حمار ضارٍ في الوادي، فتعم القشعريرة مع صداه المتردد.
يقطع الصمت ذاك سكب عمتي للبقوليات من الطنجرة للصحون وتذكير الجميع أن الرجال ينتظرون العشاء، نجتمع لتناوله في البساط المفروش في الليوان، وتُذَكّر عمتي الصغار بألا يذهبوا ناحية الوادي وقت الليل مستذكرة صوت الحمار، مستعيذة من كل ما هو مشؤوم، ومن إبليس وتجلياته المختلفة، فلا تنبح الكلاب أو تنهق الحمير إلا لأن مسها شيطان، والوادي مرتع وجسٍ، فلا نعود نملك سلطة على ما يخبئه بعد غروب الشمس. وإن كنت لا تعلم ما يعنيه الوادي، فستجده بعدما تعتاد على سكون الوادي المتقشف وأحجاره متشابهة الألوان، وكما يتشابه تكرار الأيام العادية وألوان الحصى الذي يغطي الوادي، تختبئ أرواح الوادي في تلك المساحات المحدودة جدًا، أسفل الحصى، التي تفيق مع سكون الليل. وحدهم سكّان الوادي يوقنون أن مجاراة طبيعة الوادي تعني التضحية بكبرياء المرء وتسليمه قربانًا يخرّ على الحصى الممتد. تومئ جدتي موافقة على ما قالته عمتي وتتوقف عن تناول الطعام، لترفع بعصاها محذّرة الجميع من أسطورة أبو سلاسل، أو كما ينطقها سكان القرية، أبو سناسل، واقتطع عمي وتر الحديث بعدما قال “أنا سمعته بذنيني ذولا”، لتنغمس آذاننا نحن بالاستماع له.
حين يغشى هدوء الليل القريةَ بأزقتها الضيقة جدا ومنازلها المتلاصقة، حيث يسعك أن تتحسّسُ أنفاس جيرانك، وتسمع صوت القطط التي تبحث عن أكلٍ في حاوية القمامة قرب منتصف الليل، ستدرك أن سكون الجو في القرية مريب أكثر من نميم الجارات وقت العصر.
يقال إنه وسط ذلك الهدوء، إن سمعت صوت سلاسل من الحديد تُجَرّ ببطء على الأرض فلن يكون سوى أبو سناسل؛ أن اختبئوا ولوذوا بأنفسكم في منازلكم، فإن صادف والتقت عيناك بعيني أبو سناسل، سيرمي عليك واحدة من سلاسله الغليظة التي تفوح منها رائحة الحديد الصدئ، وتلتف حول عنقك، ويجر رأسك المقطوع مكملًا مسيره في الأزقة الضيقة لحواري القرية إلى أن يصل لنهايتها، ويختفي مع محصود الرؤوس في ظلال الوادي، ولا أحد يدري متى سيظهر مجددًا. قد يتجلى انتشاله للرأس مجازيًا بانتشال جزء من روحك، ليرميها في الوادي تحت وطأة الأحجار، فتصرخ بهلع كلما داس عليها أحد يمشي في الوادي، تاركة إياك في شعور مفاجئ من الاختناق، لتطوق بيدك على رقبتك قارئًا آية الكرسي مع الأنفاس الثقيلة التي تحاول استنشاقها. هكذا رواها عمّي حاكيًا عن كل من رأى أبو سناسل، بينما يتنهد مستذكرًا منتصف ليلة ما عندما سمع صوت سلاسل تُجر بجانب منزله، ليقبض صدره بيديه ويهرع لمضجعه حتى لا يرى أبو سناسل.
يحملق الجميع بصمت، كلٌ في صحنه الفارغ وهم يتعوذون، بينما تقوم الفتيات بتنظيف السفرة وأخذها للمطبخ فأذهب معهن لجلي الصحون لأتساءل ما أن كان يعتري أحاديث القرويين نوع من المبالغة الدرامية، لست أدري، كل ما أعلمه أنني سرحت في تخيل عدد الأرواح المحجوزة تحت حصى الوادي.
يعلن الجميع وقت الرجوع لمنازلهم، فجميعهم عدا عمتي قد انتقلوا للعيش في المدينة، ولا يجتمعون في منزل الجد في القرية سوى إن سنحت الفرصة في نهاية كل أسبوع.
لا أزال مأخوذة بسحر الوادي، ولم أُرد الرجوع للمدينة بعد، فأستأذن والديّ للمبيت في منزل ابنة عمتي لليلة واحدة فقط، الذي يقع في الجهة المقابلة من الوادي، مع التأكيد الشديد بالرجوع في اليوم الذي يليه. أقضي ليلتي بعد بسط الفراش على الأرض مع ابنة عمتي، وتقوم لتغلق المصابيح فتخيفني الظلمة الساكنة التي حلّت للحظة، ما زال كل شيء يذكّرني بتلك السلاسل، أهّز كتفها بيدي معبرة عن أرقي، لتشير لي للنجوم الصغيرة المضيئة التي علّقتها في سقف الغرفة هامسة لي ألا أخاف، فسماء الوادي في الليل مليئة بالنجوم، وكلها وُجِدت لترافق من يراقبها حتى تطبطب على أرقهم وينامون تحت تهويدتهن الصامتة. تحملني خفة الكلمات لأنام قبل أن أعيَ الأمر.
يأتي الصباح لنستيقظ متأخرين عن المعتاد مع خبر وصول أهلي لمنزل جدي وانتظاري منذ مدة، أهرع لأتجهز بسرعة وأخرج مع ابنة عمتي لترافقني بينما نمشي بعجلة. في منتصف الطريق أتعثر وأسقط لأضرب بركبتي صخرة حادة، وبينما يتفاقم القلق الشديد داخلي من رؤية الدماء، أزيح الصخرة من طريقي لأشعر وللحظة وكأنما أحاطت بي كل الأرواح المحتجزة تحت الصخور ومسّتني، فتنبعث فورة من الضجيج داخل عقلي المتداخل مع صراخ حشرة الزيز، مشوشة تفكيري للحظة، بينما ينخر شعاع الشمس خلاياي وقت انتصاف النهار .
أصل إلى منزل الجدة بعد مدّة وأتلقى التوبيخ من أبي على تأخيري في الوصول، أنكس رأسي مخفية الجرح في ركبتي بيدي وأدخل السيارة مثقلة بضربة الشمس تلك. يتحدث بنبرة ثقيلة لأمي عن خروجه من عزاء أحد كبار القرية، الذي رافقه همه إلى قبره، مخبرًا أمي أن آخر ما سمعه منه حينما كان في فراش الموت هو التحسب على كل قطرة عرق سقطت منه في السنة التي قضاها يجمع ليف النخيل ليصنع حبل المنجور مرةً، بعدما أمر شيخ القبيلة خادمه ليذهب ويقطعه ليلة العيد لأنه كان يسحب دلاء الماء من البئر وقت القحط في مزرعته بدل أن يذهب لدق طبول العازي كما أمر شيخ القرية. ذَكَرَ العجوز أن ضيقًا يخنق صدره كلما رأى خيالات الشيخ في ليالي أرقه يمشي بمحاذاة الوادي ويختفي ظله مع ظلام الليل، بينما يجر وراءه كل الأعناق التي انتشلها بجبروته من غير حق.