حاوره: عبدالرحمن المسكري
يشكل التاريخ الفكريّ مسلكًا بحثيًّا في غاية الأهميّة لفهم سيرورة الأحداث ومآلات التاريخ، فالأحداث والوقائع التي حفظتها سجلّات التاريخ ومدوّناته لا تمثّل إلا “الجزء الطافي” من الظواهر البشرية أو “الغبار الدّامي” منها؛ أما الأساس فهي حركة الأفكار التي تتماوج في البنى الاجتماعية والسياسيّة؛ تلك الأفكار التي شكلت أرضيّة ممهّدة لمُنعطفات تاريخيّة، سواء أحدثت في زمانها، أو امتدّ تأثيرها في فترات تاريخيّة لاحقة.
وفي سياق البحث التاريخي في عُمان، تتنادى أصوات الباحثين إلى ضرورة كتابة تاريخ عُمان الفكري، بتجاوز الخطاب الاحتفائيّ والتمجيديّ إلى خطاب يتّجه نحو الحوار المعرفي والسؤال النقديّ المتّزن، متسلّحا بأدوات التفكير الموضوعيّ ومنهج البحث العلمي.
تتوخى هذه المحاورة ارتياد هذا المسلك المعرفيّ من خلال محور أساسيٍّ يتناول موضوع: “المدارس الفكرية في عُمان”، وذلك عبر طرح عدد من الأسئلة: ما العوامل التي أسهمت في نشأة “مدارس فكرية” في إطار المذهب الإباضي في عُمان؟ وإلى أي مدى أثّرت هذه المدارس في صياغة شكل الاجتماع والدولة خلال حقب تاريخية متعاقبة؟ وبالاستتباع: كيف حرّضت تلك الأفكار على تدافعات سياسيّة وتجاذبات عسكرية شهدتها عمان خلال عهودها المنصرمة، وإلى أي مدى أسهم تباين الاتجاهات الفكرية لهذه المدارس في إثراء المدوّنة الإباضية من حيث التأصيل والتنظير.
قادتنا هذه التساؤلات وغيرها إلى محاورة الباحث والمفكّر العُماني أحمد بن سعود السيابي، الذي خَبِر تاريخ عُمان الحضاريّ والفكريّ، دراسة وتحقيقا ونقاشا، من خلال منجز علميٍّ واسعٍ ومتعدّد الحقول والمعارف، صدرت منه عددٌ من الأطروحات والكتب، منها: “الوسيط في التاريخ العماني” و”المدخل إلى الفكر الإباضي” و”أصول بيت المال في عُمان” و”الحراك العماني في الشرقين الأفريقي والآسيوي” و”مدن في الذاكرة العمانية” و”التواصل الإباضي بين عُمان وبلاد المغاربة” وغيرها، إلى جانب عشرات الأبحاث في الفقه والفكر والتاريخ، والمشاركات في المؤتمرات المحليّة والعربية والإقليمية.
وقد ارتبط اسم المفكر السيابيّ بانهمامه العميق بالدراسات الحضارية والفكريّة، ومراجعاته التجديدية في الفقه والفكر والتاريخ، ودعوته إلى الحوار المعرفيّ، وإلى الوسطية والاعتدال في الطروحات الفكرية.
استقرأ السيابي تاريخ عُمان، فوجد أنه مرّ بمنعرجات تاريخيّة ارتبطت أحداثها بمحطّات فكريّة محوريّة، فابتكر تقسيما مرحليّا لأبرز العلامات الفارقة في تاريخ عمان الفكري. سعينا في هذه المحاورة إلى استكناه أوسع شمولا لأهم المدارس الفكرية التي تشكّلت في إطار المدرسة الإباضية، ومدى إسهامها في صياغة مسارات السياسة والاجتماع في عُمان.
* الناظر في المدونة التاريخية العُمانيّة، يلاحظ أنّها متركّزة في تاريخ الشخصيات والأحداث الكبرى، مع غياب تدوين التاريخ الفكري وتغيره أو تطوره. إلى ماذا يمكن أن نعزو غياب التاريخ الفكري في عُمان؟ وما أهميّة أن تتوجّه عناية الدارسين اليوم إلى هذا المسلك البحثيّ؟
– إذا نظرنا إلى حركة التاريخ البشريّ عمومًا؛ سنجدها مرتبطةً بشكل كبيرٍ بالحراك الاجتماعيّ. وإذا قلنا إن ثمّة تاريخًا سياسيًّا، وتاريخًا عسكريًّا، وتاريخًا اجتماعيًّا؛ سنجد أنها فروعٌ مترابطة، يرتبط بعضُها ببعض.
والكتابة التاريخيّة شهدت تطورات متباينة، فقد كان التاريخ سابقا يعني سرد الوقائع: حدث كذا، وحدث كذا، لذلك قد تجد الأحداث متناقضة أحيانا؛ فهذا يروي الحادثة، وذلك ينقضها، وثالث يرويها بطريقة أخرى. وفي مرحلة لاحقة بتنا نسأل كيف حدث هذا الفعل أو تلك الحادثة؛ بحيث تُوظّف الأسباب في تعليل التاريخ وتفسيره، بعدما كان يغلب عليه السّرد مجرّدًا من أي إيحاءٍ فكريّ، أو تفسيرٍ اجتماعيّ، أو تأطيرٍ سياسيّ.
أما الآن فإننا ندعو إلى مستوى آخر من البحث التاريخي، وهو البحث في فكر التاريخ أو التاريخ الفكري؛ لأنه لا يوجد حدثٌ تاريخيٌّ إلا ويسوقه فكرٌ، والدافع إليه فكرة؛ لذا يجب أن لا تكون الكتابة عن الأحداث والوقائع التاريخية معزولة عن سياقاتها الفكريّة.
لذلك فإن حديث التاريخ اليوم أصبح حديثا يحمل قضايا فكريّة، وتاريخنا العُماني يتجلى أكثر في تاريخه الفكري، وقد قلت في مقدمة كتابي «الوسيط في التاريخ العُماني»: إن التاريخ العُماني في مجمله تاريخ دينيّ؛ فمثلا عند النظر في مسألة الحكم السياسيّ في تاريخ عُمان نجد أنها قائمة على أسس دينيّة، فمثلا هناك: شورى، بيعة، اجتماع علماء، اجتماع أهل الحل والعقد، وهذه كلها مفاهيمُ مرتبطة بتحكيم الشّريعة الإسلامية وتطبيقها. لذلك عند النظر في الأحداث التاريخية يجب النظر في المعطيات الفكرية، وتاريخنا غنيّ بهذا.
* تشير في أطروحاتك وكتبك إلى مدارس فقهية وفكرية نشأت في عُمان، وتعني بها تلك المسالك الفكرية التي تكوّنت داخل المذهب الإباضي، وتشكلت في إطارها مجموعةٌ من الأعمال المعرفيّة في الفقه والسياسة الشرعية وعلم الكلام والعقائد. أنت تسميها «مدارس» وفي المدونة التراثيّة نجد بعضها يُسمّى «الطائفة» أو «الفرقة»؛ تلك الفرق التي نشأ بعضها في إطار تجاذبات سياسيّة وأحداث عسكرية، كالرستاقية والنزوانية.
في نظرك، ما أهم المدارس الفكرية التي كان لها إسهام في تشكيل مسارات الاجتماع في عُمان؟
– من خلال استقرائي لتاريخ عُمان، وجدت أنه مرّ بمراحل وفترات تاريخية ارتبطت أحداثها بقضايا فكريّة؛ نعم هي مراحل تاريخيّة سياسيّة صاحبتها حوادث عسكريّة، إلا أنها مرتبطة بالفكر؛ إذ لا يمكن فصل الجوانب الفكريّة عن الأحداث السياسية والعسكريّة في عُمان.
فمثلا: نجد أن أبرز فرقتين افترق فيهما العمانيّون على أساسٍ دينيٍّ -كما يذكر المؤرخون- هما الفرقة الرستاقيّة والفرقة النزوانيّة، باعتبارهما واكبتا الحدث السياسيَّ، وهو قضيّة عزل الإمام الصلت بن مالك. هل عُزل أو اعتزل؟ وما أحكام كل منهما؟ ثم جاءت أحداث بعدها مرتبطة بها، وهي قضية تصرّف موسى بن موسى بن علي، ثم جاءت أحداث تولي الإمام راشد بن النظر، ثم أحداث الإمام عزان بن تميم. هنا افترق العمانيّون في نظرتهم وتقييمهم لأحداث عزّان بن تميم وقضائه على موسى بن موسى الإزكوي وحزبه. العلماء العمانيّون اختلفوا في تكييف كل تلك الأحداث؛ إذ ربطوها بمسارات تاريخيّة دينيّة سابقة، وهي أحداث الفتنة الكبرى التي حدثت بين الصحابة في قضية التحكيم في عهد الصحابة، وقبلها أحداث الخليفة الثالث عثمان بن عفان. فأنزلوا أحداث الفتنة الكبرى على هذه الأحداث التي وقعت بين ما سمّي بالطائفة الرستاقية والطائفة النزوانيّة.
هذا الافتراق حمل طابعًا فكريّا كبيرًا جدًّا، وأُطِّر تأطيرًا دينيًّا؛ فلم يكن الأمر مقتصرًا على احترابٍ وفرقة وحسب؛ بل جاء نتيجة أسئلة جدلية: عن الموقف من عزل الإمام الصلت بن مالك، وعن موقف موسى بن موسى بن علي من عزله، هل جاء لعزله أو لمفاوضته وإقناعه بالاعتزال.
كما هو معلوم أن هذه الأحداث وقعت حينما تقدم الإمام الصلت بن مالك في العمر، ووصل إلى مرحلة كبيرة من الضعف الجسديّ بما لا يمكن لرئيس دولة أن يقوم بمهمّاته، خصوصًا في وقت كانت عُمان تشهدُ فيه أحداثًا كبرى، إلى جانب وجود الدولة العباسيّة التي كانت تتربص بالعُمانيين آنذاك.
وموسى بن موسى هذا هو رجلٌ عالمٌ، وابن عالم، وحفيد عالم، وآباؤه علماء، بمعنى أن المرجعيّة العلميّة والدينيّة كانت تؤول إليهم في عُمان آنذاك. فقد كان جماعة أولاد علي بن عزرة يمثلون المرجعيّة الدينية وقتها، من هنا صار الاختلاف.
هناك مدرسة أخرى ارتبطت بهذا الحدث؛ لكنها لم تعمّر طويلًا، إذ انتهت بانتهاء أصحابها، وهي المدرسة الفكريّة المؤيّدة لعزل الإمام الصلت بن مالك، وهي على النقيض من المدرسة الرستاقيّة؛ ففي حين أن المدرسة الرستاقيّة كانت تدعو إلى التمسّك بإمامة الصلت مالك، وترى أنه لا يجوز عزله ولا حتى المطالبة بعزله؛ جاءت بخلافها المدرسة الإزكوية كما أسميتها، وإمامها محمد بن جعفر الإزكوي، صاحب كتاب الجامع المعروف، وولده الأزهر بن محمد بن جعفر، والفضل بن الحواري، إذ نظّروا لهذه المدرسة تأييدًا لموسى بن موسى بن علي وحركته المطالبة بعزل الإمام الصلت بن مالك.
إذن هي ثلاث مدراس مرتبطة بهذا الحدث: المدرسة الإزكوية التي وقفت مع الخارجين على الإمام الصلت بن مالك، تقابلها المدرسة الرستاقية الواقفة ضد الخارجين عليه، أما المدرسة النزوانية فاتخذت من الموقفين موقفا وسطا بين المدرستين، فلم تعمد إلى تخطئتهما، ولم تقف منهما موقفا مضادا. ثلاث مدارس موجودة في المذهب آنذاك، لكن هذه المدارس في حقيقة الأمر انبنت على مدارس أخرى قبلها.
وقد أسميت هذه الأطر الفكرية «مدارس» لأنّ مفهوم الطّائفة اختلف في عصرنا الحاضر، فقد أخذ أبعادًا تدلّ على افتراقٍ دينيّ قائم على التعصب القوي. وكذلك مفهوم الفرقة، فقد اختلف عما كان عليه سابقا أثناء وقوع تلك الأحداث، فأصبح يدل على الفرقة الشديدة، وعدم التلاقي، ويحمل طابعا عدائيًّا.
* قبل أن نذهب إلى الحديث عن المدارس الأخرى، أود أن أسألك عن رأيك في التّسمية، فقد رأينا تفسيرات مُتباينة بشأن تسمية المدرستين الرستاقية والنزوانية.
سُمّيت المدرسة الرستاقية نسبة إلى أبي قحطان خالد بن قحطان الهجاري، والهجاريّ نسبة إلى منطقة الهجار الواقعة في وادي بني خروص، والهجار كانت داخلة في إقليم الرستاق؛ إذ إن المنطقة الواقعة من نخل إلى الرستاق إلى غرب الرستاق كانت تسمى في ذلك الوقت: الرستاق. وأبو قحطان الهجاري كان متمسّكا بإمامة الصلت بن مالك، فقد كان يرى أنه لا يجوز حتى المطالبة بعزله؛ أما الذي حمل لواء هذا الفكر فيما بعد فهو أبو محمد عبدالله بن محمد بن بركة البهلوي السليمي، الذي يعدّ عميدَ المدرسة الرستاقية. يأتي في مقابل ذلك المدرسة النزوانية التي سميت نسبة إلى إمامها أبي الحسن محمد بن الحسن النزوي، وقد حمل لواء المدرسة النزوانية بعده عميدها أبو سعيد الكدميّ إذ ألف كتبا فيها، ككتاب الاستقامة مثلا.
أما المدارس الفكريّة التي سبقتها، فكنتُ قد ارتأيت أن أسمّي المدرسة الجابرية، نسبة إلى الإمام جابر بن زيد؛ ولكنني غيّرت رأيي؛ فجابر بن زيد، وأبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة والربيع بن حبيب، هؤلاء هم أساس المذهب الإباضي، وعلى أيديهم تبلور.
وفي رأيي إنّ أول ما يمكن أن نسميه مدرسةً في عُمان هي المدرسة العزريّة، نسبة إلى علي بن عزرة، أما عميدها فهو ابنه موسى بن علي، لأنه صار أيقونة تلك الأسرة، ومرجعًا كبيرًا في عُمان. وقبله أبوه علي بن عزرة وقد كان عالما، وجده لأمه موسى بن أبي جابر عالم كبير و له دور سياسيٌّ كبير أيضا؛ إذ قامت على فكره الإمامة الثانية في عُمان، وكان المرجع الديني لها.
هذه المدرسة لم تكن إثر افتراق أو حدثٍ سياسيٍّ، وإنما هي نظرة علميّة في المواقف والأحكام. ومدرسة موسى بن علي في حقيقة الأمر تمثل التسامح القائم على شيءٍ من الترخيص الفقهيّ؛ فقد كان دائما ينظُر إلى الأمور نظرة تسامحيّة. تقابلها المدرسة المحبوبيّة نسبة إلى محبوب بن الرّحيل تلميذ الإمام الربيع بن حبيب وأحد حملة العلم إلى عُمان. وقد حمل لواء المدرسة بعده ابنه محمد بن محبوب بن الرحيل، وقد كانت المدرسة المحبوبية تعتمد في منهجها على فقه الاحتياط. هكذا نستطيع أن نسمي مدرستين: المدرسة العزرية، والمدرسة المحبوبية.
ثم جاءت المدارس الأخرى التي أشرنا إليها: الإزكوية والرستاقيّة والنزوانية. لكن بعد اختفاء المدرسة الإزكوية بقيت المدرستان النزوانية والرستاقية. ولأن الأحداث السياسية التي واكبت تلك المرحلة كانت كبيرة؛ فقد حدث خلاف سياسيٌّ كبيرٌ جدًا بينهما، وهاتان المدرستان استوعبتا المدارس الفكرية التي قبلهما، وأثْرَتا الفقه الإباضيّ فيما يخصّ السياسة الشرعية، إذ كان لهما دور كبير في المناقشات السياسيّة والفكرية؛ حيث ربطت حادثة الافتراق السياسي بمسارات تاريخية دينيّة سابقة، وهي أحداث الفتنة الكبرى التي حدثت بين الصحابة في قضية التحكيم وأحداث الخليفة الثالث كما ذكرنا، فأسقطوا أحداث الفتنة الكبرى على أحداث قضية عزل الصلت بن مالك، وافتراق العمانيين بين مؤيد ومعارض. فتكونت مدونات فقهية ألفّت لهذا الغرض، واستمرت لقرون من الزمن إلى أن جاءت المدرسة الشقصيّة إبّان دولة اليعاربة.
والمدرسة الشقصية نسبة إلى خميس بن سعيد الشقصي، العالم الكبير الذي كان في مقدمة العاقدين الإمامة لناصر بن مرشد اليعربي، وقد كان أستاذًا ومربيًا له. عند النظر في كتابه منهج الطالبين، نجد أنه جمع بين المدرستين، إذ لم يقف مع هذه المدرسة ولا تلك، وإنما استوعبهما معًا، فصاغهما في قالب واحد، وهو كتابه المتميّز «منهج الطالبين وبلاغ الراغبين»، الذي أصبح أشبه بالدّستور لدولة اليعاربة.
وبعد دولة اليعاربة جاءت المدرسة الجاعدية أو البونبهانية نسبة إلى أبي نبهان جاعد بن خميس الخروصي، الذي يعدّ من أشهر من أدخل التصوف إلى المذهب الإباضي.
* قرأت إشارة إلى أنّ التصوف دخل إلى عُمان -تقريبا- في القرن العاشر الهجري، أي قبل جاعد بن خميس الخروصي.
– نعم، نجد أثر التصوف في التراث العُماني في القرن العاشر، كمثل ما نجده مثلا في قصائد الشاعر اللواح، سالم بن غسان الخروصي، وإشارات أخرى؛ لكن لم يكن التصوف في عُمان حينها يجسّد ظاهرة فكريّة أو تعبديّة؛ إلا أنّ الذي حدث في المدرسة الجاعدية أو البونبهانية أنها اشتملت على ملامح تصوفيّة أكثر وضوحًا، ثم حمل لواء هذه المدرسة ابنه ناصر بن جاعد، ثم جاء سعيد بن خلفان الخليلي، ثم قوي ظهور الملامح التصوفيّة عند أبي مسلم البهلاني، كما نجد ذلك في قصائد الابتهالات، والمناجاة، وهذا من أعمال التصوف.
* مع ذلك؛ لم يكن الشيخ جاعد، ومن جاء بعده، بعيدين عن التجاذبات السياسية مع الدولة البوسعيدية الناشئة آنذاك.
– السياسة لم تنفصل عن المذهب الإباضي عموما؛ هي أمر من أمور المذهب أكثر منها قضيّة فرق أو مدارس. وسعيد بن خلفان الخليلي معروف عنه أنه وراء تنصيب الإمام عزان بن قيس، فقد أقام دولة كما يقال، وجاعد بن خميس له محاولات في هذا الشأن؛ لكنّ سعيد بن خلفان تحقق على يديه هذا الأمر.
على كل حال، المدرسة البونبهانية غطّت في تلك المرحلة على فكر العُمانيين، فانتشر في القطر العُماني كثير من المصطلحات والممارسات التصوفيّة كالأوراد والخلوات، وظهر في عُمان علماء متأثرون بالفكر التصوّفي كقاضي نزوى محمد بن خميس السيفي، وغيره، وشاعت قراءة شعر التصوف، حتى أصبح ديوان ابن الفارض سائدًا عندهم، وأحوال أخرى من هذا القبيل. إلى أن جاء الإمام السالمي، ومع أنه كان في هذا الاتجاه بادئ الأمر باعتبار أن التصوّف وأفكاره وممارساته كانت السائدة في ذلك العصر، كما أن «الخلوات» هيأت له جوًا مناسبًا لتحصيل العلم؛ لكنه في مرحلة لاحقة -بعد أن اطلع على كثير من المبادئ والأفكار- واجه التصوف بالنقد والرد، فرأى أن علوم الشريعة لا تؤخذ بهذه الطريقة؛ بل هاجم التصوف؛ وهذا واضح في جواباته كثيرا.
* إذن؛ أنت ترى أن تراث الإمام السّالمي يشكّل مدرسة أثّرت في المسار الفكري الإباضي؟
– نعم؛ أرى أنه يشكل مدرسةً نحن ما زلنا إلى اليوم نعيش في إطارها، لأن ما قاله السالمي هو المعتبر والمعمول به الآن.
وكما ذكرت لك، وقف السالميّ موقفا من التصّوف فيه رد ونقد، ولذلك خَفَتَ عند تلاميذه صوتُ التصوف إلا ما يتعلق منه بالإسلام في شكله العام، وإن ظهرت فعلى نحوٍ بسيط، كمثل ما نجده عند خلفان بن جميل السيابي، وأحمد بن سعيد الخليلي، وإذا كان الأخير امتدادا لمدرسة والده سعيد بن خلفان الخليلي؛ فإن خلفان بن جميل السيابي كان من تلاميذ المدرسة السالمية، ولم يكن بعيدًا عن مدرسة أحمد بن سعيد وأبيه سعيد بن خلفان؛ لكن بقي عنده شيء من ملامح التصوف؛ لأنه كان كثير القراءة لكتاب قناطر الخيرات للجيطالي، وترك قصيدة معروفة باسم «القطرة الغيثية والوسيلة الإلهية»، يقول في مطلعها:
على باب من أهوى يلذُّ لي الذلّ
فيا عزّ قومٍ تحت أبوابه ذلوا
أحبتنا إن الصدود معذبي
ولكن عذابي مرّه فيكم يحلو
أجود بنفسي في هواكم وإنها
لمن عندكم والفرع مرجعه الأصل
* ما دمنا أتينا على ذكر التصوف أو السلوك كما يرى بعضهم أن يسمّيه، في رأيك، كيف نفسر ظهور التصوّف في عُمان في زمن متأخر؟ ولماذا لم يشكل تجربة متأصلة إلا في مرحلة متأخرة جدًا متمثلة في المدرسة البونبهانية في القرن الثالث عشر الهجري؟ هل الأمر متعلق بظروف سياسية؟
– في رأيي، إن الإنسان لا بدّ أن يتأثر بالوافد إليه من جهة، كما أنه لا يمكن أن ينعزل عن تأثير المحيط الذي يعيش فيه من جهة أخرى؛ لذلك عند الحديث عن ازدهار التصوف في المدرسة الجاعدية لا ننسى أن غزوًا فارسيًّا شهدته عُمان في تلك المرحلة، وجاعد بن خميس الخروصي كان وقتها شابًّا صغيرًا في وقت الغزو الفارسي نهاية دولة اليعاربة، إلى جانب ذلك شهد الخروصي أيضا الغزو الوهابيّ في مرحلة لاحقة، بمعنى أن جاعد بن خميس عايش بداية الأمر الغزو الفارسي على عُمان، ومن الطبيعيّ أن يأتي هذا الغزو بمفاهيم وأفكار جديدة، لأنهم توغلوا في المجتمع العُماني، ودخلوا حتّى داخليّة عُمان، ثم جاء الغزو الوهابي وهو على النقيض تماما من فكر التصوف، لذلك ربما رأى جاعد بن خميس في التّصوف شيئا جيدًا في مواجهة المدّ الوهّابي آنذاك.
ومن جانب آخر؛ لو نظرنا إلى نشأة التصوف عموما لوجدناه نتيجة لإحباط سياسيٍّ، لماذا نشأ التصوف في المجتمع الإسلامي؟ نشأ نتيجة إحباطٍ سياسيّ، نشأ في الحجاز والعراق حينما انتقلت عنهم الدولة إلى الشام، فكانوا في المساجد وفي الخلوات. وفي عُمان، أتصوّر أن جاعد بن خميس كان له طموحٌ سياسيٌّ، فحصل له شيء من التهميش السياسيّ، وهو من بيت دولة وحكم كما هو معروف، وربما نلمس هذا في قصيدته المشتركة مع زميله ورفيقه القبليّ الشاعر الغشريّ، التي يقولان فيها:
أئمتنا لهم كل الفضائل
وإنّ لهم على الناس الطوائل
وكل الفخر كان لهم قديمًا
وقد كانوا جبالًا في الزلازل
إلى أن قالا :
فصيّرنا الزّمانُ ولا عتابٌ
رعايا بعدما قدنا الجحافل!
وقوله رعايا، يدلك على مستوى الإحباط، بمعنى أنه بعد أن كنا نقود الجيوش ووصلنا إلى الأقاصي أصبحنا الآن رعايا مهمشين!
* لكن؛ مع ذلك لم يكن أبو نبهان جاعد بن خميس بعيدًا عن مسارات السياسة وتجاذباتها؛ خصوصا ما كان بينه وبين الدولة البوسعيدية الناشئة آنذاك.
– نعم ثمة تجاذبٌ سياسيّ، لذلك ذهب جاعد بن خميس إلى نزوى؛ لأن هناك أناسا أمّلوه أن يقفوا معه للقيام بثورة للاستيلاء على الحكم هناك، إلا أنّ تلك الثورة فشلت، فخرج من نزوى مولّيا عنها بعد أن أشعروه أنه يشكل خطورة عليهم بوجوده هناك؛ فعاد إلى بلده، وعانى هو وأولاده معاناة شديدة من ولاة الدولة البوسعيديّة، فمثلا عانى معاناة كبيرة من مضايقات من السيد طالب بن بن أحمد بن سعيد، الذي سلط عليه أناسًا آخرين.
* مع أنّ ابنه ناصر بن جاعد في مرحلة لاحقة كان مقرّبًا من السلطان سعيد بن سلطان..
– الأمر نفسه ينطبق على ناصر بن جاعد في بداية الأمر، لكن في مرحلة لاحقة، كان السلطان سعيد بن سلطان رجلا واسع الإدراك، نتيجة توسعه الجغرافي ومخالطته الشعوب والأعراق والأجناس المختلفة في أفريقيا وأماكن أخرى، مما أورثه انفتاحا وسعة في الإدراك، لذلك استوعبت سياسته ناصر بن جاعد، فبدل أن يتجاذب ويتشادّ سياسيًّا معه رأى أن يحتويه، والاحتواء من صفات الملوك، فأتى به إلى مسقط وأكرمه، ودرس على يديه هنا سعيد بن خلفان الخليلي، وآخرون منهم حماد البسط، وابن رزيق، وغيرهم. ثم أخذه إلى زنجبار، ووفر له الحياة الكريمة، وبنى له بيتا ومسجدا هناك، ولذلك تخلّى ناصر بن جاعد عن طموحه السياسيّ.
وعن سياسة السيد سعيد بن سلطان، تروى قصة أن مجموعة من الناس من أهل السويق والمصنعة، أرادوا الخروج ليكونوا شُراةً، اقتداء بإمام الشراة أبي بلال المرداس بن حدير، فخرج منهم أربعون شخصًا، يريدون الخروج على الدولة، فتوجه إليهم والي السويق، فما استطاع أن يخترق صفوفهم، فبلغ الأمر السلطان سعيد بن سلطان، فأمر واليه بأن يتركهم؛ واتجه إليهم بسياسة الحديث والحوار، فقال لهم: خروجكم هذا طيب، وهو جانب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن أنتم في حاجة إلى شيء من المال تعولون به أولادكم وأسركم، وأرسل إليهم هدية ماليّة كبيرة، فانقسموا فريقين: فريق رفضها وفريق قبلها، وهكذا تفرقوا وذهبت ريحهم !
* لكن سعيد بن خلفان الخليلي، وهو تلميذ لناصر بن جاعد، اتخذ مسارا سياسيّا آخر مختلفًا ..
– سعيد بن خلفان الخليلي كان له طموحٌ سياسيّ، وكان السيد حمود بن عزان البوسعيدي قد أعطاه أملا في هذا الشأن، فقرّبه وأوكل إليه ولاية الشأن السياسي في الرستاق وصحار؛ حيث كانت الرستاق وصحار آنذاك إمارة مستقلة في حكم آل عزان منذ عهد السيد قيس بن الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي. نعم، هم كانوا في إطار الدولة العُمانية؛ لكنهم كانوا أقرب إلى الاستقلال الذاتي إداريًّا وماليًّا.
استدعى السيد حمود بن عزان، سعيد بن خلفان الخليلي، ولعله كان قد لاحظ فيه طموحه السياسي، فأوكل إليه إمارة الرستاق وصحار. حينها جمع سعيد بن خلفان العلماء في محاولة لإقامة الإمامة، وكان من بينهم جميل بن خميس السعدي صاحب كتاب قاموس الشريعة، وغيره، إلا أنهم تخلوا عنه بعد ذلك، والأشخاص الذين رشحهم لتولي الإمامة اعتذروا عن ذلك، وقد أوضحت هذه المسألة في مقدمتي لكتاب قاموس الشريعة.
لذلك أقول: ربما أراد السيد حمود بن عزان من هذا الأمر النكاية في ابن عمه السلطان سعيد بن سلطان الذي كان على خلافٍ معه، لأنّ الحروب والمناوشات كانت بينهما مستمرة، فأراد استغلال الوضع، وأراد أن تكون الحرب بينه وبين العلماء. وبعد أن مضت سنة كاملة من تولي سعيد بن خلفان الخليليّ إدارة الشأن السياسي في الرستاق وصحار، استعاد السيد حمود بن عزان إمارته، بعد أن لم يتمكن الخليليّ والعلماء من فعل شيء حينذاك.
حينها أصاب سعيد بن خلفان الخليلي الإحباط، ورجع إلى بوشر واتخذ فيها مسجدًا صغيرًا يقع في شقّ جبل، وإلى جانبه عين ماء صغيرة، فأخذ هناك يتنسّك ويتعبّد، وكتب في تلك المرحلة قصائده التصوفيّة المعروفة، ومن بينها القصيدة التي يقول مطلعها:
أعاين تسبيحي بنور جَنانِي
فأشهد منّي ألف ألف لسان
وكل لسانٍ أجتلي من لغاتِه
إذا ألف ألفٍ من غريب أغاني
وفي تلك الفترة أيضا كتب قصيدة سموط الثناء، التي يقول طالعها:
سموط ثناء في سموط فريد
بكل لسانٍ قد بثثن وجيدِ
وحمد تغص الكائنات بنشره
إذا نشرت منه أجل برود
وفيها يقول:
إلهي استجب دعوى إليك بثثتها
فقد طال ترجيعي بها ونشيدي
هناك نظم هذه القصيدة، وقصائد أخرى، وكلها أتت نتيجة إحباط، إلى أن جاءته فرصة الانتقال إلى سمائل، فسعى إلى إقامة دولة الإمام عزان بن قيس، حينها اختلفت نبرة شعره، فأصبح استنهاضيًّا وجهاديًّا، ومن ذلك قصيدته التي يقول طالعها:
لقد دارتْ على رغم الحسود
بحمد الله أفلاك السعود
وفاح أريج مسك من جلاد
وأسفر ضوء صبح بالحديد
بضربٍ لم يُغادر غير هامٍ
مفلّقة وغم من كمود
وطعن بالثغور وبالتراقي
به الأعداء أمست كالحصيد
* كنا نتحدث عن الخلاف بين المدرستين الرستاقية والنزوانية، وما تركه هذا الخلاف من ثراء فكريٍّ على مستوى التنظير والتأصيل الكلامي والعقدي، وأود أن أسألك إلى أي مدى أسهم هذا الخلاف في إثراء المدونة الفقهية الإباضية من حيث التصنيف والتأليف، ومن حيث التباين في طرق الاستدلال، ومقاربة النصوص؟
– فعلًا؛ الخلاف بين المدرستين ترك ثروة فكرية وفقهيّة كبيرة، وهذه الثروة لم تقتصر على قضايا السياسة الشرعية، أو الفقه السياسي، وإنما طالت عددا من الجوانب؛ لأنّ كل مدرسة أرادت أن تبرّزَ آراءها في مؤلفات، فكثر التأليف والتصنيف، فلو جئنا على سبيل المثال إلى أبي سعيد الكدمي وهو عميد المدرسة النزوانيّة، وإلى أبي محمد بن بركة وهو عميد المدرسة الرستاقيّة، ستجد أن الفقه بعدهما في الحقيقة عالة عليهما، ولقد اعتبرتُ -في كتابي «المدخل إلى المذهب الإباضي»- ما تركاه من أثرٍ فقهيٍّ كاللائحة التوضيحيّة للفقه الإباضي، فهما مرجع الفقه الإباضي ومصدره، فمثلا جامع أبي محمد قلَّ أن يخلو مصدر فقهي إباضي من النقل عنه، كما يقول عبدالرحمن بكلي، وهو أحد العلماء الجزائريين: قلّ أن يخلو كتاب فقهي إباضي عن النقل من أبي محمد، وكذلك أبو سعيد الكدمي، فصار أثرهما الفقهي كالمذكرة التوضيحية للفقه الإباضي، بمعنى أنني أعتبر الفقه الإباضي قبلهما كالمدوّنة، وما بعدهما كالشّرح لها.
* مع اختلاف في طرائق الاستدلال والنظر، وتباين في مقاربات النصوص؟
نعم، تجد مثلا المدرسة الرستاقيّة أقرب إلى التمسّك بالأصول الفقهية، وأبو محمد بن بركة يعدّ أول مؤلف في أصول الفقه في المذهب الإباضي؛ نعم المفاهيم الأصولية موجودة عند الإباضية قبله؛ لكنّ أول من ألف فيها هو ابن بركة في حوالي الـ 200 صفحة الأولى من كتابه الجامع. كما أنّ المدرسة الرستاقية اتجهت إلى النظرة الظاهرية في معالجة النصوص، وحضور الاستدلالات اللغوية فيها أوضح، كمثل ما نجده عند العوتبي في كتاب الضياء، وهو أديب وموسوعيّ، كذلك ابن النظر، والقلهاتيّ صاحب الكشف والبيان، وغيرهم.
في حين أن المدرسة النزوانيّة أقرب إلى النزعة العقليّة أو التحليلية، فنجد التعليل الفقهي أو المقاصدي عند أبي سعيد الكدمي المعروف كذلك بتخريجاته الفقهية التي خرّج فيها الكثير من الآراء الفقهية، والتخريج الفقهي هو إحداث قول استنتاجا من قول سابق أو أقوال سابقة.
* إذا نظرنا إلى تاريخ التصنيف في عُمان، كيف يمكن أن نصف مراحل التصنيف والتأليف، في أي مرحلة كان أكثر ازدهارًا، ولماذا؟ وهل اتسم بإبداع وتجديد في فترات معينة دون غيرها ؟
– مرّ تاريخ التصنيف والتأليف في عُمان بعدة مراحل، أولا ظهرت المصنّفات البسيطة في مجلد واحد، ثم ظهر ما يسمّى في التراث العماني بالجوامع، مثل جامع موسى بن علي، وهو غير موجود الآن، وجامع ابن جعفر في القرن الثالث الهجري، حتى أبو صفرة سُمّي له جامع أبي صفرة، وفي القرن الرابع الهجري جامع ابن بركة، وجامع أبي قحطان، وجامع أبي الحواري، وجامع أبي الحسن البسيوي، هذه الجوامع انتقلت من كونها مجرد مجلد واحد، إلى مجلدين فأكثر.
وفي القرن الخامس الهجري ظهرت المطولات، ككتاب الضياء للعوتبي، ثم جاء الكندي صاحب بيان الشرع، ثم المصنف لأحمد بن عبدالله بن موسى، ثم التاج لأبي عبدالله عثمان الأصم، ثم ظهرت المطولات الفقهيّة بأسمائها، وهلمّ جرّا.
* بالنظر إلى الخارطة الزمنيّة والجغرافية لتاريخ الفكر في عُمان، قرأت مرة إشارة لك تقول فيها إن العلم في القرون الهجرية الأولى كان إزكويًّا، أي إنّ معظم علماء عُمان كانوا في إزكي، ثم انتقل إلى نزوى من القرن الثالث الهجري حتى القرن السابع الهجري، ثم انتقل بعدها إلى منح، ثم أصبح العلم بهلويًّا في القرنين العاشر والحادي عشر، وفي عهد الدولة اليعربية عاد العلم إلى نزوى والرستاق، وفي الدولة البوسعيدية توزع بين مسقط وبقيّة مدن عُمان.. في رأيك، إلى أي سبب يمكن أن نعزو ذلك؟ هل هذا الأمر مرتبط بتاريخ وجود الأسر العلمية في عُمان وتمركزها في بعض الحواضر؟ أو أنّ الأمر مرتبط بوجود القوى السياسيّة ومراكز الحكم ؟
– عندما عاد طلبة العلم المشارقة من البصرة بعد أن تتلمذوا على يديّ الربيع بن حبيب وأبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميميّ، تركّز بعضهم في إزكي، كما أن بعض الأحداث حدثت في إزكي. فموسى بن أبي جابر الإزكويّ قامت عليه الإمامة الثانية، وهناك أعلام بني عزرة: علي بن عزرة، وأولاده موسى بن علي، ومحمد بن علي، والأزهر بن علي، وأولادهم.
ثم صار الانتقال إلى نزوى، فظهر علماء في نزوى، كأبي المؤثر، وأبي الحواري، وأبي سعيد، وأبي الحسن النزوي، فامتلأت نزوى بالعلماء. عندما تقوم الدولة في مكان ما يلجأ إليها آخرون للإقامة والعمل فيها، إلى أن انتقل العلم إلى منح؛ فجاء فيها صالح بن وضاح المنحيّ، وعلماء آخرون، لكن ذلك لم يستمر طويلا، أما بهلا فظهرت فيها أسر علميّة، كأسرة آل المفرج، والمشاقصة كعبدالله بن زياد الشقصي وعمر بن سعيد ابن معدّ، وغيرهم، فأصبح القارئ للمدونة الفقهية العمانية يجد فقه القرن التاسع والعاشر بهلويّا، إذ يجد أن كلّ الأحداث تجري في بهلا، حتى أولئك العلماء الذين عاصروا الإمام محمد بن إسماعيل الحاضري، وقبله الذين عاصروا السلطان سليمان بن سليمان النبهاني وغرقوا أموال النبهانة، كلهم من بهلا.
قامت بعد ذلك دولة اليعاربة، وتوزع العلم في تلك المرحلة بين الرستاق ونزوى، وجاءت بعدهم الدولة البوسعيدية، وانتشر العلماء في ربوع مختلفة وتوزعت خريطة العلماء.
* حتى ونحن نتحدث الآن، أجد أنك تشيرُ إلى حضور النشاط العلمي والفكري بالتوازي مع قيام دولة أو وجود قوى حاكمة إن صح التعبير، لكن لم نذكر أي أسر علمية أو نشاط فكريّ اقترن بدولة النباهنة التي امتدّت فترة طويلة، مع أنك تشير في مواضع عديدة إلى أهمية مساءلة هذه السرديات التاريخية التي ارتبطت بدولة النباهنة، والتي طالها غياب التدوين والتأريخ .
– لا، كان هناك نشاط علمي وحضاريّ، لكنه لم يدوّن! نشأ في ظلال دولة النباهنة علماء وقضاة؛ لكن تاريخهم أُهمِل بكل ما فيه. حتى عند حديثنا عن الشعر والأدب، أين هم شعراء حقبة الدولة النبهانية غير الستالي والكيذاوي؟ هل يُعقل أنه لم يكن يوجد سواهما؟! وجود شاعرية الستالي دليل على وجود أرضيّة واسعة من الشعر والأدب في عصره.. لا يمكن أن يأتي الستالي لوحده، لا يمكن! لا يمكن أن نفصل الستاليّ عن مناخ أدبي شعريّ، لكن للأسف كل هذا لم يدوّن، والحقيقة أن ملوك النباهنة يتحملون جزءا من هذا الأمر؛ لأنهم لم يوجدوا من يؤرخ الأحداث، قرّبوا الشعراء، ولم يقرّبوا المؤرخين.
أحداث دولة النباهنة نقرأها في شعر الستالي وفي شعر النبهاني، وهي عبارة عن إشارات، أما بالنسبة إلى العصر الثاني من الحقبة النبهانية فنقرؤها في شعر الكيذاوي، والشعر ليس للتاريخ، الشعر إشارات ولُمح!
والأمر نفسه ينطبق عند حديثنا عن الإمام راشد بن سعيد اليحمدي الذي أثرت عنه القصيدة الجميلة المشهورة، التي يقول في مطلعها:
لمن منزلٌ قفرٌ تعفّت جوانبه
وغيّره من سافح القطر ساكبُه
كأنْ لم يكنْ فيه من البيضِ شادنٌ
تُضاحكه أترابه وتداعبه
فأضحى أسىً من بعد أن كان سلوةً
تجر به أذيالَ خزٍ كواعبُه
قالوا إن هذه القصيدة هي الوحيدة المعروفة له، في رأيي لا يمكن أن تكون هذه القصيدة بهذا المستوى من الشاعرية يتيمةً، لا بدّ أنها مرّت بمراحل حتى تصل إلى ذلك النضج الشعري. أين قصائده الأخرى؟ لم تنقل عنه سوى تلك القصيدة. والأمر نفسه عند ابن زريق البغدادي المشهور؛ تلك القصيدة الجميلة الرائعة في التشوّق إلى بلده وزوجته:
لا تعذليه، فإن العذل يولعه
قد قلت حقًّا، ولكن ليس يسمعه!
جاوزت في لومه حدًّا أضرّ به
من حيث قدرت أن اللوم ينفعه
والتي يقول فيها:
أستودع الله في بغداد لي قمرا
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعه
قالوا لم تؤثر عنه سوى هذه القصيدة! هل يعقل أن يكون هذا الشاعر البديع لم يترك سوى هذه القصيدة؟! وهلم جرّا!
* نلاحظ أن المدارس الفكرية التي تحدثنا عنها الآن، لم تنشأ إلا استجابة أو تفاعلا مع أحداث سياسيّة أو اجتماعية في الأساس، أي إنّها منظومة فكريّة قائمة بالأساس على تأصيل الواقع السياسي والاجتماعي في عصر ما.
– هذا شيء أكيد، لا بد أن يكون هناك تلاقح بين الفكر والواقع، فالفكر تكوّن من الواقع، والواقع لا بدّ أن يأخذ من الفكر. المدارس الفكرية حدثت استجابة فعلا لواقع معين. لو جئنا مثلا -على سبيل المثال- إلى المدرستين النزوانية والرستاقية نجد أنهما لم تنشآ إلا تساوقًا مع الأحداث التي ذكرناها.
كل المدارس الفكرية في عُمان تكونت نتيجة لأمر ما؛ فمثلا المدارس السابقة كالمحبوبية مثلا، تكوّنت لأسباب جدليّات فقهيّة، إذ كان هناك جدل بين محبوب بن الرحيل وبين هارون بن اليمان، وثمة رسائل أبرز فيها كل منهما وجهة نظره. كما أن المدرستين العزرية والمحبوبية نشأتا في ظل دولة الإمامة الثانية التي شهدت أحداثا، وكانت دولة واسعة وقوية استدعت أحكاما فقهية. دائما الباعث حدث واقع؛ يأتي المفكر لتأطيره وتأصيله وتكييفه.
* إلى أي مدى توافق شكل الدولة والاجتماع في عُمان، مع التأصيل الفقهي النظري؟ إذ يرى بعضهم أن التنظير الفقهي الإباضي مثالي إلى حد كبير، في حين أن التطبيق الواقعيّ لم يكن متوافقا مع النص الفقهيّ، بمعنى أن حركة الاجتماع البشري في عُمان (الجانب القبائلي مثلا)، كانت عاملا أساسيًّا في صياغة شكل الدولة والاجتماع في عمان، ولم يكن الأمر رهنا بالتأصيل النظري في المدونة الإباضية.
– هذا الكلام صحيح، لكنّ هناك أحوالًا لا بد أن نذكرها ونحلّلها. لا بد أن نشير إلى أن هناك تنازعًا في التغلّب على مجلس أهل الحل والعقد، فعندما يكون العلماء موجودين بقوة ونفوذ؛ حينها يغلب الطابع العُلمائي على أهل الحل والعقد، في حين أن ضعف الجانب العُلمائي يفرز حضور الجانب القبلي المتمثّل في زعماء القبائل.
في تلك الأيام لم يكن مجلس أهل الحلّ والعقد متوسّعا على نحو ما نشهده هذه الأيام من أطر مختلفة كالنقابات والمجالس المختلفة، فقد كان الأمر مختلفًا، إما أن يكون هناك علماء دين يقودون المجتمع، وإما زعماء قبليّون يقودونه؛ فإذا قَوِي الجانب العلمائي وتولّوا مجلس أهل الحل والعقد كوّنوا الدولة وفق رؤيتهم، وإذا ضعف، ضعف الجانب العلمائي أحيانا وبرز الجانب القبليّ، كمثل تلك العواصف التي حدثت بعد نهاية الإمامة الثالثة في قضية عزل الصلت بن مالك، والحروب التي تلتها بين راشد بن النظر، وعزان بن تميم .. إلخ. هنا سقطت الدولة! وعندما سقطت الدولة لم يعد هناك علماء مؤثرون، بقي علماء أفراد، كالشيخ أبي المؤثر الذي لم يكن تأثيره كبيرا، فمن غلب؟ غلبت النزعة القبلية، وظهرت حينها النزارية واليمانية. وهذا الأمر نجده أيضا في دولة اليعاربة، حينما ظهر ما عرف بالهناوية والغافرية.
* ما دمنا نتحدث عن الدولة اليعربية، فهي نفسها كانت قائمة على نظام أقرب إلى التوريث في العائلة الواحدة، وليس الانتخاب العام؟
– لم يكن توريثًا، كان انتخابًا؛ لكن دعني أخبرك بأن هذا كان ضمن تواضعٍ بشري، وهذا الأمر ليس حديثا، فلو رجعنا إلى عهد الخلافة الراشدة، ما الذي قاله أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بعد الخلاف؟ في حين أن الأنصار قالوا نريده منا، وقريش قالت نريده منا. قال أبو بكر الصديق: «إنّ العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش» وذلك لأن النبيّ كان من قريش، وعليه نزل الوحي، فلم يكن سائغا أن يأتي أحد من الخارج ويقول أنا الحاكم، لن يطيعوه، ستفرّ العرب منه مرّة أخرى.
تعال نفكّر في الدولة الرستميّة مثلا -وقد قلتُ في كتابي «الوسيط» أني لا أؤيد هذا الرأي، لكني أتحدث هنا عن واقع- الدولة الرستمية ينطبق عليها الأمر نفسه، فمعروف أن إمامة الإمام عبدالوهاب كانت بالانتخاب، وصحيح أنه انتخب بين مرشحين على غرار ما فعله عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عندما أحدث مجلسا من 6 أشخاص بحسب الرواية المعروفة. هذا الأمر نفسه فعله الإمام عبدالرحمن بن رستم الفارسي، فقد شكّل مجلسا من 6 أشخاص أيضا، منهم ولده عبدالوهاب، فاختاروه بالنظر إلى أنهم وجدوا فيه مواصفات والده الإمام عبدالرحمن بن رستم: علم وجهاد وقوة وغير ذلك، فأصبح عبدالرحمن بن رستم موجودا في وجدان الناس بالنظر إلى صفات ولده، وكل إمام من هؤلاء الأئمة الرستميين، جاؤوا بالبيعة، لكن في إطار اختيار الناس وميلهم، لأنّ المواصفات المطلوبة موجودة فيهم، لو لم يكن الأمر كذلك لما بايعهم الناس. هكذا كانت البيعة، وليس بالتوريث بالمرّة!
الدولة اليحمديّة على سبيل المثال، وهي الإمامة الثانية في عُمان، كانت كلها من قبيلة واحدة، هذا صحيح على مستوى القبلي؛ لكن لم يقم الأمر على التوريث، وإنما اختارهم الناس لأن صفات الإمام موجودة فيهم، فمثلا: المهنا بن جيفر مواصفاته وجدت في الصلت بن مالك، ومحمد بن أبي عفان وجدت مواصفاته في الوارث بن كعب، ومحمد بن كعب مواصفاته وجدت في غسان بن عبدالله، ومواصفات الإمام غسان بن عبدالله وجدوها في الإمام عبدالملك بن حميد، وهكذا. لو لم تكن صفاتهم على هذا النحو لم تكن لهم بيعة من الناس!
والأمر نفسه ينطبق على دولة اليعاربة، كل واحد منهم تولى الإمامة بالبيعة، لأن مواصفات الإمامة متوافرة فيهم. لماذا اختلف الناس حول سيف بن سلطان الأخير؟ لأن آباءه الأوائل قدموا الشيء الكبير لعُمان، لم يكن هيِّنا ما قدموه لعُمان بعد أن أخرجوها من تلك الفتن ووحّدوها وفتحوا كل تلك الفتوحات العظيمة البعيدة المدى حتى حدث الغنى كما يقول المؤرخون، يقولون: «فانتشرت الصفراء والبيضاء في أيدي الناس» كناية عن الذهب والفضة. لذلك قال بعضهم نريد سيف بن سلطان، في حين أنه لم يكن جائزا أن يؤم الناس في الصلاة لصغر سنه، فضلا عن أن يكون إماما في الإمامة الكبرى، ومع ذلك قالوا نريده.
لكن حينها لم يكن العلماء الكبار الذين كانوا في عهد الإمام ناصر بن مرشد وعهد سلطان بن سيف موجودين، ولم يبق منهم إلا القليل، لذلك تغلب الجانب القبلي على الأمر، وظهرت الفتن مدفوعة بزعماء القبائل.
* لكن إذا نظرنا في بدء قيام الدولة اليعربيّة، ألم يكن المعيار القبليّ متداخلا في اختيار الإمام ناصر بن مرشد نفسه، لكونه من بيت ملك وحكم؟
– في عهده لم يكن الجانب القبلي ظاهرًا في هذه المسألة، إلا على نحو بسيط. ثم لم يكن يوجد حينها بديل أفضل منه. خميس بن سعيد الشقصي قال لهم اختاروا أحدًا، فما أشاروا إلى أحد، ولم يكن ثمّة بديل. والحياة العلمية في عُمان كانت مظلمة في تلك المرحلة؛ حتى قال بعض المؤرخين: ولزم العلماء بيوتهم.
دعنا نذكر مثلا الإمامة الأخيرة في عُمان، قالوا للشيخ السالميّ عند اجتماعهم في تنوف، من ترى من الناس كفؤا للإمامة؟ فرشّح أربعة من طلابه، وأعطاهم مواصفات كل منهم، وهم سالم بن راشد الخروصي، وأخوه ناصر بن راشد الخروصي، والسيد هلال بن علي البوسعيدي من الرستاق، والرابع محمد بن عبدالله الخليلي. فوقع الاختيار على سالم بن راشد الخروصي.
* تذكر الرواية أن سالم بن راشد الخروصي رفض تولّي الإمامة في بداية الأمر؟
– نعم، رفض رفضًا شديًدا وقاطعا، حتى إنه خرج عنهم لئلا يقع الاختيار عليه.
* في حين أن الإمامة الأخيرة، ما دمنا نتحدث عنها، قد اعتمدت الاستخلاف في غالب بن علي، وليس بالانتخاب.
– نعم، وهو الإمام الوحيد في التاريخ العُماني، الذي جاء بالاستخلاف.
* كان استخلافه بوثيقة مكتوبة كما قرأت.
– نعم، وثيقة الاستخلاف مكتوبة وموجودة. الإمام الخليلي نظر إلى الموضوع من منظور آخر، لأنه رأى التنافس حاصلا في تلك المرحلة. وقد وقع اختياره على أكثر من شخص حتى استقرّ على الإمام غالب بن علي.
وفي النهاية لا بد أن يكون الأمر على هذا النحو، نحن في مجتمع قبلي، وهذا تواضع بشري. قلت: ليت هذه الأحداث لم تقع في الدولة العُمانية، سواء على مستوى دولة الإمامة الثانية على الصعيد القبلي، أو على مستوى دولة اليعاربة على الصعيد الأسري، لكن لم يكن ثمة بديل آخر. ومع ذلك؛ فقد ذكرت في كتابي «الوسيط»، أن التجربة السياسية الإباضية هي أفضل التجارب السياسية بعد الخلافة الراشدة، وقبل ظهور الديمقراطيات الحديثة.
* يبدو أن حركة الاجتماع البشري لها دور في سياق الأحداث، ومسارات الحكم؟
نعم، هكذا، أبو بكر الصديق نفسه قال: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي، الذي هو من قريش. قريش لها مكانة عند العرب. قبل أن تدخل قريش في الإسلام لم تدخل القبائل العربية إلى الإسلام إلا بشكل فردي، أي الأفراد هم الذين دخلوا الإسلام. وبعد أن فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، ودخلت قريش الإسلام، جاءت القبائل العربية كلها لتبايع النبي صلى الله عليه وسلم في عام الوفود، وتدخل الإسلام.
وهذا الأمر ينطبق على عُمان أيضا. فعندما جاء عمرو بن العاص إلى عُمان لدعوة عبد وجيفر إلى الإسلام ما الذي قالاه له؟ قالا: وماذا فعلت قريش؟! سألا عن قريش أولا، فقال لهما: دخلوا في الإسلام، إما راغب في الدين، أو مقهور بالسيف. لولا ذلك حتى العمانيين ربما لم يكونوا ليدخلوا في الإسلام.
لذلك؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم، لم يخاطب ملوك العرب وأمراءهم قبل فتح مكة؛ وإنما خاطب ملوك العجم قبل ذلك: ملك كسرى، والروم، والحبشة والقبط. ولما دخلت قريش الإسلام بعد فتح مكة، بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسل وكتبه إلى ملوك العرب، فأسلموا. هذا تواضع بشري لا بدّ منه.
* أود أن أنقل الحديث إلى محور آخر يتعلق بما يمكن أن نسميه بالروافد العلمية التي أضافت إلى البناء المعرفيّ للمدرسة الفكرية الإباضية في عُمان. نقرأ أحيانا بعض المصنفات الفقهية والكلامية، ونجد أثر المنظومات الفلسفية والفكرية التي وردت إلى عُمان في مراحل متباينة، فعلى سبيل التمثيل نقرأ كتاب الاهتداء لأحمد بن عبدالله الكندي فيدهشنا بناؤه الحجاجيّ وتقسيمه المنطقي، ونقرأ له أيضا الجوهري المقتصر مثلا، وقبل ذلك نقرأ «الأكلّة وحقائق الأدلة» لنجاد بن موسى، لذا أود أن أتساءل معكم إلى أي مدى أسهمت المنظومات الفلسفيّة والمنطقية في تطوير البناء الفكري للمدونة الإباضية في عُمان؟
– الثقافة احتكاك وانتقال دائم، بمعنى أن الحضارة والعلم والثقافة تخترق الحدود وتتجاوزها، كما يقال. والفلسفة اليونانية حينما تُرجمت إلى اللغة العربيّة انتشرت في الأقطار العربية، والعُماني شأنه شأن العراقي والحجازي والشاميّ، لم يكن بمعزل عن ذلك، فلا بدّ أن يتأثر بها؛ لكنّه أطرها في إطار عقيدته ومذهبه. والمذهب الإباضي في حقيقة الأمر يتقبل الأفكار الأخرى إلا أنها يؤطرها في إطاره.
فعلى سبيل المثال نجد أن بعض المذاهب قد وقفت موقف الرفض من رسائل إخوان الصفا؛ بينما الإباضية قبلوه؛ بل إن جاعد بن خميس الخروصي نسخ رسائل إخوان الصفا بخط يده، والنسخة موجودة.
* وابنه ناصر بن جاعد كما يبدو هو الآخر أيضا متأثر بالفلسفة.
– الشيخ ناصر بن جاعد طبعا قرأ كثيرا، ونجد ذلك في شرحه لتائيتي ابن الفارض، والعلماء الذين قبله اطلعوا أيضا، كمثل مؤلف كتاب المصنف، في حديثه عن تقسيمات الذرة، وغير ذلك.
* من حيث المبدأ العام، هل نجدها سمة عامة في التصنيف الفكري العماني، بمعنى أن العلماء اطلعوا على المنظومات المعرفيّة المختلفة، الفلسفية والكلامية والعقائدية، وأطّروها ضمن مسارهم الفكريّ.
– لا، هي ليست سمة عامة، لكننا إذا أردنا أن نتحدث عن المبدأ بصفة عامة، فالمذهب الإباضي متقبل لفكر الآخرين؛ لكن كما أخبرتك، لا بد من تأطيره بما يتناسب مع المذهب وعقيدته، نحن في أرضيّة المذهب نتقبل ما عند الآخر إذا لم يصادم الدين عموما.
والإباضية بصفة عامة لا ينكرون استفادتهم من المصنفات الأخرى، حتى فيما يتصل بشأن العقائد، سواء من حيث الطرح أو من حيث الأساليب. مثل كتب المعتزلة مثلا، فمثلا كان كتاب الكشاف للزمخشري مقروءًا عند العلماء الإباضية، حتى يقال إن سعيد بن خلفان الخليلي عندما كان ينتقل من مكان إلى مكان كان يصطحب كتاب الكشاف معه، في خُرجه، والخرج هو وسيلة لحمل الأغراض على ظهر الدوابّ.
* وهل كان علماء الإباضية يحاورون الآراء الكلامية والعقدية الأخرى في مصنفاتهم ؟
– يحاورونها طبعًا، لم تُرفض، وإنما يحاورونها ويردون عليها. وحدثت في هذا محاورات وكتابات، كمثل ما نجده عند أبي سعيد الكدمي، في «زيادات الأشراف»، التي بناها على كتاب الأشراف لابن المنذر الشافعي النيسابوري، وصل الكتاب إلى أبي سعيد فعلّق عليه، وظهر كتاب اسمه زيادات الأشراف.
كما علّقوا على رسائل الآخرين، وحاوروا كتب الخوارج، وكتب المعتزلة أيضا كمثل ما نجده مثلا في كتاب الدراية في تفسير خمسمائة آية لأبي الحواري، هذا الكتاب محشّى على كتاب مقاتل بن سليمان في تفسير آيات الحلال والحرام، وقِسْ على ذلك كثير.
* هناك بعض المسائل والجدل الكلامي الذي انتقل إلى عُمان وافدا إليها، كمثل ما نقرؤه عن قضية خلق القرآن، وما ارتبط بها من نقاشات تتصل بالعلاقة بين اللفظ والمعنى.. هذه القضية التي وصلت إلى عُمان في عهد الإمام المهنا بن جيفر فيما أحسب.. كيف تعامل علماء عُمان حيالها ؟
– هذه القضية حينما وفدت إلى عُمان اختلف رأي العمانيين فيها، إلا أنّهم عموما لم يتشددوا بشأنها، واعتبروها خلافا لفظيًّا، واتفقوا على رأي هو: أن القرآن الكريم هو كلام الله ووحيه وتنزيله، وهذا كافٍ. هذا الذي اتفق عليه المجلس العلمي الذي أقيم في دما بولاية السيب في القرن الثالث الهجري، حيث اجتمع العلماء لهذا الشأن. وكان بينهم محمد بن محبوب الرحيلي، ومحمد بن هاشم، وآخرون.
وعلى كل حال؛ لم يرَ العلماء هذه القضية أصلا من أصول العقيدة. حتى إن القطب محمد يوسف أطفيِّش يقول بأن مسألة خلق القرآن ليست من أصول الدين، ومعناه أنها مسألة يجوز الخلاف فيها. أما الإباضية المغاربة فعندهم قول واحد في هذه المسألة، وهو أن القرآن الكريم مخلوق. والمشارقة بعد ذلك الاجتماع اختلفوا، منهم من قال إنه مخلوق ومنهم من قال بأنه غير مخلوق، حتى جاء أبو نبهان جاعد بن خميس، ومن جاء بعده، فقالوا بأن القرآن مخلوق قولا واحدا. وبهذا اجتمع الرأي الإباضي المغربي والمشرقي، وكرس هذا الرأي بشكل واسع السالميّ في كتابه « المشارق».
* ما دمنا نتكلم عن الإباضية المغاربة.. بعض علماء الاجتماع يقولون بأن الأفكار -أية أفكار- تتأثر بحاضنتها الجغرافية والاجتماعية، لذلك أود أن أسألك إلى أي مدى يمكن أن نجد اختلافات وإن كانت بسيطة أو تفصيلية بين المذهب الإباضي في المشرق، وبين المذهب الإباضي في المغرب؟ وإذا كان ثمة اختلافات هل هي عائدة إلى الفوارق الجغرافية، أو التباينات الاجتماعية؟
– هنا لا بد من التفريق بين المسائل العقدية والمسائل الفقهية. أما الفقه فهو ابن بيئته، فالذي يعيش في الصحراء له نظرة إلى الأمور تختلف عن الآخر الذي يعيش في بيئة زراعية وحضرية، وكذلك من يعيش في المدن الكبيرة التي يكثر فيها المرح والهرج والمرج.
وأما العقيدة، فتقريبا واحدة، العقيدة لا يوجد فيها اختلاف بين إباضية المغرب أو إباضية المشرق، وإذا كانت ثمة خلافات فهي لا تكاد تذكر، ولا يمكن تسميتها خلافًا.
أما الفقه، ففي عُمان وحدها تختلف نظرة العالِم في صحار مثلا عن عالٍم آخر في الشرقية. دعنا نضرب مثالا لذلك؛ يرى العوتبيّ -صاحب كتاب الضياء- بشأن العبوديّة التي كانت موجودة في تلك الأيام، أنه لا يمكن شراء العبد إلا بعد سؤاله: هل هو عبد أو حر؟ وهو الوحيد الذي تفرد بهذا القول. لماذا؟ لأنه عاش في مرحلة غزو السلاجقة لعُمان، والاختطافات وقتها كانت كثيرة، حيث كان الناس يختطفون ويُباعون، ومن بينهم أبناء أحرار، وأبناء رؤساء قبائل، وأبناء ملوك.
* إذا أردنا أن نتحدث عن مستقبل المدرسة الإباضية كختام لهذا الحوار، بصفتك أحد المفكرين والمجددين في المذهب الإباضي بما تكتبه من أفكار ونظرات تجديدية، إلى أي مدى تحتاج المدرسة الإباضية اليوم إلى مراجعات لمسلماتها ولبنيتها الفكرية، لمواكبة التحولات السياسية والاجتماعيّة التي نشهدها اليوم؟
كل شيءٍ قابلٌ للمراجعة، كل اجتهادٍ بشريٍ قابلٌ للنظر، دائما نقول إنّ هناك ثابتًا ومتحوّلا. الثابت هو النص الدينيّ، الثابت الذي لا يمكن أن ينكر وهو القرآن الكريم والسنة الثابتة؛ وإنما الخلاف في التأويل والتفسير.
طالما أن كثيرًا من الأمور الاجتهاديّة راجعةٌ إلى فهم النصوص، فهذه يمكن مراجعتُها، ويمكن تقييمُها وتحليلها، ويمكن أن يؤخذ منها المُناسب لكل عصر. قد نكون نحن الآن في رأيٍ ناسب عصرًا ماضيًا، ولا يناسب هذا العصر، ويوجد رأيٌ ثانٍ يناسب هذا العصر. والصور عديدة في هذا الجانب.
قضية شكل صياغة الحكم مثلا، يمكن الآن أن تتشكل وفق معطيات العصر، ووفق معطيات الديمقراطية الحديثة، ووفق ما يتقرر وتقبله الأمة، بما يتواكب وروح العصر.
حتى في التفاصيل الفقهيّة، ثمة أمور توضحت وتحتاج إلى نظرة فقهية أخرى جديدة، على سبيل المثال مسائل الاقتصاد التي ظهرت فيها تفاصيل الآن لم تكن مطروحة في دنيا الناس من قبل.
* كما تحدثنا عن حوار المختلفين في أزماننا السابقة -إذا أردنا أن نسميه حوارا- بين العلماء الأوائل في مصنفاتهم الفكرية، إلى أيّ مدى نحن اليوم بحاجة إلى الحوار بين المختلفين في إطار المدرسة الإباضية نفسها؟
– أقول دائما إن الحوار أفضل طريق لحلّ الخلافات، فهو أولا يثري الفكرة، وثانيا يحلّ الخلاف، وثالثا يقرب وجهات النظر. عند المحاورة تنزاح عنا غشاوات لولا الحوار ما كانت لتنزاح. أدعو إلى النقاش، وأن يفهم كل واحد منا الآخر، وهذه هي نظرية علي يحيى معمر، هذه النظرية بنيت عليها دراسات وأفكار، وهي أن المذهبيّة لا تتحطّم لا بالقوّة ولا بالقانون ولا بإظهار الحجة، تتحطم بماذا؟ قال: بالمعرفة والتعارف والاعتراف. المعرفة أن تعرف ما عندي وأعرف ما عندك، وفي ضوء ذلك يحصل التعارف. فإذا تعارفنا اعترف كل منا بوجود الآخر.
يبقى أن يكون حوارًا معرفيًّا، تحلّ فيه قضايا كثيرة، بحيث نتنازل عن مسلماتنا الرّاسخة في الذّهن والفكر عندما تتضح القضية. وهذا الحوار لا يمكن إلا أن يكون بروح الحوار، وليس من أجل التعصب، وإثبات وجهة النظر. وليعلم المتحاوران أنه لا بد من التنازل؛ بحيث لا بد أن ينتقل كل واحد منهما من الطرف الآخر ليقترب من محاوره، ليلتقيا في الوسط، وهناك تكون للمحاورة قيمةٌ فكريّة، وهذه هي الوسطية. أما إذا بقي المحاور في مكانه ويريد من محاوره أن ينتقل إليه، فهذا ليس حوارا، وإنما تعصب مقيت !