يوهم مسار الحداثة الشعرية في الثقافة العربية بأنه مجرد استنساخ للحداثة الغربية التي أنبنت على فكرة التخطي والتجاوز وحتمية التطور والسبق . فلقد تشكل خطاب الحداثة الشعرية في الثقافة العربية مأخوذا بضرورة الانقطاع عن القديم العربي والتغاير معه دون أن يتمثل ما طال ذلك القديم من تشويه وتدجين واحتواء قام به المنظرون العرب القدامى أنفسهم لحظة قراءتهم للنصوص الابداعية.
لم يقع التفطن ، لحظة صياغة شعار التجاوز والهدم ،الى حجم المسافة الفاصلة بين النص الابداعي القديم والقراءة المرافقة له أي قراءة القدامى لذلك النص . لم يقع التفطن الى أن تلك القراءة كانت قراءة وظيفية أيديولوجية يحركها حرص مضمر مسكوت عنه على احتواء النصوص وتدجينها والحد من اندفاعاتها، قصد لجم المتوحش فيها وترويضها وتحويلها عن مقاديرها،بتغييب ما من متخيلنا يعلن عن نفسه فيها. لذلك تحركت هذه القراءة بين حدي الاحتواء والاقصاء. احتواء النصوص التي صارت تحت مفعول التدجين والترويض ،أليفة. وهي تشغل من تراثنا مركزه الرسمي (نصوص امريء القيس /المتنبي / المعري . .الخ ) واقصاء النصوص التي استعصى عليهم فعل احتوائها (الف ليلة وليلة/النص المه وفي / النص الاباحي . .الخ). لأنها الموضع الذي ينكشف فيه ما من متخيلنا
لا يقبل الترويض والتدجين ،وإنها الموضع الذي تنكشف فيه الذات بكل أبعادها: بنزواتها وأهوائها، برغائبها وميلها العاتي للوقوف ضد كل الممنوعات
والمحرمات والمتعاليات . بايجاز: لم يقع التفطن الى أن قراءة القدامى قد شوهت النصوص ودجنتها وغيبت ما من متخيلها ظل متوحشا بكرا.
تبعا لذلك تشكل خطاب الحداثة الشعرية مأخوذا الى حد الهوس بفكرة المحو والابتداء. جاء التحديث الرومانسي فأعلن الخروج على النمط الاحيائي وعلى الشعر العربي القديم الذي تتكيء عليه جماعة الأحياء،وحرص على انجاز فعل الابتداء. يقول الشابي معبرا عن القانون الذي أدار رؤية التحديث الرومانسي . "لقد أصبحنا نتطلب أدبا قويا عميقا يوافق مشاربنا ويناسب أذواقنا في حياتنا الحافرة (. .. ) وهذا ما لا نجده في الأدب العربي ولا نظفر به لأنه لم يخلق لنا نحن أبناء هذه القرون بل خلق لقلوب أخرستها سكينة الموت " (1). ثم يجزم بأن الخيال العربي الذي انتج الشعر القديم خيال "أجدب كالصحارى التي نما فيها وتدرج " (2).
ثم جاءت قصيدة التفعيلة مسكونة بالهاجس نفسه وتحركت داخل حدي الثنائية نفسها. ألغت التحديث الرومانسي وأعلنت الابتداء. فلقد انطلق أصحابها من قناعة مضمرة عبر عنها أدونيس قائلا. " لا تنشأ الحداثة مصالحة بل تنشأ هجوما. تنشأ اذن في خرق ثقافي جذري وشامل لما هو سائد"(3).
داخل هذا الرحاب ذاتها افتتحت قصيدة النثر مجراها محملة، هي الأخرى،بالأهواء نفسها، حريصة على التخلص مما تعتبره قديمها (قصيدة التفعيلة). يعلن فاضل العزاوي ،معبرا عن رؤية جماعة قصيدة النثر: "القصيدة الجديدة هي التي تخلق قوانينها الخاصة بها حيث لا توجد قوانين مقررة سلفا اطلاقا " ( 4 ) .
هذا هو المشهد الشعري اذن .
تاريخ مليء بالجراحات والتصدعات .كل حركة تنشد التخلص مما تعتبره قديمها، وتهفو الى محوه كي تشرع في الابتداء. تاريخ طافح بالسجال والرغبات والأهواء.
هذا التماثل الظاهر بين الحداثة الشعرية الغربية والحداثة الشعرية في الثقافة العربية سيؤدي الى بروز نوع من الوعي الشقي يحول دون الشروع في مساءلة خطاب الحداثة لأطروحاته ومنجزاته .والثابت أيضا أن الاندفاعة التي شهدتها قصيدة النثر مشرقا ومغربا، ستزيد الوعي شقاء (5) وتجعل عملية المساءلة تكف عن كونها قراءة للنصوص واستكشافا لما طال حدث الكتابة من تحولات وتغييرات ، وتصبح مجرد مراجعة متوترة تحكمها الأهواء وتديرها الرغبات ، مراجعة تتخذ أكثر من مظهر وتتزيا بأكثر من قناع . فترد في شكل تبرؤ من منجزات حركة التحديث الشعري يقوم به شعراء الحداثة أنفسهم ، تبرؤ يصل الى حد اعتبار الحداثة فعل تدمير طال الشعر العربي في العمق . يقول محمود درويش: أدان تجربة الحداثة قد دمرتنا جميعا فأصبحت القصيدة العربية قصيدة واحدة تألب على كتابتها آلاف الشعراء (6).ثم يجزم معلنا:
" نحن محتاجون الى العودة الى الأصالة (7).
تتحول هذه المراجعة ، أحيانا أخرى، الى موقف يلح في نبرة طافحة بالنوح عل الذات والندب على الثقافة العربية ، على تراجع الشعر وتلاشيه وتوغله عميقا في عتمة الأفول . يقول أدونيس في بيان الحداثة: " ليست الحداثة وحدها غير موجودة في الحياة العربية، وانما الشعر نفسه هو كذلك غير موجود"(8). وهذا ما يذهب اليه الخطاب النقدي أيضا. يقول خليل النعيمي مثلا، في نبرة طافحة بالتشفي، " كما صنعنا الفن الشعري قديما حين كنا بحاجة اليه ،فنحن في سبيل تشييعه الآن . ويأتي موته
دليلا على نمونا(9).
لكن الالحاح على أن حدث الكتابة الشعرية في الثقافة العربية يحيا، اليوم ، أعتى مأزقه انما يتم ويأخذ حجمه ومداه دون أن يقع التفطن الى أن المأزق يوهم ، في الظاهر، بأنه مأزق الشعر في حين أنه يطال الكتابة بمختلف أجناسها. انه ضارب بجذوره عميقا في بنية الثقافة العربية المعاصرة .
ان الحديث عن المأزق وتفخيمه على هذا النحو انما يتم دون وعي بأن العلاقة التي فتأت تحصل بين النص الابداعي المعاصر والخطاب النقدي المرافق له ليست علاقة تعاضد بل هي علاقة تعارض يصل ، أحيانا، الى حد التنابذ. فلقد ظل الشاعر والناقد يناديان ، منذ العشرينات ، بضرورة تخطي القديم وهدمه وتجاوزه. وظل الخطابان ، النقدي والتنظيري، يكرسان هذه المغالطة الى اليوم . فيما كان النص المنجز، النص الابداعي (الشعري والروائي معا) يشير الى أن التأسيس الحقيقي لا يمكن أن يتحقق ويكون الا بتحرير الذات الكاتبة . وتحرير الذات الكاتبة مشروط بتحرير ذاكرتها. كما أن تحرير الحديث العربي مشروط ، هو الآخر، بتحرير القديم العربي مما طاله من تدجين وترويض واحتواء.
من هنا ندرك أن الحديث عن المأزق أنما يشير، صراحة ، الى أن النص المعا هو يحيا بيننا غريبا. أننا نوهم بأننا نقرأه فيما نحن نستبيحه بواسطة مناهج ونظريات نجريها عليه عنوة وقهرا واغتصابا. لذلك يظل هذا النص يبادلنا مكرا بمكر. ولذلك أيضا سيظل هذا النص يصرخ في ليل وجودنا منتظرا أن نقترب منه ونستكشفه . اننا نوهم بأننا نقترب منه فيما نحن نمعن في الابتعاد عنه معلنين ، في نوع من التشفي، تراجعه وانكفاءه وتلاشيه .
انها المارقة.
وللمفارقة بيننا تاريخ ومدى. ولها أيضا سلطان هو الذي يجعلنا نطرح على أنفسنا من الأسئلة ما يحول دون تمثل ما يجرى في نصوصنا وذواتنا من تغييرات وتحولات وصراعات . تنبرا من قصيدة النثر(10) دون ان نقترب من لحظات قوتها واندفاعها. او نركز على لحظات وهنها (11) لنجزم بموت الشعر وتلاشيه.
صحيح ، مع ذلك ، أن قصيدة النثر توهم بأنها لحظة انقطاع وتصدع في مسار الحداثة الشعرية العربية . ولكنها ستولدة عنه طالقة من صميمه . فلقد جاءت تكرس ما انبنى عليه خطاب الحداثة من تسليم بأن الكتابة فعل تخط دائم ، فعل هدم وتجاوز وابتداء. شرعت بداياتها في التشكل مع حركة التحديث الرومانسي بالمشرق العربي (12). ثم شهدت اندفاعة مع أنسي الحاج ويوسف الخال والماغوط . معنى هذا أنها بدأت قبل قصيدة التفعيلة ..ورافقت حدث خروج الكتابة على نظام الشد ين . لكنها ظلت تشغل من المشهد الشعري هوامشه . حتى لكأنها انما تمثل أفق انتظار.
والناظر في مسار الكتابة الشعرية اليوم ، يلاحظ أن الكتابة قد توغلت في هذا الأفق: ان قصيدة النثر تكرس وتعمم بالمشرق والمغرب . لكنها تطرح هنا وهناك من منظور أيديولوجي. ويقع الكلام عنها من وجهة نظر سجالية متحمسة . والحال أن التسمية في حد ذاتها، قائمة على مفارقة مذهلة .
إن كلمة " قصيدة " تدرج الكلام في دائرة الشعر. أما كلمة " نثر" فتخرجه من تلك الدائرة . فاذا مارسنا قراءة التسمية من اليمين الى اليسار (قصيدة / نشر) نجد التسمية ذاتها ترسم أمامنا الشعر (قصيدة ) وهو يتلاشى، تحت مفعول عملية الاسناد، في النثر. أما اذا قرأنا عكسيا (نثر/قصيدة ) فإن التسمية تضعنا في حضرة النثر وهو يهفو الى الترد على منزلنه ينشد التحول إلى شعر.
لكن هذه المفارقة كانت قد حسمت في الماضي على أيدي المنظرين العرب القدامى (13) . فلقد ميز العرب القدامي، في تلك الأز مان ، بين الشعر / النثر/الشعرية . وألحوا جميعا على أن الشعرية تقع في الشعر وتندس في النثر. فتجعل الحدود الفاصلة رجراجة . وتعتصر المسافة الممتدة بين النمطين ، تكاد تلفيها أحيانا. لذلك نلاحظ أن الحدود بين النثر الفني والشعر، في الثقافة العربية ، واقفة هناك على الشفا الخطير. تكاد تمحي ولا تمحى.
مهنا بالضبط يأتي الوزن ليضطلع بمهمتين في غاية الخطورة . تتمثل الأولى في كونه ينهض بدور تمييزي. انه بمعنى آخر، عبارة عن عتبة واقعة في " المابين "، عتبة تقي النوعين من التلاشي . فالوزن يقي الشعر من التلاشي في النثر. وبذلك تصبح الشعرية صفة حاضنة لهوية الشعر. والوزن أمارة مانعة لنوعه . انه الخيط الدقيق الواهي الذي يحفظ النوع ويقيه من التيه والتلاشي في غيره . وتتعكر المهمة الثانية في كون الوزن يضطلع بدور تعميم الايقاع ودفعه نحو الذرى التي تميز الشعر عن سواه .
هكذا يصبح الوزن عبارة عن أرضية على أديمها تنغرس بقية المكونات الايقاعية. ومن تضافر الوزن مع بقية المكونات يتولد الايقاع باعتباره لحظة واقعة في تلك المكونات والوزن ، مفارقة لها في الآن نفسه . ذلك أن الايقاع ليس مجموع مكوناته بل هو محصل تفاعلها. انه ناتج عنها مفارق لها.
والمقصود بالوزن هنا ليس البخور الخليلية (هذه مغالطة تمتلك بيننا حضورا فاعلا). ان المقصود بالوزن عند القدامى – وهو ما لم نتمثله -(14) يمكن أن يتجلى في شكل تفعيلات او مقاطع أو نبر. المهم أن الوزن مكون ايقاعي يرد بمثابة أرضية على أديمها تنغرس بقية المكونات الايقاعية سواء كانت صوتية أو دلالية أو صوتية دلالية فيجريها ويديرها وفق نسق ، بموجبه يضمن الكلام حدا من التناغم الداخلي لا يمكن أن يطاله أن هو عدم تلك الأرضية .
يعني هذا، ضمنيا، أن اقصاء الوزن المتعارف مغامرة لا يقدر عليها إلا من تمرس بالشعر تمرسا يمكنه من استبدال هذه الأرضية (الوزن ) بما ينوب عنها، وينهض بدورها. ووقتها فقط يستل النص من مكوناته البانية لجسده ما به يبتني له ايقاعا خاصا يضمن له البقاء في دائرة الشعر. ووقتها فقط أيضا، يكف النص عن كونه يرفض ما ليس له عليه اقتدار أي الوزن ويهفو الى ما ليس له عليه اقتدار أي ما ينوب عن الوزن .
إن قصيدة النثر، بما يثيره حضورها بيننا من تصدعات ، إنما تضع الخطاب النقدي في حضرة ما داخل أطروحاته ومسلماته من مغالطات جعلته عاجزا عن الاحاطة بما يعتمل في صميم النصوص وأصقاعها من صراعات وتحولات . فلا يتمكن تبعا لذلك ، من الاحاطة بسؤال الشعر. والحال أن الشعر المعاصر، بمخلف – تقاطعاته وخطاطاته ، قد تمكن من الاضطلاع بأشد الأدوار خطورة وأهمية في مسار الثقافة العربية المعاصرة . بل إن سؤال الشعر هو الموضع الذي تتلاقى فيه كل أسئلة الراهن الثقافي العربي وتنحدر منه . لأنه سؤال يخص الثقافة العربية عبر مجمل عصورها وما شهده تاريخها من انقطاعات وتصدعات خطيرة مفجعة جعلت العلاقة بين التراث الرسمي وهوامشه المقموعة معطلة في ذواتنا ونصوصنا. وأدت الى تعطيل ساكل فيما يخص تمثلنا لعلاقة النص الابداعي المعا هو بالقديم العربي.
ههنا بالضبط افتتح الشعر المعاصر هجراه . ومهنا بالضبط نهض بأشد الأدوار عنفا ومضاء. ان الشعر كما يعلن عن نفسه في ديران الشعر العربي المعاصر، هو نداء الحرية . والكتابة فعل تحرير أ يظل مصادرا مغيبا في ذواتنا ونصوصنا كما سنبين . لكن فعل التحرير هذا لا يتجل فيما تقوله النصوص فقط ، بل فيما تتستر عليه أيضا. ولا يتراءى فيما يعلن عنه الشعر فحسب ، بل فيما يتكتم عليه أيضا. وهذا الذي تتكتم عليه النصوص ولا يخبر عنه الشعر تصريحا، لا يمكن للقراءة الوظيفية النفعية أن تطاله . لأنه يرد مندسا في بنية النص عالقا بطرا ثق تشكل الكتابة وكيفيات تعالق الملفوظات وتشابك الصور وتوالد الرموز.
لذلك رشحنا، كي نكشف عن هذه الظاهرة ، تجربة محمود درويش لأنها تجربة ظلت تتشكل مأخوذة بفكرة الحرية مسكونة بها الى حد الهوس . وهذا ما جعل الدراسات النقدية التي تناولت هذه التجربة تعمد الى تمجيد السياسي وتعليه على نحو، بموجبه ، تصبح القراءة افقارا للشعر بتغييب منجزه الفني وحجب أسئلته ، وافقارا لمفهوم الحرية باختزاله في الآني الظرفي العابر. ذلك أن أغلب الدراسات التي عنيت بهذه التجربة كانت وظيفية ايديولوجية يحركها حرص مضمر مسكوت عنه على احتواء الشعر وتدجينه والحد من اندفاعاته وهديره قصد لجم المتوحش فيه وترويضه بتغييب ما من متخيلنا يعلن عن نفسه فيه .
إن الشعر، كما يعلن عن نفسه في هذه التجربة هو نداء الحرية كما قلنا. لكن الحرية هنا ليست مجرد مفهوم ينشد ويقع التفني به واستنهاض المتلقي لطلبه . بل هي فعل ينجز في الكلمات وبالكلمات على نحو، بموجبه ، يصبح النص موضعا تسترد فيه الذات حويتها. وتصبح الكتابة وقوفا ضد المتعاليات . ويصبح الشعر إقامة في الرحيل نحو دروب تضمن للكتابة شروط الابداعية . ذلك أن الشعر لا يكون في هذه الحالة ، فعل هدم للقديم وتجاوز له ، ولا يكون فعل محو وابتداء. بل يرد بمثابة حلقة نامية في مسار الابداع مطلقا. انه لا يلفي ذاكر ته بل يستدعيها. ولا يتملص منها بل يستكشفها.واذا الكتابة حفر في الذاكرة وغزو لما احتمى بالنسيان ولاذ بالظل .
هكذا تضعنا الكتابة في حضرة العلاقة التي ما تفتا تتم بين اللحظة الحاضرة وتلك التي أمعنت في المضي، بين النص الابداعي الحديث وذلك الذي علق من ذاكرتنا بقاعها. وهي، بذلك ، تشير، إيماء، الى أن تحرير الذات الكاتبة ودفعها على درب التأسيس الحقيقي لا يمكن أن يتم الا مرورا بتحرير ذاكرتها المحجوزة ، ذاكرتها المليئة بالشروخ والتصدعات ، بالتعطيل والانقطاعات. لأن جراحاتنا مثل أحزاننا ليست وليدة اللحظة الحافرة، بل هي آتية من بعيد. وتغريبتنا لم تبدأ هنا والآن ، بل رافقت جميع مراحل تشكل متخيلنا الذي ظل هو الآخر،محجوزا مصادرا مغيبا في تاريخ الثقافة العربية عبر مجمل عصورها.
يعلن هذا الحدث ، حدث تحرير الذاكرة وتحرير المتخيل عن نفسه وفق طرائق متعددة تتبع مسالك ملتوية، مواربة، تجعل الاحاطة بها متعلقا يكاد يطال ولا يطال. وهذه بعض تجلياته:
أ – مكر التاريخ ومكائد الكتابة
ما من شاعر، تحت الشمس ، إلا وهو يحيا مأخوذا بالكلمات ، مفتونا بهديرها واندفاعاتها، منشدا الى الأشياء، مشدوها أمام الفوضى، الفوضى العارمة. وببراءة طفل يشرع في اللعب بالكلمات والأشياء. واللعب هنا فعل وجود. انه أعظم
فعل ما رسه الانسان على الاطلاق . ذلك أنه لا وجود للكائن خارج ما تسمح به الكلمات لأن الكلمات هي ميدان المواجهة. وهي ميدان صنع ما يبقى من الأفعال والأحداث .
والناظر في شعر درويش يدرك ، بيسر، أن الكتابة واللعب صنوان . بل أن اللعب قانون عليه جريان الشعر ومتصرفه . وهو الذي يجعل الكتابة تواجه النظام بالفوضى. والمتأسس بالتفكيك والبعثرة . وتعلن عن نفسها في شكل مساءلة لا تكل
ولا تهدأ. لذلك تتعلق بالتاريخ . لا لتسايره . بل تنشد إليه لتخاتله . وتشرع في خلخلة قيم صارت – وهما – جزءا من ذلك التاريخ .
يكفي هنا أن ننظر في نص "مأساة النرجس ملهاة الفضة" حتى نجد اللعب يتخذ حجمه ومداه ويرد بمثابة مرتكز عليه مدار الكتابة وجريانها. لكن للعب أقنعة يتزيا بها .
*يرد في شكل سخرية تتخذ أكثر من مظهر. تتجلى مريحة أحيانا:
– لو كان ذو القرنين ذا قرن
– لو كان قيصر فيلسوفا
– تاريخنا تاريخهم
لولا الخلاف على مواعيد القيامة
*
سنزرع فلفلا في خوذة الجندي ( 1)
ثم ترد خفية تعلن عن نفسها في شكل اقامة علاقات نصية بين أشد الرموز دلالة على المقدس والقداسة (آدم ) وأشدها دلالة على الأرضي الحيواني المدنس
(الديك ):
وصب آدم في رحم زوجته على ديك لاينام
مرآى من التفاح لأن في الدنيا
شهد الشهوة الأولى
دجاجات
نر يتجلى اللعب أيضا في شكل بعثرة للأزمنة والأمكنة على نحو، بموجبه ، يصبح النص موضعا تتعاصر فيه الأزمنة جميعها. وتلتقي ، في رحابه ، الأمكنة كلها. لذلك تتوالد الرموز الدالة على تلك الأزمنة اذ أن كلا منها ينتمي الى زمن خاص "دم / قلقا مش / هرقل / أوليس / مريم / ها جر / ذ و ا لقرنين / . .
الخ ). وتتوالد الأسماء الدالة على الأمكنة أيضا (روما / أثينا / قرطاج / صور / دمشق / آسيا الوسطى / أورشليم / 00 الخ ).
* يرد اللعب أيضا في شكل مزج بين الغرائبى الخارق:
رجال أصبحوا شجرا
من المرجان في قيعان البحار
يستطيع بريدنا المائي أن يأتي على منقار هدهد
وغزالة الأبد التي زفت الى النيل الشمالي الصعود
والعادي المتعارف:
بقر ينام
ويمضغ الأعشاب
(قوم )
عادوا ليحتفلوا بماء وجودهم . . .
ويزوجوا أبناءهم لبناتهم . . . ويعلقوا بسقوفهم
بصلا ، وبامية، وثوما للشتاء
وليحلبوا أثداء ماعزهم
* يطال اللعب أيضا مستوى التصرف في الكلمات وتعالق الملفوظات . ويشمل مستوى الاستعارة . فتصبح الكتابة قائمة على الاضمار والقصد اضمار تحريف الكلام عن مواضعه وتحويله عن مقاديره . نذكر تمثيلا هذه الاستعارات:
– عادوا ليحتفلوا بماء وجودهم
– عادوا على أطراف هاجسهم
– مضرجا بثيابهم
وهي جميعا استعارات تتولد عن تحريف جرت في الكلام مجرى العادة فصارت متعارفة تدخل في باب العادي من الاقاويل . ( 16 )
الاستعارة كما وردت في النص الاستعارة كما ترد في الاستعمال
*
عادوا ليحتفلوا بماء
*
عادوا ليحتفلوا بماء
وجودهم وجوههم
*
عادوا على أطراف هاجسهم
*
عادوا على أطراف
أصابعهم
*
مضرجا بثيابهم
*
مفرجا بدمائهم
وبالاضافة الى ذلك يطال اللعب مستوى الكلمات من جهة المستوى الصوتي والدلالي . نذكر تمثيلا:
– ما سوف يحدث للصقور اذا استقرت في القصور.
– فتنة أو محنة .
– غاض أم فاض
– خذني الى سفر / خذني الى وتر / خذني الى مطر
كما يطال مستوى التلاعب بالكلمات والضمائر:
– تاريخنا تاريخهم / تاريخهم تاريخنا
– نهايتنا بدايتنا
– بلادنا هي أن تكون بلادنا
وبلادنا هي أن تكون بلادها
– مستقبلين مودعين
– أقصى الوضوح هو الغموض
ثم يتحول اللعب الى نوع من اللامبالاة والعبث بأفانين الوصف والاخبار كما جرت في الاستعمال . وهذه ظاهرة تتخذ أكثر من شكل منها مثلا:
* وصف الشيء بذاته ؟
– الرمل رمل
– البحر بحر
– الليالي كلها ليل
– الجحيم هو الجحيم
*وصف الشيء بضده:
– السؤال جواب
هكذا يعول النص على مكوناته البانية لجسده . ومن صميمه يستل ما به يبتني شكلا خاصا ونظاما خاصا وبنية خاصة، أنه يستدعي مكوناته (الكلمات / البنى التركيبية النحوية / الاشتقاقات الصرفية / الأزمنة / الصور / الرموز . .
الخ ).. يبعثرها حينا، ويستجمعها جينا آخر ليبني بها شكلا جديدا. يشرع في بعثرته من جديد"حالما يفرغ من تشكيله واقامته وابتنائه .
وبذلك تصبح بنية النص نفسها دالة على العبث واللامبالاة والتيه الكوني الشامل . ان الشعر يقول ما يتكتم عليه التاريخ . بل ان الشعر يفضح ما لا يقوله التاريخ . فالرموز تشترك في الدلالة على الخروج والتيه في رحلة عذاب لا تنتهي (قلقامش الذي خرج من أروك / أوليس الذي أقام في الرحيل / آدم الذي طرد من السماء وشرد في براري الفناء / هاجر التي هاجرت في هجرة لا تنتهي .. الخ ). أما الأمكنة فانها ترد، في النص كما لو أنها مكان واحد يتراءى على أديم مرايا متناظرة. لذلك تلتقي قرطاج / وصور / وروما / وأثينا / والساحل السوري /
والأندلس / وطروادة / وآسيا الصغرى. . الخ . حتى لكأن الأمكنة نفسها تشرع ، حين النص يبعثرها، في الترحال وتبدأ سفر المقام في رحلة تيه لا تنتهي .
هكذا يواجه الشعر التاريخ ، مكائد الشعر تفضح مكر التاريخ فالتاريخ يستمد معناه من الايهام بفكرة التقدم الخطي . ومنها يستمد سلطانه . أما الشعر فانه يتشكل ويحضر بيننا ليشير الى أن فكرة التقدم مجرد وهم . فلا وراء هناك ولا أمام . ولأن الذي كان هو الذي يكون أبدا. لا وراء هناك ولا أمام . ان الوجود اقامة في الرعب وادلاج في التيه. ولا معنى للتاريخ ان لم يتحول الى "أغنية":
. … .. .. .. . . . . . .. .. .. … . . . .. . . .. . . . . "أغنية"
وهشاشة تتفقد الانسان في آثاره
في قطعة الخزف القديمة، في أداة الصيد، في لوح يؤول ، أغنية لتمجد العبث الشقي وقوة الأشياء فيما ليس يدرك (17)
ب – نداء المتوحش وتحرير القديم العربي
ههنا تصبح الكتابة فعل خلخلة لذاكرتنا الثقافية وما ترسب فيها من ثوابت وأحكام صارت ، بحكم التداول والشيوع ، تمتلك سلطان البداهة وتعمل عمل المسلمة التي في ضوئها نتعامل مع اللغة والنص . وفي ضوئها أيضا تتحدد علاقتنا بالتراث فنقرأه في ضوء مقررات السلف . وننظر فيه وفق ما يفي بحاجات ذلك السلف القابع في العتمة من ذاتنا.
يكفي هنا أن ننظر في نص "رحلة المتنبي الى مصر" حتى يتبين لنا أن علاقة النص المبدع (نص درويش ) بالنص المرجعي (نص المتنبي وتغريبته ) لا يمكن أن تقرأ على أنها نوع من التضمين . ولا يمكن أن تقرأ من جهة كونها خربا من التناص . لأن الكتابة هنا، تفتتح لها مجرى في مناخات أخرى وأقاليم أخرى. فهي لا تتكيء على نص مرجعي وتشرع في التنامي مغتذية بمنجزه الفني . بل تستكشف ذلك القديم وتصغي الى داء المتوحش فيه ،وتعيد ابتناءه على نحو،بموجبه ،يصبح نص درويش فعل تحرير لنص المتنبي مما طاله من تدجين
واحتواء وترويض قام به المنظرون العرب القدامى أنفسهم لحظة قراءتهم لنص المتنبي . اذ اكتفوا بابراز قيمته النفعية عندما اعتصروه في غرفي: المدح والهجاء. مدح الخصال الممدوحة للحث عليها. وذم الخصال المذمومة للتنفير منها.
ان نص درويش يكشف عما حرص العرب القدامى على لجمه وتدجينه واقصائه . نعني علاقة الشعر بمحنة الذات في مواجهة الرعب ، رعب الوجود أي ما يجعل من الشعر نداء المتوحش في الذات نداء ما لا يقبل الترويض والتدجين والاحتواء. وما يجعل من الكتابة فعل هدم للمتعاليات وتدمير للمطلقات واعادة انتاج للذات . لأن الشعر انما هو ما يتردد في أغوار الذات وأصقاعها من حنين الى عالم لا اكراه فيه . وليس فيه ممنوعات أو محرمات . عالم غواية وغبطة ولذة. عالم
يتناقض مع متطلبات المدينة والاجتماع لأنه يقوم على الخروج الدائم من الأليف الى المتوحش ومن النظام الى الفوضى.
لذلك يصلنا صوت المتنبي في نص درويش وهو يستبدل المطلق بالذات
أضلاعي سياج الأرض أو شجر الفضاء وقد تدلى(18)
فتصبح الكتابة تمجيدا للبشري:
نسيت أن خطاي تبتكر الجهات
وأبجديات الرحيل الى القصيدة واللهب
وتثأر الأرض لنفسها من السماء. وتصبح الأنا موضع تجلي المطلق . تقضي على تعاليه وتدرجه في الذات وتعلن:
. . . النهر لا يمشي اقي فلا أراه والحقل لا ينضو الفراش على يدي فلا أراه
هكذا تضعنا الكتابة في حضرة المتوحش في شعر المتنبي . وهي ، اذ توقفنا على ماغيب وعطل من ذلك النص ، انما تشير الى أن النص الابداعي – قديما وغدا – هو الموضع الذي تعيد الذات ابداع نفسها فيه فيما هي تعيد ابداع العالم الموجودات. لأن لا وجود للكائن خارج ما تسمح به الكلمات .
هذا ما يقوله نص درويش ، وهذا ما يستكشفه في شعر المتنبي وتغريبته . إن الكتابة والعدم ندان مرعبان يقفان وجها لوجه . ندان مرعبان يتقابلان ويحتدمان في صراع حاد عات عنيف لا ينتهي الى غاية.
وهذا بالضبط ، ما حرص النقد الوظيفي الأيديولوجي ،قديما وحديثا، على لجمه وتغييبه واقصائه لأنه جزء من متخيلنا، جزء يتعارض مع الرؤية الميتافيزيقية للكون . انه قابع في الظل من ذاتنا محتم بالنسيان . لذلك ظل يرسم لنفسه مسارب ودروبا معقدة سرية. انحدر من الوعي الى اللاوعي . غاب من السطح واحتمى بالأغوار. وأصبح عالقا من ذاتنا، كالوشم ، في قاعها، تحجب وتستر كي يواصل ، في السر، العمل . ولذلك أيضا ظل يعلن عن نفسه ايماء ولمحا. ظل يعلن عن
نفسه منذ قلقامش حيث تنهض الكتابة لتنازل العدم .
وتواصل في شعر ما قبل الاسلام يقول طرفة مثلا:
فان كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
ماذا تملك يد الشاعر في وجه المنية المتربصة والعدم الذي يسري في تفاصيل كل شيء ويبيد قطرة قطرة كل شيء ماذا يملك الشاعر غير الكلمات ، غير هشاشة الكلمات وبهائها وعنفها. وهو يندس في كتاب "ألف ليلة وليلة" حيث تحتمي شهرزاد بالكلمات . فينهض السرد ويتشكل كمحاولة لابادة الموت أو ارجائه على الأقل . وهو الذي أدار شعر المتنبي أيضا. واندس في شعر درويش ثابتا عليه مدار شعرية النص .
* * *
هذا ما حرص العرب القدامى في زمانهم ذاك الذي أمعن في المضي ، على لجمه وتغييبه لحظة قراءتهم للنصوص الابداعية. وهذا ما يظل في زماننا هذا في عداد اللامفكر فيه والمسكوت عنه .
***
إن التسليم بأن لا وجود للكائن خارج ما تسمح به الكلمات انما هو اعلان لشرعة الخروج على سلطة المتعاليات وهدم للمطلقات . هذا الخروج الدائم نحو ما يجعل من الكتابة فعل منازلة لرعب الوجود، هذا الخروج نحو ما يجعل من الكلمات ميدان مواجهة لا تكل ، هذا الخروج الهائل هو بالضبط ما يمنح الشعر ماهيته من جهة كونه موضعا يوضع فيه الانسان قدام حقيقته المفجعة: هشاشته . وبالكلمات وفي الكلمات يشرع في منازلة قدر لم يختره . فيصبح سيد نفسه . هذا ما يقوله الشعر، كما يعلن عن نفسه في تجربة درويش:
. . . . صنعت ألوهتي
بيدي ، وآلهة القطيع مزيفة
السر في الانسان
والانسان سيد نفسه وسؤاله (19 )
هكذا تعلن أسئلة الشعر عن نفسها إن النص القديم يحيا، هو الآخر، بيننا غريبا. انه في حاجة الى الاستكشاف ، بعيدا عن شعارات الهدم والتجاوز والتخطي أي الشعارات التي مثلت من خطاب الحداثة أعتى مآزقه . لأن الصلة بين النصين ، القديم والمعاصر، ليست صلة هدم وقطع وتجاوز بل صلة تنام في التغاير والاختلاف . وهذا يعني أن اعادة استكشاف النص القديم ذاته يمكن أن تتم بالنظر في النص الحديث ومنجزه الفني .
وهكذا تصبح أسئلة الشعر كشفا لما داخل خطاب الحداثة من مغالطات وفضحا للقدامة، فضحا لمكرها فضحا لسلطانها الذي يجعلنا نعتقد، واهمين ، ان الأصالة هي النظر في الموجودات والكائنات والنصوص بعيون أسلافنا. والحال أن
تأصيلنا مشروط باستكشاف الأبعاد المحجبة من الذات والنص أي الأبعاد التي غيبها القدامى أو لم يكشفوا عنها لأنها لا تفي بحاجات وجودهم في زمانهم ذلك .
بل أن سؤال الشعر، كما يعلن عن نفسه في تجربة درويشى، انما يشير، صراحة، الى أن مفهوم " التجديد " يروج بيننا محملا بدلالة تحول دون تمثلنا لما يضمن للنص شروط الابداعية . فالتجديد، عندنا، يعني الابتداء. لكنه في نص درويش
يعني العودة الى الجذور، الى الأصل ، الى الفريد. انه ليس انقطاعا وتصدعا. بل انه لا يكون ابداعيا الا اذا كان يحمل في تلاوينه جراحات آتية من بعيد.
***
من هنا يتبين لنا أن الحديث عن تطابق الحداثة الشعرية العربية مع الحداثة الغربية واعتبار الأولى مجرد استنساخ أو رجع صدى للثانية انما يرجع في الواقع الى التمثل التبسيطي للعلاقة المعقدة بين الأنا والآخر، كما يرجع الى عدم الوعي بوجود نوع من التعارض بين القول والقائل ، بين الشعر والشاعر أي بين رغبات الشاعر وأهوائه وقناعاته من جهة، وقدرات الشعر وشروطه ومتطلباته من جهة أخرى فللقول على قائله سلطان .
دائما يكون للقول على قائله سلطان هو الذي يجعل التعارض بين النص المبدع (باعتباره لحظة ناهية لكل ما أنجز قبلة من نصوص )، والشاعر (باعتباره "أنا" عابرة معرضة للأهواء المتبدلة والرغائب العارضة) بمثابة موضع من المواضع التي ينكشف لنا فيها ما تمتلكه هذه الثقافة التي توهم بأنها تكتفي بالتقبل والنقل والتأثر من مقدرة فائقة على تحويل الفكرة أو المقولة أو الظاهرة وتبديلها وفق نسق يجعل استيعابها لتلك الفكرة أو ا لمقولة رافدا يجدد طاقاتها ويقيها من
التلاشي في غيرها.
الهوامش:
1 – ابوالقاسم الشابي: الخيال الشعري عند العرب ، الدار التونسية للنشر،
الطبعة الثالئة 1983 ص: 105 .
2 – نفسه ، ص: 46.
3 – أدونيس (علي احمد سعيد). بيان الحداثة، ضمن كتاب البيانات ، اصدار
اسرة الأدباء والكتاب ، البحرين 1993 ص: 55 .
4 – فاضل العزاوي . نص بعيدا داخل الغابة، كتبه سنة 1992 .
5 – راجع مقدمة المجموعة الكاملة لأدونيس ، الطبعة الثانية، دار العودة
بيروت 1991 . يشير أدونيس في المقدمة الى أنه حذف الكثير من قصائده
النثرية واعتبرها "كلاما غفلا" قال عنه انه لا بدخل في باب الشعر ولا
يندرج ضمن باب النثر.
وا نظر أيضا:
*مقال لطراد الكبيسي بعنوان . تحولات النص الشعري العربي من النثر الى النثر، مجلة المسار ، تونس / جوان 1995 . يحاول المؤلف أن يبحث لقصيدة النثر عن جذور في الثقافة العربية فيذهب الى انها آتية من بعيد، محاولا أن يثبت أنها امتداد للنصوص الشعرية النثرية القديمة (البابلية / الآشورية /
الخ . )
*مقال لعباس بيضون بعنوان: ملاحظات حول ترجمة الشعر وأثرها في القصيدة المعاصرة نشر ضمن كتاب المؤثرات الأجنبية في الشعر العربي المعاصر" ضم أعمال الحلقة النقدية في مهرجان جرش الثالث عشر، نشر المؤسسة العربية للدراسات والنمثر، بيروت 1995 ، ص 71 وما بعدما. يذهب الباحث الى أن لقصيدة النثر جذورا وجذورها قائمة في النصوص الشعرية التي وقع نقلها الى العربية، معتبرا تلك النصوص التي ترجمت الى العربية قد صارت تحت مفعولات الترجمة، نصوصا عربية .
*انظر ايضا الندوة التي أجرتها جريدة الرياض في الملحق الثقافي عدد أغسطس / أوت 1995 مع كل من عبدالله الغذامي ومصطفى الشكعة، وعبدالحميد ابراهيم ، وعلي الدميني ،وحامد أبوأحمد، ويحيى عبدالدايم ، ومحمد العلي . . وهي ندوة تكشف ارتباك الخطاب النقدي وتردده . إذ أن ا لمواقف تحركت بين حدي الرفض والقبول . يذهب د. مصطفى الشكعة مثلا الى حد الجزم باستحالة وجود قصيدة نثر.يقول لا شيء يوجد اسمه قصيدة النثر لأن الكلام اما أن يكون شعرا واما أن يكون نثرا. أما الدكتور الغذامي فانه يلح على ما تثيره قصيدة النثر من ارباك . يقول انني عقليا اقبل قصيدة النثر لأنه من حقها أن تجد لها مكانا في التعبير الثقافي ، فعقليا انتمي الى المقولات النقدية التي تتيح للتجربة أن تأخذ دورها (. ..) ولكن ذوقيا. . انما انتمي للاستقبال الجماهيري العام فالجماهير تجد صعوبة في قصيدة النثر.. ..
*انظر أيضا ما يقوله محمد بنيس في الموضوع . يذهب بنيس الى أن "قصيدة النثر ليست أساسية في الثقافة العربية". ثم يستدرك قائلا الجيل الجديد الذي يشتغل على قضية النثر هو بالنسبة اقي أكثر وعيا بقضايا قصيدة النثر، وبقضايا اللغة. ولذلك فان هذه القصيدة الآن تشتغل بذكاء ومعرفة . ولكن أخشى أن تكون غير واعية بأن الحدود بين ما يسمى بقصيدة النفر وقصيدة التفعيلة هي حدود وهمية، لأنك اما أن تكتب القصيدة أو لا تكتبها".
جريدة القدس العربي ، العدد 1974 ، الثلاثاء، أيلول / سبتمبر1995.
6 – انظر مجلة "المجلة"، العدد 389، لسنة 1987 .
7- نفسه .
8- أدونيس بيان الحداثة ضمن كتاب البيانات ، ص 19570 .
9- خليل النعيمي مجلة دراسات عربية، عدد 6 ، السنة 19، نيسان /
ابريل 1983 ، ص: 103 .
10 – انظر الندوة المذكورة سابقا.
11 – الثابت ان الكثير من النصوص التي عدلت عن استخدام التفعيلة ولم تأت بما ينوب عنها في الاضطلاع بالدور الذي ينهض به الوزن سقطت في التعويل على بعض المكونات الايقاعية كالتسجيع والتقفية. تظن أن التماثل الصوتي يمكن أن يخلق الايقاع الشعري والحال أن التماثل الصوتي مجرد عنصر في جسد . وهذا ما يجعل قصيدة النثر بمثابة حدث محاصر، حدث محاصر بطفيلياته . وهذه الطفيليات كثيرا ما تعتمد حجة على الوهن والضعف .
12- الثابت أن حركة التحديث الرومانسي قلى وصلت الى حد قبول الشعر
المنثور. يكفي هنا أن نورد ما يقوله أحمد زكي ابو شادي محتفيا بقصيدة عدلت عن استخدام الوزن والقافية: يقول أبو شادي "ان هذا الشعر يعتمد على طاقاته فحسب لا على صنعة أو بهرج أو موسيقى.
وهو برمان على صدق ما نادينا به من قلى يم عن كفاية اللغة العربية لخدمة الشعر".
انظر "قضايا ا لشعر المعاصر" ، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة
1959،ص: 8.
13 – راجع كتابنا (الشعر والشعرية، الفلاسفة والمفكرون العرب ما أنجزوه وما هفوا إليه . الدار العربية للكتاب ، تونس ليبيا ، 1993 .
14- نفسه .
15 – اعتمدنا نص مأساة النرجس طهاة الفضة، نشر دار رياض الريس
للكتب والنشر ، لندن ، 1989 .
16 – لاحظ حاتم الصكر هذه الظاهرة وتوقف عندها في كتابه (ما لا تؤديه
الصفة المقتربات اللسانية والأسلوبية وا لشعرية " بيروت 1993 .
17 – انظر نص . "من فضة الموت الذي لا موت فيه "، ديوان هي أغنية هي
أغنية، دار الكلمة، بيروت لبنان ، 1986 ص 1030 وما بعدها.
18 – انظر المجموعة الكاملة ، نص إرحلة المتنبي الى مصر" المجلد الثاني ،
دار العودة، بيروت لبنان ، 1994 ص:105 وما بعدها.
19 – انظر نص " أوديب " ورد في ديوان هي أغنية هي أغنية المذكور، ص:
79 وما بعدها.
محمد لطفي اليوسفي (ناقد تونسي واستاذ جامعي)