كَيس ميركس*
رحل بوهوميل هرابال، أحد أعظم الكتّاب الذين أنجبهم الأدب التشيكي على الإطلاق، بشكل مأساوي بعد ظهر الثالث من فبراير عام 1997 في مستشفى بولوفكا في العاصمة التشيكية براغ، ووفقًا لشهود العيان الذين رأوا ما حدث من المبنى المقابل، فقد سقط هرابال من النافذة التي كان يُطعم عليها الحَمَام بالطابق الخامس من عيادة العظام حيث كان نزيلًا هناك، أراد أن ينثر الحَبَّ الصغير على إفريز النافذة العريض باستخدام طاولة، فأدّى مَيَلانها إلى سقوط هرابال، لتنتهي حياته على الفور.
وسرعان ما سرت شائعات بأنّ الأمر لا يمكن أن يكون مصادفة، وأنّ هذه «الميتة» كانت أفضل من أن تكون حقيقيّة، بل ربما كانت «ميتة» اختارها هرابال بنفسه، كي يخرج بها من الحياة بشكل مدوٍّ، حتى أن بعض محرّري الصحف الأدبية حول العالم، أشاروا إلى الأمر في تغطياتهم الصحفية لخبر رحيله.
لم تكن ردود الأفعال هذه حول نهاية حياة هرابال ببعيدة عن الحقائق التي أحاطت بالكاتب التشيكي، بل جاءت لتؤكّد وجهة النظر الرومانسية «المبرّرة» التي تقول إنّ هرابال «عاش ليكتب.. وكتب ليواجه الحياة»، فنحن نادرًا ما نجد في أعماله الضخمة (تسعة عشر مُجلّدًا من الأعمال الكاملة حتى الآن) مقطعًا خياليًا بحتًا، حتى أنّ أسماء الشخصيات المحيطة به بقيت على حالها في كتاباته، هكذا ببساطة، الأمر الذي أوصله إلى المحكمة ذات مرّة عندما طالب شخص -ذُكر اسمه بالسوء في أحد نصوص هرابال- بالتعويض، وقد تمّت تسوية القضية ودّيًا، وحصل المدَّعي على مبلغ ضخم أسكته وأرضاه.
أعطى هذا الاندماج بين «الحياة الشخصية» و»الشخصية الأدبية» غذاءً لأسطورة الرجل اللافت التي تشكّلت حول بوهوميل هرابال (1914-1997) بدءًا من خمسينيات القرن العشرين، وهي السنوات الستالينية في تشيكوسلوفاكيا، حين أعلن هرابال عن نفسه كاتبًا بوهيميًا بروليتاريًا، وهو ما لم يكن يعطي ترخيصًا تلقائيًا للنشر آنذاك، لذا فقد عمل هرابال في البداية في مَسْبك «بولدي» للحديد في مدينة «كلادنو»، وبعينين مفتونتين، كان يحدّق في اللوحة الإعلانية التي كانت تحمل رأس فتاة «ذات خصلات شعر متوهّجة»، ويتجوّل في المسبك مُرتديًا ثياب العمّال الرّمادية وفي جيبه كتاب اقتباسات فلسفية، يقرأ فيه كلّما سنحت الفرصة لذلك، مستمتعًا بالمصطلحات الشعبية للعمّال من حوله، وبمخلّفات الحديد والصُّلب تتكوّم جبالًا أمامه يومًا بعد يوم، والتي كان عليه أن ينتقيها ليصهرها، هذا العمل جعل هرابال على اتصال دائم بالفنّانين التشكيليّين الجدد، وخاصة من ذوي التوجّهات السريالية، بهذا المعنى كانت فترة عمل هرابال في مسبك «بولدي» لصهر الحديد جنّة، على الأقلّ بفضل اقترابه من الفنانين الطليعيّين، والتي سهّلت له لاحقًا الاقتراب من صنّاع السينما، حتى رأينا أحد أعماله القصصية تتحوّل إلى فيلم عام 1969 بعنوان «قبّرات على سلك» للمخرج التشيكي جيري مينزل، والذي نقل إلى السينما العديد من أعمال هرابال الأدبية الأخرى.
إلى أن وقع حادث كاد أن يودي بحياة هرابال أثناء عمله في المسبك، حين اخترق قضيب حديدي رأسه ليخرج من عنقه، ما دفعه إلى البحث عن عمل آخر، حتى وجد نفسه عاملًا في مستودع نفايات الورق الواقع على نهر سبالينا في براغ، حيث تحوّلت جبال الحديد التي كانت في مسبك صهر الصلب، إلى جبال لا تحدّ من مخلّفات الورق والكتب هنا، والتي كانت، مع نثرات من نفايات ورق الجزّارين الدموي وصناديق الكرتون، إضافة إلى بعض الحجارة بين الحين والآخر، تتجمّع كلها في قبو هرابال ليعالجها مع رفيقه «هانتا»، بإذابتها وعجنها لتحويلها إلى مواد أخرى.
جنّة المنتحر
لم يكن هرابال ورفيقه يُتلفان الكتب والورق كغيرهما، بل كانا يصنعان منها أعمالًا فنّية حقيقيّة، مُرصّعة بنسخٍ دقيقة من اللوحات الشهيرة التي كانت تأتي مع ورق النفايات، ومتضمّنة بقايا أعمال أدبية مُصادرة من قبل السلطات أو ممنوعة من النشر، وهي الأجواء التي نعايشها حيّة في رواية هرابال «عزلة صاخبة جدًا»(1)، والتي ظهرت منسوخة عام 1976، ونشرت رسميًا عام 1989، ويتحوّل فيها عامل صهر الصلب البوهيمي إلى فيلسوف عدمي، يستهلك الكتب والوصايا الفلسفية مُطلقًا على نفسه اسم رفيقه الحقيقي «هانتا»: «الشهر الماضي رموا حولي 15 طنًا من الأعمال الفنّية النفيسة التي أعيد إنتاجها، 15 طنًا من أعمال مبلّلة لرامبرانت وهلسيس ومونيه ومانيه وكليمت وسيزان، أعمال فنية أوروبية عظيمة في قبوي، أستخدمها لأجمّل أكوام الكتب».
في ذلك الفضاء الرّطب لمستودع نفايات الورق، أصبح «هانتا» بطل الرواية مُتشرّبًا وهاضمًا لأغلب الكتب التي مرّت تحت يديه، ولكي لا يُجنّ جنونه بكلّ هذه الأفكار الفلسفية والمعارف الموسوعية، يلجأ إلى الإدمان على شرب البيرة، يقول هرابال على لسان بطله «هانتا» في «عزلة صاخبة جدًا»: «السبب الحقيقي الذي يجعلني أشرب هو أنني أريد استشراف المستقبل، ففي كل كومة كتب، أدفن بعض الآثار الغالية، أدفن مثلًا كفن طفل مزخرف مع زهور ذابلة وشَعر ملائكي».
من الواضح أن البيرة في قاموس بوهوميل هرابال ليست فقط من بين الصفات التي تليق برجل حقيقي، بل هي إكسير للحياة، لها طقوسها الخاصة، وهو ما شكّل جزءًا لا يتجزّأ من أسطورة هرابال الشخصية، ولا عجب في ذلك، فهو مولود في بلد البيرة الحقيقي، حيث تُصنع في التشيك بجميع أشكالها وأنواعها، وفوق ذلك، فقد عرف هرابال البيرة منذ طفولته، هو المولود عام 1914، حيث تزوّجت أمّه بعد انفصالها عن أبيه البيولوجي من مدير لمصنع جعة في بلدة نيمبورك على نهر الإلبه، فتبنّى الزوج الجديد الطفل «بوهوميل» ومنحه اسم عائلته «هرابال»، لذلك تتشابك العديد من ذكريات طفولة هرابال مع مصنع البيرة ذاك، لتظهر في أعماله الروائية والقصصية اللاحقة، ومن بينها: «اختصار» و»البلدة التي توقّف فيها الزمن» (1974).
سِمة أخرى نلحظها في أعمال هرابال الأدبية؛ وهي افتتانه بالزّي الرّسمي، الذي اعتبره سمة أخرى من سمات الرجولة، يبدأ هذا الميل لدى هرابال حين يجد عملًا أثناء الحرب كحارس في محطّة قطارات مهجورة بالقرب من بلدة نيمبورك التي يوجد بها مصنع الجعة، ونجد تداعيات تلك الفترة من حياته تنعكس جليّة في روايته «قطارات تحت الحراسة المشدّدة»(2) (1966)، والتي تحوّلت لاحقًا إلى فيلم حاز جائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي (1967). لكن الزّي الرّسمي لم يساعد بطل الرواية كثيرًا، خاصة بعدما فشلت محاولاته في الاقتراب من عالم النساء، فيصاب بالاكتئاب، ويُقدم على قطع أوردة معصميه في فندق مجهول، ولحسن الحظّ ينقذه أحد البنّائين من الموت.
نصادف للمرّة الأولى في أعمال هرابال ثيمة الانتحار أو قتل النفس، كثمرة لمحاولة فاشلة في الحياة، في روايته «عزلة صاخبة جدًا»، حيث تُحشر براغ بأكملها في كيس وتختفي في الفراغ الكوني، لتصبح الحزمة النهائية من النور هي تلك التي يستقرّ فيها الإله ذاته، يسبق ذلك تأملات حول الموت في «حوض الاستحمام» الذي اختاره كثيرون من مشاهير الثقافة مكانًا للانتحار. آلة الهيدروليك التي يتمّ فيها ضغط نفايات الورق لها أيضًا شكل حوض، يدخل «هانتا» إلى ذلك الصندوق/ الحوض/ القبر (أم أقول الرّحم؟) ويضغط على الزّر القاتل بنفسه: «ضغطت الزر الأخضر، وعدت إلى فراشي المكوّن من الأوراق القديمة والكتب، مُحتضنًا نوفاليس بحميمية، إصبعي عثر على جملة طالما ملأتني بصدوع كثيرة، ابتسمت بسعادة لأنني كنت أكبر بكثير من مانسا وملاكها، أدخل إلى عالم لم أدخله من قبل، أين أجد جملة تقول: «هدف كلّ حبيبة هو مركز الحديقة في الفردوس». بدل أن أضغط الكتب النظيفة في ميلانتريش في مستودعي، سألاحق سينيكا، سألاحق سقراط، وهنا في آلتي، في قبوي، أختار طريقة للسقوط وللصعود، حتى وإن ضَغطتْ الجدران المعدنية لآلة الهيدروليك ساقيّ إلى ذقني، سأرفض الخروج من الجنة. أنا في مستودعي، ولا أحد يملك القدرة على طردي».
«النمر الذهبي»
«النمر الذهبي» اسم حانة في قلب براغ، تقع في منتصف الطريق بين جسر تشارلز وميدان البلدة القديمة، وتتوسّط شارع يحمل اسم المُصلح التشيكي الشهير يان هوس Jan Hus ، لسنوات كان هرابال يأتي إلى هذه الحانة مع أصدقائه، حيث خُصصت له طاولته الثابتة والمعروفة في الجزء الخلفي من الحانة، وكان جميع الحاضرين في القاعة الرئيسة بإمكانهم رؤيته جالسًا مساء كل ثلاثاء وسط أصدقائه ومحبّيه، الذين كانوا مجموعة من الأصدقاء «العاديين» في البداية، وغالبًا من الحرفيّين وأرباب المهن، كان هرابال يتحدّث معهم بحماس عن تجارتهم والمصطلحات الخاصة التي يستخدمونها أو الأشياء التي يقومون بصناعتها، ولكن بعد الثورة المخملية، أو ما سمّى بـ»ربيع براغ» عام 1989، جاء آخرون، من بينهم مجموعة من المثقفين الشباب الذين أطلقوا دار «خيال براغ» للنشر، والتي نشرت الأعمال الكاملة لهرابال لاحقًا، وعادة ما كان هرابال يجلس هناك وقد مشّط شعره إلى الأمام لإخفاء صلعته، يتحدّث بهدوء، وأحيانًا أخرى لا ينطق بحرف طوال المساء كلّه، بل يكتفي بالاستماع وشرب البيرة وأكل نقانق الكبد المقلية.
وبطبيعة الحال، كان هرابال على معرفة وطيدة بموظّفي الخدمة في الحانة، الذين كانوا يعاملونه باحترام شديد ويتلقّون منه إكراميات ضخمة، وباعتباره كاتبًا كبيرًا، كان يدفع أيضًا فواتير الآخرين المتأخّرة عليهم، وفي بعض الأحيان كان يأتيه أشخاص بسطاء يريدون توقيعه على أحد كتبه أو يطلبون منه خدمة ما، أو حتى دعمًا ماليًا للأعمال الخيرية، وفي هذه الحالة، كان هرابال يقوم باستدعاء ما كان يطلق عليه «الدائرة»، والتي تضمّ عددًا من أصدقائه القدامى ويسألهم: هل لدينا ما يكفي من المال؟ فإذا كان الأمر كذلك، وافق على الفور! كان هرابال كريمًا أكثر من اللازم أحيانًا كثيرة، وربّما كان بإمكانه أن يكون مليونيرًا لو لم ينفق أمواله بهذه الطريقة المستهترة طوال حياته.
في حانة «النمر الذهبي» كان هرابال في العادة طيّب القلب، لكنّه قد يظهر في صورة فظّة للغاية، إن لم تكن فاضحة أيضًا، صادفتُه بنفسي ذات مرّة أمام الحانة، والتي لسبب ما كانت مغلقة، فغضب هرابال بشدّة، كانت «النمر الذهبي» بمثابة بيت آخر له، وحينها اقترحتُ عليه أن نذهب إلى مقهى آخر لنتحدّث قليلًا، ومددتُ له ذراعي لأساعده، وبينما كان يسير على مضض في الشارع الزلق الذي تصطفّ على جانبيه أكوام الجليد والثلوج، رأيته رجلًا عجوزًا وعاجزًا، وقد كان كذلك، لكنّه فجأة دفعني غاضبًا وهو يقول: «دعني وشأني»، ولم أسمح له أن يكرّرها مرتين، فتركته وانصرفت.
وقد كانت «مواقفه المخجلة» و»مشاهده المحرجة» مع سوزانا روث، التي لم تكن فقط مترجمته السويسرية ووكيلته الأدبية في الغرب لسنوات عدّة، بل كانت أيضًا صديقته المقربة لثلاثة عقود، ورافقته في العديد من الرحلات التي كان يتصرف فيها بشكل طفولي متعمّد، وبشكل لا يمكن تحمّله في الكثير من الأحيان، كما كان يصفها أيضًا بـ»السمكة الفاسدة» أمام الآخرين، ما كان يشكّل لها حرجًا كبيرًا، حتى تصاعدت سلوكيات هرابال العابثة وصولًا إلى المشهد الشهير الذي ظهر فيه أثناء الزيارة الخاصة التي اصطحب فيها الرئيس التشيكي فاتسلاف هافيل نظيره الأمريكي بيل كلينتون، خلال زيارته الرسمية إلى براغ في يناير 1994، إلى حانة «النمر الذهبي».
حرص الرئيس التشيكي فاتسلاف هافيل، وهو الكاتب المسرحي اللافت، على أن يكون هرابال هناك أيضًا، وفي النهاية دعا الكاتب إلى طاولتهما، وقد تضمّن تقرير وكالة الأنباء التشيكية CTK عن هذا اللقاء الرمزي حينها ملاحظة هرابال لكلينتون بأنّ «براغ مدينة النوبات القلبيّة المفاجئة والخياطين المداهنين». ويبدو أن إحدى المشاركات في حفل استقبال كلينتون في الحانة كانت ممثلة ممتلئة الجسم وذات زيٍّ فاضح، لم يستطع هرابال أن يبعدها عن عينيه، وعندما بدأ في مضايقتها علانية أمام الحاضرين، اعترضته، حتى أن هرابال قام بعضّها بشكل مبتذل أمام أعين المتواجدين في الحانة، وعندما استشاطت الصحف غضبًا من فعلته، كان ردّ فعله أن هاجم الصحف التي هاجمته، ثمّ تجاهل الأمر كأنّه لم يكن.
في المرحلة الأخيرة من حياته، لم يعد هرابال يكتب أعمالًا روائية كما كان يفعل في السابق، بل اكتفى بالكتابة للصحافة الأدبية، كما كان صريحًا وصادمًا بشكل خاص في رسائله إلى دوبينكا، الشابة الأمريكية التي أعلن لها عن تقلّباته بعد «الثورة المخملية» عام 1990، كانت تلك الفترة المضطربة أكثر إيلامًا لهرابال، فقد كان عليه أن يواجه استعادته للحرية بإحساس كبير بالذنب. والواقع أنه كان قد سمح لنفسه في منتصف السبعينيات بأن يغريه السياسيون التشيكيون بالانضمام إلى الثقافة الرسمية، وإلّا لكانت ستخلو تمامًا من الأسماء الكبيرة، حيث هاجر الكتّاب الجيّدون أو لجأوا إلى العمل السرّي، لم يستطع هرابال أن يتخيّل الكتابة -وبالتالي الحياة- دون جمهور، كان قد تعافى لتوّه من مرض خطير تركه في حالة من الكآبة المستمرة، حتى أنه كان قد صوّر نفسه «نصف غارق بين القبور» في أحد نصوصه اللاحقة.
قطط بأجنحة
كان هرابال مولعًا بالحيوانات، فهي -على العكس من البشر- لا لوم عليها، وهي ضحية البشر إلى الأبد، كان يسافر يوميًا تقريبًا من منزله في براغ إلى ضاحية كيرسكو لإطعام القطط الضالة التي يعتني بها في بيته الريفي هناك، وعندما لم يعد ذلك ممكنًا بسبب شيخوخته، استأجر شخصًا لينوب عنه في العناية اليومية بها، كان يردّد: «لو كان بإمكان القطط أن تطير»، ولربّما كانت القطط هي الوتر الأخير في حياة هرابال، ومع ذلك، فقد أصبح للحَمَام أهمية خاصة في عالمه، حتى اللحظة الأخيرة من حياته، حين سقط من الطابق الخامس وهو يُطعم الحَمَام، وللغرابة، لم ينسب الفيلسوف هردر طابع الحَمَام إلى التشيكييّن فحسب، بل قال إنّ «الروح القدس» أيضًا يميل إلى النزول علينا في صورة حَمَام، لذلك فإن سقوط هرابال وهو يُطعم الحمام ليس مُصادفة، صحيح أن جسده سقط، لكن روحه صعدت.
ربّما كانت القفزة الانتحارية التي قام بها صديق هرابال الحميم الرسام التشيكي فلاديمير بودنيك قاتلة عن طريق الخطأ أيضًا، عانى بودنيك، أو «البربري الرّقيق» -كما أطلق عليه هرابال في كتابه الذي حمل العنوان ذاته- من الاكتئاب، وتمّ إنقاذه مرارًا من الانتحار، إلى أن ساءت الأمور في ليلة القديس نيكولاس عام 1968؛ كانت الأجواء السياسية متوتّرة وضبابية بعد أشهر من الغزو العنيف الذي كان من المفترض أن يُنهي «ربيع براغ»، لم يستطع الكثيرون حينها التأقلم مع توقّع فترة جديدة من القمع الشيوعي، فهربوا أو هاجروا، كما انتحر البعض منهم أيضًا، أما بالنسبة لبودنيك، فلم يكن هناك دافع سياسي لانتحاره، بل اكتئاب عام أجّجه الشتاء القارس في براغ، يقول هرابال في شهادته عن انتحار صديقه في كتابه «البربري الرّقيق»: «قام فلاديمير بتجربة قاسية، حاسب فيها نفسه بنفسه، لم يكن يشكّ للحظة في أن الحلقة الأخيرة من سلسلة السببية لن ترتبط بالحلقة التي يتوقّعها، وطرق الباب الخطأ، فيما كانت دائرة الحبل تضيق وتشتدّ حول عنقه، وهكذا اندفع فلاديمير في سقوطه مباشرة من سدّ الحاضر إلى قلب الأبدية».
تتكرّر فكرة القفز أو الغوص مرّات لا تحصى في أعمال هرابال، وعادةً ما يكون ذلك في سياق أقلّ فتكًا مما قرأناه في السطور السابقة، ومن الأمثلة الرائعة على ذلك، الملابس التي ترفرف إلى الأسفل، والتي تتخذّ أشكالًا بشرية في رواية هرابال البديعة «خدمت ملك إنجلترا»(3) (1971)، ففيها أيضًا نواجه موضوع القيامة، حيث نرى الملابس التي تُعلّق على بالونات عند الخياط، فترتفع إلى السقف، وهناك أيضًا الغطس أو الغوص في شكل رحلة على طول كابل حيث تنزلق الـ «أنا» رأسًا على عقب فوق سطح بحيرة، وتراقب العالم من تلك الزاوية الغريبة، هنا يتحوّل هبوط «الأنا» إلى مشهد سحري، حيث في انفصالها عن الأرض تبدو للحظة كما لو كانت تصعد إلى السماء، ثمّ ترى العالم من تحتها من جديد، ولكن بشكل مائل، لأن اختلاف زاوية الرؤية يتغيّر لتختلف عن الزاوية المعتادة التي نميل إلى رؤية العالم من خلالها، كذلك تحدّث «هرابال» ذات مرّة عن إحدى عينيه التي «تحوّلت»، ما جعله يرى العالم بـ»طريقة مختلفة» عن الشخص الطبيعي ذي العينين العاديّتين، لذلك فقد رأى هرابال اللآلئ المخبّأة في الناس والتي لم يلاحظها الآخرون، لا عجب إذن، أن تحمل مجموعته القصصيّة الأولى عنوان «لآلئ القاع» (1963).
في السنوات الأخيرة من حياته بدأ هرابال يعاني من آلام النقرس الحادة، بالإضافة إلى الآلام التي كان يعانيها أصلًا بعد موت الكثير من أحبّائه، وخاصة موت زوجته التي كان يحبّ أن يناديها «بيبسي»، فقد أصبح يعاني أيضًا من آلام الروماتيزم في العظام والمفاصل، ونتيجة لذلك بدأ يمشي بشكل أسوأ وأكثر صعوبة، في قصّة جميلة كتبها هرابال عام 1989 حملت عنوان «الناي السحري»، يصف فيها كيف أنه لا يستطيع أن ينظر إلى نفسه في المرآة، بل يكتفي بالحلاقة كلّ صباح في الممرّ المُظلم من شقّته في الطابق الخامس من بناية عادية في براغ، وفي الطريق من براغ إلى قططه في ضاحية كيرسكو كانت تهاجمه الأفكار الكئيبة: «كم مرّة أردت القفز من الطابق الخامس، من شقّتي تلك حيث تؤلمني كلّ غرفة صغيرة فيها، لكن ملاكي الحارس كان يُنقذني في اللحظة الأخيرة دائمًا».
يُصبح ذلك «الطابق الخامس» هاجسًا لدى هرابال في سياق النص المشار إليه أعلاه، حتى أنه يذكر أن فرانز كافكا أراد أيضًا القفز من الطابق الخامس، والفرار مما عرف بـ»دار أوبلت» في ساحة البلدة القديمة، لكن «ملاكًا حارسًا كان يحميه هو الآخر»، ومع ذلك، كانت لدى هرابال قدرة مدهشة على السخرية حتى في مثل هذه اللحظات فائقة الحساسية، كتب يقول: «الانتحار في الصباح، والعمل بقيّة اليوم، والغداء في المقصف حين يحين وقت الغداء، وقليل من العصير بعد الظهر، ثمّ العودة إلى هنا في حانة برتشلكا أو «المختبر الأخضر»، لشرب كؤوس البيرة الواحد تلو الآخر طوال الوقت، ثم الانتحار في الصباح مجددًا، وهكذا بلا نهاية»، بعد ذلك بقليل، وفي النص ذاته، نصادف تعليقًا لافتًا من هرابال، إذا يقول إنه يجلس مثل «حمامة جريحة»، ثم يتذكّر الحمامة المقتولة على مدرّج المطار والتي «تبدو رائعة دائمًا قبل أن تسحقها إطارات السيارات العابرة، وتبقى رائعة حتى بعد موتها».
هكذا بالضّبط وجد المارة هرابال بعد سقوطه من نافذة الطابق الخامس بمستشفى العظام التي كان نزيلًا بها، كان طبيبه بافيل دونجل قد وقف يتحدّث معه بلطف في ذلك الصباح، واتّفقا على تناول البيرة معًا في المساء، وبعد إعلان وفاة هرابال بساعات بدأت أسئلة من قبيل: هل كان انتحارًا أم حادثًا؟ تطفو على السطح بقوّة، وافترضت دائرة أصدقاء هرابال أنّ القفزة لم تكن حادثة، بل «انتحار يليق بهرابال»، لقد كانوا يتوقّعون منذ فترة طويلة «شيئًا ما»، لأنّ الأمور «لا يمكن أن تستمرّ على هذا النحو بعد الآن»، ومع ذلك، فقد فوجئوا بشجاعته للقيام بذلك بالطريقة التي قام بها، ربّما أراد هرابال أن يثبت لهم –وللمرّة الأخيرة- أنّه لم يكن ذلك الصبي الصغير الخجول الذي يظنّونه، بل كان رجلًا حقيقيًا.