رحمة المغيزوي
قاصّة عُمانية
1 – العرق الدساس
كثيرا ما عادت “بنت سالم ” بفكرها إلى ذلك اليوم، وقد لازمها تأنيب ضمير مستمر نقله إليها “ولد العسال” بعد أن عرف الموضع الذي قُبرت فيه “أمينة” وهمس لها:
– كيف لم تعرفي أنها بنت “سعادة “؟!
خفق قلبها بشدة…
ارتعش شيء ما في داخلها، وسكن خارجها وهي تراقب عتبة دارها، ثم السكة الطويلة المؤدية إلى دار “ولد مبارك”.
ثم تنفست بصعوبة الهواء الثقيل، وشعرت بخفوت حركة الأشياء من حولها، وصورة تلك الفتاة “أمينة” تملأ خيالها.
حدثت نفسها بصوت خافت:
(مالي أنا والجديلتان الطويلتان والسميكتان إذا كان النهدان اللذان ستنامان عليهما صلبين، يرتفعان في تكبر لا يجوز في حق الموتى.
ثم مالي وناصية الرأس إذا كان الورس قد وضع عليها في إفراط متعمد أو أن الكحل في العينين لا يذيبه ماء السدر المسكوب عليه بسخاء أو أن أصابع اليدين الرفيعتين لم تصبها ليونة زائدة أو تصلب طارئ ولم تعد تمارس حقها المشروع في الحركة أو حتى تعتاد على السكون فيكون لـ”أمينة” صورة الموتى المألوفة.
ثم مالي إن كانت رائحة الطيب قد عبقت في المكان بعناد لم أجربه سابقا مع الموت عندما بدأت عمتها في تعرية الجسد الشاب من ثيابها ولم تبق إلا على سروال فضفاض يستر الجزء السفلي من الجسد. وقد هالني صفاء الجسد المسجى والراحة على الشفتين المنفرجتين عن طيف ابتسامة متوارية في خفر.
ثم مالي ورموش العينين وقد خالجتها سكينة وغشيتها طمأنينة غريبة وكأن صاحبتها تعيش في عالم مبهج من الأحلام. أو كأن الموت يعاف أن يترك علاماته الحاسمة على جسد “أمينة”.
عندما داست عمة “أمينة” عتبة دار “بنت سالم” كان الظلام ما يزال يلف المكان وصياح الديكة بدأ ينتشر في الأرجاء، مع ذلك لم تستعجلها كما تفعل عادة النساء الزائرات لها في مثل هذه الأوقات بل قالت لها:
– ماتت “أمينة”.
ثم سكتت فجأة كمن اكتشف أن جرحا شق صوتها طوليا ولم يعد كما هو فأكملت بغصة ظاهرة وهي تذكرها:
-“يا بنت سالم” حالك اللي فوق وحالنا اللي تحت.
أصاب “بنت سالم” خرس وأحست أن حنجرتها أصيبت بشرخ فأصبحت تؤلمها، ولكنها رغم ذلك حملت الكفن وقوارير الطيب الذي أُحضرت مع “أمينة” يوم زفت إلى بيت “ولد مبارك”، ففي يوم زفاف “أمينة” كانت أواني العود والعنبر وملابس العروس وحلي الفضة والذهب قد صفت في الخزينة الخشبية الكبيرة في غرفتها الواسعة، بينما حُمل صندوق خشبي صغير ومطعم بالمسامير الذهبية إلى بيت “بنت سالم” وقد وضع فيها كل ما يخص كفن فتاة مثل “أمينة”، كانت أمهاتها يعلمن أنها لن تطيل فترة مكثوها في الدنيا فضلا عن حياتها كزوجة. لرجل أحب الوجه الحسن ولم تثنه العبارات المواربة من قبل أهل الفتاة عن أن جسدها واهن ولا يتحمل ما تتحمل النساء من أمور الزوج والزواج وأنها ضيفة كأمها لا أكثر على هذه الدنيا.
وقبل أن تنشر الشمس أشعتها على المكان خرجت “بنت سالم” من مكان التغسيل بعد أن أنهت غسل الجزء العلوي من جسد “أمينة” ولم يبق مع الفتاة المتوفاة إلا عمتها التي أخذت من الصندوق الصغير خلخال الذهب وألبسته ساق “أمينة” اليمنى ثم لمحتها وهي تضع المسترة “1” على عورة “أمينة” والتي لم تكشف على الأرجح إلا أمام أمها و”ولد مبارك”، ربما.
وتركتها لتكمل تغسيل ما تبقى من الجسد الغض.
بينما أصوات النساء الحاضرات لتربة”2″ أمينة تبدو مخنوقة داخل المجلس الكبير في بيت “ولد مبارك” دون أن يستطعن مخالفة أوامره والمشاركة في إعداد جسد الزوجة الشابة للدفن، أو حتى إسكات الفضول الذي نما داخلهن للحديث عن تلك الفتاة الغريبة عنهن.
تناثرت حبات الغيث على رأس “بنت سالم” وهي تخرج من بيت “ولد مبارك”.
التفتت إلى يسارها فشاهدت “ولد العسال” متكئا على جدار دار متهالكة فرفع يده إليها وعرفت من إشارته أنه سينفذ وصية واجبة كتبها “ولد مهنا” ويحمل جسد “أمينة” ويدفنه على سفح الجبل قريبا من جسد ابنه “يوسف”، قريبا من المكان الذي يمر به الوادي الأحمر الذي سحب أمها منذ سنوات.
شعرت “بنت سالم” أن تلك الفتاة “أمينة” مباركة.
فإذا كانت المدن تغتسل من أدرانها عندما تستقبل ذلك الدفق الطهور وتصبح عروسا في ليلة جلوها وأن المكان بوجود المطر تتلبسه حالة من الهذيان الجميل، فكل الأشياء تمل بكثرة تكرارها إلا المطر، فإنه مع كل هطول جديد ينبت في النفوس حالة من الفرح اللامتناهي، ويزيل عن المكان ثقل الحرارة الحارقة والرطوبة التي تلصق بالأرواح قبل الأجساد.
فإن “أمينة ” في ذلك رفعت ثقل الدنيا عنها ورحلت خفيفة كحبات الغيث.
2 – ولد حاضر
خلال الأعوام السابقة، زاره “ولد حاضر” في دكانه كثيرا، وفي كل مرة كان يدخل يده في جيب دشداشته البيضاء ويهم بإخراج النقود، فيقوم هو بعدها إلى دفتره الذي عنونه باسم باب الهبات والأمانات، وعندما استوى “ولد حاضر” بالجلوس أمامه وقام بإخراج مبلغين مختلفين من جيبي ثوبه، ثم وزنهما في راحة يده، فأعاد الأخف منهما إلى جيبه مرة أخرى وحسب الأثقل -بتمهله المعهود عنه- أمامه وكرر الحساب مرتين، وضع المبلغ على الطاولة وهو يقول له:
– يا “ابن مهنا” سجل عندك عشرين ريالا، لحفر القبور والإصلاحات التي تحتاج إليها المقبرة من عند “ولد ماجد” عن زواج ابنته “مريم”.
يسجل ما يمليه عليه، ثم يلمحه “ولد حاضر” وهو يركز عينيه على حركة القلم في يده وتقاسيم وجهه تتمنى لو أنه تعلم الكتابة والقراءة وفك طلاسم الحروف، واستغنى عن خدماته. ولكنه في لحظتها يستجيب لحركة اليد الممدودة بالصك إليه، يبصم في الكتاب ويوقع “ابن مهنا” خلفه، ثم يحضر له صندوقا فضيا صغيرا، وقبل أن يعالجه بالمفتاح الذي معه يسأله سؤاله المعتاد:
-كم أصبح لدينا؟
لا ينتظر إجابة “ولد مهنا” وهو يتظاهر بقراءة المبلغ المدون في الدفتر. يفتح الورقة التي يحتفظ بها في جيبه ويقول:
– ثلاثمائة ريال، وسندفع منها بعد شهرين للعمال مبلغا لتجديد سور المقبرة الذي أثرت فيه السيول الأخيرة.
يأمره بكتابة المبلغ الأخير في ورقته ويعيدها إلى جيبه، ولا يرفع عينيه عن الصندوق الفضي حتى يراه يحمله ويعيده إلى الخزانة الصغيرة في الدكان ثم يخبره بأمر واضح كما أمره سابقا في أمر “سعادة”:
– احمله إلى بيتك .
3 – صك عتق
كان يستغرب مما يفعله “ولد حاضر” من جمع المال بهذه الطريقة وهي طريقة احتاجت إلى اجتماع ترأسه الوالي نفسه وتكلم فيه “ولد حاضر” بحماس شديد، حتى خرجوا من تحت السبلة العامة وهم مقتنعين بدفع تلك العشرين ريالا عن كل شاب يتزوج وكل فتاة تتزوج، وغالبا ما يتم استقطاع المبلغ من المهر المقدم. ويشترط أن يخصص ذلك المبلغ لحفر القبور وصيانة المقبرة.
لكن “ولد مهنا” لم يفهمهم، كيف ربطوا الأمرين المتناقضين ببعضهما البعض، فأصبحوا يستقطعون من أموالهم التي يدفعونها للفرح والزواج حتى تكون ذخرا لهم في مماتهم. فكان في أوقات فراغه والأوقات التي يسأله فيها “ولد العسال” عن مسألة فقهية جديدة يحدث نفسه:
-أدهشني فكر “ولد حاضر” كما شغلني أمر “ولد العسال” بدرجة توازي انبهاري بذلك الجمال السرمدي لـ”سعادة”، فكنت أترك كل شيء حولي تقريبا وأغلق دكاني لمدة يومين أحيانا، وأصبحت أختلي بنفسي كثيرا لأجد الفتوى القريبة من إجابة سؤال “ولد العسال”، وأتأمل في تركيب عقل “ولد حاضر” ثم يأخذني فكري فأفتح الصندوق الذي أحتفظ فيه بالأوراق والدفاتر وأتأمل الصك الأول ثم بقية الصكوك التي أملاها عليّ “ولد حاضر” في أمر “سعادة” والتي أودعت نسخا منها في كتاب الصكوك والبيوع فأقبّل اسم “سعادة” وأضمه إليّ كشيء نفيس وقريب من قلبي.
أما “سعادة”، كما أتذكرها جيدا في ذلك اليوم، فقد كانت تجلس على يساري وهي تشعر بانقباض تظهر خلجاته على تقاسيم وجهها الجميل، وترسل بيني وبين “ولد حاضر” نظرات قلقة وحائرة، وتمسك بيد ابنتها التي كانت تناديها باسم “أمينة”، وكأنها تخاف من أن تهرب منها أو أن تنسل من المكان دون أن تشعر بها، بينما يجلس “ولد حاضر” أمامي مباشرة وابتسامة كبيرة تلف وجهه ويقول لي آمرا:
-اكتب مثلما أخبرتك، لا تغير شيئا، فهي حرة والحر لا يستعبد أبدا.
قربت الورقة منه فطلب مني أن أعيد عليه ما كتبته فيها حتى لا يوجد مكان للشك في قلب “سعادة” فقرأت على الحاضرين بتمهل:
(أشهدني وأقر عندي “حمد بن حاضر” أن مملوكتيه “سعادة” وابنتها حرتان وعتيقتان لوجه الله تعالى وذلك طلبا لما عند الله من الأجر والثواب ولاقتحام العقبة وفك الرقبة وأن يعتق الله عنه بكل عضو منهما عضوا منه من النار ولا سبيل لأحد من ورثته من بعد موته عليهما وليعلم أن من يقف على هذا البيان بتاريخ 17 من ذي الحجة، وبوجود شاهدين موقعين في أدناه أن كاتبه على صحة من جسمه وثبات في عقله، كتبه الفقير إلى ربه “محمد بن مهنا “).
وضع “ولد حاضر” رأس إبهامه على ذيل الورقة وبصم عليها وكتبتُ فوقه اسمه ووضع الشاهدان بصمتيهما بجانبه. وفعلت معهما كما فعلت معه.
هدأت نفس “سعادة” قليلا، رمشت العينان العسليتان الآسرتان وغرقت المقلتان الجميلتان في لجة من الدمع زادهما بهجة وحلاوة، وزاد توهج وجهها الأبيض المستدير وحملت جسد ابنتها الصغيرة ووضعته فوق ساقيها المثنيتين في جلسة لم تغير هيئتها أبدا.عندها، دست الصغيرة رأسها في صدر أمها وغفت. ظلت “سعادة” على تلك الهيئة برهة من الزمن وكأنها لا تصدق أن الزمن يمكن أن يجود عليها وعلى ابنتها بذلك الكرم مرة واحدة. ثم قامت حاملة طفلتها وأخذت الورقة من “ولد حاضر” ودستها بين ثنايا ثيابها وقلبت رأسها شاكرة وأومأت إليه بامتنان، وانحت لتقبل يد “ولد مهنا” فسحب يده بسرعة من بين يديها، فشعرت أن ضوءًا من عينيها اخترق داخله بعنف، وصوت الخلخال في ساقها سكن قلبه.
أما “ولد حاضر” فقد كان بئر أسرار عميقًا، فلم يخبر أحد في الحلة من أين اشترى “سعادة” ولا كيف، وهي المرأة الحرة. وأشعر “ولد مهنا” بعدم رغبته في طرح الأسئلة في موضوع “سعادة” وذلك من خلال الصمت التام حتى في زياراته التالية لدكانه ليستكمل الصكوك الأخرى التي خص بها تلك المرأة وحدها. وحتى بعد أن جرفها الوادي الأحمر وقف بعيدا عن الجموع ثم غاب عنها دون أن يتفوه بكلمة، كما فعل “ولد العسال” بعد أن سمع الفتاوى للمسائل التي شغلته قبل وبعد أعوام “الحصيني”.
أما هو فقد بقي لسنوات يسترجع في نفسه كيف زاره ولد “حاضر” وكانت “سعادة ” تسير خلفه مثل ظله ولا تحيد عنه خطوة واحدة، امرأة بوجه أبيض مستدير تسير بشبابها الفاتن وصوت خلخال مثير خلف رجل عضته السنون ولم تبق منه إلا نظرا ثاقبا وسيرة عطرة في فعل الخير، وكيف غابت وانقطعت أخبارها عنه زمنا فلم يعرف مصيرها إلا يوم رآها ممددة على حافة الوادي الأحمر، وكيف أنه شهق بلا وعي منه حتى سمع الناس شهقته تلك والتفتوا إليه. فغض الطرف عنهم وترك المكان.
4 – الوادي الأحمر
قبل أن تبدأ أعوام “الحصيني” معهم بخمسة أعوام كاملة.
سال الوادي ومعه سالت أشياء كثيرة واختلطت ببعضها البعض.
جاءهم الماء الهادر بجسد امرأة بعيون مفتوحة وفم مغلق.
في بداية الأمر أنكروا معرفة صاحبة الجسد، وتركوها مغطاة على حافة الوادي.
لاحقا اشتكوا أن هذا الوادي تحديدا غير من لون مائه في هذه المرة وجاءهم بمياه لونها أحمر، وخافوا أن تكون هنالك أجساد أخرى ستأتي تباعا؟ ولكنهم سكتوا عندما اشتموا في الماء رائحة الطين الأحمر الذي كانوا يعرفونه ويحتفظون برائحته في ذاكرتهم منذ سنوات بعيدة. سمعوا صوتا من بعيد يتكلم بهمس متقن تم نقله بسرية كاملة إلى النساء الحاضرات فصرخن بلوعة:
– سعادة .
– هذه المرأة التي يسمونها “سعادة” والعلامة الظاهرة منها عيناها العسليتان، والتي كانت تعرف بهما.
– ربما جرفها الوادي بغتة وهي ساهية ترعى أغنامها.
تنفسوا الصعداء قليلا ثم استغربوا للمرة الثانية من أن تنقل قوة الماء الناس الساكنين في أعلى الجبل حتى يصلوا إلى أسفله، فيما تجادلت النسوة حول ما إذا كان الوادي سيظهر جيف أغنامها عندما تقل سطوته ويهدأ تدفقه.
– ربما زلقت قدماها عند مجرى الماء الذي كانت تحبه دائما.
ولم يعرف أحد أن “سعادة” اعتنقت هذا الوادي الأحمر طائعة بعدما كانت تنتظره سنوات وتحسب له حساب الأفلاك والنجوم، تاركة خلفها:
مرعى أحوى.
وخرفانًا عجفاء.
وطفلة صغيرة ممسكة بعصا خضراء.
صك عتق رقبة.
خلخالا من ذهب.
وعينين ينضح منهما العسل كلما رمشت بهما أو سكن لحظها في ذهول.
الهوامش
* فصل من رواية .
والحصيني: الثعلب في لهجة أهل عُمان.
المسترة: قماش سميك تغطى به عورة الميت.
يقصد به الوقت الذي يسبق تشييع الجنازة.