«تونسي يبلغ من العمر 39 سنة، رجل أعمال حسن الأخلاق والسمعة، أبيض البشرة، يريد التعرف قصد الزواج على فتاة جميلة الوجه، طويلة القامة، متوسطة الثقافة، صغيرة السن (25 سنة أقصى تقدير) مخلصة، تقدس الحياة الزوجية، تحسن القيام بشؤون المنزل والاستقبالات، تقبل الإقامة معه في مكان عمله لا يهم إن كانت أرملة أو مطلقة.»
ظلّت المجلة بين يدي «زهرة» فترة طويلة وهي تقرأ الإعلان وتعيد وتردد في شبه هذيان.
ـــــ«رجل أعمال… رجل أعمال كبير… هذا هو الرجل الذي أبحث عنه… وهذه فرصة العمر التي يجب أن لا أضيّعها… »
ثم سرحت فالتمع الربيع في عينيها مقتحما فصل السحب السوداء والحياة الداكنة… طاردا شبح البؤس والحرمان اللذين عانت منهما طيلة حياتها مع زوجها السابق ومع أبويها من قبله…
عاودها حلمها وتوقها إلى معاطف الفرو وقفازات الحرير… والذهب والألماس… وعطور أف سان لوران… وأزياء بيار كردان…
ظلت زهرة تعيد النظر في الإعلان وتعيد النظر في نفسها.
ـــــ«الحمد لله أنني لم أتجاوز الخامسة والعشرين وأنني أنقذت شبابي من ذلك»الفاشل «قبل فوات الأوان وقبل أن يزهد في «رجال الأعمال»..
«رجال الأعمال» لا يحبّون إلا النساء الشابات كأنهم يريدون جمع المال والشباب والشهرة في قبضة واحدة… معهم حق يجب أن أنقذ شبابي من الفقر أنا أيضا وأتمتع بحياتي خاصة إذا كنت «جميلة» «طويلة القامة» كما يريدني «رجل الأعمال» تماما…
ثم اتجهت نحو المرآة متحسرة :
– «كل هذا الجمال والقوام كان مهدورا مع ذلك «البائس» الذي لا يقدر شيئا من محاسني… سيعطيه «رجل الأعمال» درسا في تقييم الجمال عندما يقدّم مهري مثقال وزني ذهبا وفضة بل ذهبا وجوهرا… سأدعوه إلى حفل الزفاف حتى يشهد ذلك بل إن الإعلان ليعدّ درسا في حدّ ذاته، لقد حسم رجل الأعمال الأمر وفهم اللعبة عندما اشترط :«امرأة طويلة القامة متوسطة الثقافة» فالثقافة ليست سوى شقيقة البؤس والحرمان، الحمد لله أن لم تدركني هذه المحنة، يكفيني ما عانيت بسببها عندما تزوجت ذلك المعلم وضيّعت معه خمس سنوات من عمري بعثرني فيها من ريف إلى ريف… تزوجته أملا أن يصبح أستاذا لعلّ راتبه يرتفع ثم علمت فيما بعد أن وضع الأستاذ لا يختلف كثيرا عن وضع المعلم بالنسبة إلى من يتقاضون أضعاف رواتبهم في صفقة واحدة هؤلاء ممن امتهنوا المشاريع الحرة وسحرهم ربحها وفهموا سرّ النجاح في الحياة … بعدما غادروا مقاعد الدراسة مبكرا…
لعلّه يخاف أن أكون «معلّمة» أنا أيضا أسهر مع أكوام الدفاتر، محنية الظهر، مرهقة الوجه، كما أصبحت حال زميلاتي ممن واصلن دراستهن كالدّابات يتآكلن ببطء وينقرضن في صمت بسبب داء ما يسمّى بـ«محنة الثقاة» عافانا وعافاكم الله… لا ! اطمئن يا أخي فانا معدومة الثقافة تماما…
حفظ الله «رجال الأعمال» وأيامهم ولياليهم وسهراتهم وحفلاتهم واستقبالاتهم من هذه «المحنة» فأنا لم أفارق حياة البؤس إلا من أجل هذه الليالي الساحرة…».
لقد ازدادت «زهرة» إقتناعا بموقفها عندما نفضت يديها من الزوج المعلّم المعتصم بالأرياف خوفا من المدن وغلاء معيشتها… بعدما تأكدت أنه لن يستطيع توفير رفاهية أيامها وتأمين شبابها عند دور التجميل ودور الأزياء واصطحابها إلى مدن العالم الصاخبة…
إنه لا يستطيع أن يوفر لها غير الشمس الحارقة أيام الصيف تسوّد جلدها والرياح والبرد أيام الشتاء تجفف بشرتها وتبتعد بها عن عوالم النعومة والرفاهة وتشعرها أكثر فأكثر بهدر شبابها وضياع نضارتها بين أقفار الريف النائية …
لقد ضاقت زهرة بجلدها وببؤسها الذي عشّش فيه كالدود مدّة خمس سنوات ينخره نخرا لم تعد تحتمله، حتى كانت تلك الليلة التي هبّت فيها من فراشها كمن مسّه هوس الثراء فجأة وأراد أن يقطع أوصال الفقر بأحدِ سكين، صرخت في وجه زوجها تلك الليلة:
ـــــ«لن أتحمّل فقرك بعد اليوم…؟ يكفي ما قاسيت معك… حتى نفيت وحرمت من اجلك .أنت إنسان فاشل … كم توسطت لك كي تصبح «رجلا»؟ وكم فعلت من أجل إدخالك عالم رجال الأعمال الحرة والمشاريع المربحة، الممطرة ذهبا؟ … لكنّك خائف متشبث بوظيفتك متعلق بها كما كنت ولا تزال متعلقا بفستان أمك… كم زينّت لك حياة الرفاهية والنعيم والمال الوفير ولكم لفتُ انتباهك إلى المشاريع التي تقام هنا، حولنا في الريف: من مداجن وتربية أبقار… وأغنام… لكنك تعشق حياة البؤس والفقر….
– «يا امرأة أعقلي! أنا معلم مالي وتربية الأبقار والأغنام والدواجن…
ألا تعلمي ما قاله شوقي في المعلم ؟
– ـ«ماذا قال ؟»
– «قال كاد المعلم أن يكون رسولا ؟»…
– «رسول ؟ الرسول كان تاجرا ولم يكن معلّما… أمّا أنت فستظل معلّما وتموت معلّما… مجرد معلم هل أنت أحسن من «فرج» ابن خالتي الذي تخلّى عن وظيفته واشتغل سائق تاكسي ثم سرعان ما أصبحت له سيارته الخاصة وهو يدير الآن أكبر شركة سيارات أجرة تعمل في مختلف ولايات الجمهورية، ليتني تزوجت ابن خالتي !…. لكني لم أكن أعرف أنه سينقلب إلى هذه الحال! … إنه الحظ الأعمى الذي لا يعرف كيف يقسّم الأرزاق ! هل زوجته أحسن مني ؟ … تلك «الفحمة السوداء» التي أصبحت صفراء من فرط ما أغرقها ذهبا… إنك تكاد لا تعرفها من فرط الثراء الذي أصبحت عليه… بل قل إنها لم تعد تريد أن تتعرّف علينا بعدما انتقلت إلى «قصر سكره» بعد ذلك البيت الحقير الذي كانت تسكنه بحي «الملاسين».
– «حقا إنك لامرأة ساذجة ! هل تعتقدين أنه أثرى هذا الثراء الفاحش وانقلبت حاله بين عشية وضحاها بفضل سيارات الأجرة ؟ … لو تعرفين ما يهرّب في هذه السيارات داخل البلاد وخارجها لأنكرت أنت التعرّف عليه ! »
– «تلك إشاعات ! يروّجها حسّاده وأعداؤه وما ذلك سوى منطق الفقر والحرمان يتكلم على لسانك… أنا لا يهمّني كل ذلك ! … المهم زوجته ! … ماذا تلبس؟… كيف تعيش ؟ ما تقتني من ذهب وجواهر…؟ … ذلك منطق العصر… وذلك ما يراه الناس وما يقيّموننا به … ولنفترض أن ما تقوله صحيح فإن أحدا لن يتجرأ على المجاهرة بذلك أمام رهبة ثرائهم وقوتهم ومكانتهم… »
– «أنا أستطيع أن أواجههم بذلك وأمامك! »
تصفق زهرة :
– «برافوا إنك فعلا لبطل ! شجاع و همام ! إيه وبعد ذلك ؟ ستعيد هذه القصة على تلاميذك وتحكيها لدراويش القرية… ليلتف كل فقرائها ومحروميها حولك … وتصبح أسطورة ! … ماذا استفدت أنا ؟ … أنني متزوجة من عنترة بن شدّاد ؟ … ما أتعسني وما أتعس حظي الذي بلاني برجل فاشل مثلك …»
– «أنا لست فاشلا كما تعتقدين أنا الذي اخترت أن أكون معلما واخترت وجوه الأطفال الأبرياء … واخترت الريف… وأشياء أخرى لا تفهمينها …»
تضرب زهرة كفّا بكف وتفتح فاها وقد جفّ حلقها :
– «أنت الذي اخترت إذا ؟ …آه ما أشد مصيبتي ! لو قلت أنه قضاء وقدر لهان الأمر … لكنه اختيارك يعني أنك اخترت الفقر والبؤس طول حياتك … الآن نفضت يديّ منك ! … لم يعد هناك ما أنتظره منك !… اذهب إلى أطفالك الأبرياء … الآن فهمت لماذا كلّما عرضت عليك مشروعا وحاولت أن أوفر لك رأس ماله رفضت…
– «أنا لا أدخل في مشاريع فردية لا أعرف مصدر تمويلها… ولا أصرف مليما إلا إذا كان من عرق جبيني…
– «أتشكك بشرفي أيها الفاشل ؟ طلقني إن كنت رجلا ! طلقني …»
لم تكن «زهرة » تهدّده أو تنغص عليه حياته ككل مرة فبعد بضعة أشهر تمّ الطلاق….
٭ ٭ ٭
تركت «زهرة» الريف ورجعت إلى المدينة تزيح عن عينيها دخان الأيام الظلماء وتعد النفس بأجمل أيام العمر التي لم ترها…
وبدأت رحلة البحث عن «السبع» الذي سيقدم لها الدنيا لقمة سائغة… كانت المدينة تعبث بشهواتها ورغباتها، تزيّنها لها حينا وتطمّعها بها حينا آخر…وتحبطها في كثير من الأحيان… فيلتهب جنون البحث داخلها وينهض خوفها ورعبها على شبابها جلاّدا سيقصف عمرها دون مبالاة «بجمالها» أو «بقوامها» ولكنها كانت تركل كل تلك الأعوام وراءها وتعزّي النفس قائلة:
ــــــ«من الأفضل أن يخسر الإنسان بعض سنوات من عمره على أن يخسر العمر كلّه!
مازلت شابة وجميلة، نظرة وذكية أعرف كيف الوصول إلى قلوب الرجال «الرجال» لا أشباه الرجال…
يقع بصر «زهرة»مرة أخرى على المجلة كأنما يقع على كنز … أو كأن باب العرش انفتح فجأة أمامها وقد كتبت عليه جملة «رجل الأعمال» بأحرف من نور … تتلألأ أمام عينيها تلألؤا يملأها فرحا وتفاؤلا… ويضيء طريقا ظنت في كثير من الأوقات أنها انسدّت أمامها… تمتد الطريق أمامها فسيحة معبّدة، بقي على «زهرة»أن تعرف كيف تقيس خطواتها فحسب مستفيدة من كل العثرات السابقة…
تذكرت «زهرة» تجاربها السابقة … وتذكرت «البشير» الذي عرّفتها به «وردة» جارتهم «بحي التضامن» «وردة» التي كانت تستعين «بزهرة» على شغل البيت وحراسة الأطفال أثناء غيابها واعدة إياها بابن الحلال الذي لن يأتي إلا على يديها… فكم توسطت وردة «لبنات وأبناء الحلال» مستغلة معارف زوجها الكثيرة وخاصة منهم أصحابه في المهجر وترددهم الدائم على بيتها الذي يكاد لا يخلو من الزوار أبدا…. وهي لا تريد أن تسد أبواب السعد في وجه أحد … ولا ترجو من وراء ذلك جزاء ولا شكورا فثوابها عند الله . أما العبد فهو كفور جحود بنعمة ربه «يأكل الغلّة ويسبّ الملّة» كما تتعمّد أن تسمع بعض جاراتها…
وفي يوم من الأيام دقّت «وردة» «باب دار» «عم مهدي» ونادت «زهرة» وهمست لها من العتبة .
ـ- «الليلة عندنا ضيوف قادمون من إيطاليا أصحاب «عمك رجب» دعاهم إلى العشاء… قولي لأمك أنك ستساعدينني في الطبخ وتعالي…
في المطبخ أسرت لها أن أحد الضيوف واسمه «البشير» جاء من أجل أن يتزوج ويعود بعروسه إلى إيطاليا في ظرف أسبوع … لقد ملّ حياة الغربة والعزوبية … «يحب يستحسن»… وبما أن الوقت قصير فقد طلب منّا أن نساعده فقلت في نفسي «الماء اللّي ماشي للسدره الزيتونة أولى به ! …..»
في السهرة وأثناء العشاء أبدى «البشير» وهو شاب أسمر ووسيم اهتماما متزايدا «بزهرة» حتى أن بعض أصحابه مازحه قائلا :
ـ- «هنيئا لك يا أخي لقد وجدتها في ليلة بينما نحن نقضي العمر كلّه في البحث عنها دون جدوى !»
لم يبد على البشير أي حرج بل اغتنم استفزاز صديقه ليعلن أمام الجميع خطبته «لزهرة» وليطلب من «وردة» أن تذهب من الغد وتخطبها من أهلها بما أنه يتيم ووحيد .
كادت «زهرة» تجن من الفرحة وكذلك أهلها الذين لم يترددوا في الموافقة على هذا الزواج «البرقي»
قالت زهرة لبنات جيرانها.
– «هل تأكدتن الآن أنني لم أخلق للرّيف وأن نجمة السعد قد نادتني من إيطاليا…»
فمازحتها إحداهن قائلة :
– «ادعي ربك أن لا ينفيك هو الآخر في إحدى قرى إيطاليا….فليس كلّ المهاجرين يسكنون» روما «و» ميلانو «ونابلي» كما يدّعون دائما…. ».
أجابت زهرة :
ـ- « حتى لو كان الامر كذلك فأنا أفضل أية قرية في العالم على «سيدي حسين» تلك القرية التي دفنت فيها أجمل أيام شبابي…
تصوري أننا عشنا خمس سنوات دون كهرباء أما الماء فمازال الناس هناك يستجلبونه بواسطة «القرباجي١» لحدّ الآن … ».
يوم الخطبة أهدى «البشير» إلى «زهرة» خاتما وسوارا من الذهب قال أنه استجلبهما معه من إيطاليا…
بعد ذلك ظلّ يأخذها كل ليلة معه للسهر خارج البيت في فنادق عديدة بنابل والحمامات وسوسة…
عندها اكتشفت «زهرة» عالم الفنادق والسهر والديسكو … واكتشفت أيضا أن «البشير» يسكر حتى الثمالة ويعربد ولا يتورع عن مغازلة النساء أمامها… وهناك اكتشفت أيضا «خطيباته» الأخريات…
أما في بيت «وردة» فقد اكتشفت زوجته الحقيقية، ابنة عمّه التي جاءت من أقصى الجنوب تبحث عنه…
لم تكن زوجته تعبأ بقصة نزواته وعربداته مع النساء الأخريات بقدر ما كانت مهمومة بقضية الصرف على أولاده السبعة الذين تركهم في عهدتها دون إعالة … كانت تتوسّل «وردة» أن تتوسط لديها عنده وترقق قلبه على أولاده وتذكره بهم بعدما يئست من ملاحقته عبر المحاكم… وعجزت عن تسديد نفقات الشكاوى والمحامين والعدول المنفذين التي تحتاج إلى ميزانية خاصة تفوق «النفقة»التي تطالبه بها والتي يتحايل في عدم تسديدها ويتحجج بالبطالة …
ابتعدت زهرة عن «البشير» بعدما أقسمت أنها ستنتقم منه يوما ومن كل الرجال لكنها اليوم والمجلة أمامها لا تفكر في الانتقام بقدر ما تفكر في التعويض عن الحرمان إنها في الحقيقة مشغولة الآن بقضية «لقاء رجل الأعمال» الذي تعتبره أكثر من مجرد موعد للتعارف إنه رهان خطير لا بد من الفوز به في سباق الألف امرأة وامرأة … وهو عناد كبير مع القدر الأحمق الذي لا يعرف كيف يقسّم الأرزاق ……
كانت تردّد بتحدّ.
– «يجب أن أكون أنا الأجمل … والأقدر على سحره… ثم أردفت بتوتر :
– «ومع ذلك أشعر ببعض الحيرة والارتباك… إني في حاجة لمن يساعدني .. بل إني في حاجة إلى زيارة صديقتي وفاء ./.
٭ ٭ ٭
تخلصت «وفاء» من حقائب السفر بمجرد دخولها بيتها الذي غادرته منذ أسبوع … اتجهت مسرعة إلى غرفة نومها وألقت بنفسها على فراشها وقد اشتاقت إلى دفئه … أما نبيل فقد اتجه مباشرة إلى غرفة الحمام ملأ الحوض ماء فاترا وأسلم الجسم إلى دفئه… فها هي مدينة اسطنبول تقتحمها من جديد وتلاحقها حتى بلدها… حتى بيتها… وهي تبدو سعيدة بذلك منتشية … لا تكاد تغمض جفنيها حتى تزدحم الصور مشوشة ملونة … متداخلة … زاهية… ساحرة… أمام عينيها… تحاول أن ترتبها… «التوب كابي» جامع السلطان عبد الحميد … البوسوفور… جسر كمال اتاتورك المراكب التي تروح وتجيء بين ضفتي النهر : هذا الرواق المائي الذي يفصل بين الشرق و الغرب او يصل مابينهما و تركيا الحائرة بينهما ….القوارب التي تحمل الركاب على بساط الماء الأزرق… متمايلة مع تعرجات الموج. .. المطاعم التي تحف بالنهر، تكاد تنزلق في مياهه… رائحة السمك المشوي الخارج لتوّه من البحر فوق جمر عربات الباعة … الحمائم المعششة في البنايات… المنتشرة فوق الأرصفة … وهما يرميان لها الحب … ويد حبيبها التي لم تفارق خصرها طوال نزهاتهما… كانت هذه الصور تتراقص أمام عينيها على صوت خرير «الدش» الذي ينسكب على ذاكرة نبيل فينعشها ويحيي ذكريات مازالت طريّة نظرة … تقتحمه هو أيضا … تأخذه من يده وتعود به راكضة إلى حيث كانا وحيث قضيا أجمل أيام العمر معا..
في هذا الجو الطافع بالذكريات يرن جرس الباب فجأة .
يعتري «وفاء» استغراب… أما نبيل فلا يبدو عليه أنه قد سمع شيئا… تفتح الباب تفاجأ بزهرة .
– أهلا «زهرة» كيف عرفت أننا عدنا ؟ لقد اشتقت إليك .. تفضلي … أنت محظوظة، لأننا لم نصل إلا منذ عشر دقائق فقط … كيف حالك؟….
– «إني بحاجة إليك… لدي مشروع هام أريد أن آخذ رأيك فيه….
– «خير إن شاء الله ! …. »
– «قبل ذلك ماذا جلبت معك من تركيا ؟ … هل أتيت بالذهب والجواهر؟…
تضحك وفاء
– «الذهب والجواهر ؟ صدقيني أنني لم افكر في ذلك… »
– «رغم أنني أوصيتك قبل الذهاب وألححت عليك … ألا تعرفين أن أية قطعة الماس من تركيا لتساوي أضعاف أضعاف ثمنها هنا…؟»
– «الماس ؟ … تعالي … تعالي اجلسي…. فعلا إن لدي أشياء تساوي الالماس سأريك إياها…
تفتح «وفاء» حقيبة السفر وتخرج منها ألبوم صور.
– «أنظري هذه القبة العظيمة والمآذن المحيطة بها كالحراس… إنه جامع السلطان عبد الحميد. تركيا بلاد كلها مآذن، قباب وجوامع… لا تشعرين فيها بالغربة أبدا إنها امتداد لحضارتنا… انظري الحمام يحط فوق أكتافنا… أرأيت نبيل كم هو سعيد؟ … »
– «نعم ولاحظت كم أنت متألقة أيضا … دعيني أقول لك بالمناسبة أنك ازددت جمالا ونضارة في هذه الرحلة … »
– «فعلا ! لقد استمتعت بها أكثر من أية رحلة أخرى فالسفر مع رجل نحبه له طعم آخر … أنظري هذه الصورة إنها …
تقاطعها زهرة
– «جميلة جدا أتركيها لما بعد… سنتفرج عليها في مناسبة أخرى .. . الآن اسمعيني جيدا .. لقد أتيتك من أجل مشروع هام…
– «آه مشروع ذهب وجواهر … قلت لك مائة مرة يا زهرة أن ليس لي باع في هذه المشاريع… »
– «لا اطمئني إنه لا يخصك أنه يتعلق بي … وإن شاء الله يأتينا من ورائه ذهب وجواهر كثيرة … »
– «ما هو هذا المشروع ؟ لقد اثرت حيرتي …»
– «إنه مشروع زواج»
– آه … يبدو أنك تعرفت على رجل «ثري» بعد سفري .
– بل «وقعت» على رجل مهم… سيغيّر كل حياتي
– «هل اتفقتما ؟…»
– إننا لم نتفق بعد ولم أتعرف عليه … جئت ….
تقاطعها وفاء
– «إنها خطبة تقليدية إذا ؟ … رجل بعث أمه لأنه فشل في إقامة علاقة مباشرة مع امرأة».
– «بالعكس إنها ليست خطبة تقليدية، إنها خطبة عصرية جدا … المشكل إنه لم يطلبني بصفة خاصة… لقد كتب إعلانا في المجلة … ضمّنه شروطه … أخاف أن تسبقني إليه أخرى أو أخريات…. من يدري ؟ الرجل مهم جدا إنه رجل أعمال… لذلك يجب أن أسرع . الحقيقة اني محتارة لا أدري كيف أتصرف وسط هذا السباق الخطير.
-»أرني الإعلان لأتعرف على صاحب الحظ السعيد الذي جعلك في حيرة من أمرك .
– «خذي المجلة إقرئي..»
تلقي وفاء على الإعلان نظرة فاحصة ترفع رأسها نحو زهرة :
– «قد قرأت النداء» يا نساء العالم تزوجنني !
– «لا تمزحي فالأمر جد هام بالنسبة لي … إنه مشروع العمر إنه رجل أعمال ألا تفهمي ؟…
– «أخاف أن يكون هو الذي يمزح …»
– «لا أظن … ليس في الأمر ما يدل على المزح إن شروطه جديّة …
– «طيّب ! إذا كنت مقتنعة إلى هذه الدرجة ردي عليه وعبري له عن رغبتك في الزواج منه وحظا سعيدا…
– «ليس الأمر بهذه البساطة … إنه سباق كبير … »
تضحك وفاء .
– «فعلا إنه سباق كبير و«خطير» … كرنفال مثير أو مهرجان من العارضات المتسابقات الطريف فيه ان لا واحدة ترى الأخرى … »
– «إني أراهن على اللقاء الأول …. أريد أن أدخل السباق بقوّة …. وقد ضمنت الفوز به … الأمر كله يتوقف على الموعد الأول … يجب أن أكون في أتمّ زينتي … وفي أحلى مظهري … في أفخم فستان… وفي أجمل تسريحة …
لكن يضايقني أن نلتقي في الشارع هل تسمحين أن نلتقي عندك؟…
تستقيم وفاء في جلستها وتواجه زهرة:
– «من أدراك أن هذا الرجل لا يريد التسلّي بالنساء … أنا أستغرب لجوء رجال الأعمال إلى مثل هذه الأساليب في الزواج…الذي أعرفه عنهم أنهم كثيرو العلاقات لا تنقصهم المناسبات أو الفرص للتعارف والالتقاء بالنساء … »
– «ولم لا تقولين أنه رجل أعمال مشغول جدا ليس له الوقت لاختيار شريكة حياته؟…»
– «لقد قذف لكن بكرة وترككن تتراكضن حولها… هل نحن في ملعب ؟ .
– «نعم الدنيا ملعب كبير … وإذا لم نحسن اللعب ركلتنا الأرجل … صدقيني يا وفاء لقد تعبت ومللت حياتي .. أنت تعرفين أن ليس لي مورد رزق أعيش منه. »
– «لماذا لا تشتغلين؟ … أنا مستعدة أن أساعدك وأبحث معك عن شغل».
– «إيه ماذا سأشتغل ؟ ليست لي شهادات ولا خبرة ثم حتى لو اشتغلت طوال عمري لن أصل إلى تحقيق ثروة رجال الأعمال… تصوري لو تقدمت بطلب لأبسط شغل لطلبوا منّي أعلى الشهادات وأرقى الكفاءات … مع خبرة عشر سنوات … من أين لي كل ذلك ؟ … كل الخبرة التي اكتسبتها تتمثل في ذلك الزواج السابق الذي لم أجن منه سوى تلك الوصمة التي تلاحقني … وتقفز كالعاهة إلى وجهي كلما تقدم أحد إلى خطبتي .. فها أنا أقع على الرجل الوحيد الذي أغمض عينيه عن عاهتي … ألم تقرئي شروطه ؟…
تلتقط المجلة مرة أخرى وتناولها إياها مشيرة إلى الجملة الأخيرة…هل تريدينني أن أفرط في هذه الفرصة… وأن أتوسل بقية الرجال حتى يتغاضوا عن هذه اللعنة التي تلاحقني… »
تمسك وفاء المجلة … وتواصل القراءة
«امرأة طويلة القامة متوسطة الثقافة، صغيرة السن» .
«ما هذه الشروط ؟»
تنطق زهرة :
– «لقد أعفاني من الشهائد وأشفق على شبابي من الإرهاق والتعب … بارك الله فيه … »
– ثم تقف متجهة نحو مرآة أمامها في غنج ودلال.
– «لماذا أتعب نفسي مادام الحسن والجمال والقوام كلها متوفرة والحمد لله …؟
تنظر إليها وفاء وتنظر إلى الشروط … وقد فقدت صبرها…
– مادامت هذه شروطه .. فدعيني أصارحك برأيي : صاحب الإعلان هذا سيمتص شبابك ثم يرميك بعدما تنضبين ويستبدلك بأخرى أكثر نضارة و شبابا …فالعملية كلها مجرد إعلان في الجرائد… وتأتي وفود العارضات … يختار واحدة ويحتفظ بالأخريات احتياطا . …
تضحك زهرة بمكر :
– «أتظنينني غبيّة إلى هذه الدرجة ؟ ولم أفكر في هذا الأمر ؟ … لقد حسبت حساب كل شيء ! لذلك أوّل ما سأقوم به حالما أتزوج منه هو ضمان مستقبلي…
– «أنا لا أفهم جيدا ؟ … هل أنت تبحثين عن شريك حياة أم عن دفتر شيكات ؟…
– «عن الاثنين معا ! …. »
– «أنا لا يمكن أن أشجعك على صفقة كهذه»
– «لماذا تسدّين الأبواب في وجهي ؟ …وتعاملينني كأنني ارتكبت ذنبا أو جريمة … ؟ هل أصبح الزواج خطيئة ؟ … هل خرجت عن المألوف ؟… هل خالفت التقاليد ؟ هل أنا أول امرأة تريد أن تتزوج رجلا غنيا ؟
أليس الزواج هو كل ما يريده المجتمع من المرأة ؟ فها أنا ذا أريد أن أتزوج ! »
– «بصراحة اسمحي لي أن أقول لك ان الزواج بهذا المعنى يصبح عهرا مقننا» .
– تغتاظ زهرة … تلتقط حقيبة يدها… تقف تريد الانصراف…
– «هل أنا عاهر ؟ إذ عبرت لك عن رغبتي في الزواج ؟ تتماسك «وفاء» لا يبدو عليها الغيظ ….
– «اهدئي يا «زهرة» اهدئي ! أنا لم أقصد إثارتك أو تجريحك وإنما عبرت لك عن رأيي بصراحة فنحن صديقتان مهما يكن …اجلسي … سأعدُ لك قهوة لذيذة أتيت بها من تركيا تعدّ ل الأدمغة وتهدّئ الخواطر .
– تهمّ وفاء بالخروج من الصالون يعترضها نبيل في الرواق
– مع من تتحدثين «وفاء»؟
– «صديقتي زهرة هنا
– أهلا وسهلا «زهرة» كيف حالك ؟
تسأله وفاء
– هل أعدُ لك قهوة معنا؟
– «لا تتعبي نفسك سأعدّها أنا لكما يبدو أن زهرة في حاجة إليك» تنبهر «زهرة»… وتبتسم وفاء:
– «نبيل إنسان رائع !
تضيف «زهرة»:
– «أتدرين ما تذكرت الآن ؟
لقد تذكرت زوجك السابق كيف كان يتضايق من وجودي ومن اختلائنا ببعضنا مازالت صورته أمام عينيّ إذ لا يمكن أن أنساها… أتذكّر كيف كان يجلس على الأريكة ويضع ساقا على ساق ويبدأ بإصدار أوامره كانه امير شرقيّ او سنيور من القرون الوسطى كان اسلوبه فجا في التعامل.
– «لم يكن يفعل ذلك امامك انت فقط لقد كان يتعمّد إهانتي أمام كل اصدقائي وأمام الأهل، خاصة أهله لكي يثبت لهم أنه رجل البيت وأن صوته هو الأعلى».
– «هل تتذكرين يوم وجدته خلف الباب يسترق السمع لحديثنا؟
– «لقد كان يخاف صديقاتي وعلاقاتي خوفا مربكا ولا يطمئن لأحد أبدا… ان أية حركة أو خطوة أقوم بها خارج دائرته تسقطه في دوّامه شك مدمّر … »
«رجل يسيطر على عقله كابوس الشك ويفتك به فتكا مشفقا»
مع كونه لا يعدم نفسه من «الأصدقاء» فهو يحيط نفسه «بعصابة» تتسّع رقعتها باتساع أملاكه وازدهار أمواله وتتقلص بكسوف إشعاعه في السوق ورداءة أحواله المادية».
تلاحظ وفاء أن زهرة قد شرد ذهنها بعيدا وغابت عنها… فكأنها تحولت إلى خط آخر ولم تعد تلتقط ذبذباتها الصوتية .
– «أين أنت ؟
تنتبه زهرة كمن مسّه الوعي فجأة :
– «ولكنه كان ثريا ثراء يسحر العقل. ما كان يجب أن تفرطي فيه ابدا مجنونة أنت ! مما كنت تشكين ؟ ماذا كان ينقصك ؟ كانت لك خادمتان وطبّاخ وسائق وسيّارة …
هل يمكن أن تفرط امرأة عاقلة في رجل مثله؟
كيف فرّطت في معمل الرخام والمزرعة والفيلا …..معذرة ما أنت سوى غبيّة.
هل يمكن أن يعثر أحد على كنز ثم يتركه ويمضي….. هذا جنون…خور… مازلت أذكرك كيف كنت ترفلين في الحرير في ذلك البيت الكبير… لقد كنت تعيشين عنده مثل أميرة…
– «ومع ذلك كنت أشعر بأنني أسيرة … أو دمية جوفاء… ولم تفلح كل مظاهر الثراء التي كنتِ تعددين في سدّ بؤرة الفراغ والخواء الذي استفحل في داخلي وأخذ يرتع في قفار الذات ويعوي مثل ذئاب الليل في غابات الصقيع الموحشة … كم كنت أشعر بالغربة … »
– «إنك غريبة وعنيدة … كل خلافاتك معه كانت بسبب الشغل أنا لم أفهم إلى حد الآن سبب إصرارك على العمل ؟ ماذا كان ينقصك ؟»
– «كان الأولى أن تتساءلي لماذا لم يوافق على الشغل أبدا منذ تزوجنا ؟
لقد كان يخاف أن أشتغل فأتحرر فيخصى . كان يستمد رجولته من انفاقه عليّ وعلى البيت ومن تبذيره… لم يكن يشعر «بتوازنه» إلا إذا أرعد وزمجر وبذّر وعربد …
-«كل هذا لا يبرّر تفريطك فيه !
– «ربما إنك لا تعرفين كيف كان يشعرني أنه صاحب الفضل علي وأنه وليّ نعمتي وأنه يستطيع أن يرميني في الشارع متى خالفت أوامره ومتى شاء…. لقد ازدادت إهاناته وكشرّت عن أنيابها بعد موت أبي.
– «اسمحي لي أن أقول لك أنك لست ذكية، لم تعرفي كيف تستغلين ثروته طوال مدة زواجك وتبنين مستقبلك وذاتك …».
– «ذاتي ؟ وهل بقيت لي ذات معه ؟ لقدكان يتفنن في طمس معالمها ويحاول إطفاء بؤر الضوء فيها حتى كادت تخمد تماما كما تخمد جمرات الموقد في الأيام الباردة … وكدت أضحى رمادا وهباء.. لقد كان قاسيا كيوم قارس وكنت أكّن له احتقارا لم أفلح في إخفائه رغم إغداقه علي …
ولكي أهرب من هذه الحالة دخلت متاهات دور الأزياء ودور التجميل… ورميت نفسي وسط مجتمع الصالونات المخملي لأنسى حكايتي بين حكايات النساء ثرثرتهن … وأخفي وجهي في وجوههن … وأعيش من خلال حيواتهن» المضيئة «كما بهرت بها أول الأمر ..»
كنت أسلّم نفسي لاختصاصيات التجميل ليتفنن في تجميل مأساتي … وليجربن عليّ أحدث الأقنعة وليلوّنني بألف شكل وشكل…. لكن ما كان أشد هشاشة تلك الأقنعة والأشكال ما كانت لتقاوم لحظة من لحظات اختلائي بنفسي ولحظة إغماض جفني … لتتساقط الواحد تلو الآخر… وتتركني لذاتي…
– «ماذا كنت تريدين أكثر من ذلك ؟ أن ذلك أقصى ما يمكن أن تطمح إليه المرأة .. لقد خرّبت حياتك بيديك …. هل يمكن أن تفرط امرأة عاقلة في كل ذلك العز والجاه… أنا لا يمكن أن اقتنع بذلك أبدا لا بد أن إحداهن قد «فعلت لك فعلا» لتخرب بيتك وتحل محلك»
– «بل قولي الحمد لله انني أنقذت ذاتي وشبابي من تلك المتاهات وإغراء الإغداق قبل أن ينخرني التعفن والفساد…
لقد كدت أنحرف أنا أيضا وأتحول إلى دمية …أتكاسل في الفراش صباحا…وأشرب القهوة على مهل، في دفء… أتفرغ للاستقبالات والزيارات … وأدمن وجهي في صفحة المرأة … كم تسليت بتأثيث ذلك البيت بعدما كان خاويا ؟ لكن من يؤثث خوائي ؟ ومن يحميني من مواجهة نفسي ؟ إذا سألتني من أنت ؟»
لقد خرجت من ذلك البيت الكبير بعدما تأكد لي انه أصغر من طموحاتي وأنه بكل ترفه ورفاهته لن يستطيع تحقيق ذاتي …
وفارقت ذلك الزوج بعدما تأكد لي أنه لن يستطيع أن يهدئ روعي ويطرد عني كوابيس السؤال التي تعكر عليّ نومي …
لقد تم الطلاق يوم تمرّد وجهي على القناع و رفضه
وواجهتني المرآة:
– «لست سوى شاة من شياه القطيع كل امتيازها أنها تتربع على أرائك المخمل»
– «ماذا أقول لك ليتني هذه الشاة التي تتبرئين منها»
يدخل نبيل وبيده طبق… تفوح رائحة القهوة … يشعل ثلاثتهم سجائر… تدخن وفاء ونبيل بشراهة وتدخن زهرة بقلق وتوتر…
يسأل نبيل زهرة عن أحوالها فتجيب وفاء
– «زهرة تريد أن تتزوج ! »
ترد زهرة :
– «هل في ذلك عيب ؟»
يجيب نبيل :
«لا ابدا ! هذا يتوقف على قناعاتك انا شخصيا لست ضدّ الزواج و لكن وفاء هي التي تصّر ان تبقى علاقتنا حرّة»
ترد زهرة :
«الحقيقة انا ليست لي شجاعة وفاء و جرأتها، هذه الحريّة تخيفني»
تحاول وفاء ان تبعث فيها بعض القوة :
– «تستطعين لو أنك اعتمدت على نفسك فأنت لست ضعيفة كما تتوهمين»
– «أوه أنا لست مثلك فأنت إنسانة مثقفة لك وظيفة محترمة في البنك ولك شهائد عالية أما أنا… »
– «ألم أقل لك أنه يجب عليك ان تشتغلي»
– «وهل أقول لك ثانية أن ليس لي شهادة»
يتدخل نبيل
– «وفاء تعتبر العمل شرطا أساسيا في علاقة الرجل بالمرأة وهي تردد لي دائما أنها لو لم تكن تشتغل لما قبلت العيش معي أبدا»
تعلق وفاء
– «إذا مُدت الأيدي انحنت وراءها الرقاب»
تطلق زهرة زفرة مثقلة بماضي أليم
– «إن ظروفنا لمختلفة جدا …. فأنت من عائلة ميسورة، لم تعرفي الفقر ابوك كان استاذ فلسفة في الجامعة . أما أبي فقد خانته اللغة فعاش على هامش» لعبة الكلام «و لكنه تمكن رغم ذلك من تبليغ الرسالة باقسى صمت وفي آخر لحظة من حياته عندما أخذه الفقر من بين عيوننا المعلّقة بالباب تنتظر عودة أمي بأجرة يومها وبالدواء … نحن الخمسة أطفال لقد استغل الفقر طفولتنا وسلب منا أبانا ولو كنا جاوزنا تلك السن بقليل لما تركناه يسرق «النفس الأخير» لما تركناه أبدا…
أمي كانت تشتغل بالمنازل منذ هدّ الدهر أبي ومازالت … ذهبت في ذلك اليوم لتعود بالنقود ولكن الموت كان يتربص بنا. ما أن خرجت حتى انقض على روح أبي… خرجت وتركت عيوننا معلقة بها يملأها بعض أمل… ولكنها عندما عادت وجدت خواء وفراغا بأعيننا… حينها أدركت أن القدر يستطيع أن يفقأ عيون الأطفال إذا قضي الأمر وأدركت أن سدّ هذا الفراغ الذي تركه الأب في عيون أطفاله يحتاج إلى دهر بأكمله…
كانت أمي في الثامنة والعشرين عندما مات أبي … لم تتزوج بعده أبدا بل ضاعفت من شغلها…
أما أخي الصغير فقد كان يحمل همّ صغر سنة طوال طفولته ويردد «يا الهي أريد أن أكبر بسرعة» وعندما تسأله لماذا يجيب:
– «لكي أشتغل وأملأ هذا البيت دواء … حتى إذا مرض أحد وجد الدواء جاهزا»
وعندما طالت عليه الأيام وتبلّدت الساعات وتكاسلت الثواني ضاق ذرعا بطفولته وقرر أن يشتغل قبل أن يكبر …
كانت أمي تريدنا أن نواصل تعليمنا تنفيذا لوصية أبي ولكن رغم ما فعلته معنا فلم يفلح فينا أحد، ورفضتنا المدارس الواحد بعد الآخر…. الحقيقة أننا لم نكن مولعين بلعبة تفكيك الكلمات وإعادة تركيبها ولا بأمر الاكتشافات والاختراعات ولم يكن يهمنا إذا كان «كريستوفر كولومبس» قد اكتشف أمريكا أو بلاد الواق واق بقدر ما كنا مهتمين بالبحث عن موقعنا من الأرض…. كما أن ذاكرتنا استعصت عن حفظ أسماء مخترعات «بستور» أو «كنساي» او «شرل نيكول» من أدوية بما أنها لم تشفع لأبي ولم تردّ له «النفس الأخير»
لقد تلقينا الدرس مبكرا جدا قبل أن تطأ أقدامنا عتبة المدارس التي لفظتنا بسرعة فتلقفنا الشارع بكل رحابة صدر «واحتضننا»… ولكننا لم نستطع طويلا مقاومة صقيع الأرصفة وقسوتها فتزوجت أنا وأختي حليمة ولم نكن نعلم أننا انتقلنا من فقر إلى فقر… أما الأولاد الثلاثة فإنهم يتقاسمون البطالة والتسكع والسجن.
– «ولكنك كنت أحسن حالا منهم جميعا فلم عدت إليهم ؟»
– «عدت إليهم لأنقذهم من الفقر والانحراف والسجن هل فهمت الآن ؟ لماذا أريد أن أتزوج رجل الأعمال هذا؟
٭ ٭ ٭
تحت ظل تلك الزيتونة الباسقة المتدليّة أغصانها حتى الأرض على منحدر الوادي بآخر كروم العنب كان الهادي المعلّم المعتصم بالأرياف يقضي أغلب أوقاته … يعود إليها منهكا بعد انتهاء الدروس كما يعود الطفل إلى صدر أمه بعد طول تشرد وغربة… يعود إليها وقت الظهيرة لينعم تحت ظلالها بالتهام كتب ماركس ولينين… يستمد منهما مستقبل هذه القرية البائسة الراشحة بكل أسباب الفقر والأوبئة والبطالة …
هذه القرية التي هجرها المعمّرون الفرنسيون مكرهين … تاركينها لأبنائها الأصليين الذين سرعان ما لحقوا بهم بحثا عن لقمة العيش وأشياء أخرى لا يبوحون بها «للأم الثكلى» … ولكنها تنفجر وتسفر عن نفسها هناك بعيدا عن عيون القرية في ليالي باريس الواعدة بكل الأحلام الممنوعة و المحرمة…..
لقد هاجروا أو هُجّروا بعدما تركوا ابناءهم أمانة في رقبة الهادي الذي تعهّد بأن يعلّمهم مبادئ النضال وأن يصنع منهم مستقبل القرية .
لكن الهادي لن يستطيع بناء هذا الجيل المجرور إلى صفوف المدرسة جرا المتكاسل على مقاعدها إلا بمزيد من التعبّد في «الغار» يستحضر أرواح ماركس ولينين ويستنطقهما بخصوص واقع القرية فيغدقان عليه بكرمهما المعهود . ليخرج متخم الفكر بتلك الأكلة الواعدة، العسيرة الهضم في أن واحد بالنسبة إلى تلاميذه على الأقل الذين رفضوها أول الأمر لا عن موقف فكري بل عن كسل ذهني ثم ابتلعوها ابتلاعا بسبب خواء أمعدتهم أو أدمغتهم …
وأحيانا يطل الهادي من وراء الوادي خارجا من «الغار» مترنحا ثملا تفاؤلا وزهوا بأرض القرية التي ستصبح جنة على أيدي الرفاق الذين يشكلون «كومنوتي» القرية ..
على المنحدر وتحت شجرة الزيتون يحلم «الهادي» بالثورة وينتظر عودة الرفاق المهاجرين … يحلم بجيش من سواعد أبناء القرية يهبّ راكضا في ثورة مجنونة مشيّعة بزوابع الغبار متجهة نحو العاصمة. لتهجم على الزمرة الحاكمة وتكمش أذيال البورجوازية المتحالفة معها بمساعدة الرفاق المبثوثين في الجيش، تقطع رؤوسها وتعود بها إلى القرية لتزين بها سورها.
كان ذلك ما تعاهد عليه و أبناء القرية منذ ايام الدراسة منذ ان كانوا يقطعون مئات الكيلومترات حفاة عراة الى المدرسة ايام الحرّ و القرّ …. و منذ «ثورة الخبز» التى «استشهد» فيها شقيقه المنصف و كثير من الرفاق …
في الايام الاخيرة استطاع الهادي ان يستجلب بعض الزملاء المدرسين معه الى «مقرّ الثورة» او «مكتب الثورة» كما كانوا يتندرون بتسمية شجرة الزيتون ….و قد اعطاه ذلك دفعا جديدا لمواصلة الكفاح و الانتصار على النكسات التى تعرضت لها الثورة….
والثأر لأرواح الرفاق الذين سقطوا يوم «٣ جانفي» يوم ثورة الخبز …..
لقد اصبح الهدف واضحا : الاستيلاء على «المطبخ السياسي» لتوفير الخبز لكل الافواه الجائعة
أما في الليل فتتبدل أحوال الهادي ويصبح محاصرا مطوقا بكلمات «زهرة»: «أنت رجل فاشل».. «أنت رجل فاشل»…
مهزوم ومعذب بكوابيس صوتها وقد ظنّ أنه تخلص منه بعدما طلقها… ولكن هيهات فها هو ينزلق في دوامة شك محموم يتردد في تجاويف نفسه كرجع الصدى :
– «هل أنت رجل فاشل يا «الهادي»؟ … أحق ذلك ؟ … ابعد كل هذا النضال؟ … والأجيال التي صنعتها؟… والرفاق الذين أدخلتهم في الثورة أفواجا؟ …..
مقصيُ ووحيد يستحث الذاكرة على مدّه بتاريخ كل الأبطال الذين دفعوا ضريبة عنادهم وإصرارهم وكفاحهم … وعبثا يحاول أن يقنع النفس أن صوت «زهرة» الذي يجلده في حلكته كل ليلة ما هو إلا تلك الضريبة اللعينة التي لا بدّ من دفعها لعبور بوّابة التاريخ ودخولها دخول المنتصرين الشامخين…
جثة أخيه المنصف الذي سقط أمامه في حوادث «٣ جانفي» تنهض كل ليلة عائمة في ساقية الدم تذكره بالثأر… تلك الساقية التي ما يكاد يغفو حتى يغرق فيها كل ليلة منذ أحداث ٤٨٩١ المرعبة .
لم يكن ليستردّ أنفاسه حتى يتمثل له «لينين» مُلثما ملتحفا ببرنس «أحمر» كي يستطيع أن يقطع القرية بامان ويصل إليه… يمدُ له يده وينتشله من ساقية الدم ساقية الكوابيس…
وفي ليال أخرى تكون يد أمّه هي التي تمتد فوق مساحات جسده تبسمل وترقيه… تحاول تهدئة الجسد النحيل المتصلّب كحزمة قضبان حديدية… كثيرا ما تتدخل «أم الهادي» بالصلوات على النبي وقراءة القرآن لفك ابنها من أيدي «الناس الآخرين» مستنجدة بأولياء الله الصالحين وبجدّها «سيدي بالحسن الشاذلي» تنذر الولائم والشموع لرجال البحر تتوسّل بهم ليفكوا ابنها من «تحت أيديهم» والله وحده يعلم تحت أي سلطة يقع الهادي المسكين «تحت أيديهم» أو «تحت أفكارهم».
تداهمه هذه الكوابيس كل ليلة على ترجيع نحيب القرية الغارقة في سوادها … النائحة على فقدان ابنائها الذين غادروا بيوت القرميد الأحمر التي بناها الفرنسيون أو الإيطاليون والتي تبدو الآن متناقضة مع من بقي من سكانها الحاليين المتكئين دوما عند الحائط. متوسدين أذرعهم ملتفين في برانسهم البالية .. يتثاءبون ويترشفون الشاي الأسود … رشفة … رشفة … يملأون العين بمساحات كروم العنب الممتدة أمامهم والتي خلفها لهم المعمّرون أيضا … يحلمون بقدوم الموسم ويعدون النفس بتعوض حرمان العمر … ولكن كثيرا ما تخيب الآمال عند الموسم وتتراجع الأحلام بذلك الحذاء أو بذلك الفستان للأم الهالكة شقاء وتعبا… إذ يقضي تسديد الديون على كل ألق في العيون … فيهاجر الحلم ويبقى الإحباط ولكن ما يكاد يعود الموسم القادم حتى يتصالح الفرد مع حلمه ويبادر لاحتضانه… بينما عناقيد العنب قد بدأت تتدلّى من شجيراتها.
إلى أحد هذه البيوت يعود الهادي للعيش مع أسرته التي غادرها منذ تزوج لعدم رغبة زوجته العيش مع أهله … ها هو يعود إلى بيت طفولته وصباه… ولكنه يبدو غريبا … منفيا … وحيدا … يتيما…
كأنه لم يعش معهم عمرا… كأنه لم يقاسمهم الحلم واندحاره … يجلده إحساس قاتل بالتقصير في حقّهم … فيعاهد نفسه على التضحية بكامل راتبه لطرد مسحة الحزن من عيونهم.. لكنه يتذكر الديون التي تركتها له زوجته «زهرة» فتداهم عينيه سحابة سوداء عقيمة لم تمطر أبدا.
عندما حلّ الصيف عاد أبناء القرية المهاجرون إلى أوكارهم كالطيور المزدانة الأجنحة يختالون في أبهى حللهم … يحرثون القرية جيئة وذهابا بسياراتهم يوزعون الهدايا على أبناء العشيرة الذين يتنافسون في استضافتهم…
ما ان سمع الهادي بقدوم «الرفيق منصور» حتى تسلّل إليه ليلا مهرولا بين مسارب كروم العنب الخفيّـة الملتوية تحسبا لكل العيون … يريد أن يأخذه إلى «مكتب الثورة» ليحيطه علما بآخر التطورات: إضراب المعلمين،تخاذل النقابة اختفاء بعض الرفاق والتقاط آخرين من بيوتهم تحت جناح الليل… اكتشاف عدة جواسيس في الخلية الحزبية يعملون لفائدة النظام الحاكم … الإيقاف التعسفي عن العمل…
كان صدره يحتدم بكل هذه القضايا كالمحيط الهادر وهو يقطع الطريق إلى رفيقه وصديقه منصور لعله يخفف عنه بعض العبء.
لما وصل إلى بيت منصور وجد أن الأصحاب قد «اختطفوه» إلى العاصمة لقضاء سهرة الشوق والحنين…
عندما قفل راجعا كانت الأحداث المتّقدة في صدره تذوي الواحد تلو الآخر… تُنكس فتائلها وتؤجل نارها إلى صباح الغد.
في الصباح بينما كان يستعد للخروج من هزيمة الليل وينفض عنه آخر أذيالها… محاولا الظهور بوجه مشرق يليق بهذا الصباح الجديد كان منصور ينتظره في الخارج…
خرج إليه «الهادي» مسرعا وفي غمرة احتضانهما لبعض غفر له اختفاءه ليلة البارحة … ثم أخذه من يده ميّمما وجهه شطر شجرة الزيتون «لكن منصور غيّر اتجاهه هذه المرة :
تعال معي تعال هناك قطعة أرض أريد أن نعاينها مع بعض أرغب في شرائها هذه السنة لأبدأ بناءها السنة القادمة.
في الطريق أعلمه منصور أيضا أن مشروع الدواجن قد فشل بسبب عدم رعايته و غيابه وأنه لن يعود حتى يسلّمه له ويتركه بين يديه :
– «لن أثق بأحد غيرك… بل ستدخل معي شريكا أنت بالعمل وأنا بالمال ما رأيك؟»
أحسّ الهادي أن غيمة ضبابية لزجة داكنة ثقيلة غريبة عن طقسه قد داهمته في يوم صيفي شهيّ … تلتها زوبعة بعثرت أفكاره وشّوشت أحاسيسه نحو صديقه وعبثت بمشروع العمر مشروع الثورة الاشتراكية الذي تعاهد كل الرفاق علي إنجازها ..
التفت منصور إلى الهادي ليرى ردّه على مشروعه فلاحظ أن الألق الذي استقبله به منذ لحظات قد اختفى تماما …. وأنً حمما قد هدرت داخله :
«مربّي دواجن»؟…. مربي الأجيال يصبح مربي دواجن ؟…. منصور الذي كان يعهد إليه بتربية أبنائه صار يعهد إليه بتربية دواجنه ؟!
ماذا يختلف الرفيق منصور عن زهرة إذا ؟ تلك الزوجة الوصولة التي لم ترق يوما إلى مستوى أهدافه…
لم يكن يدري تماما هل وصلت هذه الكلمات مسمع «صديقه» أم أنها دوّت فقط في قعر نفسه؟ …..
…..في تلك الأثناء دوّى صوت الصبي «عمّار» في الفضاء بصراخ متقطع…. التفت الهادي ليرى قامة شقيقه الأصغر تلوح من بعيد … مخلفة وراءها زوبعة من الغبار تثيرها الساقان النحيلتان الحافيتان.. لاهثا متقطع الأنفاس:
– سيدي … سيدي الهادي… ارجع … ارجع … البصطاجي … برقية …
حبست رجلا الهادي فجأة … ثم التفت إلى منصور ««اذهب أنت سألتحق بك» ورجع مع الصبي.
عندما فضّ البرقية نزّت حبّات عرق بارد من جبينه مسحها بسرعة بقفا يده … دسّ الورقة في جيبه …. تفطن إلى جمهرة الأطفال حوله وحول ساعي البريد.. سلَ نفسه من عيونهم وانزلق كاللص الفاشل صوب المنحدر.
تحت الزيتون أو في «مكتب الثورة» أخرج البرقية المتغظنة من جيبه وأعاد قراءتها أكثر من مرة ليتأكد من صحة ما جاء فيها وليتأكد من سلامة مداركه العقلية .
في المنحدر ردّد الوادي أصداء ضحك هستيري اضطربت له وريقات الدفلى النائمة على حافتي الوادي … ثم عبثت الرياح بكلمات تناثرت مبعثرة من فوهة بركان الحمّى الذي اضطرم في صدره:
«إيقاف عن العمل !… هاهاها… مشروع دواجن…. هاهاها… طلاق … هاهاه … فشل … خيانة … هاهاها.
ثم خرس الوادي فجأة ليردد مع الهادي نشيج خرابه الداخلي الذي تحوّل من قهقهات إلى وصلات نواح وعويل أخرس لا يسمعه إلا الهادي والوادي…
يقع نظره على المياه التي تسعى حثيثة أمامه يأخذ في السير معها ببلاهة مريرة …
«أهذه هي نهايتك أيّها «الهادي» ايّها المثقف الثوري؟ ماذا فعلت ؟… أو ماذا فعلوا بك ؟ لقد درت دورة ورجعت الى نقطة البداية؟… بل لقد درت نصف دورة ورجعت إلى ما قبل البداية ؟… والآن ماذا ستفعل ؟ أيها النسر المقطوع الأجنحة…؟ هل ستتوسّد ذراعك أنت أيضا وتنضم إلى صف المتكئين عند الحائط، تترشف الشاي وتتثاءب تأكل أو لا تأكل … تنام أو لا تنام … تحمل شهاداتك وساما منسيا كما يحمل أوسمته جنرال مخلوع…؟
بغزارة وتدفق أخذ شريط حياته يبث من ذاكرته، أمام عينيه في استعراض معذّب:
… كان مشهد «زهرة» وهي تجمع أدباشها لتغادر البيت قد جعل أعصابه حزمة أعواد كبريت لا تنتظر سوى شرارة كي تندلع … لم تكن بعيدة تلك الشرارة… رغم هروبه منها… إنها تقترب … تقترب … تداهمه… تندلع… تحوّل رأسه إلى ألسنة لهب… لقد جعل اصبعيه في أذنيه وصار يهرول … كالمعتوه والشرر يلاحقه … -»
«أنت رجل فاشل … أنت رجل فاشل…»
حتى الشرر الذي كان كامنا في عيني أمه قد اندلع … رغم أنها لم تتفوه بكلمة واحدة..هل كانت تعبّر له عن فشله بطريقتها الخاصة عندما تشفق عليه ترقيه وتحتضنه…
وهذه العائلة الرازحة تحت ظل الحيطان ؟ وقد أصبح مسؤولا عنها بشكل مباشر … ماذا سيقول لها؟ … ماذا سيقدم لها؟ أيعوّل على أخيه الأصغر وقد اصبح يدسّ في كف أمه بعض الدنانير تغمر العائلة سعادة على قلّتها… أيشارك أخوه بالمال ويشارك هو بالنظريات ؟ … جحيم من الأسئلة يرتطم برأسه الذي تحولت خلاياه إلى أسلاك كهربائية… لتفقده ما بقي من صوابه…
لم يجد من مشفق عليه سوى خطواته التي قادته حيث يمكن أن يطفئ لهيبه أو يخمد براكينه … ولم يدر كيف وجد نفسه وسط مخزن الدواجن أمام «الرفيق منصور» : «قد قبلت المشروع»؟
٭ ٭ ٭
كان يدندن بأغنية عبد الحليم: «إسبقني يا قلبي إسبقني» . وهو، يسوّي ربطة عنقه أمام المرآة الفسيحة التي انتصبت في صدر البهو ضمن التجهيزات العديدة التي أدخلها على بيت أهله في انتظار انتهاء بناء بيته… كان «منصور» وراءه يذكره بقرب الموعد يلتفت إليه بفضول مراهق:
– «لن أخرج حتى تشرح لي كيف رتبت لي هذا الموعد…؟»
– «على طريقتي الخاصة . الطريقة الأكثر عصرية والأكثر عمليّة… كتبت بشأنك إعلان زواج في الجرائد يليق بشريكي رجل الأعمال الكبير… بشروط حسب الأصول»
– «لكن كيف وقع إختيارك على صاحبة الموعد؟
«عن طريق القرعة فقط… تلقيت كثيرا من الرسائل … سحبت واحدة ومزقت كل الرسائل الباقية لأ تركك وحظك»..
.عندما وصل الهادي مكان الموعد كانت «زهرة» هي التي تنتظره…
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
١- السقاء