جمال الغيطاني خليل النعيمي
عيسى مخلوف رشيد صباغي
سلوى النعيمي أحمد أبو دهمان
محمد البساطينظم معهد اللغة والحضارة العربية في السنوات السابقة سلسلة من الندوات حول قضايا الثقافة العربية تناولت التحليلات الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية والثقافية والإبستمولوجية والسياسية لأهم القضايا المطروحة اليوم في العالم العربي.
واليوم نبدأ سلسلة أخرى من الندوات حول موضوع الأدب العربي في الثقافة الفرنسية واخترنا موضوع الأدب المصري لتحديد مجال الدراسة. وفي هذا اللقاء التحضيري الأول اخترنا الجانب الروائي خاصة وأننا نتشرف اليوم بوجود الكاتبين الروائيين الأستاذ جمال الغيطاني والأستاذ محمد البساطي. لذلك قد يكون هذا اللقاء أكثر تركيزا على هذين الروائيين. بالطبع لا حاجة للإسراف في التقديم أو الإسهاب في سرد الأعمال القصصية والروائية لضيفينا وما ترجم منها إلى اللغة الفرنسية فالقائمة التي أعددتها أمامي لن تفيد الأساتذة والنقاد والروائيين الذين يشرفوننا بحضورهم. لذلك أرى أن أفضل أسلوب لذكر أعمال ضيفينا هو ذلك المعرض الصغير الذي أعددناه بمعاونة مكتبة ابن رشد بباريس, الذي يضم غالبية أعمال الغيطاني والبساطي بالعربية والفرنسية وكذلك أعمال نجيب محفوظ وابراهيم أصلان وصنع الله إبراهيم وإدوارد الخراط وإبراهيم عبد المجيد وتوفيق الحكيم وألبير قصيري وغيرهم. فضلا عن مجموعة كبيرة من أعداد صحيفة »أخبار الأدب« التي تلعب دورا هاما في الساحة الأدبية العربية بباريس وفي دول شمال أفريقيا (المغرب العربي) وبلاد الخليج.
في الواقع يمثل الأدب والموسيقى والفن التشكيلي أكثر مجالات الإنتاج الثقافي تعبيرا عن عبقرية الإبداع المحلية. فالأدب يفوق في هذا الصدد ميادين الإبداع الأخرى في الفكر والفلسفة والعلوم الإنسانية, لأن الفكر والفلسفة والعلوم الإنسانية تخضع لأنساق من المعايير المترابطة التي لا يسهل ترويضها أو تعديلها أو الخروج عليها دون تمهيد وإعداد وتأثير وتأثر يشمل مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية مما يجعل عملية الإبداع الفكري مشوارا جماعيا مرهونا بتاريخية المجتمع ومقدار حيوية التفاعل الجدلي بين مكوناته وتزامن الآنية المحلية لهذا التفاعل مع حالة المعاصرة الإبداعية العالمية.
لذا, فبالرغم من خضوع الفنون والآداب والفلسفات والعلوم الإنسانية للنظم والأنساق المعيارية وللشروط الاجتماعية والتاريخية إلا أن هذه الانساق تكون أشد جمودا في أعلى السلم العقلي والمعرفي, وأكثر قابلية للتعديل والمناورة والتحايل في الميدان الأدبي, إلى أن نصل إلى أسفل السلم (وليس هذا حكما قيميا ) حيث نجد الفنون الأكثر ارتباطا بالأحاسيس والمشاعر, والتي تخرج أدواتها — في الأغلب — عن تحكم الأنساق الفكرية والاجتماعية الجامدة, ولا تبقى غير معايير الصنعة والقيم الفنية, وعبقرية الخلق لدى الفنان التشكيلي في ورشته, حيث تتعامل أصابعه مباشرة مع الزيت واللون والأزميل والحجر.
فالآداب والفنون أكثر تعبيرا عن العبقرية المحلية من الفلسفات والمذاهب الفكرية والمدارس العلمية, لأن الأفكار تحكمها شروط تاريخية موضوعية وقواعد معيارية كلية, تجعل كل إضافة أو تحريك نظري مشوارا شديد التعقيد أو مغامرة محفوفة بالأخطار. ومن ثم, يحق لنا أن نطرح, اليوم, على أنفسنا ذلك السؤال المصيري : ماذا نضيف, على مستوى الفلسفة والعلوم الإنسانية, إلى الإنتاج الفكري العالمي ? أما على مستوى الفنون التشكيلية و أنواع الأدب, بالمعنى الحديث, فلدينا ما نضيفه من أعمال هامة وقوية على المستوى العالمي.
تأتي أهمية تناول أدب نجيب محفوظ من خلال أعمال أكاديمية لم تبق حبيسة مكتبات الدراسات العليا بالجامعات الفرنسية ولكنها خرجت إلى الجمهور الفرنسي المثقف من خلال دور النشر في فرنسا. وهذه نقلة نوعية للأدب العربي داخل فرنسا. فالأدب المصري والعربي متاح اليوم لجمهور القراء والمثقفين في فرنسا أكثر مما قبل. وكذلك أصبحت متاحة بعض الأعمال النقدية في هذا الميدان. وأنا إذا ما قارنت الحالة الراهنة في بداية القرن الواحد والعشرين بما عشته في فرنسا عام 1970, أقول إن النقلة كمية ونوعية كبرى. فنحن نلاحظ انتقال الاهتمام بالأدب العربي من الأوساط الاستشراقية وأقسام الدراسات العربية بالمعاهد والجامعات الفرنسية إلى أوساط النخبة المثقفة من القراء ثم اتساع دائرة القراء بزيادة أعمال الترجمة وذيوع الروايات والقصص العربية عن طريق دور نشر كبرى وسلاسل واسعة الانتشار كسلاسل الجيب المختلفة التي نشرت بها بعض أعمال نجيب محفوظ كالثلاثية مثلا . ورواية متون الأهرام لجمال الغيطاني التي ستصدر هذا العام في كتاب الجيب بعد صدورها عن دار نشر ؛سندباد أكت سود«.
ولا ننسى أن الحضور الروائي العربي في فرنسا لا يقتصر على ترجمات الأعمال الأدبية العربية وبعض أدبيات التقييم والنقد حولها, بل يشمل التأليف المباشر. فهناك مبدعون عرب — من سوريا ولبنان والمغرب والجزائر, وبيننا اليوم الروائي السعودي أحمد بن دهمان — يكتبون باللغة الفرنسية مباشرة, حظت بعض أعمالهم باهتمام واسع, وحصلوا على جوائز فرنسية رفيعة, مثل جائزة »فمينا« وجائزة »الجونكور«.
ننتقل الآن من الترجمة إلى تجارب الإبداع الروائي والقصصي لدى ضيفينا. ونبدأ بالأستاذ محمد البساطي, الذي أوحت إليه هذه الندوة بكتابة قصة حول تجربته الإبداعية, سيقرأ علينا بعض سطورها من مسودة, بدأ صباح اليوم في كتابتها.
محمد البساطي :
الحقيقة أنا كنت قد أعددت كلمة بهذه المناسبة عن ملامح الرواية بمصر. لكنني حين علمت أن بعض الحضور هنا من الروائيين, رأيت أنه من الأفضل أن أتحدث باللغة القصصية. فكانت هذه الحدوتة التي سأحكيها لكم :
عشت صبايا في بيت بالريف المصري, كان يجمع أربعة أجيال في وقت واحد, وهو شيء كان يعد طبيعيا في ذلك الزمن. الأب والجد وجد الجد. وكنا نسميه الجد الكبير. كان يقيم في حجرة بعمق البيت بعيدا عن دبة القدم. قليلا ما يخرج منها. وإن خرج فلكي يأخذ فكرة عامة عن مجرى الأمور. نفس الأسئلة التي يسألها كل مرة. أين فلان وفلان. ثم يسكت. وحين يغلبه النعاس يمضي إلى حجرته. وكان أيضا لا يفتح نافذته. حين يسمع صوتا في الخارج ينتبه إليه قليلا ثم يعود إلى سكونه. في الشتاء يضع موقد به جمرات بجوار فراشه حيث يحلو لنا نحن الصبية أن نتجمع حوله ونثرثر ينصت لنا ويضحك معنا. وكان ثمة إحساس في البيت وخارج البيت أنه عاش طويلا بما يكفي. وأن نهايته تقترب. وعندما جاء الموت خيب ظن الجميع. فقد مات الأب أولا . الجد, وكان يقيم في حجرة بالوسط, خرج من سكونه يبكي وينهنه. كانت الصدمة كبيرة له. غير أنه تماسك ليتولى زمام الأمور. الجد الأكبر, حين بلغه الخبر قرفص في الفراش محدقا في وجوه من دخلوا عليه. وجهه لم يختلف. فاتحا فمه الخالي من الأسنان. وكف عن الخروج من الحجرة. لم يمتد العمر بالجد. فقد مات بعد وفاة أبي بشهور. تلك اللحظة أتذكرها جيدا . حين علا الصراخ في البيت. خرج الجد الأكبر من مكمنه بملابسه الداخلية يتساءل عما حدث. يتلفت حوله في ذهول. لازمه هذا الذهول بعد ذلك. هو الذي أصبح عجوزا جدا . يتحرك بإحساس المذنب. هو الذي كان يجب أن يموت بدلا من الآخرين. وأفلت لسبب لا يدريه. هذا الإحساس الذي وضعه في حالة مضطربة كانت تجعله يخجل من لقاء الناس. وإن تصادف والتقى بهم بكى. ثم تغير كل ذلك بعدها. أصبح يعتني بنفسه وبملابسه, وفتح نافذته. وأصبح صوته وسعاله مسموعا يتردد في حوش البيت. كان على ما يبدو قد رفض الموت وقاومه. قاومه طويلا حتى شب أخي الكبير وارتفع صوته. شخصية الجد الكبير التي أحوم حولها دائما في كتاباتي. اقترب منها وابتعد عنها لأعود إليها. أرى ناس مصر بكل صفاتهم وطباعهم ممثلة فيه. أبحث عنه في ترحالي ببلاد مصر. وفي كل مرة. وأجدها دائما كلما ابتعدت عن ضجة المدن. في القرى والحواري والأزقة. وفي كل مرة اقترب من هذه الشخصية. تتكشف لي جوانب منها لم انتبه إليها من قبل. مثل هذه الشخصية تناثرت بشكل أو آخر في قصصي القصيرة ومشاهد من رواياتي. وما زلت حتى الآن أحس أن هناك الكثير مما يجب أن أحكيه عنها.
جمال الغيطاني :
بما أن الندوة تتناول صورة أو علاقة الأدب المصري بفرنسا والأدب العربي بشكل عام. اخترت أن أتحدث عن ؛الزيني بركات« باعتبارها أول رواياتي التي ترجمت إلى اللغة الفرنسية وصدرت منذ سبعة عشر عاما . ومن خلال حديثي عن ظروف كتابتها ثم ترجمتها, قد اقترب من بعض النقاط التي أود توضيحها بالنسبة للتجربة الإبداعية وعلاقتها بالترجمة :
»الزيني بركات« جاءت نتيجة لعوامل عديدة. أهمها في تقديري, تجربة معاناة القهر البوليسي في مصر خلال الستينيات. كانت هناك تجربة ضخمة تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. تهدف إلى تحقيق أحلام البسطاء. يقودها زعيم كبير هو جمال عبد الناصر. ولكن كان مقتل هذه التجربة في رأيي, هو الأسلوب الذي تعاملت به مع الديمقراطية. وأحيانا كنا نحجم عن الحديث بهذا الشكل لأن هذه التجربة بعد انتهائها, تعرضت وما تزال تتعرض لهجوم حاد من خصوم العدالة الاجتماعية, ومن خصوم إتاحة الفرص أمام الفقراء. ولكن أنا أتصور أن الشهادة يجب أن تكون دقيقة الآن, خاصة وأن جيلنا, جيل الستينات الذي ننتمي إليه أنا والأستاذ البساطي قد بدأ يدنو من مراحله الأخيرة. لذا يجب أن نترك كلمة حق حتى لا تتكرر تلك الأخطاء.
عانينا من الرقابة في الستينيات. وأسلوب التعامل البوليسي. وأتصور أن هذا كان أحد أسباب علاقتي القوية بالتاريخ. كنت مهموما بالبحث في تاريخ مصر, وبقراءة هذا التاريخ خاصة الفترة المملوكية, التي وجدت تشابها كبيرا بين تفاصيلها وبين الزمن الراهن الذي نعيش فيه. وأنا عندما أقول الفترة المملوكية, أعني الفترة المملوكية التي كانت مصر فيها سلطنة مستقلة تحمي البحرين والحرمين. وقد انتهت هذه السلطنة في عام 1517 بهزيمة عسكرية كبيرة في مرج دابق شمال حلب. وعندما طالعت مراجع شهود العيان الذين عاشوا هذه الفترة, ذهلت من تشابه الظرف بين هزيمة 67 والأسباب التي أدت إليها وبين هزيمة القرن السادس عشر. وأوصلني هذا فيما بعد, إلى ما يمكن أن يسمى باكتشاف وحدة التجربة الإنسانية في مراحل كثيرة من التاريخ حتى وإن بعدت المسافة. على سبيل المثال : الألم الإنساني واحد. فالشعور بالحزن هو نفسه الذي كان يعبر عنه المصري القديم أو البابلي القديم. ومصر نتيجة لاستمرارية تاريخها وعدم انقطاعه تتشابه فيها الظروف من فترة إلى أخرى. سياحتي في التاريخ استقرت في العصر المملوكي. وكنت مهموما بهاجس الرقابة وهاجس المطاردة قبل أن أدخل المعتقل إلى درجة أنني كتبت عددا من القصص القصيرة عن السجن, نشرت منها قصة ؛رسالة فتاة من الشمال« في مجلة الآداب في يوليو 1964, وقصة أخرى اسمها ؛القلعة« في مجلة الأديب اللبنانية أيضا عام 1964. وكتبت رواية كاملة عن فكرة المطاردة وظروف المطاردة, ف ق د ت عندما اعتقلت في عام 1966. والغريب أنني عندما دخلت المعتقل لم أفاجأ بالتفاصيل. فقد كنت أسمعها من زملائي الذين سبقوني في تلك التجربة. ولكن عندما خرجت قبل وقوع الهزيمة بشهرين عام 1967 مع زملائي, الذين يمثلون جيل الستينيات من الكتاب — فأكبر كتاب الستينيات كانوا في هذه الحبسة –, كتبت قصة اسمها »هداية أهل الورى لبعض ما جرى في المقشرة« وقد افترضت فيها أنني عثرت على مذكرات آمر سجن المقشرة. وهو من السجون الشديدة البشاعة في العصر المملوكي. وكنت قد وصلت بعض قراءة طويلة — بل لا أقول قراءة ولكن معايشة — لابن إياس وابن زمبل الرمال والمقريزي وابن تغريبلدي إلى اكتشاف بلاغة جديدة, لم يكن الأدب العربي يتعامل معها. بلاغة يمكن الآن أن أقول إنها بلاغة مصرية, تجمع ما بين الفصحى وخلفية العامية المصرية في التراكيب اللغوية. وهذه نجدها عند المؤرخين وليس عند الأدباء. عند المقريزي وابن إياس ثم الجبرتي فيما بعد. وربما يرجع ذلك إلى أنهم كانوا يكتبون الأحداث بسرعة, فلا يتأنقون ولا يغوصون في أساليب البلاغة المستقرة من زمن قديم. هذه البلاغة شعرت أنها تمسك بالواقع أكثر من الأساليب السردية السائدة.
إضافة إلى أنني عندما بدأت الكتابة في عام 1959, مررت بمرحلة بحث ومرحلة قلق إلى أن اهتديت إلى هذه الأساليب الموجودة في الكتابة القديمة والمهجورة, التي لم يعد أحد يتعامل معها. وشعرت أنها تمنحني حرية أكثر في التعبير. طبعا كان كتابة »المقشرة« بهذا الشكل, نوع من التحايل على الرقابة, وفيما بعد جاءت رواية »الزيني بركات« لتعبر بشكل أكبر عن هذه التجربة. كان هناك رقيب موجود بالصحف — كان مقيما فيها –. وهذا الوضع أ لغي في عام 1976. عندما قرأ الرقيب قصة »المقشرة« دفع بها للنشر, بعد أن وق ع على أساس أنها مخطوط قديم فعلا . ونشرت بجريدة »المساء« في الصفحة الثقافية التي كان يشرف عليها المرحوم عبد الفتاح الجمل. وكان صديقا عزيزا تخرج كل جيل الستينيات من صفحته. وكان من أقرب الأصدقاء للأستاذ محمد البساطي. ونشرت في هذه الصفحة عددا من القصص, التي ج معت فيما بعد في مجموعة »أوراق شاب عاش منذ ألف عام«.
أنا باستمرار تبدأ عندي المشاريع الروائية الكبرى بإرهاصات في قصص قصيرة. فرواية »الزيني بركات« سبقتها قصة »هداية أهل الورى لبعض ما جرى في المقشرة«. وسبقتها أيضا »أيام الرعب«. والتي قدمت في برنامج »كاتب وقصة«. وكانت تحكي عن شاب مطارد في القاهرة بسبب ثأر في الصعيد. ومطلوب أن يقتل تسديدا لدم. وليس له أي ذنب في القتل. وينتهي به الأمر إلى اللجوء إلى مقام سيدنا الحسين. كما سبقتها قصة أخرى بعنوان »اتحاف الزمان بحكاية جلـب السلطان«. وكانت أيضا , بأسلوب العصر المملوكي, عن انتهازية أحد الأشخاص في الوصول إلى السلطة. كل هذه القصص القصيرة كانت إرهاصات تمهيدية لرواية »الزيني بركات«. أنا لم أكن أعرف أن هناك رواية في الأفق. هذا سوف يتكرر فيما بعد. فمثلا عندما بدأت بشائر »حارة الزعفراني« وبدأت تجربتها تلوح, كتبت قصة اسمها »وقائع حارة الطبلاوي«, قبلها مباشرة. تلك الإرهاصات بدأت تتبلور إذن في مشروع روائي كبير هو »الزيني بركات«. والزيني بركات شخصية حقيقية موجودة في كتاب »بدائع الزهور في وقائع الدهور« لمحمد أحمد بن إياس الحنفي المصري. وهو مؤرخ من أهم المؤرخين المصريين الذين عاشوا فترة الغزو العثماني لمصر. وكتابه مرجع مهم جدا , أتيح لي بعد حوالي أربعين عاما , أن أوفره بسعر زهيد من خلال سلسة »كنتس« أشرف عليها من خلال مشروع النشر الذي أجهض مؤخرا , والذي كان يصدر عن الثقافة الجماهيرية في مصر. نشأت بيني وبين ابن إياس علاقة حميمة. كنت أكاد أتمثله وهو يكتب. بل أكاد أشعر بأنفاسه بين السطور. قرأت هذا الكتاب وعايشت شخصية الزيني بركات و شغلت بها. الزيني بركات كان ميقاتيا يحدد مواقيت الصلاة في ركب الحج وهو متجه إلى مكة. ثم بدأ رحلة الصعود, إلى أن أصبح نائبا للسلطان. وعندما خرج السلطان الغوري كي يتصدى للعثمانيين, كان الزيني بركات أهم شخصيات الدولة. وعندما استولى سليم العثماني على مصر, وهزمت السلطنة المملوكية, واستشهد السلطان قنصوه الغوري, وتبدل الأمر تماما , أصبح الزيني بركات أيضا هو الشخصية الأولى في الدولة المصرية. وينتهي كتاب ابن إياس بسطور يقول فيها : في سنة 926 هجرية, بعد أربع سنوات من الغزو العثماني. مازال نجم الزيني بركات في طلوع. وظرفه في صعود. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
أولا , لفتت نظري هذه الشخصية. وتطابقت مع شخصيات أخرى موجودة في الواقع.
كنت قد امتلأت به إلى درجة أنني عندما بدأت أكتب الرواية اخترت في البناء طريقة اللف حوله بدلا من مواجهته.
لم أجروء على مواجهة الزيني بركات. لذا فالزيني بركات لا يظهر في الرواية وجها لوجه. نحن نرى ردود أفعاله ولا نراه هو مباشرة, إلا في مشهد واحد فقط, عندما يقابل زكريا بن رابض.
الأمر الثاني, أنني فوجئت أن موضوع القهر والحرية يفرض نفسه, بدلا من موضوع شخصية الانتهازي, وأصبحت الرواية تدور حول »البصاصين«. و»البصاصون« تعبير منحوت ليس له أصل في الواقع المصري. اخترت أن أصف به عمل الذين يقومون »بالبص«. كل تفاصيل الرواية شديدة الدقة. ومما أسعدني جدا أن صديقي الكبير الأستاذ اندريه ريمون, عندما قرأ الرواية — وهو متخصص في العصر العثماني — قال لي إنه لم يجد خطأ تاريخيا واحدا . على سبيل المثال : لا يمكن أن نجد شخصا يشرب القهوة, لأن القهوة كانت في ذلك الوقت, جديدة في مصر. وكان مختلفا عليها, هل هي حلال أم حرام ? والشاي لم يدخل مصر إلا في القرن التاسع عشر.
خريطة القاهرة كانت أمامي وأنا أكتب الرواية. مثلا : عندما يتحرك السلطان من ميدان الرميلة — الذي هو الآن ميدان صلاح الدين — أو من ميدان القلعة, ويشق موكبه شوارع القاهرة حتى ميدان النصر. بأي طرق يمر ? طبعا كان لابد أن أحفظ خريطة القاهرة, وأنا قاهري قح أعيش في القاهرة القديمة, ولها تأثير كبير جدا علي. كل هذه التفاصيل, شكل العمامة مثلا : عمامة السلطان تختلف عن عمامة الشيخ عن عمامة المحتسب, والأزياء .. كل هذه التفاصيل درستها بدقة, ثم طرحتها جانبا , وبدأت أكتب الرواية سنة 1969 وانتهيت منها في عام 1970. وأصبحت بالشكل الذي تقرأونه الآن.
كتبت هذه الرواية بأسلوب القرن السادس عشر, ليس خوفا من الرقابة أو مراوغة لها, ولكن كجزء من البناء. فالرواية تدور في زمن قديم, وكتبت بلغة هذا الزمن.
لجأت فيها إلى بعض الحيل الأدبية, مثل شخصية الرحالة البندقي فياسكونتي انتي. عندما ترجمت الرواية إلى اللغة الإيطالية, سألني الأصدقاء الإيطاليون والصحفيون عن الكتاب المجهول لديهم لهذا الرحالة البندقي! فقلت لهم إنه مختلق. فلم يصدقوا. والحقيقة أنني لم أعرف رحالة بهذا الإسم, والإسم جاء من تركيب اسم مخرج ايطالي ؛فيسكونتي« مع اسم رسام مشهور كان يعيش في هذه المرحلة ؛بيللي انتي« توجد بعض لوحاته بمتحف اللو ر.
لم أكن أفكر إطلاقا في موضوع الترجمة. وأذكر أن أحد أصدقائي قال لي في تلك الفترة, أنت تكتب بلغة صعبة, ألم تفكر في الترجمة ? فقلت له بالحرف : الترجمة مسؤولية غيري. ولو فكر الروائي في موضوع الترجمة, فشأنه شأن من يفكر في الحكومة أو في أي قوة رقابة خارج العمل.
عندما كنت أزور فرنسا, سنة 1980, كلمت, بالصدفة, صديقي العزيز الدكتور جمال الدين بن شيخ. فقال لي : أنت موجود في باريس ? إحنا بنفكر نترجم لك رواية. فراح ذهني لرواية حارة الزعفران, لأنني تصورت أنه من المستحيل ترجمة لغة رواية الزيني بركات. وعندما ذهبت إليه والتقيت عنده بالمرحوم فوركاد, فوجئت أن الحديث يجري حول الزيني بركات. وعلمت أن هناك مفاوضات جارية منذ حوالي سنة, مع دار نشر »سوي«. وعلى فكرة عندما سمعت في مكالمة تليفونية اسم ؛سوي« لأول مرة, سألت إيه »سوي« دي ? وكانت بجانبي فريدة الشوباشي تسمع المكالمة, فقالت لي بسرعة : أسكت, ماتتكلمش .. »دي دار نشر كبيرة جدا« .. وافق .. وافق!
كانت الرواية قد طبعت للمرة الأولى بسوريا. حمل فاروق مردم نسخة من هذه الرواية معه إلى باريس. وعندما سأله صديقه ان فرانسوا فوركاد : ما الجديد في الأدب العربي ? أعطاه فاروق مردم رواية الزيني بركات. كل هذا حدث ولم أكن أعرف فاروق مردم ولا فوركاد في ذلك الوقت. قرأ ان فرانسوا فوركاد هذه الرواية .. هام بها .. قدم مشروع الترجمة إلى الأستاذ جمال الدين بن شيخ .. كان جمال الدين بن شيخ, في ذلك الوقت, قد بدأ مفاوضات مع ميشيل شوستفكش, ليدخل الأدب العربي إلى دار النشر »سوي«. إريد أن أقول إنه على الأديب أن ي خلص إلى أدبه, وأن يخلي ذهنه من الاعتبارات الخارجة عن العمل الفني. أما العمل الأدبي نفسه, فله بعد ذلك, حياته الخاصة. يشق طريقه وحده, ويجد من يتبناه بعيدا عن المؤلف. يجد فاروق مردم مثلا الذي يقرأه, ثم يقدمه إلى مترجم مثل فوركاد الذي يعرضه على جمال الدين بن شيخ, الذي يتحمس له ويعرضه على دار النشر الفرنسية ؛سوي«, وهكذا.
كان صدور ترجمة الرواية عام 1985 في فرنسا علامة هامة. فلأول مرة تقدم دار نشر كبرى رواية عربية لا تدخل في إطار مشاريع الترجمة بفرنسا.
جئت إلى باريس في يناير 1985, وفوجئت بأن صدور الرواية وصف بأنه انفجار. واجتمع لدي ملف كبير لما كتب عنها في كل المجلات والصحف. وكان استقبالها أكثر من رائع, تماما كاستقبالها الذي حدث في الدول العربية.
أريد أن أقول إنه لا توجد رواية لم تتحقق في أدبها لغة أدبها الأصلي, يمكن أن تتحقق في أدب بلغة أدب آخر.
لماذا أقول هذا الكلام ? لأن موضوع الترجمة أصبح اليوم هاجسا يشغل رؤوس الكثير من الكتاب. وأنا أدعو لدراسة الأعمال الأدبية التي تصدر في الفترة الأخيرة, فسوف نجد أن بعض الكتاب يغازلون الترجمة. والذي أقوله, أنتم تفهمونه وتعرفونه.
كنت, مرة, مع صحفي فرنسي وآخر من اليابان, قال لي الياباني : أنت كتبت رواية تعبر عنا في اليابان. فسألته : كيف, وأنا أتحدث عن »البصاصين« في عصر المماليك في القرن السادس عشر ? قال لي : لا, أنت وصفت أساليب »بص« موجودة في اليابان بالضبط وأكثر ! وترجمت الرواية بالفعل إلى اليابانية. عندئذ انتبهت إلى أن التعبير الدقيق عن شيء محلي تماما , هو القادر على الوصول إلى ما نسميه بالعالمية, بمعنى أن يجد أصداء في آداب أخرى.
وأنا دائما أضرب المثل برواية من أجمل الروايات التي قرأتها في حياتي, هي »جسر على درينا« لـ»إي و إندريت, الحاصل على جائزة نوبل عام 1961. رواية عن جسر مجهول في منطقة البوسنة, على نهر ذهلت عندما زرت البوسنة ورأيته, لأنه شبيه بترعة عندنا بالصعيد. انتقلت الرواية إلى كل اللغات, واشتهر الجسر والنهر الصغير, وأصبحت من تراث الإنسانية. وهي نفس تجربة نجيب محفوظ فيما بعد, عندما ترجم إلى الفرنسية وإلى لغات أخرى كثيرة. كنت في المكسيك سنة 1989, وفوجئت بمن يطلب مني أن أتوسط عند الأستاذ نجيب محفوظ كي يوافق على تحويل »زقاق المدق« إلى فيلم سينمائي بالمكسيك. تساءلت ما العلاقة بين »حميدة« وزقاق المدق بالمكسيك ? قالوا : لأ, »ده« كاتب عن مشاكلنا. اتصلت بنجيب محفوظ, ووافق وانتج هذا الفيلم بالمكسيك, وعرض بمصر, وعرض فيما أعتقد بفرنسا. نفس الشيء بخصوص »ثرثرة فوق النيل« : في ألمانيا الشرقية, قبل انهيار النظام الاشتراكي هناك, ترجمت ثرثرة فوق النيل كنوع من المقاومة للنظام القائم في ألمانيا الشرقية آنذاك, لأنه يتكلم عن عزلة المثقفين في العوامة. الناس قاعدة تحشش في العوامة, والحكومة بتبني الاشتراكية »بره«. أريد أن أقول إن النفاذ إلى جوهر الواقع شيء جوهري جدا . فإن سنتيمترا واحدا من الواقع, يراه الأديب جيدا , يعبر عن الكون كله.
أسامة خليل :
نشكر الأستاذ جمال الغيطاني على هذا التحليل الأدبي والذاتي لشروط نشأة العمل الروائي لدى الأديب والإفصاح عنه في القصة أو في الرواية, وإيصاله إلى القراء في إطار اللغة الأصلية للعمل الأدبي, ثم من خلال الترجمة إلى لغات الثقافات الأخرى.
أعطي الكلمة الآن للأستاذ عيسى مخلوف الذي أحييه, وأحي مجموعته القصصية »عين السراب« التي احتفلنا بها منذ يومين في باريس. واسمحوا لي أن أقرأ منها هذه السطور المتفرقة :
»نسافر حتى نبتعد عن المكان الذي أنجبنا ونرى الجهة الأخرى من الشروق. نسافر بحثا عن طفولاتنا, عن ولادات لم تحدث, نسافر لتكتمل الأبجديات الناقصة. ليكون الوداع مليئا بالوعود. نمزق المصائر ونبعثر صفحاتها في الريح قبل أن نجد — أو لا نجد — سيرتنا في كتب أخرى.
عيسى مخلوف :
انطلاقا من موضوع هذه الندوة سوف أركز على ثلاث نقاط. خاصة وأنني أتابع الأعمال الروائية المصرية, وأعمال ضيفينا جمال الغيطاني ومحمد البساطي, كما أنني أتابع قضية الترجمة عن قرب فأنا واحد من الذين يعملون في هذا الميدان.
النقطة الأولى : صحيح أن ما ترجم إلى اللغة الفرنسية من اللغة العربية في عقدين من الزمن يتجاوز ما ترجم عبر قرون من الزمن, إلا أن الكتاب العربي المترجم إلى الفرنسية يبقي على هامش الأدب المكتوب مباشرة باللغة الفرنسية. يمكن أن نأخذ مثالا بسيطا على ذلك, الطاهر بن جلون الذي يكتب باللغة الفرنسية, وأمين معلوف, وصديقي الذي يجلس بجواري أحمد بن دهمان, فهذه الأعمال وصلت إلى القراء الفرنسيين مباشرة, ولقت رواجا لدى الجمهور ولدى المتخصصين وحازت الجوائز أدبية الرفيعة في فرنسا. بالتالي, يبقى العمل المكتوب بالفرنسية هو الأساس.
النقطة الثانية : هي أن جائزة نوبل هي مفتاح, ليس فقط للترجمة, وإنما أيضا لانتشار الكتاب. لأنها ترسل الكاتب إلى دائرة الضوء, وتجعله, حتى ولو كان صعبا , في متناول القارئ الجماهيري, وليس فقط القارئ النخبوي أو المتخصص. أظن أن نجيب محفوظ لعب دورا أساسيا في إظهار اسماء مصرية وعربية أخرى في دائرة الترجمة والاهتمام. ولا ننسى أنه كانت هناك معاناة شديدة فيما مضى مع »بيير برنارد« حتى ي ترجم نجيب محفوظ في البداية. ولم تكن المسألة سهلة. وبيير برنارد كان صديقا لنا. وكثير من دور النشر رفض أن ينشر نجيب محفوظ. هذا تماما — والتاريخ يعيد نفسه — ما حدث مع الكاتب الصيني »جاو يانج« الذي حصل على جائزة نوبل مؤخرا , رفضت معظم دور النشر الفرنسية, ومنها »جاليمار« و»سوي« و» لون« وغيرها, نشر هذا الكاتب بسبب كبر حجم رواياته, بينما تكلفت دار نشر صغيرة متواضعة عناء النشر, وغامرت مغامرة كبيرة على المستوى المادي, وعلى المستوى الأدبي, ونجحت المغامرة. إذن جائزة نوبل تلعب دور أساسي في إلقاء الضوء على هذا الجانب أو ذاك من أدب هذا الشعب أو هذه الثقافة أو تلك.
سؤال : هل استطاع الأدب العربي عموما والأدب المصري خصوصا أن يشكل الرواج الأدبي الثقافي في فرنسا والغرب عموما , كما فعل الأدب الأمريكي اللاتيني في أوربا وأمريكا الشمالية والعالم ? أقول لا. لماذا لا ? لعدة أسباب : أذكر منها ثلاثة : السبب الأول هو الكم. هناك كم كبير من الأدباء الأمريكيين اللاتينيين الذين حازوا على جائزة نوبل. ففي كل مرة كانت الأضواء تسلط من جديد على هذا الأدب. كل سبعة أو عشرة سنوات يبرز كاتب, وتسلط الأضواء من جديد على هذا الأدب. هذا لا يعني أن الأضواء ت سل ط على النماذج الأكثر تمثيلا لهذا الأدب. فهناك خلاف حول قيمة ماركيز مثلا قياسا إلى استورياس أو إلى بورخيس الذي لم ينل جائزة نوبل. يعني أن جائزة نوبل ليست شرط القيمة الأدبية, ولكنها شرط لظهور هذا الكاتب أو ذاك, أو هذا الأدب أو ذاك, أو لدعمه على المستوى العالمي وعلى مستوى القراءة العامة. يجب أن نميز بين مستوي القيمة الأدبية — الإبداع الفعلي — ومستوى النشر. ونحن نعرف أنه خاضع للتسويق والإعلان, ونحن نعيش هذا الواقع اليوم أكثر من أي وقت مضى. في زمن التلفزيون والصحافة والإنترنت والمردودية المادية. حتى في الغرب اليوم, لا يمكن أن ينشر كتاب لأي كاتب كان إذا لم يضمن الناشر, سلفا , المردودية المادية لهذا الكتاب. معنى هذا أن هناك اقتصاد جديد داخل في كل شيء حتى في أنفاسنا.
نقطة ثانية هي اللغة : لغة أمريكا اللاتينية تنتمي إلى اللغات الاتينية الأوربية. وهي الدين. وأنتم تعرفون تماما ماذا يعني الإسلام والأفكار المسبقة عن الإسلام في الغرب عموما , وفي فرنسا بالأخص.
نقطة ثالثة وأخيرة: تخص مصر والثقافة المصرية في فرنسا تحديدا , وتتعلق بموضوع هذه اللقاء بشكل خاص. إن فرنسا تهتم بنجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل للأدب, وتهتم بجمال الغيطاني ومحمد البساطي وإدوارد خراط وصنع الله ابراهيم وابراهيم أصلان وسلوى بكر وغيرهم من الكتاب المصريين, الذين يشكلون اليوم نماذج أساسية في الأدب العربي. لكن تبقى فرنسا مع ذلك, متحيزة إلى مصر القديمة. فرنسا تتعاطى مع مصر القديمة أكثر بكثير مما تتعاطى مع مصر الجديدة أو العالم العربي الجديد أو العالم الإسلامي المعاصر بأكمله. تعنيها مصر القديمة, لأنها تعتبر نفسها القابلة القانونية ؛المولدة الشرعية« للحضارة الفرعونية. وهي تنظر إلى هذه الحضارة بوصفها حضارتها, ويكفي أن نذهب إلى متحف اللو ر ونشاهد الحيز الهائل المعطى لهذه الحضارة. والغريب في الأمر أن فرنسا أكثر من أي دولة أوربية غربية, ت عنى بهذه الحضارة الآتية من بعيد, أكثر مما ت عنى بالثقافة الإغريقية الرومانية التي تشكل جزءا أساسيا من ثقافتها.
هكذا يبقى الجانب الأدبي المعاصر محدودا على الرغم من أهمية حضوره في الثقافة الفرنسية.
لي ملاحظة جانبية أخرى أريد أن أضيفها : وهي أنه يجب أن نفرق بين قارئين. هناك قارئان في فرنسا, كما أن هناك قارئين في العالم أجمع. هناك قارئ نخبوي, لا ينتظر التلفزيون ولا ينتظر وسائل الإعلام الحديثة التي تقول له إن نجيب محفوظ كاتب مهم بعد أن حصل على جائزة نوبل. وهناك القارئ الجماهيري الذي سبق وتحدث عنه جمال الغيطاني, والذي يجب أن ن قدم إليه على طبق من الفضة هذا الكتاب أو ذاك. وهذا القارئ الجماهيري الذي لم نصل بعد, للأسف, إليه بشكل واسع, إلا عبر نماذج محدودة جدا بمصر والعالم العربي, هو قارئ كسول, لكنه شديد الأهمية بالنسبة إلى الكاتب لأنه هو الذي يحقق شهرة الكاتب. هذا القارئ يشبه إلى حد بعيد السائح ,الذي يأتي إلى باريس من أبعد مناطق العالم, ويقف أمام قوس النصر بالشانزليزيه, ليس ليرى قوس النصر, بل ليرى الصورة التي رآها من قبل في »كارت بوستال«, وليلتقط صورة مماثلة لها.
لم أكن أتحدث عن القيمة الأدبية, ولا عن تصنيف هذه الأعمال, بقدر ما كنت أعالج مسألة وصول هذه الأعمال الأدبية إلى القارئ الفرنسي. فهناك أعمال في قلب المكتبات تكون فيها اللغة الفرنسية لغة المتن, وهناك أعمال في هامشها, تكون فيها اللغة الفرنسية هي لغة الترجمة, وليس المتن.
أما بخصوص الموضوع الذي تفضلت وأشرت إليه, فأيضا للأسف هناك طبقات داخل الأعمال المكتوبة مباشرة باللغة الفرنسية. فمثلا ينظر إلى أمين معلوف والطاهر بن جلون وأحمد بن دهمان باعتبارهم كتاب ناطقين بالفرنسية »فرانكوفونيين«, ليسوا أصلاء, ولكن وافدين داخلين بالنسيج الفرنسي. وأعتقد أن كلمة »الفرانكوفونية«, في هذا المجال الأدبي بالتحديد, تنطوي على قلة شأن, تعني الكتابة من الدرجة الثانية, والكاتب من الطبقة الثانية. هذا على عكس كتاب وافدين آخرين من الدول الأوربية, فلا يمكن أن تصف سيوران أو بيكيت بالفرانكوفونية عندما يكتبان باللغة الفرنسية.
جمال الغيطاني :
أود فقط أن أسأل : عندما يجد القارئ الفرنسي على رف مكتبة من المكتبات رواية مكتوبة بالفرنسية لأحمد بن دهمان ورواية أخرى مترجمة إلى الفرنسية لمحمد البساطي, كيف يتعامل هذا القارئ مع هاتين الروايتين ? إنه أمام أديبين عربيين ومسلمين قادمين من نفس المنطقة تقريبا , أحدهما يكتب بالفرنسية, والآخر بالعربية, أليس هناك ترحيب أكبر, كما يبدو لي, بالأديب الذي يكتب بالفرنسية ?
ولى سؤال آخر يتعلق بوضع الأدب العربي بشكل عام في أوربا : أنا اتفق معك في ملاحظاتك الذكية حول أدب أمريكا اللاتينية. فأدب أمريكا اللاتينية هو جزء من الثقافة الأوربية, والمشكلة لدينا معقدة, لأنها تخضع لاعتبارات تتعدى الاعتبارات الأدبية. فأدبنا جزء من العلاقة المعقدة بين الشرق والغرب, فوفقا لتقلب العلاقات, يقبل هذا الأدب أو يهمل, أو ينظر إليه كمصدر من مصادر المعلومات. جاءت حرب الخليج, حصل اهتمام بالمنطقة, واهتموا بالترجمة … الخ. ومع ذلك, بمتابعتي لحالة الأدب العربي في أوربا, أعتقد أن أفضل حضور للأدب العربي في أوربا موجود في فرنسا. فرنسا بالتحديد. فالفرنسيون في الحقيقة, أخذوا زمام المبادرة للترجمة والنشر, سواء من خلال برامج مدعومة من الحكومة الفرنسية أو من خلال المبادرات الذاتية لدور النشر, أو من خلال وجود عرب نشطاء في تقديم الثقافة العربية, وعلى وجه الخصوص في دار نشر سندباد أكت سود, ففيها فاروق مردم بك. وهناك آخرون مثل الأخ محمد سعد الدين اليماني, الذي لعب دورا هاما في فترة من الفترات, لا أعرف الآن, إذا كان مستمرا أم لا ? الوضع في فرنسا أفضل للأدب العربي مثلا من انجلترا حيث لا تكاد تشعر بوجود الأدب العربي. وفي ألمانيا عندما حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل, طلعت »فرانكفورت ألجامينه« بمانشيت طويل عريض : (محفوظ ! محفوظ ! من هو محفوظ ?). في ايطاليا الأقرب إلينا جغرافيا , لا يوجد أي اهتمام. دور النشر التي تتعامل في ايطاليا مع الأدب العربي, دور نشر صغيرة ومغامرة. أنا شايف إن الوضع في فرنسا الآن أفضل من عام 1985. عندما صدرت ترجمة الزيني بركات عام 1985, كان هناك عدد قليل من الروايات المترجمة. وقبل هذا كان الأدب في دائرة الاستعراب. توفيق الحكيم صدرت له بعض الترجمات في دور نشر صغيرة جدا , اختفت الآن. وكانت هذه الاصدارات تهدف لخدمة الطلبة في أقسام اللغة العربية بالمعاهد والجامعات الفرنسية. الآن هناك دور النشر الكبرى وتكونت مكتبة عربية مترجمة. السؤال هو : هل, مع مرور الزمن وتراكم الترجمات, يمكن للأدب العربي أن يتجاوز وضعه الهامشي, ويتحول إلى تيار أكثر حضورا وفاعلية ? أقول هذا وأنا في ذهني موجة الاهتمام بالأدب الهندي في فرنسا هذه الأيام.
عيسى مخلوف :
هذه الملاحظات هامة جدا , وأنا أريد أن أتحدث عن الأدب العربي خارج موجات »الموضة«. فاليوم »موضة« أمريكا اللاتينية ليست بالقوة التي كانت عليها في السبعينيات أو الثمانينيات. أو حتى في الخمسينيات, عندما اكتشف »رو يه كايواه« اسما كبيرا مثل اسم بورخيس. بالنسبة للأدب العربي هل هناك »موضة« عربية ? بالطبع نتمنى أن تكون هناك »موضة« عربية أو »موضة« هندية حتى نصير موجودين. لكن ما قاله الغيطاني مطبقا إياه على فرنسا, أريد أن أطبقه على مستوى الكون ككل, على مستوى الكوكب. هناك الآن شيء يدعى الـ»يست« أصبح يدعى اليوم الـ»يويت« أي نادي الدول الثمان العظام. هذا النادي لا يحتكر السياسة والاقتصاد والطاقات العسكرية والتكنولوجية ووسائل الإعلام الحديثة فقط, إنما يحتكر أيضا الثقافة. لا وجود لأي فنان تشكيلي في العالم إلا إذا أجازته هذه الدول. مما يشكو »أسدون«, مما يشكو »شفيق عبود«, مما يشكو الفنانون المصريون, ومما يشكو العراقيون ? يكفي أن نتجول في المعارض العالمية في أوربا وأمريكا الشمالية لنتعرف على أسباب شكوى هؤلاء الفنانين. ينطبق هذا الكلام تماما على الأدب وعلى الموسيقي. يعني : أننا نستطيع أن نفوت وأن نمر, فهناك محل لنا. إنهم يعطوننا حيزا لكن الذين يحتلون المساحات المركزية ويهيمنون على العالم هم فنانوا الـ»يست«. هناك فنان فرنسي يدعى بيير سولا , يصل سـعر لوحـتـه في أمريكا الشمالية إلى مليون دولار. وتعرض لوحاته في متاحف ومعارض العالم, لأنه يمثل فرنسا في العالم. لماذا لا يوجد آدم حنين – الذي أفضله فنيا عن بيير سولا – بنفس القوة والانتشار في معارض العالم ومتاحفها? وهكذا بالنسبة للفنان الإيطالي أو الألماني أو الأمريكي.
خليل النعيمي :
أريد أن أجيب على سؤال جمال الغيطاني, الخاص بالقارئ الفرنسي العادي عندما يجد أمامه رواية للبساطي وأخرى للطاهر بن جلون مثلا . أتصور أن اختياره يكون موجها من وسائل الإعلام, فوسائل الإعلام هي التي تميز هذه الأعمال أو تلك. وفرنسا تعطي تفضيلا للفرانكوفونية, ليس فقط لمسألة الحضور الثقافي الفرنسي في العالم, ولكن لأنها تكتسب, أيضا , ثراءا باكتسابها لكتاب وافدين جدد, يكتبون بلغة راسين وموليير. فهؤلاء الكتاب طلائع ورائها صفوف وشرائح مختلفة. لكن القارئ العادي لو ت رك لنفسه, لا يفكر فيما إذا كان الكتاب كتب بالفرنسية أصلا أم العربية.
المشكلة التي أود أن أطرحها : هي مشكلة الأدب العربي داخل العالم العربي. فقبل عشرين سنة, عندما كانت الكتابات العربية خاضعة تماما للسلطات السياسية والثقافية والأخلاقية, كانت هذه الكتابات لا تهم, إلى حد ما, العالم الغربي. وبدأ الغرب يهتم في الفترة الأخيرة بالترجمات, لأنه بدأ كتاب عرب يكتبون بعيدا عن هذه السلطات. وصارت هناك تجارب إنسانية حميمية لدى البساطي والغيطاني وصنع الله ابراهيم وغيرهم, تحكي عن الخبرة الإنسانية العربية. وبدأت تستقل عن الأطر الخارجية أو حتى عن الأطر المفروضة من المدارس الفنية الرسمية كالواقعية الاشتراكية. عندما بدأت التجارب القديمة تنحصر صار هناك أدب جديد يضيف, فيما أتصور, للتجربة الإبداعية الإنسانية, وبالتالي بدأت حركة الترجمة تتجه لهؤلاء. ليس بسبب نجيب محفوظ وحده. فهناك أجيال من الأدباء الجدد- وأنا كلما زرت القاهرة – تذهلني هذه الأجيال المتراكمة من الكتاب المبدعين حقا , الذين يضيفون في كل مرة إلى الخبرة المصرية العربية الإنسانية. فمشكلة الأدب هي مشكلة مجتمعه. والغرب سوف يتقبل هذه الأعمال على كل حال, فهو يترجم بشكل سلعي, ولا يترجم للمعرفة ولا للأخلاق. طبعا هذا القول له حدوده, ولا ألقيه بشكل مطلق.
جمال الغيطاني :
أنا ابتهل إلى الله أن لا تكون لأي مؤسسة ثقافية رسمية عربية علاقة بتقديم أدبنا العربي إلى العالم. فأكبر ضرر يمكن أن يلحق بالأدب العربي سيحدث إذا تصدت المؤسسات الثقافية الرسمية للقيام بهذا الدور.
محمد البساطي :
أنظر إلى مشروع الترجمة الذي يتم في مصر ! بالهيئة العامة للكتاب!
جمال الغيطاني :
إن وزارات الثقافة في البلاد العربية بشكلها الحالي, يجب أن تلغى. الثقافة المصرية لم تكون مجدها في ظل وجود وزارة الثقافة. والحضور الثقافي الحقيقي في البلاد العربية يتم خارج وجود وزارات الثقافة, بجهود المثقفين المبدعين الذاتية. ولو نظرنا إلى ماضي الثقافة في مصر, سنجد أن »الهلال« أسسها جورجي زيدان في مصر, وأن شبلي شميل هو الذي أسس »المقتطف« .. المثقفون العرب هم الذين بنوا صرح الثقافة العربية الحديثة, وليس وزارات الثقافة.
ينبغي أن ينتهي وجود المؤسسات »القابضة« التي تريد أن تطو ع المثقفين للسلطة, لا أن تضع نفسها في خدمتهم. هذا هو المرض الحقيقي لوزارات الثقافة, فهي وزارات ظهرت في ظل أنظمة شمولية كوزارات الإعلام تماما , هدفها تطويع المثقف. هذا ما نقاومه. معركتنا تتلخص في المقولة التالية : »أنا ياسيدي مش عايز أبقى داخل آلة دعاية. سيبني أقول رأيي. ده أ فيد لك. ده أفضل حتى للحكومة والنظام«.
لو قرئ نجيب محفوظ بدقة قبل 67, أنا أتصور أنه كان من الممكن تفادي أسباب الهزيمة, لأن كل التنبوء بالهزيمة موجود في رواياته : في ثرثرة فوق النيل, وفي ميرامار وغيرها. لو ق رأت أعمالنا بدقة … . »الأديب دايما يشوف الخلل. فلا ينبغي أن نحو ل الأديب إلى داعية«. من جهة أخرى, لو نظرنا إلى كبار الأدباء والمفكرين والمثقفين في الجالية العربية في فرنسا وأوربا, سنجد نصف المهاجرين منهم إلى أوربا من اللاجئين, ونرجو أن لا يلحق بهم الآخرون !
أسامة خليل :
أشعر بأن هناك حركة خيانة في الأفق, وأن سلوى النعيمي وخليل النعيمي يستعدان لمغادرة الندوة, لذلك فبعد تدخل الأستاذ خليل النعيمي أرجو أن نستمع إليك أيضا , خاصة وأنك ناقدة أدبية وأجريت حوارات عديدة في الصحف العربية مع الروائيين العرب. ومنهم رضوى عاشور وإدوارد الخراط وجمال الغيطاني. كما أنك المسؤولة عن التظاهرات الأدبية بمعهد العالم العربي بباريس.
ماهو تقييمك للحضور الأدبي العربي بفرنسا ? وهل هناك مصادر طلب للأدب العربي في الثقافة الفرنسية ? وهل يمكن التعرف على هذه المصادر وتصنيفها ما بين الجهات الثقافية الفرنسية ومستوياتها المتخصصة والعامة, والجالية العربية التي تصل اليوم إلى خمسة ملايين نسمة, والتي تختلف فيما بين فئة النخبة وفئة العمال المهاجرين, وأبناء هؤلاء من الجيل الثاني والثالث, الذين لا يقرأون غير الفرنسية.
سلوى النعيمي :
بالفعل, جمال الغيطاني كان عنده استعداد, ولم أبذل جهدا في الحصول على هذه الاعترافات !
أسامة خليل :
هناك رواية مثل ؛غرناطة« لرضوى عاشور حاول الدكتور مصطفي صفوان دفع بعض الناشرين لترجمتها لكنها لم تترجم إلى الآن.
محمد البساطي :
سياسة الجهات الرسمية بالعالم العربي تقول إن »ده مش بتاعنا« أو »ده مش معانا«. ولذلك فهو محروم من كل شيء.
أسامة خليل :
أود أن أشكر المفكر المغربي رشيد صباغي الذي لحق بنا بسرعة شديدة بعد محاضرته بالجامعة التي انتهت في موعد بداية هذه الندوة, فسوف يضيف بالتأكيد أبعادا جديدة للحوار الدائر بيننا.
رشيد صباغي :
رغم أن لغتي العربية أصابها الصدأ, لأنني أعبر بالفرنسية للأسف أكثر مما أعبر بالعربية. إلا أنني سأتحدث بالعربية, واستميحكم عذرا مقدما , عن بعض ؛»المقالب« التي ستوقعني فيها لغتي.
أكيد أن موضوع هذه الندوة على درجة شديدة من الإشكال, تتداخل فيه مستويات شديدة التنافر والتشابك في نفس الوقت. مستويات تحليل تنتمي إلى مجالات بحث مختلفة. والخوض فيها يتطلب وقتا طويلا . وسأوجز كلامي في بعض الفذلكات.
أولا , أشير إلى فلتة, هي فلتة كتاب إدوارد سعيد ؛الاستشراق«. الذي لم ي خلص لكل طموحاته. كان مشروعه هو دراسة الاستشراق, ليس كأعمال أفراد, وليس كعبقريات, وليس كمصائر شخصية, بل كمؤسسة. وانطلق من كتابات ميشيل فوكوه في دراسة الخطاب الغربي كخطاب يصدر عن مؤسسات. وليس عن نفسيات شخصية, أو عن مصائر عبقرية. والسؤال هو : ما هي المؤسسة الفرنسية التي تشرف على شؤون الأدب العربي بشكل خاص, والثقافة العربية بشكل عام ? هذه المؤسسة هي مؤسسة الاستعراب الفرنسي. ولها تحقيب. يمكننا أن ندرس حقبها التاريخية بشكل دقيق. عندما اهتمت هذه المؤسسة بالعالم العربي, اهتمت أولا وأساسا بالجانب الديني : بالإسلام. وأنشأت جيلا من المستشرقين اختصوا بالفقه الشافعي والحنفي والحنبلي والمالكي والمدارس الأخرى, التي اختفت, والتي ما زالت باقية. اهتمت بعلم الكلام, اهتمت بالسيرة والتاريخ, اهتمت بتحقيق المخطوطات ونشر النصوص. وأبدعت في هذا المجال وقدمت خدمات لا تنكر.
من اهتم بالأدب العربي, بالمعنى الحديث لمصطلح »الأدب«, كقطيعة متواصلة مع تراث الأدب القديم? وأقصد هنا بالأدب على وجه التعيين : الرواية. أكيد أن الجيل السابق, جيل بلاشير, وجيل شارل بيللا وجيل سيرافان كولان اللغوي القدير — الذي تعرفه الدكتورة ماري فرانسيس سعد — وجه اهتماماته لدراسة الأدب العربي الكلاسيكي, كوثائق لغوية, كذخيرة تراثية أكثر منه كحركة إبداع.
متى بدأ الاهتمام بالأدب العربي كإبداع معاصر ? حسب معلوماتي, لم يبدأ هذا الاهتمام إلا في السبعينيات. ما هي الأسباب ? أشار الأستاذ الغيطاني إلى جمال الدين بن شيخ, وهناك اسماء أخرى. لما ك لف جمال الدين بن شيخ والأستاذ محمد أركون وآخرون, ممن يمتحنون الطلاب كل عام في مسابقة »التبريز« أو »الصلاحية« المسماة بالفرنسية بـ »الأجريجاسيون«. وهي المسابقة التي يتم فيها اختيار أساتذة اللغة العربية والأدب العربي والحضارة العربية في الجامعات الفرنسية. قرر هؤلاء تحقيق شبه قطيعة مع الجيل السابق, وإقحام الأدب العربي المعاصر في برامج الأجريجاسيون. وسبب هذا القرار معركة مع من كانوا يعتبرون أن كل الأدب العربي المعاصر منذ الثلاثينيات لا يستحق الاهتمام, لأنه »سالب« لغويا , مليء بالأخطاء النحوية والصرفية, لغته ضعيفة لا يتملك ناصيتها جاحظ أو توحيدي … الخ. كان هذا موقف ري يس بلاشير مثلا .
إذن بفضل هذه القطيعة, أقحمت داخل مقررات مسابقة الأجريجاسيون, روايات الزيني بركات وخان الخليلي الخ. وانطلاقا من هذا الإقحام, بدأ جيل من الأساتذة »المبرزين« في اللغة العربية في فرنسا, يهتم أكثر, وظهرت مبادرات فردية حاولت أن تثير اهتمام دور النشر, في نفس الظرف الذي كانت هناك فيه حالة فوران سياسي واضح في العالم العربي, أثارت اهتمام الجمهور الفرنسي الذي أصبح طالبا لنصوص أدبية عن هذا العالم.
مداخلة : هذا يعني أن المؤسسة التي تهتم بشؤون الثقافة العربية بفرنسا لم تهتم بهذا الأدب إلا في العشرين سنة الأخيرة على وجه التقريب.
فيما يتعلق بالفرانكوفونية, يجب أن ننتبه إلى أن هذا النوع من الأدب المكتوب بالفرنسية هو بالأساس, وللأسف, أدب مغاربي. لا أقول إنه ليس هناك أدب عراقي بالفرنسية. هناك أدب عراقي بالفرنسية, وأدب لبناني بالفرنسية, كما أن معنا الكاتب السعودي أحمد بن دهمان الذي يكتب بالفرنسية, ويلقى اهتماما وتقديرا على مختلف المستويات. لكن باستثناء الحضور اللبناني النسبي, فالطابع الغالب على الأدب العربي المكتوب بالفرنسية هو مغاربيته.
رشيد صباغي :
نعم, ولكن أنا لا أشير الآن إلى الأدب المصري, لأن هذه حالة قديمة معروفة. فأكيد أن الدرة اليتيمة في هذا الأدب هي هذه الأعمال المكتوبة باللغة الفرنسية.
على أي حال, وضع الأدب المغاربي يختلف, لأن معظم ممثليه يقطنون هذا البلد, ولهم شهادات فرنسية. ولهم قنوات, مندرجة تمام الاندراج (جمال الدين بن شيخ وأركون وغيرهم) وملتحمة تمام الالتحام مع المؤسسة الثقافية الفرنسية, التي لها حساباتها في المغرب العربي, والتي تعتبر أن موقعها اللغوي في المغرب العربي أهم من مواقعها في المناطق العربية الأخرى. ولا أتكلم عن غير ذلك من المواقع الأخرى.
بالتالي نجد من المغرب نماذج عديدة معروفة — لا داعي لذكر الأسماء — منها من حاز على جائزة »الجونكور« ومنها من حاز على جوائز فرنسية رفيعة أخرى, بصرف النظر عن أي حكم قيمي في هذا الصدد. هذه الأسماء نسجت شبكة من العلاقات بين الضفتين, وخلقت لنفسها موقعا استراتيجيا أدى إلى انتشار ساحق, انتقل من النشر في كبريات دور النشر الفرنسية إلى النشر في سلاسل »الجيب« الذائعة الانتشار التي تصدر أكثر من نصف مليون نسخة من كل رواية, وليس فقط بضعة آلاف. ويضاف إلى ذلك, أيضا , عنصر تداخل تكوين المثقفين المغارييين — وأقصد بذلك المغاربة والجزائريين والتونسيين — بالثقافة الفرنسية, فحوارية أدبهم معها أكثر من حوارية الأدب القادم من المشرق العربي. لنأخذ نموذج الروائي المغربي الخطيبي : عندما يكتب الخطيبي رواية فإن تناصها مع الأدب الفرنسي جائز وذو وشائج حميمية مع هذا الأدب الفرنسي, الذي يعيشه ويتنفسه ويتابع جديده كل يوم. لهذا فهو يجد تجاوبا من القارئ الفرنسي الذي لا يحتاج معه إلى جهد استيعاب, لأنه يحدثهم انطلاقا من إشكاليات أدبية وفكرية وفلسفية واجتماعية مستوعبة تماما , في حين أن الكاتب الذي يأتي من تراكم ثقافي آخر, أو من تناص آخر. يبدو للوهلة الأولى صعبا غامضا مصمتا يصعب التجول بين شعابه, ويصعب أيضا استيعاب الرهانات الأساسية المفسرة لأعماله. وهذا يفسر لماذا يكتب »اك دريدا« أو »فيليب سوليرز« عن الخطيبي ولا يكتبان عن ؛الغيطاني«. فقاموس التلقي بينهما وبين الخطيبي مشترك من الوهلة الأولى.
مداخلة : هذا لا يعني أن كتابات البساطي والغيطاني وغيرهما من كتاب المشرق لن تجد لها قراء, لأن من الأشياء العظيمة بفرنسا, أن المصائر الفريدة واليتيمة تجد دائما قراءها. بل إن كبار الكتاب الحقيقيين الفرنسيين ليسوا مقروئين بفرنسا. فلنأخذ مثلا واحدا من أكبر الكتاب المعاصرين في فرنسا بشهادة كل الكتاب والنقاد المعاصرين, ؛دي فوريه«. من يقرأ لدي فوريه ? !
رشيد صباغي :
نعم, وإن كان جوليان جراك قد اخترق الحصار. لكن بيير ميشو مثلا له خمسة آلاف قارئ, ودي فوريه له ستة آلاف قارئ في كل فرنسا, وموريس بلانشو الشهير الذي يذكر اسمه بمناسبة وبغير مناسبة, قراؤه معدودون جدا . إذن يمكن أن نطرح الإشكالية بشكل آخر. أن نقول : هل نحن محتاجون إلى أدب يقرأه الملايين ? وبالتالي يكون علينا أن نكتب ما يسميه البعض بتعبير احتقاري إلى حد ما : »أدب البوابين«, الذي لا ي جبر قارئه على بذل أي مجهود, أو على إعادة تقييم واعتبار الأشياء. أم نحن محتاجون في نهاية المطاف, إلى أدب نخبة يقرأه قراء الأدب الحقيقيون?
هذه هي الإشكالية, وهذا هو الوضع الذي علينا توصيفه والذي لا يحتمل أي أحكام قيمية.
سلوى النعيمي :
للحديث جوانب عديدة من جهة الكتابة الإبداعية ومن جهة الترجمة. وسأتحدث كناقدة معنية بالحضور الأدبي العربي في فرنسا, عن جانب الترجمة والنشر.
نحن نعرف أن هناك بفرنسا معايير لاختيار الكتب. هذه المعايير لا تتضمن بالضرورة القيمة الإبداعية الحقيقية للعمل الأدبي. هناك بالطبع كتاب لهم مكانتهم المعترف بها في الدول العربية, والغرب ليس بالبلاهة أو الغباء حتى يتجاهلهم, لكن هناك أيضا , كت اب لا قيمة لهم, تترجم أعمالهم لأنهم يقدمون للغرب المعايير التي يريد أن يراها بالأدب العربي. فإذا كان الكاتب إمرأة عربية, فيجب أن تكتب كيف ختنوها وزوجوها قصرا أو اغتصبوها وكيف قمعوها, حتى ت نشر وتترجم وتس و ق. نعم, هذا شيء من المبالغة ؛الكاريكاتيرية« لكن الواقع ليس بعيدا جدا عن هذا الكاريكاتير. وهناك كتاب مبدعون غير معترف بهم تماما , تستحق أعمالهم الترجمة, لكنها لن تترجم, لأنها تخالف هذه المعايير وتعطي صورة — إيجابية — مخالفة عن هذه المجتمعات. إذن, بالإضافة إلى العوامل الشخصية, وشهرة بعض الكتاب التي تفرض نفسها على الترجمة, هناك أيضا عوامل ايديولوجية تلعب دورا أهم من عامل تقدير القيمة الأدبية.
أسامة خليل :
أعتقد أن خبرتك الشخصية, حقيقية, وأؤكد موقفك القائل بأن هناك اختيارات ترتكز على أدبية العمل في ذاته, لكن هذا لا يعني أن جميع الاختيارات تتم بهذا الأسلوب. فهناك مؤسسات أخرى ومراكز قرار أخرى أيضا . ويبدو أن الأستاذ عيسى مخلوف يريد أن يضيف شيئا .
عيسى مخلوف :
أنا أتساءل, بناء على ما قيل : أين نحن اليوم من العالم ? ما هو الشيء الجديد الذي نقدمه للعالم ? مشكلتنا أننا لم نمر تماما بالقرن الثامن عشر, وأقصد بذلك عصر الأنوار بأوربا. النهضة العربية الحديثة ما عادت تطرح الأسئلة التي كانت تطرحها, حتى, في الأربعينيات.
نحن نتراجع اليوم عما كنا نطرحه من قبل. هذا بينما كانت أمريكا اللاتينية — وأقصد هنا النخبة فيها — على إصغاء تام وبإمعان لما يجري في أوربا اللاتينية وفي أمريكا الشمالية.
ماذا عندنا نحن ? عندنا حركة أدبية ترقص الدبكة, في غياب الحركة النقدية, في غياب التفكير الفلسفي, في غياب العلوم الإنسانية, في غياب العلوم الوضعية, في غياب التكنولوجيا.
ماذا يفعل الأديب وهو يفتقد هذا المحيط البيئي اللازم للإبداع ? ماذا يفعل في حضور مؤسسات الثقافة الرسمية, عندما يظهر وزير ثقافة في التلفزيون ويقول للمثقفين أنتم أحرار. إذهبوا إلى الغرب إذا شئتم. يقول بالليل في التلفزيون لزهرة مجتمعه : سافروا إلى الغرب, وعبروا عن أنفسكم هناك. هذا معناه أن الكاتب العربي اليوم فدائي بكل معاني الكلمة, ينحت في الصخر.
أثار الغيطاني ملاحظة نقدية حول الكاتب الذي يغازل الترجمة وهو يكتب. من الطبيعي أن يفكر الكاتب في الترجمة, فليس له قراء في العالم العربي. ما هو عدد قراء الرواية في العالم العربي ? أريد أن أقول إن اهتمام الغرب بأدبنا يبدو في كثير من الأحيان أكبر بكثير من اهتمام العالم العربي بهذا الأدب.
الكتاب العرب يعيشون في غياب المؤسسة الثقافية الحقيقية, لا أقصد المؤسسة الرسمية, ولكن مؤسسة المثقفين أنفسهم الذين يعملون ويتعاونون لخدمة هذه الثقافة. هناك فرق بين المثقفين وبين موظفي الثقافة في الأجهزة الرسمية. موظفو الثقافة في كل أنحاء العالم, معروف أنهم ضد الثقافة. من المستحيل في العالم أن ت بني ثقافة دون أن تكون هناك ميزانية للثقافة. ميزانية الثقافة في فرنسا 11 مليار فرنك فرنسي. توجه للموسيقى, للأدب, للسينما, للباليه, للمسرح, … الخ. بهذا المعنى هناك جانب سياسي رسمي للثقافة وهناك جانب مادي تجاري أيضا , لكن الوعي والحيوية الثقافية تمرران أشياء كثيرة جيدة. »يمرق الغيطاني, ويمرق البساطي وغيرهم« لأن »فيه« حركة ثقافية.
نقطة أخيرة, في المقابل, نحن في العالم العربي, في آخر لائحة من يترج م في العالم. إسرائيل, تترجم أكثر من عشرة أضعاف ما نترجم, ونحن عددنا أكثر من ثلاثمائة مليون عربي ! هذا يعني أننا نعيش انقطاعا ثقافيا عما يجري في العالم. هناك بعض المثقفين حاملون رسالة, إنما هم أفراد, لا يشكلون حالة ثقافية.
خليل النعيمي :
حتى لا يحدث لبس فيما يتعلق بميزانية الثقافة في فرنسا, يجب أن نعلم أن الثقافة في فرنسا ليست هي وزارة الثقافة, بل هي دور النشر والمؤسسات الأهلية, هي الصحف والمجلات. في العالم العربي دور النشر الكبيرة المؤثرة — الهيئة العامة للكتاب في مصر مثلا — تابعة للدولة. في سوريا الثقافة تابعة لوزارة الثقافة واتحاد الكتاب الرسمي. في العراق نفس الشيء. نحن بحاجة إلى دور نشر أهلية قوية تنشر الثقافة وتتلقى الدعم من الميزانية الثقافية العامة, دون أن تكون تابعة للحكومات.
أسامة خليل :
بعد أن تناولنا الحالة الثقافية في العالم العربي, أرجو أن نعود من جديد إلى صلب موضوع اليوم, وهو الحضور الأدبي العربي في الثقافة الفرنسية.
السؤال : ما هو موقع الأدب المصري والعربي في الثقافة الفرنسية ? تناولنا موضوع كيف نشأت في فرنسا الحاجة لترجمة الأعمال الروائية والقصصية والشعرية والفكرية إلى اللغة الفرنسية ? رأينا أن البداية كانت في الأوساط الأكاديمية. وتابعنا النقلة الكيفية في أقسام الدراسات العربية والإسلامية, وتعاظم ثقل الوجود العربي في قلب المجتمع الفرنسي. لهذا الوجود جانبان : وجود النخبة العربية داخل النسيج الأكاديمي الفرنسي, الذي حقق النقلة الكيفية التي حدثنا عنها رشيد صباغي. لكن هذه النقلة ما كان بمقدورها أن تصبح هذا المد العارم, لولا وجود هذا الكم الهائل من الحضور الجماهيري الذي يصل اليوم إلى أكثر من خمسة ملايين عربي, وخاصة أبناء الجيل الثاني والثالث للهجرة الذين تعلموا في المدارس والجامعات الفرنسية, وانقطعوا عن أصولهم اللغوية والفكرية العربية والإسلامية, والذين يمارسون اليوم حركة عكسية في اتجاه مجتمعاتهم الأصلية وهو ما أسميه بالعودة للأصول. هذه العودة, تتم بواسطة اللغة الفرنسية. فالحضور العربي في فرنسا هو مصدر طلب للثقافة الأدبية والدينية العربية الإسلامية باللغة العربية لدى النخبة وباللغة الفرنسية في الأغلب الأعم. وليس أدل على ذلك من تعدد ترجمات القرآن الكريم في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي. ومئات الآلاف من نسخ هذه الترجمات التي يشتريها العرب والمسلمون في فرنسا, وفي بلاد المغرب العربي فضلا عن بعض الدول الإفريقية. فهذا كله يشكل فضاءا فرانكوفونيا واسعا يفرض حضوره إذا ما حاولنا تجاهله. وله قيمته الحية والمستقبلية بالرغم من, بل ربما بسبب, موقعه الجانبي على هامش الثقافة الفرنسية »الأصلية« ! فإذا كانت ثقافة الفرانكوفونية ثقافة فرنسية من الدرجة الثانية في الوقت الراهن, فأنا أعتقد أنه سوف يكون لها شأن كبير في المستقبل.
هناك أيضا مطلب الترجمة الصادر من حركة تطور الثقافة الفرنسية نفسها. فالثقافة الفرنسية, شأنها شأن غيرها من الثقافات الغربية, ثقافة »فاتحة ومنفتحة« فهى ترفع لواء العالمية, وتذهب للبحث والتنقيب عن الثقافات الأخرى في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية, ولا تخشى, بل ترحب بقدوم هذه الثقافات داخل جغرافيتها. فتراث هذه الثقافات جزء من تراث الإنسانية, والإبداعات المعاصرة لهذه الثقافات, تمثل إضافات نوعية تستوعبها فرنسا وتثري بها حصيلتها الثقافية. وينبغي ألا ننسي أن كل فكر وأدب ينقل من لغة الأصل إلى لغة الاستقبال, يعمل بالضرورة داخل ثقافة لغة الاستقبال, التي تتمثله وتعيد تشكيله في بوتقتها الخاصة. لهذا فمن الطبيعي أن تتجه الثقافة الفرنسية إلى ترجمة الأدب العربي كما تتجه إلى ترجمة آداب الصين والهند وتركيا وإيران وغيرها من المناطق الحضارية. وهنا تبدو أهمية التحقيب الذي حدثنا عنه رشيد صباغي باقتدار.
لكن يمكننا أن نطرح هذه القضية من خلال فرضية تاريخية أنثروبولوجية أخرى, إذا أخذنا بتعريف شبنجلر لكل من »الثقافة« و»الحضارة« :
يرى شبنجلر أن الثقافة هي حيوية البزوغ والإبداع وبالتالي فهي كالفرد الإنساني كيان عضوي عبقري فريد, يستوعب الوافد ويصهره في بوتقته, أو بالأحرى يتمثله بالمعنى البيولوجي لهذه الكلمة, ولا يقبل التجاور أو التعايش معه. أما الحضارة فهي كيان هندسي معماري, يقبل الامتداد والتوازي والإضافة. حين تخبو جذوة الثقافة ويحل بها الهرم تتحول العبقرية النوعية الفريدة إلى امتداد معماري تحصيلي جامع.
فالثقافة لا تعرف إلا حقيقتها. أما الحضارة فهي تقارن بين حقيقتها وحقائق الحضارات الأخرى, قد تفاضل بين الحقائق, لكنها تقول بتكامل الحقائق, في حصيلة كلية من الحقائق المتنوعة القادمة من الحضارات الإنسانية المختلفة.
كيف يعيننا هذا التعريف الذي نجده لدى شبنجلر في كتابه الشهير ؛أفول الغرب« في فهم وتفسير عمليات الأخذ والعطاء الثقافي في الوقت الراهن ? أعتقد أن ما نعاينه اليوم في المجتمعات الغربية هو الحضارة الغربية وليس الثقافات الغربية. وما نسميه بالثقافة اليوم في هذه المجتمعات ليس الحيوية الثقافية العبقرية الفريدة بالمعني الشبنجلري, ولكن مجرد المنتجات الأدبية والفكرية والفنية في هذه المجتمعات, التي تتجه اليوم نحو التماثل من مجتمع إلى آخر, وتتحول إلى ما يسمى بالسلع الثقافية. وليس نضال فرنسا المستميت من أجل ما تسميه بـ»الخصوصية الثقافية« و»الاستثناء الفرنسي« في مفاوضات »الجات«.إلا مظهرا من مظاهر آخر محاولات العبقرية الثقافية الفرنسية للدفاع عن حقيقتها وفرادتها الخاصة, في مواجهة قدرية التحول من الكيف إلى الامتداد.
الولايات المتحدة الأمريكية هي نموذج الحضارة التي لا تقدم نفسها على أنها بوتقة لصهر الثقافات الوافدة التي تستدعيها إلى جغرافيتها. والكيان الأمريكي قائم على التحصيل والتجاور. ومصطلح التعددية الثقافية في قاموس العولمة الأمريكية يرتكز على هذا التجاور, أما مصطلح »الثقافة البينية« في هذا القاموس فهو لا يعني الحصيلة الثقافية المترتبة على جدلية الحوار بين ثقافات متكافئة. بل يعني رغبة إحدى هذه الثقافات في الهيمنة على الثقافات الأخري. بالطبع أنا استخدم كلمة الثقافة في الجملة السابقة بالمعنى المنضب للكلمة وليس بالمعني الحيوي الم ف ع ل لدى أزوالد شبنجلر.
فإذا عدنا إلى فرنسا, سنجد أن إرادة الصمود لدى ثقافة نضبت, تريد أن تستعيد الروح من جديد, وترفض أن تعترف, صراحة, بعملية تحولها إلى امتداد حضاري , تقدم لنا مشهدا ثقافيا فريدا :
* حضارة تمتد إلى الحضارات الأخرى : كانت في البداية ترحل إليها بحثا عن التاريخ والفن والمعرفة, وصارت اليوم, تدعوها إلى القدوم إليها والمشاركة في تأليف أو تركيب فضاء ثقافي — إما دولي أو عالمي — والإقامة الدائمة أو المؤقتة في ثغورها أو في ضواحي عاصمتها الثقافية.
* ثقافة فريدة مجيدة توارت عبقريتها, تنقب عن وعود الروح في ثقافات الشرق التقليدية, وتستجلب تجلياتها الإبداعية الحديثة, لتفعيل حيويتها, الخاصة, بإكسير جديد.
— الاتجاه الأول كان يميز النزعة الكونية في الحركة الثقافية الأوروبية في القرن التاسع عشر. لكنه تحول نحو ما يمكن أن نسميه بالعالميةأو الد ولية واتجه نحو التعايش والتحصيل والتأليف الحضاري.
— أما الاتجاه الثاني فهو حيلة براجماتية للروح أو العبقرية الثقافية الفرنسية, تبحث بها عن »ياجرا« جديدة, بعد إخفاق بعض كتائبها السلفية في إحياء الروح الكاثوليكية, وإخفاق البعض الآخر في استئناف وتفعيل العبقرية الوثنية السابقة على المسيحية.
ومن الواضح تاريخيا أن هذا الاتجاه الثاني بدأ باللجوء إلى الثقافات الشرقية على اعتبار أنها المعاقل الباقية للتراث الروحي التقليدي الذي اهدرته حركات الإصلاح الديني والتحديث. أما اليوم فالعلمانية الفرنسية التي كانت تغذيها, إلى عهد قريب , الإبداعات المعاصرة الوافدة من أركان أوربا وأمريكا, فهي تتجه الآن, نحو ترجمة إبداعات الشرق المعاصر والقراءات الحديثة لتراثه التقليدي.
ومما يزيد هذا التآخذ بين هذين الاتجاهين الحضاري والثقافي تعقيدا بالنسبة لنا :
— الحضور الثقافي اليهودي الذي لا يعد وافدا . فالثقافة اليهودية عنصر تاريخي وتكويني في قلب الثقافة الفرنسية في نفس الوقت الذي يظل فيه هذا العنصر مفارقا لهذه الثقافة. هذا الحضور يلعب دورا مزدوجا في الترحيب بالثقافة العربية الإسلامية وفي مضايقتها والتعريض ببعض مظاهرها في نفس الآن.
— مظاهر التحسب التي تبديها بعض القوى الثقافية والسياسية الفرنسية إزاء النتائج المحسوبة وغير المحسوبة للحضور الوافد والمستجلب لحيويات إبداعية حاملة لأنساق ثقافية ذات نوعيات جديدة بوذية وهندوكية وإسلامية على وجه الخصوص.
وسواء أخذنا بالتحليل الأول المتعلق بانفتاح الثقافة الفرنسية على ثقافات العالم والعالم الثالث, أو أخذنا بالتحليل الثاني الذي يتبني تفرقة شبنجلر بين الثقافة والحضارة, فالخلاصة ببساطة وإيجاز هي أن هناك مطلب من داخل الثقافة الفرنسية »الأصلية! « لترجمة أفضل الإبداعات الفكرية والأدبية العربية لأنها تمثل مصدرا جديدا من مصادر الحيوية التي تحتاجها الثقافة الفرنسية.
ومع ذلك, فأنا أعتقد أن العامل المؤثر بشكل فعال في موجة ترجمة الأدب العربي المعاصر, في فرنسا, هو عامل وجود الخمسة ملايين عربي في فرنسا والتغيرات الثقافية والسوسيولوجية المصاحبة لهذا الوجود.
وربما يمكن لرشيد صباغي أن يعدل من هذا التحليل أو يضيف إليه.
رشيد صباغي :
إذا أخذنا متن الثقافة الفرنسية المعاصرة, وتساءلنا : هل تد اخ ل هذا المتن مع الثقافة العربية المعاصرة تداخلا مبدعا ? فنحن لا نجد »شغلا« للثقافة العربية المعاصرة داخل الثقافة الفرنسية. سأحكي لكم حكاية حدثت لي عند وصولي إلى فرنسا وأنا شاب مراهق منذ عشرين سنة : التقيت بشاعر يسمى »ميشيل دو جي«. خلال الحديث أورد اسم شاعرة فرنسية أرستقراطية مجهولة تماما هي ؛لا كونتيس دو دواي«. قلت له : لا أعرفها. نظر لي نظرة قاسية جدا , قال لي كيف يجوز لواحد مثلك, مغربي, قادم من الدار البيضاء ومن فاس العريقة أن يجهل هذه الشاعرة ? فقلت له : وأنت هل تعرف البحتري, والمرقش الأكبر, والنابغة الذبياني .. ؛سلسلت« له سلسلة من الاسماء, فسكت. لكن بعد مرور ثلاثة أسابيع من هذا النقاش, التقيت بصاحبي الفيلسوف الفرنسي ؛ألان باديو« حكيت له القصة. فكتب لي رسالة يقول : إن أحد »نواقص« الثقافة الفرنسية هو هذه العلاقة. وأذكر أنه كتب هناك أثر ممسوح في ثقافتنا, ألخصه في هذا التجاهل الإمبريالي للثقافة العربية. إن ما قاله الفيلسوف »ألان باديو« يشخص الحالة العامة. فالباحث والناقد في فرنسا يهتم بما ينشر في تشيكوسلو اكيا و ولاندا و يرو والمكسيك وشيلي, وعندما يصل »للخامة« العربية يتجاهلها, لأن هناك شيء غير مفكر فيه, يدفعه إلى اعتبار أن هذه الخامة, في نهاية المطاف, لا تضيف شيئا .
مثلا رولان بارت له كتاب عنوانه )رولان بارت بقلم رولان بارت) نشر فيه رسالة لشخص مغربي كان لديه مشروع هجرة إلى فرنسا. رسالة يتحدث فيها عن مشروعه بلغة فرنسية مهلهلة. مما أزعجني وأزعج الكثير من المثقفين المغاربة. وكأنه يقول : لا تهمنا هذه الثقافة إلا في الحالات الأنثروبولوجية. أي في حالات علاقة مع الثقافة الفرنسية ت بدي كل ما في هذه الثقافة العربية من سذاجة وبدائية … الخ.
عيسى مخلوف :
هل هذا نابع من عدم اهتمام المثقفين الفرنسيين المعاصرين بالثقافة العربية المعاصرة ? أم بالثقافة العربية بوجه عام ? أنا أرى أن عدم الاهتمام يرجع إلى سببين :
سبب ذاتي يتعلق بنا نحن. وسبب موضوعي يتعلق بهذه القطيعة التي تفرضها الأفكار المسبقة في الغرب حيال الثقافة العربية القديمة والمعاصرة. فحتى التعاطي مع الثقافة العربية القديمة المبدعة هو تعاط خجول ومغيب في كتب التاريخ والجغرافية والفلسفة.
أسامة خليل :
كلام رشيد وعيسى مخلوف صحيح, لكنه مرتبط بوضعية معينة. فالتطورات الأخيرة, الكمية والنوعية للحضور العربي في فرنسا أفرزت منذ عشرين سنة, وتفرز معطيات جديدة تماما .
ولا ينبغي أن ننسى أن الخريطة الجغرافية الفرنسية لا تضم شعبا من جذر إثني واحد, فالأمة الفرنسية مكونة من شتلات إثنية وثقافية متعددة, لم تصهرها بوتقة الثقافة الفرنسية دفعة واحدة وإلى الأبد, ولكن على دفعات متكررة ومتعاقبة ومستمرة.
لم يكن الوجود العربي في الستينيات والسبعينيات ظاهرة ثقافية واجتماعية تستحق الاهتمام. بل كان في زمن رولان بارت, مجرد احتشاد لملايين ممسوحة الهوية — غالبيتها لا ت قرأ ولا ت كتب لا باللغة العربية ولا بالفرنسية — من العمال المهاجرين المكدسين في مدن الصفيح, لا يكاد الشعب الفرنسي يرى أشباح أجسادهم, إلا في ساعات الفجر وهم يذهبون إلى المصانع وفي ساعات الغروب في طريق عودتهم إلى عنابرهم في مدن الصفيح. أو على الأرصفة في النهار وهم يكنسون القمامة أو يعملون »فعلة« في تعبيد الطرق وتشييد المباني والكباري.
لقد تغير هذا كله مع الجيل الثاني والثالث للهجرة, وليس هذا مجال التفصيل.
أريد أن أكمل ما قاله رشيد صباغي عن الفيلسوف الفرنسي »ألان باديو«. فخطابه إلى رشيد كان بمثابة علامة إدراك هذه المفارقة لدى بعض الفئات الطليعية في الفكر الفرنسي الحي, والوعي بالحاجة إلى رأبها, والقول بضرورة تجاوز تاريخ الجهل والتجاهل بين الثقافتين العربية والأوربية. فباديو هو الذي كتب أيضا : »هناك وهم قار في المخيلة الغربية عن إسلام مخيف مروع, مازال حتى اليوم يفصلنا عن حدائق غرناطة, عن أولئك الذين اخترعوا الجبر وأسسوا الدراسات التاريخية .. عن شعراء الحب الذي لا يعرف الفصل بين الروح والجسد. عن أولئك الفرسان الذين طالما وقفوا للتأمل تحت سفوح هضاب الصحراء وتلالها. نعم لقد حال الوهم بيننا وبين أولئك العرب الجوانيين الذين شكلوا ثقافتنا, وأقالونا من عثرتنا, والذين ندين لقرائحهم بمسحة الحكمة التي كانت بمثابة العماد الإغريقي لجلفتنا اللاتينية«.
ما معنى أن يكتب آلان باديو — صاحب كتاب »الكينونة والحدث« الذي يعد أهم أطروحة فلسفية ظهرت في فرنسا بعد كتاب »الكلمات والأشياء« لميشيل فوكوه — مثل هذه الكلمات ?
لقد نشأت في الساحة الثقافية في فرنسا في السنوات الأخيرة حركة »دينامية« جديدة في سبيلها للتعاظم ولن تعود إلى الوراء.
فالوجود الديموجرافي العربي في فرنسا انتقل إلى مستوى الحضور الثقافي المكتوب بالفرنسية.
لقد تعاظمت حركة نشر الكتب العربية والإسلامية المكتوبة بالفرنسية. أما المجلات والنشرات التي تصدرها المؤسسات والجمعيات العربية والفرنسية المدنية والرسمية فهي الآن تقدر بالمئات وليس بالعشرات.
لقد ذكرتم في ميدان الإبداع الأدبي من أصوات الثقافة العربية المكتوبة بالفرنسية : الطاهر بن جلون المغربي, وأمين معلوف اللبناني, وأحمد بن دهمان السعودي. هناك أيضا في ميدان النقد الأدبي صوت عبد السلام الكندي العماني, الذي أصدر عام 1988 كتاب (الراحل على غير هدى, شعر وفلسفة العرب في العصر الجاهلي) عن دار سندباد بباريس.
أحمد أبو دهمان :
أنا سعيد بهذا الحوار الذكي والمتين. وأشكر صديقي أسامة خليل على دعوتي للمشاركة معكم في هذه المائدة المستديرة. ولقد أحسست, فعلا بأنكم تقولون ما كنت أفكر فيه وأريد أن أقوله. ومن ثم, أود أن أشير إلى موضوع إضافي, هو ما يسمى بمعرفة السلطة وسلطة المعرفة. هناك معرفة السلطة, إنجازاتها, وموظفيها. وبموازاة هذه المعرفة التي تفرضها السلطة, يجب أن نتحول نحن المبدعين إلى سلطة حقيقية. يجب أن نفرض سلطة المعرفة. كيف يمكن أن نحقق ذلك ? لا يمكن أن تكون هناك حضارة دون حياة الحوار مع الآخر, ودون حياة الإبداع. ولا يمكن أن يكون هناك إبداع دون وعي بالذات ودون معرفة بالآخر. ولكي نصل إلى الآخر يجب أن نصل إلى اكتشاف أبعادنا الأساسية, ولعل في بداية النص القصصي للأستاذ البساطي أيماء لذلك. هناك أيضا مبادئ أساسية لا مفر منها. فما لم نصل إلى مرحلة الاعتراف بالفرد كفرد, ككائن له شخصيته. لا يمكن لأي منا أن ينظر إلى الآخر أو أن ينظر إليه الآخر ويبادله المعرفة والرأي. وما لم يكن الإنسان منا كائنا مستقلا بكل خصوصياته, بكل تميزاته, في مواجهة كل السلطات سواء القبلية أو الاجتماعية أو السياسية, فلا يمكن أن ينتج معرفة حقيقية.
———————
بالتنسيق مع أخبا
أسامة خليل كاتب من مصر يقيم في باريس