في عمله الروائي «البيت الأزرق» الصادر عن منشورات ضفاف ( بيروت) والاختلاف ( الجزائر)، يتجه الشاعر والكاتب اللبناني عبده وازن نحو السرد الروائي مبتعدا عن السرد المتداخل مع السيرة الروائية، على غرار عمليه السابقين «قلب مفتوح» و «غرفة أبي». يقف القارئ إزاء عالم روائي مستقل يبني كيانه الداخلي من تقنيات روائية متعددة تتشابك فيما بينها بحيث تلتحم وتنفصل مثل غرف البيت الواحد.
ولعله قبل تناول بناء رواية «البيت الأزرق» لابد من الإشارة إلى ما تشكله هذه الرواية في مسار الرواية اللبنانية التي تحولت منذ ما يقارب جيل أو أكثر ومع عدة أقلام روائية، عن تناول مرحلة الحرب الأهلية التي عاشها لبنان، واقتران الأعمال الروائية اللبنانية بأدب الحرب، كنتيجة حتمية فرضت واقعها على الانسان العادي، كما فرضته على المبدع فلا يمكنه تجاهلها بأي شكل.ويمكن القول ان رواية وازن تأخذ القارئ من يده لتجول به في لبنان الآن، بعد ابتعاده سنوات عن الحرب، لتكشف خبايا واقع جديد يبدو غير معروف للكثيرين.
في البداية من الممكن أن نأخذ من دلالة كلمة «بيت» مدخلا لقراءة الرواية ورؤية التقسيم الداخلي لبنائها،بما يتوازى مع غرف البيت الذي يشغل كل بطل منه حيزا خاصا به، يتقاطع مع غيره في مساحة مشتركة، بحيث تشكل كل غرفة واقعا خاصا ينفتح على أسئلة تظل مشرعة على المجهول؛ في تفاعل قضايا فلسفية ووجودية بين الكتابة، الحياة، الاكتئاب الانتحار، والسجن.. هكذا تشغل كل قضية منها محورا مهما من محاور السرد، وإن تظل المساحة السردية الواسعة هي تلك التي تراوح بين غرفة السجن، وغرفة الكتابة، حيث من المنظور المكاني يمكن اعتبار البيت كما يرى باشلار :» ركننا في العالم، كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى». إن حضور فكرة البيت في هذا العمل تتشعب عند كل الأبطال،لتمثل تيمة مختلفة لها انعكاس مباشر على الحياة، ومساراتها، ونهايتها.
ثمة طبقات سردية كثيفة ينبغي على المتلقي سبر أغوارها بغرض تفكيك الحكاية التي تحتوي أكثر من عالم وأكثر من بداية، وأيضا أكثر من نهاية، فمن خلال الراوي الرئيسي، ومن خلال مجموعة من الأبطال أبرزهم «بول أندراوس» يقدم وازن شريحة واسعة من المجتمع اللبناني، المتواري خلف أسوار عالية من البريق الخارجي الذي يعكس عالما مختلفا عن حقيقته .
تبدأ الرواية مع الراوي الذي يعمل في إحدى الجرائد ويؤلف الروايات، ويعاني أشد المعاناة مع بطلة روايته «جوليت» التي لا يعرف كيف يُنهي مصيرها، هذا البطل يجد نفسه متورطا في مخطوط تركه شاب مسجون اختار الانتحار عبر الصوم التام لينهي حياته بعد اتهامه بجريمة قتل امرأة شابة تعمل في أحد الملاهي الليلية. انطلاقا من هذا الحدث تبدأ رواية جديدة للأحداث لذا يمكن اعتبار هذا العمل يؤلف بين ثلاث روايات في وقت واحد، هناك رواية رئيسة تشكل المظلة التي تخبئ في ظلها رواية البطل السارد وأزمته المعنوية مع فكرة الكتابة، ثم رواية بول أندراوس الموجودة في مخطوطته وانتحاره والبحث في حياته ومساراتها، ورواية « جوليت» التي يكتبها الراوي ويعاني في وضع نهاية لها؛ وبين هذه المسارات الروائية الثلاثة تتشكل حكايات صغيرة كاشفة للعالم السردي ككل.
الفرد والمجتمع
ثمة دلالات نفسية نجدها في الرواية تستدعي أبطال دوستويفسكي وتساؤلاتهم الفلسفية في العلاقة مع العالم، وهذا ينطبق على الشخوص المحورية التي تمسك الخيوط الأساسية للروايات الثلاث أي 🙁 الراوي، بول، وجوليت)، هذه الشخوص تعاني من اضطراب في علاقتها مع المجتمع وفي صراع هويتها الفردية مقابل سلطة المجتمع، إلى جانب الوحدة والعزلة، سواء كانت بينة كما هي مع ( بول، وجوليت) أو اختيارية كما نراها مع الراوي الذي يحاول أن يوهم قارئه بعيشه حياة طبيعية، لكن هذا غير حقيقي، لأنه يحمل معاناته الخاصة.
الشاب المنتحر هنا هو بول أندراوس، عاش يتيما عند خالته،غريب الطباع، منطويا على نفسه،لُقب بالأخرس لأنه اختار التوقف عن الكلام، وأسعده حمل هذا اللقب، كما أنه اختار المشي طويلا على الطريق الساحلي، المشي حتى التعب والغياب عن البيت لأيام، بول أيضا طيب ومسالم، رقيق وضعيف لديه قدرة هائلة على التحليل المنطقي، مؤمن ومشكك في آن واحد، كما لديه كبرياء النبلاء. إن هذا البطل بما يحمله من صفات نفسية تدفع للتعاطف والحزن على مصيره الأسود، يحرض على طرح تساؤلات شتى بدءا من اختيار بطل فيه صفات «المسيح» و « سيزيف»، ثم حمله صليبه الخاص وصخرته، ومعاناته الأبدية التي أودت بحياته.بول أيضا قارئ نهم لنيتشه، أفلاطون، وكيركيغارد، هيدغر، ألبير كامو، سيمون فايل، يونغ، سيوران، بالإضافة لكتب الفكر الإلحادي في الغرب، وكتب التصوف الإسلامي.
لنقرأ :» عندما قررت أن أصبح أخرس تظاهرت أمام خالتي بأن مرضا أصاب حنجرتي ورحت أؤدي أمامها دور المريض الذي يفقد صوته تدريجيا.. أفكر الآن أن دخولي السجن كان هو الحل لإنهاء حياة المشي. تجد نفسك أنت، أليف الطرق والسماء والهواء، أسير مكان مغلق يحد من انطلاقة الروح فيك، ومن توثب القلق الذي لم يكن يتسع له مكان»
يسعى البطل السارد الذي يحكي بضمير الأنا إلى تزويد نفسه بصورة مماثلة للحقيقة، وبهذه الطريقة يستطيع أن يجعل من الغائب حاضرا،لذا يصبح « بول» الميت نواة السرد، وموضوع الحوار بين البطل والأب ألبير، وبين البطل وغادة حبيبة بول، وبين البطل ونفسه. لكن هذا الحضور يتحول من فكرة البحث إلى طريقة لتحرير الذات وإطلاق ما لديها من أسئلة حبيسة، لم تستطع بطلة روايته « جولييت» أن تخرجها من ذاكرته الحاضرة الملتبسة. البطل الذي يبدو مراقبا وساردا في آن واحد تتجسد معاناته في علاقته مع نصه، وفي ايجاد ما يشبع خياله القائم على الافتراض، حيث الأبطال جميعا لهم عالم سري خفي، وأوجه متعددة، تقوم على الفرض من دون الجزم. فالبطل هنا يقوم ببلورة مفهوم عن الهوية الذاتية، ليست هويته هو وحسب، بل هوية من يكتب عنهم، وهوية البطل المركزي « بول» الذي تعثر بحكايته، ويبحث عن تبرير لأفعاله وتقييمها، لذا نراه يستعين بالمخيلة التخطيطية التي تمده بأحداث افتراضية ربما تكون وقعت حقا وربما لا، لأن كثير من الوقائع ستظل خفية بسبب رحيل أصحابها وأخذ السر معهم إلى باطن الأرض. هنا يتمنى البطل لو كان بإمكانه أن يحفر روايته السردية الجديدة والكاشفة للحقيقة، لكنه عبثا يحاول، ومع كل محاولة لا يصل إلا لمزيد من التشابك المذهل، والشك: مثلا الأب ألبير يحمل حبا مثليا لبول، القتيلة سامية امرأة لها وجه الفتاة اليتيمة المسكينة المخدوعة في الحب، ووجه المرأة النزقة اللامبالية التي تقع في حبال أحد رجال العصابات، هكذا كل شخصية تظهر وتختفي حاملة سرها الباطني.
لا يغيب عن قارئ الرواية عالم الليل الكابوسي والمأساوي الذي يتناوله السارد من خلال شخصية القتيلة «سامية»، إنه مجموعة من الكيانات القاتمة التي يديرها جملة من القتلة واللصوص والمهربين ورجال المافيا. إنه عالم يتم تجاهله ولا يتطرق إليه الكثيرون، لكنه موجود وحاضر ومغلف بورق لامع يخفي خلفه وجوها مأساوية لكل منها حكاية تتشابه مع غيرها من الحكايات. ويتجاور مع هذه الكيانات المنبوذة عن المجتمع، عالم السجن الذي يحتوي ما لا يخطر في البال: المثلية الجنسية،التعصب الديني، السرقة، الانحراف، التدين، الصداقة،والصلاة أيضا.
من الممكن اعتبار مذكرات بول في السجن، أو مخطوطته المكتوبة بقلم رصاص، من أكثر أجزاء الرواية احتشادا في الروي، وحاجة إلى كشف الطبقات السردية التي يتضمنها، سواء من الجانب الواقعي، أو الفلسفي المغرق في الحدس والتنازع والأسئلة لنقرأ آخر كلماته قبل انتحاره : « أؤمن أن الموت هو الحياة، وإن كنت أجهل تلك الحياة الأخرى فإنني أحدس بها، أحسها، أعيشها داخليا. ما نفع حياتي هنا إن لم يكن هناك حياة أخرى»ص 304
إن تجاور العوالم في البيت الأزرق يمثل تقاطعات الحياة شديدة التشابك حتى يصعب الفصل بينها. دنيا الليل وحكاية سامية مع واقع بول الضبابي والارتباط القسري في المصير، تساؤلات البطل السارد عن الكتابة، ووجوده في سجنه الخاص بين المقهى والعمل ونصه حبيس جهاز الكمبيوتر وتقاطع عالمه مع حكاية بول وغادة وسامية والأب ألبير، وكتابته عن بطلة تشبه البطلات المنتحرات في الروايات العالمية، تشتبك كل هذه العوالم معا لتشكل معا في ضفيرة واحدة كيان « البيت الأزرق»، في لغة سلسة ومتينة تحقق متعة السرد، وتهويماته الحكائية، لغة أهم ما يجدر الإشارة بشأنها أنها ابتعدت عن لغة الشعر تماما- رغم قدوم الكاتب من حقل الشعر، إلا أن جملته النثرية ابتعدت عن الشعر حتى في قص الأحلام والخيالات،تساؤلات الموت والوعي، غموض الأساطير والموروثات الدينية، مكتفيا باختيار جمل سردية تحتاجها الرواية لتحقيق غايتها في هذا العمل الحكائي الطويل، لأن تأويل الذات أو الذوات في العمل الروائي يتشكل في اللغة كما يتشكل في البناء تماما .
لنا عبد الرحمن *