محمد السيد إسماعيل
ينتمي الشاعر المصري الراحل رفعت سلام إلى ما يعرف بجيل السبعينيّات الذي جاء بعد جيل الريادة التفعيلية ممثلا في صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وجيل الستينيّات الذي كان محمد عفيفي مطر وأمل دنقل من أبرز شعرائه، وهو ما يطرح – مبدئيا – هذا السؤال المهم: ما الذي قدّمه هذا الجيل من رؤى جمالية ومعرفيّة؟ وللإجابة عن هذا السؤال يمكن القول إن قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر قد انقسمت – منذ أواخر الأربعينيّات وما بعدها – إلى تيارين كبيرين يؤكد الأول منهما وظيفية الشعر وغاياته في حركة التغيير الاجتماعي والسياسي التي تصاعدت في هذه السنوات، وقد تحلّق شعراء هذا التيار حول مجلة ” الآداب ” البيروتية بنزوعها القومي ومن شعراء هذا التوجه ” السياب وصلاح عبد الصبور وحجازي والفيتوري وآخرون ، بينما استبعد التيار الثاني – الذي تحلّق حول مجلة ” شعر” اللبنانية – أن يكون للشعر غايات اجتماعية أو سياسية مباشرة، ورأوا أن الشعر غاية في ذاته ومن هؤلاء الشعراء: يوسف الخال وأنسي الحاج وأدونيس الذي كان يقول أنه “لا غاية للإبداع إلا الإبداع”. ولا شكّ أن هزيمة السابع والستين قد ساهمت في نموّ هذا التيار في حقبة السبعينيات بالإضافة إلى الانقلاب على قيم الستينيّات وتوجهاتها الرئيسية وتسليع كل شيء؛ الأمر الذي جعل شعراء السبعينيّات – كنوع من المقاومة – يكتبون قصائد متأبّية على الفهم المتعجل والاستهلاك، ورافضة الدخول في لعبة العرض والطلب؛ ومع كل هذا الاهتمام بجماليات القصيدة وتخليصها من الغايات الراهنة؛ فقد ظلت – في معظمها وبوسائل مختلفة – مستشعرة وطأة الهموم الاجتماعية والسياسيّة، وهو ما يصل هذه الشعريّة بسابقتها – خاصة شعريّة التيّار الأول – ويمايز بينهما في الآن نفسه، ولعلّ رفعت سلام – أحد أبرز جيل السبعينيّات – يكون خير مثال على ذلك؛ فقد وصف عز الدين إسماعيل شعريّته بأنها تمرّد على ما سبقها من حيث بناء القصيدة وجمالياتها وتواصل معه في الوقت نفسه مما يصنع علاقة جدليّة تقوم على الأخذ والعطاء أو التمرد والانتماء وهو ما يطرح فكرة “التطور” التي تحكم الفنون عموما حين يخرج الجديد من القديم دون أن يلغيه وتظل العناصر الفاعلة في القديم دائمة الحضور، وإن اتّخذت صورًا مختلفة مع كل حركة تجديديّة، على العكس من فكرة “التقدم” التي تحكم العلم فيلغي اللاحق السابق في مسيرة مطّردة. يقول رولان بارت “تنطوي الكتابة الأدبية مثل الفن الحديث برمته على استلاب التاريخ والحلم به في آنٍ واحد؛ فهي بصفتها ضرورة تشهد على تمزّق اللغات المتصل بتمزق الطبقات وتفتت العلاقات، وهي بصفتها حريّة تصبح هي وعي هذا التمزّق والجهد الطامح إلى تجاوزه في الآن نفسه” (1) وبعبارة أخرى: إن الكتابة – في حلمها بالتاريخ – لاتحلم – بداهة – بالتاريخ الذي نَفتْه ورفضت منطقه؛ وإنما تحلُم بتاريخٍ مغاير، هذه الرؤية القائمة على الاتصال والتجاوز أنقذت القصيدة العربيّة المعاصرة – في هذه الفترة تحديدا – من الاجترار على مستوى التيمات الموضوعية والتقنيات الفنيّة فيما عرف بكلاسيكية قصيدة التفعيلة في أواخر الستينيّات .
التراث والحداثة:
التراث والحداثة إذن أحد المحاور المهمة في تجربة رفعت سلام، ولنا أن نتذكر كتابه الفكري “بحثا عن التراث.. نظرات نقدية منهجية” الذي عالج فيه رؤى بعض المفكرين للتراث وموقفهم منه من أمثال حسن حنفي والطيب تيزيني وحسين مروة وأدونيس في الوقت الذي نراه على معرفة عميقة بأحدث التيارات الشعرية المعاصرة من خلال ترجماته العديدة ومن خلال كتابه “بحثًا عن الشعر” الذي كان ينوي عنونته بـ “بحثا عن الشعر بحثا عن الحداثة ” ومن المهم أن ننوه إلى أن الشاعر لايعود إلى التراث بل يتمثله ويفكر به؛ سواء أكان متماثلا معه أو مخالفا له حين يقول – على سبيل المثال – ” لن أخرق الأرض / لن أبلغ الجبال ( لست مشغولا بذلك ) ” أو قوله ” لماذا يأوي إلي الراحلون ( لم أصبح – بعد- مقبرة ) لماذا – حين تهز الريح أغصاني يساقط الحطيئة وبشار ورامبو والمتنبي ومايكوفسكي وأبو نواس وامرؤ القيس وريتسوس وتأبط شرا ..” (2) يقوم الشاهد الأول على التماثل مع قوله تعالى ” إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا” ولا يرجع ذلك – في رؤية الشاعر – إلى عجزه بل لكونه “ليس مشغولا بذلك ” فهو لا يريد أن يأتي بمعجزات خارقة بل يكفيه فاعليته الإيجابية التي تنتمى إلى دائرة واسعة من المبدعين، وهذا ما يتّضح في الشاهد الثاني الذي يجمع بين مبدعي الشرق والغرب مما يدلّ على اتّساع دائرة التراث الذي ينتمى إليه، ومن الواضح أن “التمرّد” على مستويات عديدة هو ما يؤلف بين ممثلي هذا التراث، أو هذا الماضي الخاص بالشاعر تطبيقًا لقول “ستيفنز” :”بينما – بالطبع – انحدر من الماضي فإنه ماضٍ خاص بي، وليس شيئا يدعى كوليردج ووردزورث ، لا أعرف أحدا اكتسب أهميّة خاصّة بالنسبة لي، مركب الواقعي – التخييلي خاصٌّ بي أساسا حتّى إن رأيته في الآخرين ” (3) وهو ما يعبر عنه رفعت سلام حين ينادي قرناءه على اختلاف المكان والزمان في قوله “فأين أنت يا طرفة يا نيرودا يا بوشكين يا سعدي يا بيتهوفن يا أصلان ياريتسوس ..” (4) ومن الواضح – حتى الآن – أن توظيف التراث يقوم على استدعاء أعلامه؛ لكن الشاعر بالإضافة إلى ذلك يعتمد أيضا على استدعاء الحادثة / المعجزة وإعطائها مدلولا معاصرا؛ فحين نتأمل قوله “هكذا يا سادتي الكرام ضربت البحر فانشقّ طريق مرقت فيه إلى الضفة الأخرى ” نتذكر معجزة موسى – عليه السلام – حين ضرب البحر بعصاه – فرارا من فرعون – فانشق من أمامه وعبره إلى الضفة الأخرى .ومن الواضح أن الشاعر – هنا – يتخذ وضعيّة الراوي الشعبي في قوله ” هكذا يا سادتي الكرام …” مما يجعلنا أمام حكاية شعبيّة توازي النصّ الديني دون تعديل، هذا التعديل – بالزيادة – الذي نراه في استدعائه لبيت تميم بن مقبل” ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر / تنبو الحوادث عنه وهو ملموم” حين يقول ” يا ليتني حجر / تخطو الفصول على جسمي وتنحدر” واستدعائه لقول المتنبي “على قلق كأن الريح تحتي / أوجهها يمينا أو شمالا” في قوله ” قفزت السور فانكسر الفؤاد إلى شظايا من كوابيس وفخار رخيص في الشوارع هل ألملمها أكومها بجنب الحائط المهدوم أم أمضي على قلق كأن الريح تحتي” (5) وبيت المتنبي ليس هو محور هذه الصورة المركبة بل يأتي بوصفه إشارة دالّة وسط العديد من الأفعال التي تبدأ بمحاولة القفز / التجاوز، ثم الانكسار والتحطم إلى شظايا – من كوابيس وفخار رخيص– لا يعرف الشاعر هل يلملمها أم يمضي بعيدا عنها ؟ واستدعاؤه بالمخالفة لقول المتنبى أيضًا ” أصبحت أروح مثر خازنا ويدا / أنا الغني وأموالي المواعيد” حين يقول: “اتركوني إلى مدى من السدى والغياب، كي تحطّ فوق أهدابي نحلة من عسل تبتزّني من ثيابي/ فأخرج لها فقيرًا وأموالي المواعيد” وإذا كان بيت المتنبي يقوم على المفارقة بين الثراء الموهوم والأموال التي ليست أكثر من مواعيد؛ فإن سطور رفعت سلام تعتمد على الإيغال في تصوير حالة الفقر لهذا تكثر الدوال المشيرة إلى ذلك: السدى/ الغياب/ الابتزاز/ الفقر/ المواعيد الكاذبة، وإذا كان الفقر هو مدار الصورة السابقة فإن الشاعر – بحسّه الاجتماعي الدائم – يجعله أيضا البنية الظاهرة في قوله “أيادي النساء الحانية طبخت أطفالهن/ صاروا طعامًا لهنّ” مستدعيًا أحوال “الشدة المستنصرية” في مصر، وهي صورة أكثر قسوة مما يُروى عن المرأة التي كانت تُلهي أطفالها الجوعى بإشعال النار تحت آنية ليس فيها سوى الماء والحجارة على زمن عمر بن الخطاب، في هذه الحالة التي يرزح فيها الجميع تحت وطأة الفقر يحسّ الشاعر بالوحدة ويسمع الصرخات المتوالية مستدعيًا بيت عمرو بن معد يكرب “ذهب الذين أحبهم/ وبقيت مثل السيف فردا ” حين يقول: “ذاكرة من الصرخات بابتعدوا كهاوية لأهوى فوقها متخافقًا شرسًا أمزق ما تبقّى من دمي لأكون مثل السيف فردا” على أن الأمر يتجاوز هذه الجمل التي يمكن أن نطلق عليها “الجمل الثقافية” التي تستدعى غيرها إلى توظيف الأسطورة التي تشكّل متن ديوان بكامله، وأعنى به ديوان “هكذا تكلّم الكركدن” المعبّر عن ثورة يناير المصرية حين يستدعي “الكركدن أو وحيد القرن الذي يحب المرأة العذراء فيمتنع عن تلبية كل أشكال الإغراء، وينتهي إلى تلك المرأة ناسيًا ضراوته، ويستسلم فتسلمه المرأة العذراء إلى الصيادين الذين يمزقون جسده ويأخذون قرنه الذي يستخدم في علاج العقم عند النساء والرجال” (6) لكن رفعت سلام يقلب هذه الأسطورة حين يجعل من الكركدن جلادًا يُمارس البطش ويجعل من العذراء ضحيّة حين يقول على لسانها مخاطبة الكركدن “لست أنت أنت ولا أنا أنا” ويقول على لسان الكركدن الذي هو أصل سلالة الطغاة على مرّ العصور: هولاكو / هتلر/ الحجاج / موسيليني، يقول ” أنا أصل السلالة، والكل ظلال باهتة / أنا اللحظة المارقة الفاتنة / استعاروا قامتي وسيرتي / سلبوني منى وارتدوا قناعي الذهبي في غفلة من الزمن” (7) وليس بعيدًا أن نقول إن العذراء هنا رمز لمصر، وإن الكركدن رمز للحاكم الطاغية الذي قامت الثورة ضدّه، وفي موضع آخر يقدم صورة مناقضة لما فعله جعفر بن أبي طالب في موقعة مؤتة، حين حمل الراية بكفه اليمنى، فلمّا قطعوها حملها باليسرى فلما قطعوها حملها بالمرفقين إلى أن تمكنوا منه ومات شهيدا، يقدم سلام صورة مناقضة لدلك حين يقول: “وحينما انكسرت جيوشنا/ لذت بالسلاح/ فلما انكسر السلاح/ لذت بالبحر/ ولما أتت جيوشهم من البحر/ اعتصمت بها/ فقتلونا” ، أما قوله: “قلت لنفسي البحر في الوراء والعدو في الأمام وأنت حالة آتية ترفرف رأسيًّا وتعوي في آخر الأرض القتيلة” فإنّه يستدعي قول طارق بن زياد لجنوده” العدو من أمامكم والبحر من ورائكم” مما يعني أنّه لا مفرّ من المواجهة.
خارج على الصفوف والطوابير:
هذه العناصر المسترفدة من “التراث” لا تلغي “صوت” الشاعر بداهة؛ فهو ليس صدى لصوت سابق؛ بل إنه يسعى إلى اجتراح الجديد وخلقه، ويختار مسالك غير مطروقة، وفي ذلك يقول: “أبوابها فادحة فاضحة (قلت لنفسي لم لا ألج من البابين المنسيين وأنسى الشهير) فلابد أن كثيرين غيري قد سبقوني إليه، ولربّما تعثرت بأحدهم أو بعضهم ” وقوله: ” أنا الهامش الأريب” و”أنا المرتجل الهامشيّ” أو يصف نفسه بقوله ” خارج على الصفوف والطوابير” فالشاعر – في السطور السابقة – يؤكد انتماءه إلى البابين المنسيين أيا كانت دلالة هذين البابين، وعزوفه عن الباب الشهير الذي دخله كثيرون قبله، كما تؤكّد السطور الانتماء إلى الهامش في مقابل المؤسسة والهامشي في مقابل الرسمي، وبهذه المعاني تتأكّد خصوصية الشاعر وتفرّده وهذا ما نلاحظه – أيضًا – في قوله ” أمشي على حدّ انتصاف الليل : صاخبًا جريئًا / ولي قدمان تخترعان ما أشاء من دروب / تحفران لي – في كل خطوة – مفازة أو هاوية ” إن اختراع الدروب يوازي اكتشاف طرائق فنية جديدة غير مسبوقة، وانتصاف الليل يوحي ببلوغ الذروة، ويؤذن ببداية جديدة ولعل هذا ما جعل الشاعر، يكرّر هذا الانتصاف على مستوى الزمان والمكان حين نقرأ – مثلا – ” واقف في مفترق الساعات ” أو ” أنا في منتصف الطرق الرملية ” وقوله: “من يطرق منتصف الوقت الراكد”.
السوقي والسامي:
مع حركة الشعر الحديث سقطت ثنائية ” السوقي والسامي” أو “الرثّ والشاعريّ” التي ظلّت حاكمة في الحركتين: الإحيائية والرومانسية، يقول صلاح عبد الصبور: “وأعرف بعضهم يضنيه أن يغشى زحام السوق/ ولكن هم من السوقة ” لذلك ظل هذا التجاور والتحاور والتداخل بين هذين المستويين التعبيريين أحد سمات القصيدة الحداثية وما بعد الحداثية يقول إدوار الخراط لقد أصبح كل شيء “موضوعًا للشعر بما في ذلك سقط المتاع حين تتخلله روح الشعر السحريّة فتذوب الفوارق بين طبقات الكلام، فليس فيها الرصين ولا الركيك بطبعه وخلقته” (10) ولاشكّ أن حيوية الشعر كانت وستظل كما يقول محيي الدين اللاذقاني ” قائمة على ذلك المزج بين الواقعي والخيالي والأرضي والسماوي والعكر والحسي والمعنوي والجسدي والروحي” (11) وهذا ما نلاحظه في أكثر من شاهد شعري، ويتوازى مع المزج بين اللغة الشعرية المكتنزة بالإيحاءات واللغة الأيديولوجية المباشرة كما يبدو في قوله: “صاخبة هي الدفوف والغواني أيها البهلول / لعبت بك الشمول / هل نام الحرس والعسس والمنظرون لاشتراكية الدولة البوليسية ” (12) إضافة لما سبق، يمكن القول إن رفعت سلام كان صاحب أساليب، حيث يجمع بين الغنائي والملحمي والدرامي والتشكيلي، بل وإيقاع العدودة التي تتميز بالقصر وتواتر القافية ومن ذلك: “لا رثاء / فرار سيد / ذهاب بلا وراء / صرخة نائمة في سماء / فضاء فضاء / بصر بلا بصيرة / وبصيرة عماء” (13) ومن ذلك ما يطلق عليه أسلوب “الكولاج” الذي يعتمد على توظيف الصور المصاحبة للنص الشعري الذي ظهر – بوضوح – في ديوانه “أرعى الشياه على المياه” الذي توالت فيه صور الشمس والوعول والأقدام العارية والطيور وعين حورس وغيرها، وتقسيم النص الشعري إلى متن وهامش وما يؤدي إليه من ازدواجية أو ثنائية النص التي يراها إدوار الخراط “تقنية بريختية أي تقنية تغريبية ، بمعنى أنّها تكسر الإيهام أو الاندماج الانفعالي وتقطع الانسياب الوجداني أو العاطفي أو حتى الفكري في نهره الرئيسي ” (14) وهو ما يعدّ امتدادًا لإحدى غواياته القديمة “في استخدام التأثير البصري للحروف مثل: تكبير كلمات بعينها أو جعلها بلوك ” سوداء” أو مائلة أو كتابة الكلمات كما يريد لها أن تنطق مثل: أطلقواااا” (15) أما ثنائية المتن والهامش التي تكسر الإيهام والاندماج العاطفي؛ فقد تجلت واضحة في ديوان “إشراقات رفعت سلام” وقد تأخذ علاقة تفسيرية تقوم على التفصيل بعد الإجمال، فعندما يقول في المتن “ذاكرة من الصرخات (1) فابتعدوا كهاوية لأهوى فوقها متخافقا شرسًا..” نراه يتوقّف عند دال “الصرخات” الذى يتصف بالعمومية والإجمال مفسرا ومفصلا إياه في الهامش على هذا النحو ” أسراب من الصرخات / تأتي في المساء / وتبني عشها المشروخ / في جسدي المشظى..” (16) فالصرخات التي كانت تنتمي – في المتن – إلى الماضي والتي كانت مجرد ذاكرة أصبحت – في الهامش – أسرابًا من الصرخات تأتي في المساء، لقد أصبحت حاضرة تحتلّ جسد الشاعر المشظّى، وتبني عشّها على أنقاضه، وأحيانا تقوم العلاقة بين المتن والهامش على المخالفة حين نقرأ “أسحب الأسماء (2) من جيبي وأنثرها على الأشياء بالعشواء..” فيتوقف – في الهامش – عند دال “الأسماء” قائلا “تهرب الأسماء مني أو أفر منها / ظل يفر من جسد …(17) فهذه الأسماء التي كان الشاعر يملكها ويخرجها في يسر من جيبه وينثرها على الأشياء أصبحت – في الهامش – تهرب منه أو يفر هو منها كما يفر الظلّ من جسده. وفي موضع آخر يعود الشاعر إلى العلاقة التفسيرية حين نقرأ “أمضي على قلق كأنّ الريح تحتي أم أدمدم بالعويل لأوقظ الموتى (5) وأعدو عابرًا ظلّي فأقفز قفزة مسعورة” فيأتي الهامش مفسّرا كيفية هذا الموت على هذا النحو: “ماتوا / كحبات رمال كظيمة / مل كنت صحوًا صاخبا/ يرفّ في سماء قديمة ” (18) وقد تكون العلاقة تعليلية بمعنى أن الشاعر يصدر أمرًا في المتن ثم يوضّح سببه في الهامش، يقول: “ضاعت مملكتي مني وتأكل البوم والغربان والغيلان والخل الوفي ..فأفسحوا (7)” ثم يعلل هذا الأمر بقوله – في الهامش – ” فالأرض ضيّقة / أنا البراح / فأدخلوني كحلم حشودًا عارية” وهكذا يمكن القول إن العلاقة بين المتن والهامش ليست كعلاقة الصوت بالصدى، أو علاقة امتداد بالتماثل بل تأتي على صور مختلفة مما يثري النصّ الشعري ويفعل آليات تأويله.