حين تأخذه الرمال لم يبق شيء من صداه، تعذبت روحي لأسجل ذكراه، وأنا مسحور بأفلاك المدينة، ناقع في مجرى ضحلٍ، يشردني البرد من ملجأ الى آخر، لم أجد جمراً ولا منقلة ولا أسئلة، والمعاطف مثقوبة، ورئتي لا تجف على الحبال. حين كنت أجيء الى هذه المدينة الهائلة التي تحرسها الجبال الصلدة اليقظة ذات العيون الرهيبة والكشافات المسلطة، كان بيتهما ملجأي، كنت أندس بين أسرة أطفالهما ودفاترهم المليئة بالدفء والوحوش.
قالت لي أمي:
– لا تخرج في ليل المدينة، سوف تؤاخذك النعوش.
يملأ الحزن وحدتي، أشرب العرق ودموعي، أمشي بأسى كانت لي أم وماتت، في القبو من الوحدة.
رفيقي خالد أنت السُكر والقهوة، أنت الدفء في الشتاء، أنت الذاكرة في الغرفة المحكمة الإغلاق، مضيت الى الحارات الغريبة في البلدان الأخرى، (من يردْ أن يلقاك يجدك في باب اللوق)، هناك تعطيه سفن البحر الناقعة بين القروش، والعصافير والأوراق الأخيرة للعرق المهرول في حاراتنا، لم يبق منه شيء كثير.. أحاول أن اختلق وجودك في البيت في هذه المدينة الغولة، التي باعت كل أضلعها وحاراتها وبخورها المقدس للنياشين وللسياح، وقد فتشني حراسها ولم يجدوا سوى الشعر الأبيض الأخير في رأسي ورسائل نورانية تحتها الى أمي.
يا رفيقي خالد تبادلنا رسائل بالدم بين الجدران، والشجرة الشوكية قرب دورة المياه، عطفت علينا وصارت حماماتٍ زاجلة، يقتلها الحراس كثيراً وتطير عبر الأنام الغافلة.
ثلاثون، أربعون، خمسون، سنة، نزحف في الصحراء، تتسلط علينا الكشافات الحارقة، نتخذ نياشين لقناصةٍ محترفين، يتطاير الريش منا أظافرنا اقتسمتها الحشرات وما عرفتنا.
أعرفُ إنك ميت وأن ضريحك الضائع تم الاستيلاء عليه، ولكن أحاول أن أختلق وجوداً ذاب، صورك معلقة على الجدران، ومعاطفك تسكنها الشتاءات الكثيرة التي مرت علينا في الجبال وفي الصناديق المحروسة في المعسكر، وادخاراتك الصغيرة والأعطيات التي تسلمتها في حفلة الغفران، كلها لا تزال ولاشك تنمو في الصناديق النحاسية القديمة، أو في الأدراج المليئة بقصاصات الورق، التي فيها كل سير أهل العشق في أرضنا.
الباص الممتلئ بالثرثرة والسجائر والنميمة يقذفني تحت أحذية الجبل القاسي، حيث الدكاكين الصغيرة والبشر المطاط المهروس من الأسعار والأرز.
في ثغرات الأزقة تنبض رؤوس سجائر وعيون، حشود من الارادات تشتعل، المدينة الغارقة في أعراس الأضواء والأسهم النارية المتلاعبة بالجثث، تتوقف هنا أنصالها.
بيت كبير لا يزال يؤشر لوجودك، لا يزال غرباء أصدقاء هذه الأحياء يتذكرونك، التجار الصغار، الباعة المتجولون، الساسة العابرون الداخلون في حفريات الشوارع، كلهم يؤشرون لهذا النورس القادم من بحر الخليج، احتفظوا برسمه وباسمه لصغارهم.
ممر أخضر، كأن بسمتك سوف تنهال علي قبلا هنا، كأنك سوف تظهر مطراً يغدق شكاوى البشر وأجنحتهم الطائرة في ليالي السمر، كأن الدفء سيظهر.
أرى الزوجة تظهر من بين لفائف الدخان، الأرملة غير الصابرة، احتضنتني كعادتها، رأيت كم كبرنا، وصرنا الجريد المراوغ من الموت، وكانت مبتهجة، قادتني الى الداخل، وعرفتني على شاب وسيم، وأطلقت سراحي في سجنها، وقالت إن الشاب زوجها، جثمتُ على الورد، وشربتُ سطلاً من العرق، وطرت للسقف مراراً، مصطدماً بالمسامير الدائرية مثل النقود.
حينما خرجنا من غابة الشوك ودع خالد الورق والعرق، حول اشتراكات الرفاق الصدئة استراحة، كان محنياً تحت وطأة العمر، أغلق فمه واسترخى على أشواك حنة، رأيت كتفيه المحنيتين، صمته، الشركة الصغيرة التي لا يعمل فيها، يستلم أجراً كبيراً منها، رأيت الأوسمة التي تساقطت في الدروب، كان كتفانا ملتصقين عند الجدار الوحشي نجتث خرائط السرطان من العظام، كهلٌ غرق في الرماد، يركض أخيراً للأولاد، يعرفُ أخيراً ما هي عرائس المهود وأغانيها ويمضي بكتلة من الأكياس المنزلية مثل بالون منتفخ، يطيرُ من الكهف الى الملحق المخصص للبيض والحفاظات والعسل، يقتني سيارة وامرأة لم يرها كثيراً.
حنة كانت تناوشني في كل العصور، وردة تنطق بالأغنيات، لوحاتها الكئيبة تجعلني أغرق في القلق والضجر، أصابعها المحترقة في المنزل النائي وبكوارث الرجال، تومض حيناً، وتنطفئ كثيراً، مثل عمود نور قلق.
جاءها بكل حميمية، بكل جوع السجين للجسد الأنثوي، تلاشى في أشواكها، ألقى الزجاجات الفارغة على الجدران، تتآكل بصمت معتاد منذ قرون.
أنظر إليها الآن محمومة في هذا الشتاء، ترتعدُ أسنانها وتحرق عظام رجل صغير لتتدفأ، منفتحة الوجه، سعيدة في نشواتها الغريبة.
تقول:
– سنذهب في الربيع لبيتنا عند البحر، تعال هناك يا نادر!
وضحك الشاب وصرخ:
– سوف نصطاد السمك، إنني لم ار البحر أبداً!
فتى جبلي من هؤلاء المتساقطين من الجوع والحروب على المدن، يبيع القات، يتدفأ في أركان الشوارع، يهذي، يصير شاعراً، ومفجراً للكلام في غرف الكهول الموتى.
تقول:
– قصة حب رهيبة تفجر الجدران بين العصور والخرائط والأعمار!
أنظر للخلايا التي أكلها الحوت، حين أعود للبلد، حين تتفجر شراييني في الأزقة المحتلة بالغربان، في تلك العمارة الخربة التي كانت يوماً نادياً، في الفصول الصغيرة التي نُدرس فيها، وقامت مكانها شجرة عملاقة ثم رحلت أغصاناً وجذوراً للبحر، أخرج مع خالد من المدرسة لنتغدى في أي مطعم رث، أو في أي قهوة يظهر فيها رفاق، شباباً نحرق السنين، والخشب الضنين.
رفيقي خالد وأنت الحلم الغابر الراكض العاثر، خرجت من المحرقة، يئست من الفكرة، انتفضت في الغربة وعانقت جرادة، قلنا نكون أولا نكون، ثم صرنا عجائز في المتحف، وريش الديوك تناثر في حلبات الدراهم، تأكلنا حنة في شتاءاتها الكثيرة، تخللنا بالعرق، يظهر نسل من الدمى، تضعنا في لوحاتها بقرب الحشرات المتيبسة الكثيرة، تباع في المعارض، نحاول أن نمسك أيدي الأولاد من الذوبان في الفضاء.
ترقص حنة بين الفتية والرجال، تحاول أن تسحب أرضاً خضراء على سلحفاة متيبسة، أعطيه الدواء، يهذي:
– اكتب شيئاً يا نادر عن معرضها، انه رائع!
يظل في الغرفة، يأكله العرق والخضار، يرتعد في البرد، في الغربة، يكتب سطوراً آلية من زمن عاد، حنة تمسكني في ممر، تتحسس، تجس نوابضي، لم أكتب شيئاً، أراه وهو يبصق دماً متنقلاً في المعرض، يحضرُ أقلاماً بلاستيكية تتعشى كثيراً لديه، تظهر اللوحات على الورق، وصورٌ عديدة لحنة وهي في فستان فراشة، وهو يعمل، منشرخاً الى أجزاء كبيرة، ذائباً في المدينة القاسية الواسعة التي تأكله كل يوم بين التاكسيات الصفراء، والعدادات، والأكياس المحمولة، ثم يصير كتلة من العظام المسحوقة كأن مئات الذئاب أكلتها ومصتها حتى النخاع.
– هي تبقى، تتجدد، تبدل جلودها، وتنسل للحياة، وأنت تندب حظوظك!
– لن أكون زوجاً لها بعدك!
– أنا أغرق في الموت، لا ترثني بل.. أعشقها!
– في الشتاءات المريرة حين نسيت أقدامي الدروب القديمة، حين يتفجر الحنين المرضي لسير الرجولة، أبحث عن وريقات له، أتنقل بين سريره وكوابيسه، أجدني في لوحات صديقٍ شاباً معه في الحي الذي ظهرنا فيه لا نزالُ وامضين واعدين بالبطولة.
عبدالله خليفة
قاص من البحرين