محمد المهري
أكاديمي عُماني
لقد كان ارتباط الإنسان في جبال ظفار بالحيوان ارتباطا عميقا تجذر في تفاصيل وجوده كلّها، حتى اختلط بتاريخه الشفهي، وما رسمه في أعالي الجبال والكهوف على وجه التحديد، ولعل الرسومات التي سجلت على امتداد الريف الظفاري هي شاهد عيان على تلك العلاقة الأبدية، فالجداريات التي ملأت سفوح الجبال هي التي انسابت بدورها على ألسنة الرواة فكونت ذاكرة شعبية شفهية عملت على تفسير تلك الرسومات، وتفكيك تلك الرموز من خلال (الأمثال/ المعتقدات/ والحكايات) وقد شملت كلمة حيوان كل ما يدب على الأرض يخافه الإنسان الظفاري أو يعتقد فيه الخير والشر، فللحيوان صور في الأساطير الشفهية تمظهرت في أشكال عدة منها:
ما يجلب الحظ.
ما يجلب الشؤم.
ما يجلب الخوف.
هذا التصنيف الذي دفعت به الذاكرة الشعبية في ظفار على ألسنة الرواة كان نتاج العديد من المراحل التي صاغت أغلب الموروث الشفهي، ولأن الإنسان في ظفار عامة وفي الريف الظفاري خاصة كان مرتبطا بالحيوان؛ فقد وُضع له تصوران من حيث النطق، التصور الأول: كان لمراحل الحيوان الأول حين كان يتحدث مثله مثل البشر فكانوا يقولون: (زمن كل شيء يتكلم) ولأجل أن يبرروا حديث الحيوان جمعوا معه الموجودات التي تحيط به من النبات والصخور وغيرها من المخلوقات، أما التصور الثاني فصُورته الحالية.
الحيوان قرين الفأل الحسن:
تُعَدُّ الإبل والخيول والغزلان من الحيوانات الجالبة للحظ في الثقافة العربية، وهو ما نجده في الثقافة الريفية الظفارية من خلال الرسومات الجدارية في الكهوف، ولعل الصور الآتية تشرح ذلك الترابط المقدس:
من خلال اللوحات الثلاث يتبين مدى أهمية كل من الغزلان والإبل والخيل في المخيال الشعبي الظفاري وتوغلها في الذاكرة الجمعية، حيث نجد في معتقداتهم أن الإبل الأصيلة هي من سلالات إبل الجن وأن أصحابها عمدوا إلى خطفها مثل قصة ناقة (صفرر) و(عدانه)، وهاتان السلالتان من إبل الجن خلّفت من ذرياتهما إبلًا تتصف بالقوة وإدرار الحليب، كما أنها تعقل حديث ملّاكها وما يقومون به، أما الغزلان فكانت مصدرا من مصادر الحياة من خلال عمليات الصيد. وكما يذكر لنا كبار السن فإنَّ الغزلان كانت تتوافر بكثرة لا توصف حتى جاءت سنة (الاحيمر) في منتصف القرن المنصرم فأبادت الكثير منها وما تبقى كاد ينقرض بفعل عمليات الصيد الجائرة.
أما الخيل فقد كانت ظفار مصدِّرة للخيول العربية الأصيلة؛ ولذا كانت في أبجديات رسوماتهم في الكهوف كاللوحة الثالثة التي تصور فارسا يمتطي جواده، شاهرا السيف وبيده الترس، وكثير من رسومات الخيل يدور في فلك الحرب، ويدور بعضها حول الصيد ويطلق عليه في اللغة الشحرية والمهرية (فرهين) (حُصُن) (خيل)، “ويقولون سُمِّيت مرباط لكثرة ما يربط فيها من الخيل، وكان أهل ظفار يبيعون ويشترون الخيل لأن الطعم عندهم كثير بسبب البشكال، ثلاثة أشهر تمطر ليلًا ونهارًا في وقت الخريف…، وكانت تأتيهم المواسم كل سنة من الهند والسند وتشتري الخيل بمائة أو مائتين، وأكثرهم يستعينون بثمنها على الحراثة والتجارة”.
إلى جانب الإبل والغزلان والخيل هناك حيوان يُعدّ عصب الحياة في الريف الظفاري وهو البقر، وقد رُسمت على الجدران وحِيكت حول البقر المعتقدات، خاصة ما يتعلق بالتربة الجالبة للبركة التي تعمل على الحفاظ عليها، ففي المعتقد (على صاحب البقرة الوالدة أن يحلب قليلًا من حليبها ويسمى بالشحرية (جود) ويضعه في حفرة صغيرة في التراب، وأن يرشَّ على الحليب قليلًا من التراب الأحمر وذلك من أجل البركة لأن أهل ظفار كانوا يتباركون بالأرض الحمراء).
من بين الحيوانات البرية الجالبة للفأل الحسن (الثعلب) وقد جاء في المعتقدات خلافا للحكايات التي صورت الثعلب بأنه رمز للذكاء والمكر والخداع، حيث ذكروا في مروره صباحا، فقالوا عنه: إذا مر من ناحيتك ثعلب خاصة في الصباح فإنه فأل خير.
وفسروا صوته في بعض الأحيان بأنه فأل حسن (إذا عوى الثعلب وقال بصوت ما معناه (قوول قوول) فإن ذلك يعني أن هناك غيثًا وأمطارًا وبركة وخيرًا قادمًا وهذه بشرى سارة).
الحيوان قرين الشؤم:
لعل أكثر الحيوانات التي تجلب الشؤم هي الحيوانات المرتبطة بالسحر كالضَّبُع، فحين ترى المرأة وعندها ضَبُع يقال إنها (تولح) أي تستأنس تلك الضبع؛ يعني أنها ساحرة، ويزيد الأمر يقينا حين يوجد أو يُرى في الأذن قُرْطٌ أو حَلَق. بالمقابل يعتقد بعضهم بأنَّ وضْعَ نَابِ ضَبعٍ في رقبة الولد يكون مانعًا السحرَ عنه حتى يكبر، بل إنه يُقوِّي شخصيته وعقله؛ فالمعتقد يقول: اذا وُضِع نابُ الثعلب أو الضبع أو النمر في رقبة الولد الذكر منذ ولادته إلى أن يقرب على سن الزواج، فإنَّ ذلك النّاب سيجلب الصحة للولد ويحميه من الضرر والحسد والجن والسحر وتتقوَّى شخصيته وعقله وذكاؤه.. إلخ. ومن المفارقة أنّ الحكايات والأساطير التي تُتَدَاوَل عن الضبع تشير إلى ارتباط الضبع بالسِّحر والسَّحرة، وهو ما يجعله رمزًا للشرّ وعدوًّا لدودًا للإنسان بينما في المقابل تجد المعتقد الظفاري الشفهي يُعبِّر عن الفأل الحسن، يقول: “بأن من يرى الضبع في المنام فإنه فأل خير”، كما أنّ ناب الضبع يشكِّل دائرة حماية للطفل، فهم يعتقدون أنه إذا وُضِع ناب الضبع في قلادة الطفل حتى يكبر فإنه وقاية من السحر والجن والحسد.
ويعزي “تي إم جونستون” ذلك إلى “أن كثيرا من الروايات الشعبية هذه تحدث في منطقة أكبر كثيرا من ظفار”، أي أن الحكايات الشعبية متداولة بشكل أوسع ومتأثرة بالثقافات الأخرى أما المعتقد فإنه نابع من الذاكرة الجمعية في ظفار، وقد يكون هناك تناقض بين المصدرين.
من المعتقدات الظفارية التي تركز على الشؤم رؤية الثعبان: “إذا صادفت ثعبانًا ولم تقتله فيكون ذلك نذير شؤم، أما إذا قتلته فإن الامور ستتوفق”، وكأن الثعبان في هيئته باب مغلق في طريق الإنسان الظفاري، أما الثعبان في المنام فينقسم إلى قسمين؛ الأول: “إذا حلم الشخص بأن ثعبانًا يلدغه في موضع ما، فإن ذلك الشخص سيصيبه وجعٌ شديد في الموضع الذي لُدِغ فيه، وسيظل الوجع وكأنه لدغَه حقيقةً”والثاني: “إذا حلمت بأنك ترى ثعبانًا أو أنه يهاجمك أو أنك خائف منه، فإن الثعبان يُوصف بأنه لسان البشر الذين يغتابون الناس؛ فالثعبان عبارة عن لسان شخصٍ ما يغتابك”وعلى أن المنامَيْن ينزعان إلى أمرين مختلفين؛ الأول إلى ملامسة الجسد وكأنه حقيقة ماثلة. فالوجع في المكان الذي أصابه الثعبان في الحلم أصبح واقعا دون أي اعتبار للفارق بينهما (حقيقة/حلم)، ولعل ما كان يفكر فيه ويخيفه في اليقظة جاءه في المنام على هيئة ثعبان. أما الثاني فقد اقترب من مستوى الحلم إذ إنه يتعلق بأمر معنوي وهو عملية الغيبة والتحدث عنك بما يسوؤك في الخفاء، وقد يكون ذلك من باب الشك والارتياب تجاه أناس بعينهم، وفي مجمل القول إن الثعبان يقوم بدور كبير في مداراة الشؤم الذي ينداح إلى دائرة الخوف.
الحيوان قرين الخوف:
تنقسم الحيوانات التي تُعدّ مصدرًا للخوف في الأساطير الظفارية إلى قسمين: خرافي وحقيقي، ويمكن أن يشمل التقسيم (الخوف من والخوف على)، فالخوف من: هي تلك الحيوانات الخطرة التي قد تكون خرافية وقد تكون واقعية. أولا الخرافي: يعد حيوان “سيلول” الخرافي من أخطر تلك الحيوانات، إذ كان مصدر رعب للرعاة، هذا الحيوان -كما يصفه القدماء- على هيئة ذئب كبير، وعلى ظهره حوض واسع يلقي بالأطفال فيه، بعد أن يختطفهم من القرى، ويأخذهم إلى مكانه في الغابة ويأكلهم هناك، فما كان من الرعاة إلا أن بنوا بيوتا من الحجر يُخبئون أطفالهم فيها حين يسرحون بحيواناتهم في المراعي حتى يعودوا في المساء، وهذه الصورة تمثل تلك الأكوام الحجرية التي كانت في غابر الزمن مسكنا وملجأ من الوحوش الكاسرة وعلى رأسهم حيوان (سيلول).
هذا الحيوان المخيف كانت نهايته على يد أحد الرعاة الشجعان، إذ أقدم على قتله أحد الأبطال، حيث وضع طفله الرضيع طعما له، وحين اقترب سيلول من الطفل وهَمَّ بأخذ الطفل قام الرجل بضرب عنقه وقتله. ومن بين الحيوانات الخرافية المخيفة، تلك الحية العظيمة التي أتت على كل ما يقف أمامها، حيث تقول الأسطورة: إن رجلا من الصالحين أراد العودة إلى داره فرأى رجالا بيضًا، وعليهم نور يحملون نعشا عظيما فيه حية كبرى، فسألهم: إلى أين ذاهبون بها، قالوا: نحن ملائكة مأمورون بأن نرميها في البحر حتى تموت غرقا وتأكلها هوامه، وليس هذه فحسب، ولكن كلّ حية عظيمة أرادت أن تُظهر فتكها بالخلق، فإننا مأمورون برميها في البحر، علمَ الناس بالحادثة وضربوا مثلا، يقول: “هير هووت عوز ووغت توكشاف يهاء بيس أو وعش رمنم” المعنى: إذا نوى الثعبان على الكفر والمنكر يرميه الله بحرًا أو كل حية أرادت أن تكشف عن سطوتها وجبروتها فإن الله سيرميها في البحر”، والقصد ليس للحيات فقط وإنما لكل ظالم تجبّر فإن الله سيهلكه ولو بعد حين.
أما الثعابين الحقيقية فإنها مصدر خوف لا ينقطع، ويعتقد أهل ظفار بأنه إذا لدغ الثعبان شخصًا ومات من تلك اللدغة فإن الثعبان ينبت له قرن. ومن شدة حذرهم من الثعابين فإنهم يرون إذا صادفت ثعبانًا ولم تقتله فيكون ذلك نذير شؤم، أما إذا قتلته فإن الأمور ستتوفق، بل إن تفسيرهم للثعبان في الأحلام لم يكن يبشر بخير فإما أنْ يكون جرحًا ظاهرًا أو أنَّ أحدهم يغتابك. وفي كلا الحالين لا خير فيها، على أنّ الثعابين وإن ظهرت في الأساطير والمعتقدات بهذه الصورة السيئة إلا أنها في الحكايات قد تأتي خلافًا للمعروف؛ كأن تكون هذه الثعابين الحارسة من الجن على الكنوز، مثال قصة كنز نظور.
الخوف على الحيوان:
لأن الحيوان هو المصدر الأساسي للرزق في جبال ظفار سابقا فإنهم يعتقدون بأنه إذا أخرجتَ أي حيوان من الحظيرة للذبح فعلى مالك الحيوان أن يأخذ شعرة من جبين الحيوان ومن ذيله حتى تبقى الــبركة فـي بقية الحيوانات، خاصة أمهات ذلك الحيوان.
ومن محبتهم لهذا الحيوان فإنهم يراعون مشاعر الخوف لديه، فحين ينتهي عيد الأضحى فإنهم يعمدون إلى حرق بعض العظام أو الشحم في النار ويقولون مخاطبين البقر: (ظهر عنكوهم إضاحا)، أي انتهى عنكم الأضحى. وهذا يعني أن الذّبح قد انتهى، فليس هناك خوف من أيّ ذبح بعد اليوم، إذ يُعتقَد بأن الأبقار تكون خائفة؛ فتُخاطَب بهذه الطريقة؛ كي تطمئن، وكأن المالك يعطيها الضمان ولو لوقت محدد.
من الأساطير المتعلقة بالخوف على حيواناتهم (إذا أكلت لحم حيوانٍ فلا تنظف يديك بالحشائش، لان حيواناتك ستموت مثل تساقط الحشائش. ولكن نظفها بقطعة من القماش القديم البالي وتسمى باللغة الشحرية (عيظيل) وتعني القماش القديم البالي، وأيضًا يعيق ويبلي الشيء وكذلك العائق. وقصد بذلك هو إعاقة البلاء والتعب والفأل السيئ، ليكون مثل الثوب البالي).
ومن خوفهم على حيواناتهم من أن تنقرض أو تبيد (إذا ماتت ناقة الشخص أو بقرته أو شاته وكانت من سلالة جيدة وعزيزة عليه فإنه يأخذ فقرات العنق وهي لا تزال متماسكة وكذلك الفك السفلي ثم يضعها في مكان بعيد لا تطوله الأيدي حتى لا يسقط على الأرض ويدوسه الناس والحيوانات؛ ذلك أنهم يعتقدون في حال داسَ الناس أو الحيوانات فقرات ذلك العنق فإن تلك السلالة الجيدة سوف تنقرض وتزول).
ومجمل (الخوف على): مصدره النأي بالحيوان عن أي وباء أو أي تهديد من شأنه أن يأتي على هذا المصدر الذي يشكل عصب الحياة في ظفار، وقد يصل الحذر إلى درجة يفوق كل وقاية نتوقعها في عصرنا الحديث، وذلك من خلال معتقدات يتوارثها الأبناء عن الأجداد.
وعلى كل حال، فإنّ المعتقدات والأمثال والحكايات التي تناولت الحيوان في ظفار كانت عصارة تجربتهم التي خاضوها خلال مئات السنين، امتزجت بالكثير من المحبة وشابها بعضُ الخوف الداعي للحذر وعدم الوقوع في مناطق الخطر، وبين مكوّني (الخوف والحب) أبدعت الذاكرة الجمعية الظفارية صياغة مروياتها وتفسيراتها لما يحيط بها.
الهوامش
المراجع:
جونستون، تي إم، الفلكلور والروايات الشعبية في ظفار، حصاد ندوة الدراسات العُمانية، وزارة التراث القومي. والثقافة، 1400هـ 1980م.
سهيل العوائد، من مقال في أثير بعنوان “حيوان سيلول” نموذجًا: آثار قديمة في ظفار نُسِجت حولها أساطير»، November 30, 2020، أثير- مكتب صلالة.
الشحري، علي أحمد محاش:
ظفار كتاباتها ونقوشها القديمة، شركة دار الغرير للطباعة والنشر، الإمارات العربية المتحدة، ط١، ١٩٩٤م.
مسودة كتاب (الأمثال والمعتقدات الظفارية القديمة).
لغة عاد، ط1، المؤسسة الوطنية للتغليف والطباعة الإمارات العربية المتحدة، 2000م.
الكثيري، عبدالله بن جعفر في مخطوط (الدلائل والأخبار في خصائص ظفار).
المهري، محمد بن مسلم، حكايات شعبية ظفارية، دار الفرقد للطباعة والنشر، ط2، 2010م.