تيد هيوز-شاعر بريطاني
ترجمة: محمد عثمان الخليل- مترجم وأكاديمي سوري
ماذا حدثَ تلكَ الليلة؟ لَيلَتَكِ الأخيرة.
اثنانِ يتعرَّيانِ، بَلْ ثلاثة
يتعرَّونَ من كُلِّ شيء. الجُمعةَ عصرًا
حينَ رأيتُكِ في الحياةِ آخرَ مرة.
تَحرِقينَ رسالَتَكِ لي، في مِنفَضةِ السجائر،
بتلكَ الابتسامةِ الغريبة. هلْ أفسَدتُ خِطّتَكِ؟
هل فاجَأَتْني أبكَرَ مما كُنتِ تريدين؟
هل هرعتُ إليك بأسرعَ مِما يجب؟
ساعةٌ واحدةٌ بعدَ ذلك– لَكُنْتِ اختَفيتِ
حيثُ لا أصلُ إليكِ.
كنتُ عدتُ خائبًا من أمامِ بابِكِ الأحمر
الذي لَنْ يَفتحهُ أحد
وأنا أحملُ رسالتكِ
صاعقةً تبحثُ عن أرض
لَكانَ ذلكَ عِلاجًا بالصدَمات
لي أنا.
يُعادُ مِرارًا وتَكرارًا في عُطلةِ الأسبوع
كُلَّما قَرأتُها، أو فَكَّرتُ فيها.
كانَ ذلكَ سيُعيدُ بناءَ عَقلي وحَياتي.
العِلاجُ الذي خَطَّطتِ لهُ كانَ يحتاجُ بعضَ الوقت.
لا أتخيّل
كيفَ كانَ بإمكاني أن أُمضي تلكَ العُطلة.
لا أتخيّل. هل خططتِ لِكُلِّ ذلك؟
وصَلَتْني رِسالتُكِ القصيرةُ أسرعَ مما يَجِب– في نَفْسِ اليوم
عصرَ الجمعة، وقد أرسَلْتِها في الصَباح.
سارعَ بها شَياطينُ ذلكَ اليوم.
قَشّةٌ أُخرى من سوءِ الحظّ
رَماها عَليكِ مَكتَبُ البريد
ووَضَعَها فوقَ أحمالِك. تَحرَّكتُ بسرعة
في غَسَقِ شُباطَ لَندنَ الثَلجيِّ الأزرق.
بَكَيتُ بارتِياحٍ حينَ فَتَحتِ الباب.
كومةٌ من الألغازِ المَحلولة. دموعٌ مُبَكِّرة
فَشِلَتْ أن تُفَسِّر لي.. فَشِلَتْ أن تُخبِرَني
بمَعناها الحَقيقيّ. لكن ما الذي قُلتيه
على رَمادِ الرسالةِ المُحترِق؟
الرسالةُ التي أعدَمتِها بإتقانٍ وهدوءٍ شديدين
حَتّى جَعلتِني أُفلِتُكِ وأتركُكِ
تَنفِضينَ الرمادَ عن خِطَّتَكِ– عن المِنفضة
التي اتّكأتِ عليها لِتَقرئي لي
رَقَمَ هاتفِ الطَبيب.
هُروبي
كانَ قد أصبحَ كائنًا طريدًا
أرِقًا مَعدومَ الأملِ وقد استَنفَدَ كُلَّ أحلامِه
يُريدُ فَقَط أن يُمسَكَ ويُستَعادَ، فَقَط
أن يَسقُطَ ويَخرجَ من فَراغِه.
يومانِ يُدَلِّيان لاشيء. يومانِ مَجّانِيّان.
يومانِ لَيسا في أيِّ تَقويم، لكن لَم يُسرقا
من أيِّ عالَم
خارجَ الواقعِ، أو الشعورِ، أو التَسمِيات.
حَياتي الجِنسِيّة أمسَكَتْ به. حياتي الجِنسِيّة المُخَدَّرة
بإبرَتَيها المَجنونَتَين
وهُما تُطرِّزان وَردَتَهُما، تَخرِزانِ وتَضُمّان
دَندَشاتِهِما، وَشْمَهُما المُدَمّى
في مَكانٍ خَلفَ سُرّتي،
تَحفِرانِ ذلكَ الشَرَكَ المُزَخرَف
إبرَتانِ مَجنونَتان تَتَناوَبانِ في دَرزِ الغَرزات
تَنتَقيانِ من أعصابي
لألوانِهما، وتُعيدانِ تَشكيلي
في جلدي أنا، وكُلُّ واحدةٍ تَصوغُ الأُخرى
في رُسوم ساخرةٍ من ذاتِها
من هَوَسِ الدُخولِ والخروج. امرأتان
كلٌّ تَحمِلُ إبرَتَها.
تلك الليلة
منحوتةُ ديلاروبيا سوزان. تحركتُ
في حذرٍ واضطراب
مثلَ لهبٍ يمشي في سلكِ ديناميت. غضَبي كلِّه
كان جُهدًا بائسًا لأفجّرَ
الكرةَ القديمةَ حيثُ انحنتْ الظلال
على آثارِ الرمادِ التي وشَت بي. ركضتُ
منها، من فيلمٍ معكوسٍ، ووجهي ينظرُ إلى الوراء
نحو ماذا؟ ذهبنا إلى شارعِ رگبي
حيثُ بدأتْ حكايتُنا أنا وأنتِ.
لماذا ذهبتُ وسوزان لذاكَ المكانِ من بينِ كلِّ الأماكن
لماذا ذهبنا إلى هناك؟ القدرُ العنيد
وهو يزخرفُ مصيرَنا
عدّلَ من بديعيِّاتِه لك، ولي
ولسوزان. لعبةَ سوليتير
لعِبَها بنا ميناتورُ هذي المتاهة
وضمَّ إلى اللعبةِ هيلين، في الشقةِ الأرضية.
كنتِ لاحظتِها– كفتاةٍ تصلحُ لقصة.
لم تقابِليها. قلةٌ مَن قابَلوها
إلا من وراءِ آذانٍ ولِجام
كلبِها الألزاسي المجنون. حتى لم تلمَحيها.
فقط تراجعتِ بخوف
عندما ألقى حيوانُها المجنونُ بثقلِه
على الباب، ونحن ننسَلُّ عبرَ الرَدهة
وسمِعناهُ يختنِقُ بحقدٍ ألمانيّ لا متناهٍ.
ليلةَ الأحدِ تلك، فتحتُ بابَها
بضعَ إنشاتٍ فقط.
سَلّمتْ سوزان على العينينِ السوداوين،
والوجهِ السمينِ الحزينِ الذي تلصَّصَ علينا
عبرَ سلسلةِ البابِ ثم أغلقَ الباب.
سمِعناها تواسي سجّانَها
في زنزانَتِها، في بيتِ كلبِها، هناك بعد بضعةِ أيام
قتَلتْ بالغازِ كلبَها الشَرِسَ وقتلَتْ نفسَها.
أمضيتُ وسوزان تلك اللية
في فراشِ زفافِنا أنا وأنت. فراشٌ لم أره
منذ أن نِمنا سويةً فيهِ يومَ زفافِنا.
لم آخُذْها إلى فراشي الخاص.
فقد خطرَ لي، أن بعد أن تنتَهي عطلةُ أسبوعِك
قد تجيئينَ– في زيارةٍ مفاجئة
هل جئتِ؟ وطرقتِ شبّاكي المظلِم؟
وهكذا بقيتُ مع سوزان، مختبئًا منكِ
في فراشِ زفافِنا– ومن ذاتِ الفراش
خلالَ سنواتٍ ثلاثٍ سيأخذونَها لتموت.
في ذاتِ المستشفى بعد اثنتي عشرةَ ساعة
سأجِدُكِ ميتةً هناك.
صباحَ الاثنين
أوصلتُها لعملِها وسطَ المدينة
ثم ركنتُ سيارتي شمالَ شارعِ يوستن
وعدتُ إلى حيثُ كان هاتفي ينتظرُني.
ما حدثَ تلك الليلة، في ساعاتِك
أمرٌ مجهولٌ كما لو أنَّه لم يحدُث.
أيُّ تراكُمٍ لحياتِكِ كلِّها–
كجُهدٍ بلا وعي، كمولود
يندفعُ عبرَ أنسجةِ الثواني
من ثانيةٍ لثانيةٍ ببطئ–
حدثَ فقط كما لو أنَّهُ لا يمكنُه الحُدوث
كما لو أنَّهُ لم يكن يحدُث. كم مرةً
رنَّ الهاتفُ هناك في غرفتي الخالية،
وتسمعينَ الرنينَ في سمّاعَتِكِ–
الذكرى المتلاشيةَ في مكانين
لهاتفٍ يرِنُّ، وفي عقلٍ
بدا وقد فارقَ الحياة. هنا أعدُّ
كم مرةً مشيتِ لكشكِ الهاتفِ العام
أسفلَ جادّةِ سانت جورج.
أنت هناك كُلما نظرتُ، وقد انعطفتِ للتو
من شارعِ فيتسرويّ، وتعبُرينَ الضفّتين
بين أكوامِ السُكَّرِ المُتّسِخ.
في معطفكِ الأسودِ الطويل
وضفيرتِك الملفوفةِ خلفَ الشَعر.
تمشينَ ولا تستطيعينَ الحراك، أو الصحو
ولم تعودي أحدًا يمشي
تمشينَ مع الحدائدَ تحت تلَّةِ بريمروز
باتجاهِ كُشكِ الهاتفِ الذي لا تستطيعينَ الوصولَ إليه.
قبل منتصفِ الليل. بعد منتصفِ الليل. مرةً أُخرى.
وأُخرى. وأُخرى. وأُخرى قُبيل الفجر.
في أي مكانٍ توقّفَت العقاربُ على ساعةِ وجهي
عندما جاءَت محاولتُكِ الأخيرة–
وقد مضتْ بعيدا
فرصةُ سماعِها– وهزّت المَخَدَّةَ
على ذلك السريرِ الخالي؟ مرةً أخيرة
لمَسَت بلطفٍ كتبي وأوراقي؟
لمّا وصلتُ كان هاتفي في سباتٍ عميق
المخدةُ بريئة. الغرفةُ نائمة
وقد ملأها نورُ صباحٍ تضيئهُ الثلوج.
أوقدتُ وِجاري. وكنتُ أخرجتُ أوراقي
وبدأتُ الكتابةَ حين
صحا الهاتفُ برنينٍ مُرتبِك
وقد تذكّرَ كلَّ شيء. عاد لوعيِه في يدي.
ثم جاءَ صوتٌ كسلاحٍ منتقىً بعناية
أو كحُقنةٍ مُعَدّةٍ بدقة
فأوصلَ كلماتهِ الأربعَ ببرود
في أعماقِ أُذني:
“زوجُكَ سيِّدي قد ماتت”.