تحامل سويلم الفرخ على نفسه وهو يئن من نوبة ألم حادة, هاجمت ركبتيه, فاستند بصعوبة على جدار الخيمة, وشنف أذنيه الثقيلتين باذلا جهدا خارقا كي يلتقط أصوات البنادق المترددة برنين معدني أخاذ.
ظلل عينيه بيد مرتعشة, وأحد أنظاره الكليلة مستطلعا الصفوف القادمة من الخيف والظبق والجحي, وأحس بترادفات من الحسرة الواخزة تجتاح أعماقه الذاوية.. فارتعش بقوة ولكنه سرعان ما طرد الهواجس السوداء, فقد قرر أن يبتهج بكل ما تبقى له من طاقة.. (إنه يوم ليس كالأيام!!) قال في نفسه/ محاولا اقصاء ذاكرته المسكونة بذلك المشهد الوحيد دون سواه.. وغامت عيناه الكليلتان, وقد تلبسه ذلك العجز بعينه حينما تخذله ذاكرته المستعصية عن استحضار أي شيء آخر..
وشقت السماء اللاهبة في الرزفة, زخات متوالية من الرصاص, فانتبه من سبحات الذاكرة المفردة, مترعا بذلك الألم الجبار الذي لم يفارقه أبدا, والتفت الى أعماق الخيمة ورأى بندقيته البوفتيله معلقة كما هي منذ أن وضعها هناك, وعاد بعد فترة ليتابع توافد ضيوف الحراوة من الغياظ المرتفعة, فيما توالى زعيق البنادق السريعة, اللاهثة مؤكدة باصرار مستريب أن ثمة عرسا استثنائيا يقام في الرزفة الخاملة معظم أيام السنة.
غير أن طلقة وحيدة مدوية, أصمت أذنيه الخاملتين, وانداحت تترجع من أعلى العوقيد فتراجعت أمام سطوتها العاتية الزعقات اللاهثة حتى خفتت تماما, وظلت تلك الطلقة الوحيدة, الجبارة تملأ بترجيعها الهائل شرايين رأسه الأشيب, تماما وكأنها تنطلق من بندقيته البوفتيله في تلك اللحظة, واهتز منخراه برائحة البارود الحريفة.
إنه يرى عمره المجدب معلقا أمامه, محبوسا في لحظة وحيدة لا تنتهي, مرهونا بين طلقة يتيمة وسقوط قرينه من ذرى العوارة الشنيعة, سبعون عاما وهو يرفع بندقيته وتسقط قرينه مثل غراب أسود الى قعر الوادي السحيق, جثة حارة تنز بدماء دبقة, كثيفة.. سبعون عاما وهو يرفع بندقيته كأمهر رام ليهنئ عروس الصبر, وطوال تلك السنوات وهو ما يزال يجتر ذهوله الأخرس مما حدث.. وظل السؤال معلقا بسنين عمره كلها, كيف استقرت رصاصة التهنئة بين عينيها فماتت على يديه هو دون سواه..?!
كانت العجوز خليعة وقد تعودت سبحات الغيبوبة التي ما انفكت تلازمه منذ أن غرس خيمته الى جوارها في ذلك اليوم البعيد, وحيدا, مهزوما, لا يحمل معه سوى بندقيته أبوفتيله, وخرج جلدي صغير اكتسى طبقة من القذارة السوداء..
وضعت سحفة الطعام في موقعها دون أن تزعجه, وانسحبت خارجها بهدوء.. لابد انه انقطع عن العالم لبرهة.. كان قرص الشمس الكبير, يضج بدماء طافحة, وهو يناوش قمة قرن عتيق ليتوارى خلفها كما يفعل دائما في مثل هذا الوقت..
وصرخ مصعوقا بوهج ناري لذاكرة مغايرة- (انه موعد أوبة الرعاة) وانتشر أريج نبات الضومير يتضوع في الأثير.
كان يقف عند حافة التموجات الرملية الناعمة, عند أطراف الريده, مترقبا, والنهار يكاد أن ينطفئ, مغمورا بظلال عميقة, هادئة, أشبه بظلال الغيوم الكثيفة.. وترامت اليه أصوات الرعاة المنغمة, المصحوبة بالثغاء الممطوط لقطعان الماعز الشبعى.. فالتاع صدره الصغير انفعالا, فقد كان يتطلع بشغف لرؤية قرينه..
وتوالى نضح الذاكرة المحبوسة بمشاهد لا يعرفها, أخذت تتزاحم بلهفة..
كان النهار وليدا وهو يقف في ذلك المكان الرملي يتأمل انتشار الصباح الملون بحنو أخاذ, ولم يرها بين الفتيات وهو يحد أنظاره الفتية, فأخذته موجة من القلق الخفي.. وسمع وراءه لحظتها همهمة لأشخاص يتقدمون, ولم يلبث أن تبين صوت الخفرية واضحا..
– ستلحق بهم.. فمازال النهار في أوله
وتعرف على صوت أخيها الصبر وهو يرد منفعلا..
– نعم.. هو ذاك.. سألحق..
وتقارب خطو القادمين حتى حاذياه, وألقيا تحية الصباح بعجلة دون ان يتوقفا, وامتلأت عيناه الصغيرتان بإعجاب شديد, حينما تجاوزه الصبر متوهجا في اطار من الرجولة المترعة.
وانتظم في ذاكرته مشهد آخر.. بدت فيه طلائع الاغنام وقد تناثرت بين أشجار السمر والمشط كسحابات ثلجية ترصع صفحة السماء, شديدة الزرقة.
وفيما كان يتملى المشهد الساحر أمامه, لمح الصبر وهو ينحدر داخل الوادي محاذيا عقبة الخنابير, القاسية, منعطفا باتجاه القطعان.. ولم يكن حيث يقف ثمة ظل يحتمي به من قيظ الشمس, ولم تكن الرؤية جلية كما ينبغي ومضى وقت طويل قبل أن تفرغ الفتيات الى أغنامهن ويتوجهن بها نحو المراعي الكثيفة.
وخيل إليه أن شخصا ما مرق بسرعة فائقة, متماوجا مع مرايا السراب المتراقصة, ثم يختفي بعد برهة قصيرة خلف شجر سرح كبيرة..
أخذت الدنيا بالاعتام, وكان صدره العجوز يستعر بمشاعر متباينة, تنهشه بقسوة, ولكن ذاكرته المنفلتة أخذت تلح في انثيالها المتدفق, وحاول في مثابرة عنيدة أن يصدها ولكنه أخفق.. فأخذ يحدق في صفوف الحراوه, وقد تبعثرت, ولم تعد تسمع سوى أنات خافتة, لطلقات متعبة, متقطعة..
(سينطلقون الى مثاويهم, وستعود الرزفة الى سكونها الثقيل.. ولقد فاتني أن أعيش بهجتهم..) قال في حسرة.
ولكن ذلك الدبيب المشع, الذي فتت قشرة ذاكرته الوحيدة, المتيبسة, أشاع في قلبه البارد دفئا حميما.. ورأى نفسه, تحمله يفاعته الغضة على أجنحة لينة, يندفع باتجاه الوادي.. وتوقف لاهثا تحت شجرة السرح الضخمة مصعوقا, محملقا في ذهول راعش.. واشتد وجيب قلبه.. كان الصبر يوسد رأسه الكث, الصقيل في فخذ قرينه, فيما راحت أناملها الدقيقة تعبث في شعره كأم تهدهد طفلها الأثير.
وانتفض واقفا حتى كادت قدمه أن تنزلق به.. لولا لم تسارع العجوز خليعة لتسنده.. فنظر اليها بعيون ذاهلة, ممتنة, فقالت دون أن تفلته من يدها..
– إنها الحراوه هيه? لقد أرجعتك الى سنين مضت.
– نعم .. الحراوه..
أجابها بشرود.. وصمت مفكرا.. (يبدو أنها النهاية?? كيف لي أن أتذكر كل هذا دفعة واحدة??).
كانت ذؤابة صغيرة تلتهب في وعاء الشحم القذر.. رأى من خلال ضوئها الشاحب سحفة الطعام, مغطاة في موقعها.. فأبلغها باقتضاب..
– ليست بي حاجة الى الطعام..
فتناولت السحفة دون أن تتكلم, فقد كانت تعرف رغباته المحددة القاطعة, منذ أن علق بندقيته, وأعلن بنبرة باردة, حاسمة, انه لن يحركها من ؛الرفقه« بقية حياته.. لم يكن يدري هل يبتهج بعودة ذاكرة طرزتها الآلام الطافحة, منذ أن علم ذات يوم بعيد انه فقدها في لحظة عمياء, باترة?
أم يحزن لأن ذاكرته التي ألفها سبعين عاما ولم يتبق له سواها, ما عادت الأثيرة لديه, فقد هوت عليه فجأة ذاكرة أخرى لا تقل عنها وجعا?
وتصالبت عيناه الكليلتان, على بندقيته البوفتيله, عمره المعادل, الصامت.. وقد توقف ذهنه عن التفكير, وشمله شعور بالفراغ العميق.. ولوهلة, سمع صوتا مكتوما يصل إليه من ناحيتها, وكأن يدا خفية حركتها.. ولكنه ظل يحدق اليها بألفة ومودة, ولم تمر سوى لحظات قليلة, عاد بعدها يسمع الصوت المكتوم, ورأى بعينيه الكليلتين بندقيته العتيقة, تتأرجح حول الرفقة, فانتفض واقفا, وأطفأ الشمعة الذاوية بنفخة واحدة.
انه يحفظ تفاصيل خيمته, ولن يجد كبير عناء في نبش أشيائه القليلة وسط الظلمة الكثيفة كان أول ما بحث عنه جرابه الجلدي القديم, وتصاعدت للتو رائحة عطنة, لشيء يتحلل, وما لبثت يداه المعروقتان تجوسان بداخلها, وبرقت عيناه في الظلمة الساجية, وبحركة مدروسة, انتزع بندقيته, وأحس بها خفيفة ومتجاوبة, فاسرع مفعما بحيوية اللحظة النادرة, يحشوها بالبارود المتحجر.. ضغط على القطعة الحديدية الصغيرة داخل كفه المرتجفة, قبل ان يضعها في فوهة الماسورة الباردة, ونهض ثانية وأشعل قطعة الشحم الهزيلة وأخذ يتفحص فتيل الاشعال القصير, ويجففه على ذؤابة اللهب الشاحبة, شعر لأول مرة منذ سبعين عاما انه امتلك زمنا خاصا, وأن عليه ألا يفلته من يده.. وبوثبة واحدة, قذف بنفسه خارج الخيمة متلمسا بخطوات متصلبة, الطريق الى موقع الحراوة..
كانت الرزفة بأسرها تغوص في هجعة عميقة..
انتصب سويلم متفردا بساحة الحراوة المقشوطة, ورفع رأسه عاليا يتشمم أنفاس النخيل بعذوبة عميقة ثم توجه بأنظاره الملتمعة صوب ذرى العوارة, وضغط على الزناد.. فاهتز الكون, وهرب السكون المرين أمام سطوة الدوي الرهيب, وانداحت الترجيعات متواترة كهزيم الرعود الجبارة..
وعند انتشار الخيوط الأولى للفجر.. كانت العجوز خليعة وحدها التي تجرأت, وذهبت الى حيث انطلق الدوي الراعب ليلة البارحة, وذكرت فيما بعد, أن رائحة البارود الحريفة كانت تزحم الهواء الثقيل, حيث رأت العجوز سويلم محتضنا بندقيته البوفتيله, متكئا عليها بوقفة مسرحية اشبه بالخرافة.. وكان قد فارق الحياة.
سالم العبد قاص من اليمن