تقديم وترجمة: أحمد م الرحبي*
تنتمي القاصة والكاتبة المسرحية ليودميلا بيتروشيفسكايا إلى تيار ما بعد الحداثة الروسي، بوصفته الشرقية التي تتشرب بالسياسة، وتنزع إلى تفكيك اللغة المجتمعية، إلى جانب الموكونين الأساسين اللذين يحددان هذا التيار – الطبيعانية والفوضوية/الرؤيوية. وقد شكلت أعمال هذه الكاتبة ظاهرة أدبية في زمنها (في ثمانينيات القرن العشرين أولاً، عبْر نصوصها المسرحية التي اخترقت بها التابو السوفيتي، وفي التسعينات، أي بعد زوال الاتحاد السوفيتي). فمواضيعها التي تعالج الحياة السفلية للمجتمع، وتلامس تفاصيله المُستترة، وتتسرب إلى لا وعيه، إلى جانب خلفيتها الفكرية والفنية التي ترتبط بوشائج متينة بالكلاسيك الروسي، متمثلا برواده الكبار من أمثال بوشكين وتشيخوف ودوستويفسكي، هذا التمازج المُعقد بين كلاسيكية مُحدّثة، وبين استقصاء المواضيع الآنية، ولكن عبْر رؤية استشرافية، تستبطن المواضيع، وتُشرّح الحالات، بمبضع حاد، جارح، وصادم، كل هذا صنع قوسا من الألق للمشهد الأدبي الروسي، وجدد العهد بالإبداع الكبير والمؤثر.
فعلى سبيل المثال يُمكننا الاستدلال على اشتغالات تشيخوف في أعمال بيتروشيفسكايا القصصية. على صعيد الموضوع نجد التوجه إلى الحياة الرتيبة للطبقة المتوسطة، وعلى صعيد الشكل وفنيات السرد نرى الميل إلى القصص ذات الصفحات القليلة، واستخدام اللغة اليومية، وتضمين رأي المؤلف وتعليقاته على أحداث القصص، ولكن مع غياب موقف الكاتب الواضح والقاطع.
كما يمكننا استبيان الارتباط العميق، والمباشر، ولكن الخلاّق أيضا، بين إبداع بيتروشيفسكايا وبين التراث الأدبي الروسي الكلاسيكي وذلك من خلال قصة «الطهارة» التي نترجمها هنا، حيث استوحت الكاتبة فكرتها، واستلهمت جذوتها، من الحلم الرابع لشخصية راسكولنيكوف – بطل رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي (سنضع ترجمة لهذا الحلم بعد قصة الطهارة). فكما هو الحال مع حلم راسكولنيكوف، وتوتراته، واشتعالاته، تأخذنا الكاتبة في قصتها على خطٍ مسحوبٍ، وبلغة واقعية يومية، لا يعترضها شيء خارجي، ولا تنسج من الخيال، ولكنها، وبرغم بساطتها، أو ربما لهذا السبب بالذات، تهزنا من الأعماق، وتضعف مقاومتنا الزائفة، بل وتعطلها تماما، لنجد أنفسنا أمام محكٍ حاد وملموس لما جنيناه، ونجنيه على أنفسنا. ومثلما هو حلم راسكولنيكوف أيضا، تُنهي الكاتبة قصتها بسؤال بليغ عن كُنه الطهارة، وإن كانت مرتبطة بالجسد أم أن أصلها في الروح.
أخيرا يبقى أهم ما يربط الكاتبة ليودميلا بيتروشيفسكايا بالأدب الكلاسيكي، ويؤاخيها برموزه، ألا وهو الفهم العميق لوظيفة الفن، والإعلاء من شأن حرية الإنسان، وكرامة البشر، أي المُشترك الثابت للكتابة الأصيلة في كل مكان وزمان.
الطهارة
ذات مرَّة قُرع الجرس في شقة عائلة (ر)، فهرعت الطفلة الصغيرة لفتح الباب. وقف خلف الباب شابٌ بدا عليلا تحت الضوء، ولمع في وجهه طفحٌ جلديٌّ، ورديّ اللون. قال الشاب إنه قادمٌ ليحذّر من خطرٍ بغيض. وبأن وباءً فيروسياً يُداهم المدينة، كفيلٌ بالقضاء على ضحيته في غضون ثلاثة أيامٍ، فضلا عن أن الجسم ينتفخ بسببه ويُمنى بتحولات أخرى. أعراضه: ظهور بثور بها قيح، أو مجرد دمامل. والأمل متاح للبقاء على قيد الحياة شريطة أن يلتزم الشخص بنظام صارم للطهارة البدنية، وأن يلزَم دارَهُ، لا يخرج منها، وألا يكون هناك فئران، فالفئرانُ ناقلٌ رئيسيٌّ للعدوى كما هو معهود دائما.
استمع إلى الشابِ الجدُ والجدة، والطفلةُ الصغيرة ووالدها. الأمُ كانت في الحمَّام.
– لقد أُصِبتُ بهذا المرض، – تحدث الشاب وخلع قبعته التي كانت تحجب جمجمةً وردية اللون، وصلعاء حتى العظم، تعلوها طبقةٌ جلدية رقيقة تشبه غشاء الحليب المغلي. – وقد يسرت لي النجاة منه، ولست أخشى تكرار العدوى، وها أنذا أطوف بالبيوت لأساعد في جلب الخبز وباقي المؤونة لمن تعوزهم. هل تنقصكم المؤونة؟ إليَّ إذن بالنقود وسأذهب لجلبها، واعطوني حقيبة كبيرة، حبذا لو كانت بعجلات. لقد بدأت الطوابير الكبيرة تصطفُّ في المحلات ولكني لا أخشى العدوى.
– شكرا، – قال الجد، – لسنا بحاجة لهذا.
– في حالة أن مرض جميع أفراد عائلتكم فاتركوا الباب مفتوحا. لقد أخذت على عاتقي المرور على أربع بنايات من ستة عشر طابقا، وهذا أقصى ما أستطيعه. وإن نجا أحدٌ منكم، مثلما حدث معي، فبمقدوره أيضا مساعدة الناس بإخلاء الجثث وما إلى ذلك.
– ما المقصود بإخلاء الجثث؟ – سأل الجد.
– لقد طورت نظاما لإخلاء الجثث عن طريق رميها من خرطوم القمامة. يلزمنا لذلك أكياسا بلاستيكية من الحجم الكبير، ولا أعرف من أين احصل عليها. يصنعون عندنا طيّات بلاستيكية بطبقتين، ويمكن ترتيب شيء منها، ولكن من أين لي بالمال؟ كلُ شيء يعتمد على المال. نعم، بإمكاننا قطع هذه الطيّات بسكين ساخنة لتتحول في الحال إلى أكياس بالطول الذي نريده. فقط سكينٌ ساخنة وطيّةٌ بلاستيكية بطبقتين.
– كلا، شكرا، لسنا بحاجة لذلك، قال الجد.
انصرف الشابُ إلى الشقق الأخرى يطلب المال مثل شحاذ؛ فبمجرد أن صفقوا الباب دونه في هذه الشقة، حتى قَرع جرس الشقة المجاورة، وهنا فُتح له الباب، مع الإبقاء على سلسلة الحماية مثبتة، فتحتم عليه أن يُدلي بخَطبِه، ويخلع قبعته وهو في ردهة السلّم، بينما راقبه الساكنون من خصاصة الباب. وقبل أن يُصفَق الباب دونه، أتت إجابة مُقتضبة منهم؛ ومع ذلك لم يغادر مكانه،حيث لم يُسمع وقع خطواته. ثم انفرج الباب المعقود بالسلسلة ثانية وظهر أحدهم يودّ سماع القصة. فأُعيدت عليه القصة. وردا عليه دوى صوت الجيران:
– إن كنت تحمل مالا فاذهب واحضر عشر قناني فودكا سعة نصف لتر وسأعطيك ثمنها فيما بعد.
عَلا وقع الخطوات حتى اختفى.
– حينما يعود، – قالت الجدة، – سنطلب منه إحضار الخبز والحليب المُركّز… وكذلك البيض. ثم بعدها الملفوف والبطاطا.
– محتال، – قال الجد، – مع أن الآثار بوجهه لا تشبه الحروق… إنها شيء آخر.
أخيرا انتفض الأب وقاد ابنته من يدها بعيدا عن المدخل. لم يكن العجوزان والديه بل والديّ زوجته، وكان لا يقاسمهما رأياً في كل ما يبدر منهما. وبدورهما لا يأخذان برأيه في شيء. وكان رأيه أن شيئا ما قد وقع بالفعل، وأن وقوعه كان أمرا محتوما، وبأنه شعر به منذ أمدٍ طويل، وظل ينتظره. استولى عليه الهلع، فاقتاد الطفلةَ من يدها، وابتعد بها عن المدخل لألا تحوم هناك عند انتقال الزائرُ الغامض إلى شقة الجيران… لقد كان جديرا به أن يحاوره، رجلا برجل، ويسأله عن كيفية شفائه، وكيف كانت حالته…
ولكن الأجراس لم تقرع في ردهة السلم بعد ذاك. أو لنقل إن المِصعد ظل يتحرك هنا وهناك، بل إن البعض خرجوا منه إلى طابق العائلة (ر)، لتُجلجل مفاتيحهم بعدئذ وتصطك أبوابهم. بيد أن الشخص صاحب القبعة لم يكن بينهم، وإلّا لما فَتح أيا من الأبواب بمفاتيحه، بل وقف وقرع الأجراس وحسب.
أطفأ نيكولاي التلفاز، وجلسوا لتناول العشاء، فأخذ نيكولاي قسطا كبيرا من الطعام، بما في ذلك الخبز، ما أفقد الجد صبره، فألمح له أن العشاء نعطيه العدو1، في حين وقفت يلينا في صف زوجها، أما الطفلة فقالت: «علامَ الصراخ؟»، وأخذت الحياة مجراها المعتاد.
آناء الليل، وحُكما من الصوت الذي ارتفع في الأسفل، فقد تحطم زُجاجٌ كبير الحجم.
– إنها واجهة المخبز، – قال الجد وخرج إلى الشرفة.- اسرعوا، هيا يا كوليا2، فلتجلب شيئا للمؤونة.
وراحوا يجهّزون نيكولاي للخروج، أثناء ذلك وصلت سيارة الشرطة، قبضوا على أحدهم، وأبقوا في المكان شرطيا ثم انصرفوا. خرج نيكولاي بحقيبة وسكين، واتضح أن حشدا كبيرا قد تجمع في الأسفل، فطوقوا الشرطي، ودهموه بالأقدام، ومن خلال الواجهة، تقافز الناسُ، وتقافزوا، منهم من تعارك مع امرأة، وانتزع منها حقيبة سفرٍ بخبزها، ثم جاء من كمّم فمها وجرها في المخبز. تضاعف الخلقُ في الأسفل. وبعد لأي عاد نيكولاي، حاملا حقيبة يدٍ لا تُقدر بثمن: ثلاثون كيلوجرام من المخبوزات المجففة وعشرة أرغفة سمينة. نزع نيكولاي كل ملابسه وألقمها خرطوم القمامة، ثم أنشأ يتمسح بالكولونيا من الرأس حتى القدمين، وضع كل ما استهلكه من قطن في كيس ورماه من النافذة. أما الجد الذي كان مغتبطبا لما يجري، فقد استوعب لتوّهِ أن عليه أن يقتصد في الكولونيا وفي كل المستلزمات الطبية، وخلدوا إلى النوم.
في الصباح أفطر نيكولاي لوحده بنصف كيلوغرام من المخبوزات المجففة مع الشاي، وعلّق على هذا مازحا: «والإفطار تأكله بنفسك». كان للجد أسنان مستعارة، وبحزن راح يغمس المخبوزات في الشاي. وانطوت الجدة على نفسها، أما يلينا فكانت طوال الوقت تشجع الصغيرة لتناول المزيد من المخبوزات. طفح الكيل بالجدة وقالت إن من الضروري إرساء النظام، فالسرقة غير متاحة كل ليلة، والمخبز قد تم اقتحامه، وأُجهِز على كل ما فيه. وهكذا أَحصوا مؤونة الأغذية، ووزعوا حصصها على الجميع. عند الغداء تنازلت يلينا عن نصيبها للطفلة. وأمسى نيكولاي مثل سحابة سوداء، فالتهم بعد الغداء بمفرده رغيفا كاملا من الخبز الأسمر. كانت مؤونتهم كافية لأسبوع، بعده سينكشف الغطاء عن القاع. اتصل نيكولاي ويلينا بالعمل ولكن أحدا لم يرفع سماعة الهاتف، لا في مكتب نيكولاي ولا في مكتب يلينا. فاتصلا بمعارفهما، وكان الجميع مرابطين في بيوتهم، والكل ينتظر. توقف التلفاز عن العمل، وانطلق الصفير من تردداته. وفي اليوم التالي انقطعت حرارة الهاتف. في الأسفل كان المارة يعبرون الشارع بالشنط والحقائب اليدوية، بينما جرَّ أحدهم شجرة غير كبيرة، قُطعت بمنشار. ظهر سؤالٌ حول القطة، فالحيوان لم يأكل شيئا منذ يومين وظل يموء في الشرفة بشكل رهيب.
– يجب أن نخرجها ونطعمها، – قال الجد. – إن لحم القطط أفضل فيتامين طبيعي. أفرج نيكولاي عن القطة، وأخذوا يطعمونها قدْرا معقولا من الحساء خشية أن تبشم بعد جوعٍ. لم تفارق الطفلةُ القطة، ففي ذينك اليومين، حينما كانت تموء في الشرفة، كانت الطفلة تناضل للوصول إليها، أما الآن فجعلت تتلذذ بإطعامها، حتى أن أمها تذمرت واحتدمت: «سوف تعطينها من الحصة التي حبيتك بها من نصيبي».
وعلى هذا المنوال نالت القطة غذاءها. إلّا أن الطعام سينفد خلال خمسة أيام. كان الجميعُ يترقبون تغيّرا ما، كأن يتمّ الإعلان عن التعبئة العامة، ولكن الشارع امتلأ في الليلة الثالثة بهدير المحركات، وغادر الجيشُ المدينة.
– سيذهبون ليطوقوا المدينة ويحجروا عليها، – قال الجد. – فلا دخول إليها ولا خروج منها.
– الأكثر رعبا أن كل شيء يبدو حقيقيا، وسيتعين علينا النزول إلى المدينة لأجل التبضّع.
– إن أعطيتني كولونيا فسأذهب، – قال نيكولاي. – فقد نفد ما عندي.
– سيكون كله لك، – قال الجد بنبرة تحمل أكثر من مغزى، ولكنها نبرة متنصلة كذلك. لقد فقد الكثير من وزنه. – من حسن الحظ أن ماء الشرب والصرف مازالا يعملان.
– فأل الله ولا فألك، – قالت الجدة. – وفي الليل خرج نيكولاي إلى البقالة حاملا معه حقيبة ظهر وأخرى يدوية، مع سكينٍ ومصباح.
عاد وكان الليل مازال في طوره، فخلع ملابسه على السلم وألقى بها في مسرب الزبالة ثم تمسح بالكولونيا عاريا. وبعد أن معَك نعل حذائه دخل الشقة، ثم معك الفردة الثانية، ورمى بالقطن من النافذة. حقيبة الظهر وضعها في قدرٍ كبير لتغلي، وحقيبة اليد كذلك. لم تكن حصيلته كبيرة:صابون، أعواد ثقاب، ملح، عصيدة شعير نصف مصنّعة، سحلب، قهوة الحنطة. كان الجد مفعم بالبهجة، وبلغ حبوره غايته القصوى. وقام نيكولاي بإحماء السكين على لهب الغاز.
– الدم أكبر مسببٍ للعدوى، – أبدى الجد ملاحظته وهو يأوي للنوم عند مطلع الصبح.
وفقا لحساباتهم فإن المؤونة الحالية كافية لعشرة أيام، وحسبهم لذلك أن يأخذوا من السحلب والعصيدة وما سواهما بمقدار يسير.
طفق نيكولاي يخرج كل ليلة للصيد، ونبا سؤالٌ عن الملابس، فعكف نيكولاي على عطفها في كيس بلاستيكي وضعه على السلم، واستمر في تقليب السكين فوق اللهب. سوى ذلك فقد ظل يأكل كثيرا كسابق عهده، ولكن من غير مناكفات الجدّ هذه المرة.
كانت القطة تزداد نحولا يوما بعد آخر، وترهل جلدها. وأضحى الغداء والعشاء والإفطار عذابٌ في عذاب، إذ لا تكف الطفلة عن محاولاتها رمي شيءٍ على الأرض للقطة. شرعت يلينا في ضربها على يديها، ثم قاموا بإخراج القطة، فجعلت تنشب على الباب.
في إحدى المرات انتهى أمر القطة بمشهد مأساوي. فبينما كان الجد والجدة في المطبخ، دخلت عليهما الطفلة تحمل القطة بيدها. كان فم القطة، كما فم الطفلة أيضا، ملطخا بشيء ما.
– إليكم هذا، – قالت الطفلة وقبلت القطة من فمها الملوث، ولا يبدو أنها المرة الاولى التي تقوم فيها بذلك.
– ما هذا؟ – هتفت الجدة.
– لقد اصطادت فأرا – أجابت الطفلة. – وأكلته. – ومرة أخرى قبّلت القطة من فمها.
– أي فأر؟ – سأل الجد، وكان قد جفل هو والجدة.
– فأر رمادي.
– منتفخ؟ سمين؟
– نعم، سمين، وكبير. – وبدأت القطة تتقيأ بين يدي الطفلة.
– امسكيها جيدا! – قال الجد. – واذهبي إلى غرفتك، عزيزتي، اذهبي. اذهبي مع القطة. آه منك أيتها اللعينة الخسيسة. هل شبعت من اللعب مع القطة، هذه النجسة؟ شبعت؟
– لا تصرخ، – قالت الطفلة وأسرعت إلى غرفتها.
سار الجد في إثرها وراح يرش مواضع خطواتها بكولونيا بخاخ. ألجم باب غرفة الطفلة بكرسي، ثم دعا نيكولاي الذي كان نائما بعد السهر الطويل، وبجواره كانت يلينا نائمة أيضا. استفاق الاثنان. وتمَّ حسمُ كل شيء. شرعت يلينا تبكي وتشد شعرها. ومن غرفة الطفلة تصاعدت الطرقات.
– دعوني أخرج، افتحوا الباب. أريد الذهاب إلى الحمَّام. – أخذت الطفلة تصيح باكية.
– اسمعيني، – صاح نيكولاي، – ولا تصرخي!
– دعوني أخرج، دعوني أخرج! أنت الذي يصرخ! دعوني أخرج!
اتجه نيكولاي والجدان إلى المطبخ، أما يلينا فتحتم حبسها في الحمّام، وكانت هي الأخرى تدق الباب.
هدأت الطفلة عند حلول المساء. سألها نيكولاي إن كانت قد قضت حاجتها للحمّام، فردت بالإيجاب، وبأنها فعلتها في سروالها، ثم طلبت أن تشرب.
تضم غرفة الابنة سرير أطفال، ومرتبة مستقلة، وخزانة تحوي حاجيات أفراد الأسرة وقد أغلقت بمفتاح، وهناك سجادة وأرفف للكتب. غرفة مريحة تحولت بغتة، بمحض الصدفة، إلى حجر صحي. قام نيكولاي بإحداث فجوة في الباب تشبه نافذة صغيرة، وطلب من الطفلة، كبداية، أن تقبلَ قنينة رُبطت بخيط، خلط فيها الحساء بفتات الخبز. كما وجب على الطفلة أن تتبول في هذه القنينة ثم تُفرغها عبْر النافذة. بيدَ أن النافذة كانت مغلقة بمزلاج من الأعلى، وهو ما لم تستطع الطفلة بلوغه… فصنع نيكولاي من الأسلاك مقلاعا، وبعد أن رمى به ثلاث رميات، انفتحت كوة كبيرة في النافذة…
ومضت الأيام الثلاثة التالية في كفاح لأجل حياة الطفلة: نقلوا إليها الماء لتغتسل كيفما اتفق، وحاولوا مُراضاتها كيما تدنو من أسفل عين الباب وتتناول القنينة (أراد نيكولاي في إحدى المرات أن ينظف الطفلة فسكب عليها صفيحة ماء ساخن بدل أن يناولها الطعام، ومنها باتت تتهيب الاقتراب من الباب)، – وقد كان هذا كفيلا بسحق ساكني الشقة بالمعنى الحرفي للكلمة، فبعد امتناع الطفلة عن الاستجابة لهم، كانوا يغطون في نوم طويل.
ولكن الأمور تسارعت بحدة بعدئذ. استيقظ الجد والجدة ذات مرة ليكتشفا القطة فوق سريرهما، ووجهها الملوث بالدم كما كان، ويبدو أنها التهمت الطفلة، لتخرج بعدها من ثقب الباب، ربما لتشرب. «آه»، «أوه» تصايح الجدان وتأوها، فاستجاب نيكولاي للجلبة وظهر عند الباب، وبعد أن استوضح سبب النحيب، صفق بالباب ببساطة، وحام في مكانه في الجهة الأخرى، ثم ألجم الباب بكرسي. لم يتوقف الأمر على إيصاد الباب، إذ أهمل نيكولاي فتح فجوة فيه، مؤجلاً أمرها لما بعد. صاحت يلينا وأرادت إبعاد الكرسي، ولكن نيكولاي حصرها في الحمّام مرة أخرى.
أما نيكولاي نفسه فاستلقى على السرير وصار ينتفخ، وينتفخ، وينتفخ. في الليلة السابقة كان قد قتل امرأة تحمل حقيبة ظهر، ويبدو أنها كانت مصابة بالعدوى، لذلك لم يجده نفعا تعقيم السكين بالنار، ناهيك عن أنه أكل عصيدة الشعير المركزة وهو في الشارع، ومن الحقيبة مباشرة. كان يودُّ في البداية أن يتذوقها فجاءت النتيجة أن أتى عليها كلها.
فطِن مكسيم إلى كل شيء، ولكن بعد فوات الأوان، بعد أن أخذ ينتفخ فعليا. كانت الشقة تهتز بأكملها من طرقات الأبواب، وظلت القطة تموء، وكان الأمر قد بلغ بسكان الشقة العلوية إلى طرق الأبواب أيضا، بينما ظلَّ نيكولاي ينافح عن نفسه، وحتى النهاية، عندما نزَّ الدم من عينيه، لم يكن يفكر بشيء سوى أن ينافح ويرجو الخلاص.
لم يقم أحدٌ بفتح باب الشقة، وعبثا لم يفعلوا ذلك، فقد واصل ذلك الشاب طوافه بالشقق، حاملا الخبز معه، في حين انقطع الطرْقُ في شقة (ر) وخيّم الصمت، باستثناء يلينا التي كانت تكزّ بأسنانها قليلا، بينما الدم ينزُّ من عينيها، ولم يكن بوسعها رؤية شيء، ولكن ما عساها أن ترى في ظلمة الحمّام المطبقة وهي ممددة على الأرض.
لماذا تأخر الشاب في العودة كثيرا؟ نعم تأخر؛ تأخر لأن لديه الكثير من الشقق في الباحة… إنها أربع عمارات ضخمة. أما المرة الثانية التي عبْر فيها الشاب مدخل العمارة فكانت عند غروب شمس اليوم السادس من زيارته الأولى، أي بعد مرور ثلاثة أيام من سكون الطفلة، ويوم من رحيل نيكولاي، واثنتي عشرة ساعة من رحيل أبوي يلينا، وبعد خمس دقائق من وفاة يلينا…
ماءت القطة، واستمع الشاب إلى الصوت الوحيد الصادر في العمارة برمتها، حيث انطفأت جميع الطَرَقات والصرخات، فقرر أن يثابر من أجل روح واحدة بأقل تقدير. جلب عتلة حديدية كان البوابون يستخدمونها لِفتِّ الجليد شتاءً، وهي مُلقاةٌ الآن في الباحة، تخضبها الدماء، وراح يخلع بها الباب. فما الذي رآه؟ كومة سوداء يعرفها في الحمام، وكومة سوداء في إحدى الغرف، وكومتين سوداوين خلف باب ملجوم بكرسي، ومن هناك انسلت القطة. قفزت برشاقة من فجوة صُنعت بعشوائية في باب آخر، ومن خلفه سمع صوتا بشريا. أزاح الشابُ الكرسي الثاني عن الباب، ودخل الغرفة. زجاجٌ منثور، وأوساخ، وفضلات، وصفحات اجتُزئت من الكتب، وفئران بلا رؤوس، وقناني وخيوط. على السرير استلقت فتاة صلعاء، فروة رأسها تسطعُ حُمرة، حالها من حالِ الشاب بالمثل. نظرت الطفلة إلى الشاب، على وسادتها جلست القطة، وكانت هي الأخرى تنظر إليه باهتمام.
حلم راسكولنيكوف
أمضى (راسكولنيكوف) أيام الصيام الأخيرة كلها، ومعها أسبوع الآلآم، مُقيما في المستشفى. وبعد أن تماثل للشفاء، راح يتذكر المنام الذي رآه وهو في أتون الحمى والهذيان. شاهد في وهدة المرض وكأن العالم قد وقع ضحية قرحة مرعبة اجتاحته بأسره، قرحة لم يُسمع بها ولم يُشهد لها مثيلا من قبل، خرجت من أعماق آسيا وزحفت إلى أوروبا. الجميع كان مُهددا بالموت، خلا نفر قليل تمَّ اصطفاؤه. ظهر نوع من الديدان الطفيلية الجديدة، والمخلوقات المجهرية، سكنت أجساد البشر. مع ذلك لم يسبق لإنسان مُطلقا أن اعتدّ بذكائه، وامتلاكه الحقيقة، مثلما اعتّد المُصابون بذلك… مُطلقاً. ولم يسبق للناس أن وثقوا بأحكامهم، واستنتاجاتهم العلمية، وثوابتهم الأخلاقية والدينية مثلما حدث معهم آنذاك. القرى بجملتها، والمدن بجميع ناسها أصيبوا بالعدوى، وأدركهم الجنون. كان الجميعُ في هلعٍ ولم يفهموا بعضهم البعض، كل واحد منهم كان يعتقد أن الحقيقة كامنة فيه وحده، فيتوجع عندما ينظر إلى الآخرين، ويلطم صدره، ويتلوى. لم يعرفوا من يدينون وكيف، ولم يتمكنوا من الاتفاق على ما يُعتبر شرا، وما يكون خيرا. لم يعرفوا من يلومون، ومن يؤيدون. وأخذ الناسُ يقتل بعضهم بعضا، وقد تلبسهم نوعٌ من العُته الشرير. حشدوا جيوشا كاملة لمواجهة بعضهم البعض، بيد أن الجيوش راحت تتناحر فيما بينها وهي في المسير، وتفرقت صفوفها، وهجم الجنود على رفاقهم، وأعملوا بينهم الطعن والتمزيق، فتعاضّوا والتهم أحدهم الآخر. انطلقت في المدن نواقيس الإنذار طيلة النهار، فاستجاب لها الناس كلهم، ولكنهم لم يفطنوا للذي يقرع الأجراس ولماذا، بينما الجميعُ في هلع. تخلوا عن أكثر المهن ألفة لهم، فكل واحد منهم لديه فكرته الخاصة، ورأيه المُستقل، ولم يسعهم الإجماع على شيء؛ فتوقفت معهم الفلاحة. وكانوا يفرّون جماعات إلى مكان ما، وقد تعاهدوا على أمرٍ بينهم، وأقسموا ألا يتنابذوا، ولكنهم يجنحون في التو واللحظة إلى شيء مختلف، غير ما اتفقوا عليه لتوهم، ويبدأوا في التراشق بالتُهمِ، يتقاتلون ويهتك بعضهم البعض. نشبت الحرائق، ونشأت المجاعة. نفق الحيوان وهلك البشر. تفاقمت القرحة وزحفت أكثر وأكثر. ومن العالم كله لم ينج سوى قلة من البشر، أولئك كانوا أنقياء وأصفياء، وقد أُنيط بهم إنشاء نسل جديد للبشرية، وحياة جديدة، وأن يجددوا ويطهروا الأرض، ولكن لا أحد قد رأى هؤلاء الناس من قبل في أي مكان، ولم تسمع لهم كلمة ولا صوت.
1 – جريا على المثل القائل: «الإفطار تأكله بنفسك، والغداء تقاسمه صديقك، والعشاء تعطيه عدوك». المترجم.
2 – كوليا؛ اسم التحبب لنيكولاي. المترجم