الكاتب: عبد الوهّاب بوحديبة – باحث تونسي
ترجمة: أحمد السّائح- باحث ومترجم تونسي
أشار « روجي باستيد (Roger Bastide) في مقال مهمّ له إلى أنّ « اللون محايد» وأنّ « فكرنا هو الذي يمنحه دلالة». ثمّ أضاف إلى ذلك سريعا أنّ «ما يهمّ كثيرا ليس النظرة بقدر ما هو نظرة النظرة». ليست عيني بقدر ما هي عين الآخرين الذين يحيطون بي. فالأعمى يعلم أنّه منظور إليه، إذ صوت مخاطِبِه الحادّ أو الأجشّ يعلن في الحال التفاعلاتِ التي يصبغها المجتمع عليه –مجتمع المبصرين- حيث الألوان لا تقيَّم باعتبارها ظاهرة بصريّة وإنّما باعتبارها حاملةَ رسالةِ2.
ولسنا نفعل أكثر من أن نسلّط الضوء كذلك حول هذه الفكرة الأساسيّة والتي مدارها على أنّ اللّون فعل ثقافي، وأنّ رمزيّة الألوان ليست كونيّة. وإنّما لكلّ ثقافة تدبّر خاصّ للألوان. وإذا كان ثمّة تقارب بين بعض المجتمعات التي تتقبّل الألوان بطريقة متشابهة، فإنّ ذلك لا يمكن أن يكون إلاّ صدفة، ولا يمكننا الحديث لا عن هُويّة ولا عن نظام كونييْن. وقد اجتمعت لكاتب هذه الأسطر ثقافة ثنائيّة (عربيّة مغاربيّة وفرنسيّة غربيّة) وكثيرا ما واجه وصُدم أو استمتع بهذا التّباين اللونيّ بينهما.
سنوات عديدة كانت ضرورية لنا لكي «نحقّق» أن العيون الخضر ليست بالضرورة، في وسط ثقافي غربي، مغرية، وأنّ العيون الزرقاء في سياق عربي محض هي ببساطة من خصال الشيطان. فقد جعلتنا العديد من النتائج الأخرى على وعي بصيغ ثقافيّة مختلفة لتقبّل الألوان. حتّى إنّ ذلك شكّل «اختبارا» حقيقيّا يحدّد الانتماء إلى هذه الثقافة أو تلك.
فقل لي كيف تتقبّل اللون الأزرق أو الأخضر أقلْ لك من أنت…
ثلاثة ألوان من جملة سبعة هي ألوان قوس قزح لسنا نجد لها اسما محدّدا في العربيّة: البنفسجي والأزرق النّيليّ والبرتقاليّ. فهي ألوان غير محدّدة، عامّة ومبهمة. وخلافا لذلك يبرز الأحمر والأخضر باعتبارهما لونيْن مشبعيْن إيجابيّةَ خلافا للأصفر وخاصة الأزرق اللّذيْن تقف منهما الثقافة العربية موقف الريْبة وتقريبا الاشمئزاز. فتعرف الثقافة العربيّة إذن ستّة ألوان أساسيّة إذا انضاف الأبيض والأسود.
وهي الألوان الوحيدة التي أعطتها شكلا صرفيّا نموذجيا ومميّزا على مستوى الأفعال والتي يسمّيها النحاة العرب «أسماء الألوان»: أحمر، أخضر، أزرق، أصفر، أبيض، أسود أو أيضا «أكحل».
فلوحة الألوان الأساسيّة إذن مختزلة منذ البدء مثلما هو الحال في الثقافات القديمة التي كانت تحدّد ثلاثة ألوان فقط في الطيف: الأصفر والأحمر والأخضر. واللّغة اللاّتينيّة نفسها – مثلما ذكرنا مرارا- كان لزاما عليها حتّى تتمكّن من تعيين اللون الأزرق اللّجوء إلى التورية لأنّ كلمة مثل (caereleus) تعني «ما يذكّر لونه بلون السماء الصافية».
تبدأ الخيمياء «من المادّة المظلمة السّوداء (nigredo) مرورا ببياض (albedo) ثمّ بفضل صفرة (citrinitas) تحصّل الحمرة (rubedo) ولم يحصل الأزرق على وجهة وظيفيّة إلّا بأخرى3.
وقد اكتشفت الحضارة العربيّة اللّون الأزرق. فتمّ شحنه على الفور بدلالات ثقيلة وغريبة مقلقة ومخيفة وباعثة على الجزع. فالأزرق هو البارد وهو العدم. وليس شيء أكثر سلبيّة في العربيّة من مشتقّات الجذر (ز،ر،ق). فهو يستدعي السقوط والتلوّث والحقد والخسران التي لا يُرجى إصلاحها.
«زَرَقَ» تعني «جعل الشيء أزرق» وكذلك تعني التغوّط. أمّا «زرِق» فيعني «أن يكون أزرق» أو «أعمى» أو يعني فقدان البصر. والعدوّ الأزرق هو ذاك الحقود والشرّير الذي عقد على هلاكك، أمّا الموت العنيف المصحوب بعذابات وآلام وسكرات فهو أيضا موت أزرقُ4.
إنّ اللّون الأزرق كذلك لون شيطانيٌّ: إنّها عيون الشيطان ولكنّها أيضا عيون الزّبانية المرعبين، جلاّدي الجحيم الذين يلحقون أشدّ العذاب بالأشقياء والأشرار والكفّار. وفي اليوم الآخر يُحشر المجرمون والمغضوب عليهم يومئذ زرقًا: من شدّة الظمأ5.
فلا عجب أنّ الثقافة العربيّة تسعى إلى تجنّب اللون الأزرق قدر الإمكان. فعلى مستوى اللغة: أن تنطق كلمة «أزرق» يعني أن تستحضر الألم. فلا نقول لون أزرق ولكن نقول «سماوي». ونتجنّب التحديق في الأشياء الزرقاء لأن في رؤيتها نذير الشؤم. وقد حذّر النّابلسي في مصنّفه حول تعبير المنام من خصال الأزرق الضارّة، فرؤيته في المنام تدلّ على «الهمّ والغمّ والخصومة والمصائب.»6
ثمّة رفض نفسيّ وثقافي حقيقيّ للأزرق الذي انتهى بالاضطلاع على مدى التاريخ وعبر كل المجتمعات العربيّة بدور «الانحسار» بامتياز. فالأكيد أنّ الرسم العربي لم يتجاهل استعمال اللّون الأزرق علاوة على ذلك، فإن الحصول عليه من اللاّزورد باهظ جدّا، والأمر نفسه بالنسبة إلى الأصفر المستخرج من الذهب الخالص. وترتبط ندرة المنتج بعوامل رمزية أساسا مما جعل اللون الأزرق يبقى استثنائيّا.
وقد حلّلت مارغريت فان بيرشام (Marguerite van Berchem) في عمل لها قديم ولكنّه مميّز تفاصيلَ فسيفساء قبّة الصخرة بفلسطين ومثلها بالجامع الكبير بدمشق واللتين تمثّلان مجموعتين إيكونوغرافيّتين من الاهتمام الأوّل بمعرفة ثقافة عصور الإسلام الأولى7.
وقد جمعت 29 لونا مختلفا على الأقلّ. منها 13 خضراء و3 فضيّة و2 زرقاء و2 ذهبيّة8. وتبدو النسبة صحيحة وتبرز، على أيّ حال، بوفاء مكوّناتِ لوحة الألوان العربيّة الإسلاميّة. وحتّى نتمكن من إيجاد اللون الأزرق أقلّ سلبية وأكثر انتشارا، فلا بدّ من مغادرة المجال العربي نحو المجال الثقافي الفارسي والمغولي أو الإيبيري. فهو ينحو في الأندلس وكذلك في إسبانيا اليوم أن يكون ذا قيمة وقائيّة (prophylactique). فشريط أزرق يحيط عتبة الباب أو النافذة، حجر أزرق في خاتم من ذهب، نقش قرآني على خلفية ذات طلاء أزرق ويتم ارتداؤه كحجاب يُبعد الحسد ويقي المنازل والنّاس.
لقد أخذ عداء الأزرق في العالم العربي الحالي في التّلاشي. لأن الأزرق استفاد كثيرا من الاتّصال الثقافي فصرنا نثمّن قيمته شيئا فشيئا خاصّة العيونَ الزرق الأوروبيّة رغم أنّ التّراث الإسلامي يمحّضها نحو الشيطانيّة. لذلك يعكس اللون الأزرق القيم النّابعة من الرمزيّة المسيحيّة.
ولم يكن الأزرق مستعملا في البلاد التونسيّة إلاّ على حيطان بعض القرى الأندلسيّة (تستور وسليمان) أو بعض الحارات اليهوديّة. فلا يمكن إنكار أصول الأزرق المسيحيّة واليهوديّة.
وقد ساعدت الخيلاء اليوم أزرقَ «سيدي بوسعيد» على مطاردة الأخضر حتى من أبواب المساجد والمقامات… وليس نادرا، مع ذلك، أن نلاحظ العداء القويّ للون الأزرق على مستويات الحياة اليومية جميعها. إذ ما يزال الأزرق في المغرب ومصر والشرق الأوسط غير مرغوب فيه.
فـ«ضرس أزرق» تحيل دائما على شخص شرير وخائن9. ونحن كذلك نميل إلى تصوير الذين لا نحبّهم بصفة خاصّة بالأزرق. فالويل لمن استيقظ فوجد باب منزله وقد لطّخه أعداؤه ليلا بالأزرق وهو غافل.
فلا عجب أنْ لا علمَ عربيّا واحدا اتّخذ الأزرق لونا له، فقط هي أربعة بلدان إسلاميّة (ماليزيا وموريتانيا والصومال والسودان) ارتضت الأزرق لونا رسميّا. وهذه البلدان الأربعة الوحيدة التي استعملته من بين 77 لونا مدرجة على أعلام 25 دولة إسلاميّة10.
ونحن حقا بعيدون في هذا عن الثقافة الغربية التي تربط الأزرق بالمشاعر الروحانيّة فهو «لون الإدراك» وهو قادر على استحضار الصّفاء النّفسيّ والطّبع التأمّلي11.
وقد ظلّ اللّون الأصفر على درجة شديدة من السلبيّة. إذ هو يدلّ على: الصفراء (مرض) وعلى الضغينة والجوع والجنون. ويحيل كذلك جذر (ص.ف.ر) على الفراغ والخواء ولكنّه يبقى أقلّ سلبيّة من جذر (ز.ر.ق) فيبدو «محايدا» على نحو ما. وتنعت اللغة العربية الرّجل إذا افتقر بالقول: «أصفر الرّجل». أمّا إذا ارتبط بالماشية والقطيع فيعني هلاكها ونفوقها12.
ويرتبط اللّون الأصفر عند العرب كما هو في الثقافات الأخرى –خاصّة الغربيّة- بالذّهب والشمس والنّار. ويعدّ لونا «مبهما» فهو يعني الشّحوب والغنى والبراقة والانطفاء والوفرة المادّية مقابل الإفلاس الرّوحي.
وتتوافق رمزيّة الأصفر في الثقافة العربيّة مع رمزيّته في الثقافة الغربيّة فقد حلّل روجي باستيد الآليات الدقيقة الوجهة كلّها صوب إبراز فكرة الخيانة13. إنّ لوحة الألوان العربية تتقبّل اللّون الأصفر بكثير من الحذر والمشاعر المختلطة. فهو ليس اللّون الأصيل للجنان ولا هو كذلك لون الجحيم ولكنّه ينتسب إلى هذه وتلك، إذ يرتبط بالنّار فيحيل على جهنّم ويرتبط بالذّهب والزّعفران والشمس والطبيعة فيذكّر بجنّة عدن. وتتجلّى ضبابيّة رمزيّة الأصفر في سمات الثقافة العربيّة الإسلاميّة المتعدّدة، إذ اندهش هنري بيريز (Henri Perez) «من ميل الشعراء الأندلسيّين الملحوظ إلى الوردة الحمراء في شعرهم بينما يفضّل غيرهم في الشرق النرجس الأصفر. والأمر نفسه بالنسبة إلى اللّباس. فالمرأة الجميلة في الشرق هي التي تلبس الأصفر بينما في الغرب الإسلامي الجميلة هي ذات الملبس الأحمر.»14
ولا نجد للّون الأصفر في الخيمياء أو في علم تعبير المنام أهميّة ذات قيمة. ولا نظفر كذلك بأي راية عربيّة تحمل الأصفر لونا لها. وهو يمثل فقط لونا وطنيا بالنسبة إلى 8 دول إسلاميّة من أصل 25.
ولا يضارع الأصفرُ -هذا اللّون المشرق والمفرح حسب عبارة جوته (15Goethe) والمُبعد وغير المحبّذ في الثقافة العربيّة- اللّونَ الأحمرَ. فإذا كان الأصفر هو اللّون المنفسخ فإنّ الأحمر هو اللّون «المؤكّد» بامتياز. فهو لون فاعل ومثير ومرتبط بالقوّة وبالحياة وبجريان الدّم والخمرة. إنّه اللّون الذكوريّ.
وقد أبرز ابن منظور بوضوح في مادّته المعجمية التي كرّسها للجذر الثلاثي (ح.م.ر)16 شحنة اللّون الأحمر الحُلُميّة (المرتبطة بالحلم) والحيويّة في الثّقافة العربيّة. فإذا كان الأزرق باردا فإنّ الأحمر حارّ، مثير يحيل على فوران الدّم في المتقبّلات الشعوريّة.
ونجد العبارة المغاربيّة الشعبيّة «الأحمر يربح دوما» والمثقلة بالدلالة والتي تحيل على الدعوة إلى العلاقة الجسديّة.
وقد كان اللّون الأحمر مطلب الرّجال والنّساء، يتجلى ذلك في مادّتين هما الحنّاء والسّواك (لحاء جذور شجرة الجوز). فالأوّل للشعر واللّحية وراحة الأيْدي والأقدام والآخر للشفاه واللثة يصبغها بلون قرمزي داكن. ولهذا حظيا باهتمام خاصّ في الفقه الإسلامي.
وقد كان اللون الأحمر رائجا لدرجة أنه أدّى إلى تطور حقيقي «لصناعة الأحمر» مبنية على الاستغلال المنظّم لأنواع من الحشرات تمنح اللون القرمزيّ والفطرية التي على خشب البلّوط وعشبة الفوّة والنبات المتسلّق في البلدان معتدلة الحرارة والذي ينتج العُصارين (صبغ أحمر)، والمرّيق (رخويّات بحريّة) ورخويّات تكون على السّواحل المتوسّطيّة والتي يُستخرج منها منذ زمن ليس ببعيد لون بنفسجي جميل، دون أن نغفل الأحمر البنفسجي طبعا من قشور الرمّان وأوراق الشاي.
وليس الأحمر القاني الذي يبرز في الشاشيّة المغاربيّة أو الطربوش الشرقي إلا دليلا ضعيفا على هيمنة اللون الأحمر لقرون على اللباس العربي. وتشهد بذلك أعلامنا، إذ من جملة 12 دولة عربيّة شذّت فقط المملكة السعوديّة في عدم استعمال الأحمر في العلم. والأمر نفسه تقريبا بالنسبة إلى 25 بلدا إسلاميّا إذ 20 منها اتّخذت الأحمر لونا رسميّا لها. فالأحمر من أكثر الألوان حضورا في الرايات الوطنيّة العربيّة.
ولقد صار للأحمر معنى مميّزا حتّى إنّه اكتسب فضائل علاجيّة في ذاته عند الناس: إذ يعالج خيط أحمر يمرّر على الأصابع السعالَ الدّيكي. كذلك يبسط حجر أحمر (ياقوت أو مرجان) يتزين به كقلادة أو خاتم نفس الناظر إليه ويشرح قلبه ويسعد روحه. «ويذهب بالداء المحتبس في العين، ويسكّن الرّمد. وإذا وضع على الجرح منعه من الانتفاخ، ويخفّف النّدوب»17.
واللّون الأخضر في الحلم مفعمٌ إيجابيّة ولكن بطريقة أكثر صفاء. إنّه لون الحياة والقداسة والروحانيّة. بل هو الحياة والقداسة والروحانيّة. ويمكننا إلى حدّ ما الحديث عن «شغف» العرب بالأخضر.
وإذا نظرنا في لسان العرب لابن منظور18 وجدنا أنّ الفروق وكل المفردات المذكورة تدور حول موضوع الحياة. لأنّ الأخضر ينضح طبيعةَ. فالأخضر هو الحيُّ النّابض بالنسغ.
والأخضر هو النبتُ في أوج نموّه فهو غضّ. وهو كذلك الحليب الذي مزج بماء فصار خفيفا. وتعيّن الكلمة كذلك النسغَ. وليس ضديدَ الأخضر الأحمرُ أو الأزرقُ. وإنّما ضديده اليابسُ والمكسور والجافُّ أي الموتُ.
ويحيلنا الأخضر في رمزيّته على ماء الحياة. فأرض خضراء هي أرض شديدة الريّ وخصبة ومثمرة. ويحيل الأخضرُ على الوفرة والازدهار ويعني كذلك الجماعة كثيرة العدد والجماعة الكثير عديدُها.
ويبدو عجيبا أيضا أن نلاحظ أنّ الكلمة تعني أيضا السّماء. إذ السماء الجميلة والصّافية والرائعة من المستحيل أن ينعتها العربيّ بصفة أخرى غير الخضراء. وقد كان الأخضر كذلك لون النبيّ المفضّل. فهو لون بردته التي ورثها الخلفاء الواحد تلو الآخر دون انقطاع حتّى سقوط الخلافة العثمانية، وهو لون أبواب المساجد والأضرحة والمقامات والسناجق التي تزيّن الزاويا والرّباطات، وهو أيضا لون طبق من الطعام يطبخ في أوّل أيّام السنّة الجديدة وهو الملوخيّة.
وقد حملت شخصيّة زاهدة شهيرة وشعبيّة اسم هذا اللّون وهي الخِضْرُ، الذي هو بالنسبة إلى المؤمن حليف فعّال ورؤيته في المنام تدلّ على الرّخص بعد الغلاء والخصب وكثرة النعم والأمن بعد شدة وكآبة.
ولا ريب أنّ الذي يرى الخِضْرَ يحجُّ ويطول عمره ويعيش شيخوخة نشيطة وحيويّة19.
وقد التصق الأخضر بالإسلام حتّى صار رمزه الحيّ ولا شكّ أنّه أقلّ حضورا من الأحمر على مستوى الأعلام العربيّة. إذ يحضر في 8 دول عربيّة من 12 وفي 17 دولة إسلاميّة من جملة 25.
نخلص إذن من خلال ما سبق إلى أنّ اللّون الأخضر له في الثقافة العربيّة الوظائف الحُلُمية التي للّون الأزرق في الرمزيّة المسيحيّة: فهو يمثّل الطهر والروحانيّة ومسرّات الوجود.
إنّ تبدّل المعنى هذا وتغيُّره بين الثقافات يمكن أيضا ملاحظته بالنسبة إلى الأسود الذي سيكون موضوع حديثنا الآن.
فلا يتمّ الحديث عن الأبيض والأسود أبدا إلاّ من خلال ارتباطهما التقابليّ، تكاملا لا ضدّيّة. فالأسود (أو كذلك الأكحل) ليس لونا سلبيّا. إذ نادرا ما يتضمّن معنى الحداد ولكنّه لا يرمز دائما إلى الألم. إذ يحيل جذر (س.و.د) على القيادة والزّعامة والسلطة والشرف وسواد اللون والسؤدد والخبث والكثرة.20
ومن هذا الجذر كان السِّيدُ وهو الذّئب والأسدُ. وتعني صيغة أسودُ اللّون، أمّا صيغة التفضيل منها فتحيل على الأفضل والأقوى. والصيغة نفسها (مع اختلاف في الجمع) تدلّ على العظيم من الحيّات.
والأسودان اختزالا هما غالبا التمر والماء أو الحيّة والعقرب.
ويختلف الموقف من اللّون الأسود جذريّا عمّا نجده في الثقافات المسيحيّة، حيث يرمُزُ الأسودُ فيها إلى الشرِّ. ومؤكّد أنّنا في العربيّة نستعمل عبارة «قلب أسود» وتعني الإنسان الشرّير والبغيض والحقود. ولكن يبقى هذا النوع من الرمزيّة نادرا ومتّصلا بتواصل الثقافة العربية مع العالم الغربي والمسيحيّ أكثر من كونه متّصلا بالتقاليد العربيّة الإسلاميّة القديمة، إذ الأسود لون محبّذ جدّا فهو لون في غاية الإيجابيّة: العيون السّود والشعر الأسود واللّحية السّوداء كلّها صفات مميّزة دالّة على الجمال الأخّاذ. وتحيل على سحر المجهول وسكون اللّيل والخلوة والاطمئنان.
فبشرة سوداء وبرّاقة مثل حبّ الزيتون لا يمكن أن تبعث على اللاّمبالاة. وليس لكلمة «زنجي» في العربيّة ما يناظرها بل يتحدّث المغاربي عن «المخلوق الظريف» فيقول «وصيف».
أمّا الحِبرُ الأسود فهو المفضّلُ على بقيّة الألوان. فهو يقيّد بنات العقل على بياض الصحيفة ويصبغ دلالة على ما لم يكن ذا معنى له. فالحبر الأسود يستحثُّ الحلم العربيّ لأنّه يعقل اللاّمحسوس ويمكّن من الهروب والعودة معا. إنّه الفِكَرُ وقد صار خلْقا والخلق وقد عاد فكرا. فهو مزيح قُدّ بحذق وإحكام من السُّخامِ والعفْص والصّمغ العربيّ وماء المطر.
وقد عبّر غاستون باشلار (Gaston Bachelard) بانتشاء أنّ «الذي يحب الموادّ مؤكّد أنّه سيحلم كثيرا أمام محبرة كهذه.»21 فالحبر العربيّ الأسود يُستنشق وتفترسه العيون ويشربُ أيضا. إنّه جرعة سحريّة سوداء أو خضراء أو حمراء تصل اللّانهاية. ويُطلق على المحبرة «دواية» أي مسار الشفاء ووعاءه. فهو مثال رائع لمادة تجعل اللّون حفل الحواس الكامل ووليمة القلب والفكر.
ولا عجب أنّ الأسود يمثّل مشغلا في مجال الملبس إذ اعتمده بنو العبّاس لباسا رسميّا راغبين عن الأصفر لباس السّاسانيين. وتعتبر الملابس السّوداء في أيّامنا علامة الأناقة. وقد كان النّاس ذوو المكانة الرّفيعة والمنحدرون من طبقة نبيلة يتّخذون من الأبيض والأسود لباسا لهم. خلافا للمبدعين والمغنّين والقصّاصين الذين أطلقوا العنان لإبداعاتهم والذين كانوا هم فقط يلبسون الملابس الملوّنة إلى جانب العبيد والمزارعين22.
وقد مثّل شَعْر المرأة موضع عناية خاصة رغبة في منحه لونا أسود جميلا. تشهد بذلك «المردومة» الشهيرة في شمال إفريقيا والتي تحظى بمكانة مرموقة في تونس. والكحل وهو مسحوق الإثمد الذي يزيّن العين. والدّبغة تلك الزّينة السّوداء التّي تُجعل من نبتة «الحديدة» وإكليل الجبل» وأكسيد الحديد وتُستعمل لتقوية شعر الحاجبين ومعالجتهما. ثمّ الحرقوس المختلف خليطه عن السابق فيتكوّن من حليب الجير وزرنيخات الحديد والصمغ والقرنفل والعفص ويُستعمل لتزيين الوجه وظاهر اليد برسم أسود منقّط.
وللأسود كذلك صدى روحيّ ودينيّ صلب وإيجابيٌّ: إذ يشكّل الحجر الأسود ذروة القداسة الإسلاميّة إضافة إلى أنّ الكعبة المعبد الذي يضمّه مكسوّة بالسّواد. والأسود أساسيّ جدّا في ثقافتنا. فلا عجب أن يحضر بشدّة (لا يضاهيها إلاّ الأخضر) في أعلامنا إذ 8 بلدان عربيّة من 12 تستعمله لونا وطنيّا.23
وليس الأبيض- إن رمنا الدقّة- لونا. ولكنّه خلاصة الألوان. وهو ينضح إيجابيّة وثراء. ولهذا تتوافق الرمزيّة العربيّة كثيرا مع رمزيّته في الثقافات الغربيّة.
وتدلّ كلمة بياض على ما يغلب أن يكون أبيض: كالحليب والنّهار والنّور والبريق والقمر والعين والقلب والسيف والحسام والماء. ويعكس جذر (ب.ي.ض)24 فكرة البياض والوداعة والعاطفة.
فيدٌ بيضاء في الغرب هي يد بريئة. أمّا عند العرب فهي يد قويّة وذات صلاح. والموت الأبيض هو الذي يأتي فجأة دون ألم ودون مرض يسبقه. والقلب الأبيض هو قلب خال من الحقد وغير ذي همّ وهادئ. والكتابة بعناية وذوق يُقال عنها في العربيّة بيّض الصحيفة خلافا للمسوّدة التي هي نقيضها.
وليست الورقة البيضاء بالنسبة إلى العربيّ الورقة الفارغة والنظيفة وإنّما هي المكتوبة بعناية وزخرف وبراعة آية للناظر والقارئ. بيضاء هي لذّةُ القراءة.
ومن رأى الأبيض في المنام كان ذلك بشارة له بغُنم ونصر قريب25. وللأبيض دلالة أخرى جليلة إذا اقترن بالشَّعْر الأبيض نتيجة التقدّم في العمر. فيدلّ عندئذ على الحكمة والعلم والمعرفة.
واللّحية البيضاء وكذلك العمامة والثياب البيض هي لباس الشيوخ والمؤدّبين ورجال الدّين والقضاة والمفتين والأئمّة والقرّاء المميّز. وعندئذ يكتسب اللّون الأبيض دلالة روحيّة ليست أصيلة فيه. ونادرا ما يظهر لنا اللون الأبيض وحيدا إذ تقريبا دائما ما يكون مدمجا مع ألوان أخرى. والأغلب أن يوضع مجاورا –وليس مقابلا- الأسود. فتباين الأبيض والأسود يمثّل عنصرا معماريّا وتزيينيّا أساسيّا في الجماليّة العربيّة.
هذا التباين الشهير بتسميّته الدالّة على اللّيل والنهار أو النوم واليقظة نجده في أروقة المباني العربيّة المكوّنة من شرائط يتعاقب فيها الأبيض والأسود (كالمساجد والحمّامات والأفنية والأسواق …) وكذلك في مسجد قرطبة ذي الخطوط البيضاء والحمراء.
ومتعدّد هو السجّاد الذي يقال عنه «طبيعيّ» حيث الرمزيّة فيه تتجلّى في عديد التوليفات بين الأبيض والأسود والفويرقات المتوسّطة. هذا التباين مرة أخرى هو الذي يميّز الرؤية العربية التي تتلاعب بوضع خطوط ونقاط سوداء على بياض الجلد. وهذا التّباين لا يخلو منه ثلثا الأعلام العربيّة.
إنّ هذا العرض الموجز للألوان العربيّة هذا يؤكّد فكرة أنّ تقبّل الألوان يختلف من ثقافة إلى أخرى. فنظام الألوان الذي بيّنه روجي باستيد يعكس الخصوصيّة الثقافيّة المسيحيّة.
فالثّنائيّة المسيحيّة الكبرى هي ثنائيّة الأبيض والأسود. إذ الأبيض لون الطّهر والأسود ضدّ له هو لون شيطانيّ. إنّ التقابل بين المسيح والشيطان وبين الحياة الروحيّة والحياة الجسديّة، وبين الخير والشرّ يترجمه التقابل بين البياض والسّواد. هذه ثنائيّة تصبح شائعة لدرجة أنها يمكن أن تجرّ ألوانا أخرى خلفها، فالأزرق السّماويّ تابع الأبيض، كعباءة العذراء الطاهرة من الذّنوب، والأحمر لهيب الجحيم الذي يتحوّل بدوره إلى نوع من الأسود الدّاكن.26
ونحن لا نتعامل في الثقافة العربيّة الإسلاميّة مع ثنائيّة مانويّة للأسود والأبيض ولكن على العكس إنّه التباين المتكامل والمتناغم. فلا عجب أن تتجاهل الرؤية الإسلاميّة للعالم التقابل بين المسيح والشيطان بل حتى التناقض بين الحياة الروحيّة والحياة الجسديّة. فليس الخيرُ والشرُّ حالتين وعلامتيْن للوجود لا ينمحيان. ولكنّهما نوعان من الوضعيّات ومن الممكن الانتقال من واحدة إلى أخرى بيسر. إذ إنّ العقيدة الإسلاميّة عقيدة تناوب. الحسنات يذهبن السيّئات، ومصير الإنسان يتمّ تحديده من خلال تقييم وجوده في الحياة بأكمله.
والتباين بين الأبيض والأسود يعكس فقط إسكاتولوجيا القرآن لليوم الآخر المبنيّ على ميزان الأعمال البشرية حسنات وسيّئات.
إنّ التّقابل الحقيقي ليس بين الأبيض والأسود وإنّما بين الألوان الخمسة الأساسيّة كلّها (الأبيض والأسود والأخضر والأصفر والأحمر) والأزرق. فالأزرق في الإسلام هو المُعادل الحُلُمي للأسود في المسيحيّة. وهذا مأتى الدلالة السلبيّة والمنفّرة التي ارتبط بها. ولا ينخرط الأزرق في الحلم بل يشوّشه ويوقفه ولذلك كان تقبّل الأزرق تقبّلا باردا يجعل الحلم معطّلا.
ودون اعتبار رمزية الأسود في المسيحية والتي تتبنى رؤِية مانوية للعالم، يطابق الوعي الإسلاميّ في تقبّله الألوان حقيقة طبيعيّة، بما أنّ النظريّات الفيزيائيّة عرفت منذ ردح من الزمن سمات الأزرق الباردة والكابحة. هذه تجربة بسيطة وعاديّة. إذ يخلق التقبّل «حركة تتجه حرفيًا نحو المشاهد رغبة في لون دافئ وتنأى عنه عندما يكون اللون باردًا»27. إنّ الأزرق لون منغلق على نفسه. والأصفر عكسه فهو يشعّ نحو الخارج. ويبدو الأخضر الذي هو توليف كمّي متساو بين الأصفر والأزرق متوازنا برودةً وحرارةً. إنّه الثّبات نفسه: الراحة.
فيتلازم عندئذ رفض الأزرق وتثمين الأخضر. وليست الحرارة هي التي تبدو أكثر رغبة في الثقافة العربية. وإنّما التّوازن. فلا فرط البرودة محبّذ ولا الحرارة. ولكنّها بعض البرودة الممزوجة بحرارة (لا حرّ ولا برد).
وهذا ما يدعوه القرآن السّلام والخلاص28. فتوظيف الألوان في الوسط العربي الإسلامي إذن ينبع من التوسّط والرّاحة. وإنّ البحث في تباين الأبيض والأسود ورفض الأزرق والبحث الشّديد عن الأخضر تترجم رغبة في التوازن وتسمح بتحقيقه. وتدعونا رمزيّة الألوان العربية إلى حلُم وديع، لا يستبعد ذوقا ملحوظا للحركة والقوّة وإرادة التجاوز. وهكذا يتأتّى دور اللون الأحمر عالي الوظيفية والذي يجلب جرعة ضروريّة من الحماس والشغف والطّاقة. يقول غاستون باشلار: «الألوان ليست لعبا ضوئيا بسيطًا، إنّها فعلٌ في أعماق الوجود، فعلٌ يوقظ القيم الحسّية الأساسيّة… الألوان أفعال الضوء، أفعال وآلام»29.
وقد يستطيع هذا البيت الشعريّ أن يلخّص سيمفونيّة الألوان العربيّة هذه والذي كان كلُّ أطفالنا يحفظونه في المدارس:
بيض صحائفنا
خضر مرابعنا
سود وقائعنا
حمْر مواضينا
الهوامش
– Les Arabes et la couleur.in: cahier de la méditerranée, n 20-21, 1, 1980. Recherches d’ethno-sociologie maghrébine. Pp.63-77.
– Roger Bastide:» color, racism, and christianity” in Daedalus, numéro spécial «Color and Race» , printemps 1967,p312.
– E. Aepli ; les rêves, p202.
– لسان العرب.
– نفسه.
– عبد الغني النابلسي، تعطير الأنام في تعبير المنام، ص 314.
– الربع الأول من القرن الثامن ميلاديّا.
– Marguerite van Berchem, «The Mosaics of the Dome of the Rock at Jerusalem and the great mosque of Damas» , in Early Muslim Architecture, Oxford, 1932, édité par K.A.C. Creswell, vol. I, pp. 149-253. Cf. également Th. W. Arnold, «Painting in Islam», New York, nouvelle édition 1965, Ettinghaussen. La peinture arabe, Paris, 1962. Carol J. Du Ry, Arr of Islam, New York.
– Cf. A. Amin, Quâmous, p. 30.
– أفغانستان، الجزائر، السعوديّة، مصر، أندونيسيا، العراق، إيران، الأردن، الكويت، لبنان، ليبيا، ماليزيا، مالي، موريتانيا، المغرب، نيجيريا، أوغندا، باكستان، السنيغال، الصّومال، السّودان، سوريا، تونس، تركيا واليمن.
– E. Aepli, op. cit., p. 201.
– لسان العرب.
– R.Bastide, loc. cit, p. 314.
– Henri Perez, la poésie andalouse en arabe classique au 11e siècle, pp. 320-321.
– Cité par E. Aepli, op, cit, p. 201.
-لسان العرب.
– Cf. Abchîhi-Mostatraf, traduction Rat, t. II, p. 369.
– لسان العرب، ذكر سابقا.
– النّابلسي، ص 314.
– لسان العرب.
– G. Bachelard, la terre et les rêveries du repos, p.37.
– Ali Mazahéry, La vie quotidienne des musulmans, p. 72.
– في حين يظهر اللون الأسود فقط في الأعلام الوطنية لـ 10 دول إسلامية من بين 25 دولة، و18 دولة عالميًا من بين 132 دولة، مما يشكل نسبة 66٪ للدول العربية، و25٪ للدول الإسلامية، و13٪ لبقية العالم.
– لسان العرب.
– النّابلسي، ص 52.
– Roger Bastide, loc. cit., pp. 314-315.
– Encyclopédie de la décoration, p. 174.
– Coran, Les prophètes, XXI-69, trad. Blanchère, p. 352.
– G. Bachelard, op. cit., p. 3.