يجري الحديث بين الفينة والأخرى عن الأدوار المنوطة بالمثقف،واتهامه أنه ابتعد عن دوره الرائد،و مهمته التنويرية التي بمثابة الضوء الساطع لحركة المجتمع الفاعلة،والتي تحتاج إلى تفعيل،خاصة تفاعله مع قضايا الفكر والحريات وحقوق الإنسان والدفاع عنها باستماتة وحيوية،باعتبارها حجر الزاوية في انطلاقة حضارية إنسانية وتعددية ثقافية، بحيث تلامس احتياجات المجتمع وغاياته في توازن وتناغم،بما يسهم في بناء ثقافة واعية وناجزة لمهام المثقف وتطلعاته التي تهم الوطن وتطلعاته، بعيداً عن اجترار المفاهيم والمصطلحات الرائجة لتحديد دور المثقف ومهامه في هذا العصر.لكن الذي نراه، ونلاحظه واقعا في الساحة الثقافية العمانية،أن المثقف تم تهميشه في أولويات كثيرة،من مهامه الأساسية، وهذا التغييب أثّر بلا شك على فاعليته في الحراك الثقافي الفاعل،فنجد أن الكثير من المؤسسات الثقافية التي تعنى بالثقافة في بلادنا، لا تعطي الاهتمام الذي نتوقعه للمثقف، وتجعله شريكا فعليا في قضايا الثقافة ونشاطها،بل على العكس نجد أن الكثير من هذه المؤسسات،أقصته من الدور الذي يمكن أن يلعبه في إدارة هذه المؤسسات وتفعيلها،وهذا ما جعل المثقف،يشعر بالإحباط، والانزواء، فكيف نريد أن يكون المثقف فاعلا وحاضرا في الحراك الثقافي، وهو مغيّب عن الأدوار الحقيقية للمؤسسات الثقافية الفعلية التي تهتم بالثقافة، خاصة وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ثم بعد ذلك يتم اتهام المثقف بأنه ابتعد عن دوره، وأنتكس عن مهامه، فهذا الاتهام يعد أقرب إلى المعايير والمقاييس المزدوجة، لذلك هذا الأمر يحتاج إلى مراجعة،والى خطط أخرى تعيد المسارات الراهنة إلى معطياتها الصحيحة،إذا ما أردنا أن تكون الفاعلية الثقافية،حاضرة بقوة في بلادنا، وناجزة لأدوارها الصحيحة.
ونحن هنا لا نريد تبرئة المثقف من كل التراجعات التي آلت إليه الفاعلية الثقافية. فلا شك أن بعض هؤلاء المثقفين أنجرف إلى هذا المربع السلبي بالاختيار، وليس جبراً،وأسهموا بأنفسهم في هذا الوضع،وهذه بحق لا تمثل الغالبية من المثقفين في بلادنا، بل إن بعضهم ربما أراد من هذا الانزواء أن يعطي صورة من صور الاحتجاج على وضعية المثقف وإقصائه عن دوره الأساسي في المحيط الثقافي الفاعل .
لكن البعض يرى أن المثقف العربي بصورة عامة، أصابه ما أصابه نتيجة إحساسه بعقدة الذنب المتولدة عن قناعته الذاتية، وقناعة المجتمع من خلفه، بأن الفكر الذي قاد الأمة العربية إلى الفاجعة التي نعيشها،هو فكره، والنخبة السلطوية التي أدارت السيناريو المأساوي للانهيار هي صنيعته، وأن الذي وقع من تراجعات سياسية وثقافية ونهضوية، كان المثقف شاهداً سلبياً عليه،إن لم يكن مشاركاً فيها بشكل أو بآخر. لكن هذا القول تنقصه الدقة والواقعية في مناقشة واقعنا العربي، وتلمس الأسباب والأخطاء التي وقعت، وهذه مسألة لها طرح آخر.
صحيح أن هناك الكثير من التداخل والترابط في إشكالية الثقافة وأزمة المثقف في عصرنا الراهن عموماً، وما أفرزته الإنسانية من مشكلات قد تتقاطر في الكثير من رؤاها ومضامينها ، لكن هناك أيضاً الكثير من التقاطع والتنافر عند المثقف العربي عنه في المثقف في الغرب، إلا إذا أصبح المثقف العربي نسخة « كربونية « من المثقف الغربي في أفكاره ورؤاه و إشكالياته وتلك قضية مستبعدة، ومن ثم فإن تسمية المثقف العربي تصبح هنا في غير ذات معنى. وتكون معالجة القضايا والإشكاليات عند المثقف العربي مصطنعة، وقراءة مختلفة لتاريخ الأمة العريق،ذلك أن النخب المثقفة في الغرب صاغت قضاياها وأفكارها داخل الغرب نفسه، ومن ثم فإن نخبنا العربية المثقفة عندما تستعير المشكلات والحلول من الغرب، فإنها بهذه النظرة تصبح كتلة منفصلة عن المجتمع والأمة، وتكون حلولها المطروحة مجرد استعارة وهمية لمشكلات غير قائمة، وتصبح أزمة المثقف العربي أو نهايته مقبولة الطرح وواضحة للمتابع الحصيف، وربما لا تحتاج إلى تنظير أو تحوير في هذا الصدد، ومع ذلك فإننا نرى إن هذه المسألة ـ أزمة المثقف أو نهايته ـ قضية نسبية بين أوساط المثقفين العرب، وقد لا تمثل الصدارة في إشكالية المثقف العربي الذي نقصده.
لنتفق أولاً أن المثقف في النهاية إنسان له ظروفه النفسية والاجتماعية، وله حاجاته المتعددة كأي إنسان في محيطه، ولذلك ليس من العدل تحميله قضايا وإشكالات ليست من صنعه أو من بنات أفكاره، بمعنى أن الكثير من الإشكال الثقافي وتأزمه أو الجمود الإبداعي قد لا يصنعه المثقف وحده، لأن الثقافة عبارة عن تراكمات عديدة تصنعها الشعوب والمجتمعات الإنسانية، وفق بيئتها وسبل حياتها، لكن النخب بلا شك عليها الدور الأساسي في تفعيل هذه الثقافة وتحويلها إلى مؤسسة فاعلة في المجتمع.
والمثقف العربي عموما ينتمي إلى هذا الصنف من المثقفين الذي يسعون عبر نشاطهم النظري والعملي إلى إنجاز التطلعات الثقافية في المجتمع العربي، في إيجاد الإبداع الحقيقي في نظرته ودوره وممارسته.
وهذا لا يعني أن المثقف يستطيع الإجابة على كل الأسئلة، وحل كل المعضلات القائمة، لكن وظيفته هي الإيجاد والإبداع، والسعي إلى كشف القضايا والإشكاليات والبحث في مضامينها الجوهرية، وتحفيز الناس على التفكير فيها بما يهدف إلى وضع هذه الإشكالات موضع النقاش والنقد الجدي، وليس الهروب والتقوقع والمعايشة في الأبراج العاجية. فالمثقف المبدع هو الذي يوجد إبداعه وتحفيزه لأقرانه على الدور الفاعل من خلال الأفق الثقافي المفتوح، والحفر المعرفي المستمر، والمراجعة الدائمة لهذا الإبداع للارتقاء به إلى مستويات رفيعة.
إن رسالة المثقف العربي في المجتمع ليست هامشية بقدر ما هي هامة حضورياً، وما يستتبع ذلك من مهام وأدوار ملقاة على عاتق المثقف في الانفتاح على الناس، والتفاعل مع قضايا الوطن وهمومه، وهذا الانفتاح المرغوب هو الذي يلغي الحواجز، ويسمح بإقامة علاقة ثابتة وصحيحة مع المجتمع تجعل منه مثقفاً صادقاً مع نفسه ومجتمعه، ويدرك بالتالي متطلباته الملقاة عليه، وغرس بذور الثقة والتفاعل الإيجابي بين المثقف وقضايا الوطن في عمومه، سيما قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تعد من المتطلبات الملحة في وطننا العربي.
فما نريده من المثقف العربي في هذا الصدد أن يكون حاملاً لمشعل الحرية الحافظ للثقافة الخلاقة المبدعة، الصائن لقيمتها الإبداعية، الهادف لبناء مفاهيم راقية من احترام الآخر وثقافته، والإسهام في بناء الحضارة الإنسانية.
إن من الخطأ الفادح أن يختزل المثقف الثقافة في جانبها الضيق، ودورها المحدود، ويجعلها أحادية في نظرتها وتعاطيها مع القضايا المختلفة.
فإذا كانت لا تربطه بواقعه أية صلة ثقافية وفكرية، فإنه في اعتقادنا لن يتمكن من إنجاز إبداع حقيقي، ذلك أن النواة الأولى للإبداع هي التفاعل الخلاق بين المثقف وواقعه. وهذه العلاقة تنتج معالجات وإبداعات تنسجم واللحظة التاريخية. فتفاعل المثقف مع الواقع لا يعني الخضوع إلى معوقاته أو الدخول في نفق تلك المقولة السلبية « ليس بالإمكان أبدع مما كان « إن التفاعل الذي نعنيه هو التهيئة اللازمة للشروط النفسية والعقلية، لجعل الأديب أو المثقف يستوحيان من الواقع الأعمال الأدبية والثقافية، كما أن الأرض الخصبة التي تؤهل الأديب أو الفنان لعمليات الإنتاج الأدبي أو الثقافي المبدع، هي التي تشكل الرهان الإبداعي المبتغى في عملية البناء الثقافي، ولكي يكون المنجز عملية خلق واعية في أفقها الصحي والانفتاحي للرؤى والقضايا الوطنية والقومية، وفي مسارها المنسجم مع راهنها بظروفها الإيجابية والسلبية بعيداً عن الأطياف الخادعة.
إن قضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والإبداع الحقيقي هي من الأولويات في سلم الرهان الراهن، لأن الانكسارات التي صاحبت مسيرة الأمة في جوانبها المتعددة كانت بسبب ابتعادها عن تلك الأولويات وفي غيابها أو على الأصح تغييبها تردت الأوضاع في الثقافة أو الإبداع والتنوير الحقيقي.
ومن هنا نعتقد أن الصورة المشرقة والناصعة لدور المثقف العماني، لن يتأتى إلا من خلال دوره المنتظر في الدفاع عن تلك الأولويات، والتبشير بها و إشاعة أهميتها على كل الأصعدة والمسارات، لكن بشرط أن يكون دور المثقف حاضرا وفاعلا، وليس مغيبا عن مهامه الأساسية، وأدواره الحقيقية في الثقافة ومؤسساتها في المجتمع.