ياسر عبد الحافظ
كاتب وروائي مصري
بابًا مغايرًا لما سبق أن شهده تاريخنا، تضعنا في مواجهة لغز لا يفيد التفكير النقدي التقليدي في فك شيفرته بل تتطلب منح الخيال حق إدارة حوار معقد مع أسلوب مختلف من التفكير يدير به العالم شؤونه وشؤوننا فيما نتخبط في طريقنا إلى استيعابه.
لسنا محظوظين كثيرًا. المشتغلون بالعمل الثقافي في هذا الزمن عليهم التعامل مع قضايا غامضة ومرهقة قبل تقديم تفسيرات عنها للجمهور، سواء من محل التوافق معها أو المعارضة لها، علينا أن نشرح للقارئ ما يحدث؟ لكن المعضلة أنه من المستحيل للآليات القديمة مساعدتنا في صياغة خطاب مناسب لهذه المرحلة فالفوضى الدائرة في العالم لا تتوقف عن التشكل والتغير بما يتطلب لمجاراتها مرونة لن تسعفنا بها نظريات تقليدية فقدت ديناميكيتها بسقوط ما نشأت لأجله من أوضاع.
قبل زمن الفوضى العظيم هذا، مرت عقود حافظت فيه القضايا الأساسية على درجة وضوح أنارت للمثقف طريق تكوين “خطاب تعامل” معقول للغاية مستندًا على قواعد التنوير خاصة منها ما يخص سيادة العقل وقيم الحرية، ووفق هذا لم تكن المجلات، التابعة لموقف المثقف، في حاجة سوى لاتخاذ اختيار ما بين: يمين ويسار، استعمار وتحرر، مقاومة الإمبريالية والتبشير بحضارة كونية، وهكذا إلى نهاية خطابات بدأت في التداعي كلها واحدًا وراء الآخر في السنوات الأخيرة لتخلي الساحة إلى فراغ عظيم تنمحي فيه ملامح الأفكار والكلمات بدعم متزايد ومخرب من وعي جماهيري متصاعد يقود بمنطقه الشعبي الفن والثقافة والسياسة، فترة تعلن بداية عصر المواطن النجم وسقوط دور المثقف في المجالات المختلفة، الفن، الفكر، السياسة، وذلك مع سقوط فاعلية أدواته من الأشكال والقواعد، حالة مذهلة لانهيار المنطق الإنساني وقيام منطق تفكير آلي مزيج من الأسطوري والعلمي والخرافي، وبالتوازي مع ذلك استكمال إعادة كتابة التاريخ لتثبيت وقائع وحالات دولية تتخفف من شعارات العدالة والمساواة فلا ترتكز سوى على المصالح والأطماع.
ولأنها مرحلة تغيرات عظمى يمر بها العالم لذا فلا أحد بمنأى عن التأثر بأحداثها، ولا أحد تشمل هنا المجلات الثقافية التي ضربتها دوامة الفوضى والأزمات بعنف بما هدد وجودها نفسه.. الإلكتروني يتطلع لنهاية الورقي، واليوتيوبر يأخذ مكان الناقد لكن مع ابتذال النقد، كاميرا الشارع تنهي زمن التحليل والتأويل فالوقت كافٍ فقط للاستجابات السريعة، الخطابات الثقافية يضيع صوتها وسط ملايين الحسابات على مواقع التواصل، ووسط هذا كان انشغال المجلات الثقافية بمصيرها تصرفًا طبيعيًا غير أنه رهن المجلات الثقافية في خطاب يغلب عليه التاريخ، تم توظيفه بوصفه نقطة ثبات في مواجهة لحظة تحول عنيفة للحاضر كما أنه من ناحية أخرى ملائم لمقاومة عمليات إعادة صياغة التاريخ وسرقة المدن وتدمير تراثها.
خطوات التحول في العالم أسرع منا، علينا الاعتراف بهذا، ليس ما نمر به “أزمات” بل تغيير شامل على مستويات متعددة، السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، منذ جائحة كوفيد لم تعد الأمور لما كانت عليه، خرجنا من العزل على تسارع وتيرة العنف العالمي بصورة تنذر بالخطر، حروب مصالح كبرى، ثورات إقليمية، بلاد تخرج من الخدمة، عودة شبح الاحتلال بمعناه المباشر بكل ما يشمله من عمليات إبادة ومذابح وتهجير وتقسيم للأراضي بين المنتفعين، حروب على المياه والطاقة مع بدايات لكابوس شح موارد الأرض خاصة بما تستهلكه صناعات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من موارد.
هذه بالتأكيد واحدة من اللحظات التعسة في التاريخ البشري، يموت فيها الأبرياء والأطفال والنساء في مجازر لأسباب تجارية واقتصادية، دول تسعى لتوسيع نفوذها الإقليمي والعالمي بعد تعطيل كامل للمؤسسات الدولية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، بالموازاة مع تراجع تأثير الدور الثقافي والفكري في إثبات أحقية القيم الإنسانية للتطبيق، في الدفع بأن منظومة القيم تلك ليست مجرد موضات فلسفية ينتهي العمل بها مع خفوت جاذبيتها بل مجموعة من الإلزامات، الاستهانة بها يعني ما نشهده من اتساع نطاق الفوضى بحيث تكسب كل يوم أرضًا جديدة.
ما الذي علينا أن نقوله حقًا؟ لا يليق بنا الانضمام إلى صفوف المبشرين بالنهايات والمحذرين من المؤامرات، كما أن علينا استبعاد وجهات النظر المتشائمة لأنها لا تقود إلى نتيجة، لكن المشكلة أن التفكير العلمي يقود إلى نتائج سيئة كذلك.. ثمة كارثة مقبلة لن تتفاداها البشرية إلا بمعجزة، ليس فقط التهديد المتزايد بنشوب حرب عالمية، ليس للانهيارات والأزمات الحادة في مجالات اقتصادية وسياسية واجتماعية بل لأن هذا يقع في لحظة تتوارى فيها الأدوار المؤثرة للفن والثقافة والفلسفة مع غياب الأصوات الحكيمة، وغلبة ثقافة مصممة وفق منطق السوق.
جمهور المجلات الثقافية هو النخبة، ونخبنا تفككت أو تآكلت بفعل الزمن وبسبب عدم اتباع سياسة الإحلال والتجديد، هكذا سنبدو أغرابًا في مدن لا نعرفها إن لم ننمِّ حساسية الاستجابة التلقائية لتغير أذواق الجمهور، لأننا نستغرق عادة الكثير من الوقت في المعارك الكاريكاتورية بين القديم والحديث، ومجلاتنا الثقافية بشكل عام يمكن إدراجها في خانة القديم، لم ندخل عصر الذكاء الاصطناعي على سبيل المثال، مع أنه بدأ بإتيان مفعوله الضار الناتج عن تأخرنا في تحميل ثقافتنا عليه، والنتيجة طوفان من المعلومات الخاطئة عن الثقافة العربية تتسبب فيها مولدات الذكاء الاصطناعي بسبب غياب محتوى معرفي عربي ملائم، وبسبب عدم وضع قواعد لكيفية وحدود التعامل مع الذكاء الاصطناعي في إنتاج الكتابة والفن وهذا التأخر نصنع به نسختنا الرقمية المشوهة عن أنفسنا.
في ظني، أن المجلات الثقافية تلعب دور فرقة العزف على السفينة الغارقة في المشهد الشهير من فيلم “تيتانيك”، بقى القبطان أمام الدفة في غرفة القيادة، والعازفون على السطح فيما تتوالى مشاهد النهاية، لا أستعير بذلك حالة يائسة بقدر السعي لتخيل ملامح خطاب مناسب تتفاعل به المجلات الثقافية مع إيقاع انهيار أحجار لعبة الدومينو!