ماهر راعي
شاعر سوري
أترك الأشياء في مكانها
الحذاء القديم قرب الباب..
الكتب التي سقطت خلف رفوف المكتبة
الحبق بلا ماء..
الصحون والسكاكين والأكواب والملاعق في المجلى.
المفتاح في الباب من جهة الداخلين.
أترك البيت يضحك وحده..
أظن أنه يضحك!!
أترك فيروز تعيد نفس الجملة لخلل في تحميل الفيديو.
أترك جاري يشرح لي ثورة سبارتاكوس في وجه الجوع والعبودية.. ولا أصحح له: ليس محمود درويش من أتى على ذكره بل أمل دنقل.. كما لا أفلسف الأمر له كأن أقول: لا يمكن لغير دنقل أن يبدأ نصه بـ”المجد للشيطان”
أتركه يكمل بينما لا أطفئ جيدًا سيكارتي الممعوسة في المنفضة.. أتركها تحترق وتبث دخانًا كثيفًا يخص جلستنا.
أترك الكرة الأرضية تدور
الكواكب في مكانها.. البشر في الحافلات
الحكماء تحت ثيابهم الرقيقة.. القادة في قلب المجزرة بدوام لاينتهي
الخبز يمر على جرار معدني طويل ثم يتساقط بكثافة على طاولة خشبية.. الفرّان مختنق بلقمة لئيمة ينازع وما من أحد سواي في طابور فارغ أمام الكوة السحيقة.
الغسيل على المنشر يكحت في هذا القيظ.. أترك الأشياء في مكانها
كما أعتقد أن العصفور الصغير في قفصي يحتمل الصوم لأيام ولن يصير جثة رمادية ضئيلة في أرض القفص ثم أبكي كثيرًا.. أبكي وأتركه للنمل بعد أن أغمض عينيّ.
أكره مواقف الباصات التي على هيئة مكتبة في الدول المتقدمة
وذلك القطار الذي يأتي خصيصا ليقلّ موظفة وحيدة في قرية يابانية نائية..
لا يهمني أن أرى أول ساعة عُرفت في أوروبا تلك التي أهداها هارون الرشيد إلى شارلمان كما لا أتذكر بالضبط في أي عام كان هذا الحدث التافه.
تشغلني الأطباق المتسخة التي تراكمت الليلة في مطاعم هذا العالم.. تشغلني الأيدي التي ستجعلها نظيفة تبرق.. جافة وجاهزة من أجل زبائن الغد.
أحزن أن سكان الكرة الارضية لا يعرفون تلك الزهرة التي ستذبل بعد أسبوع أو أسبوعين بالأكثر.. الزهرة الصفراء الصغيرة التي نبتت إلى حافة شارع تطل عليه شرفة بيتي.
كما لا يعرفون الصبية التي عضت يد حبيبها في شارع مزدحم (بالمانيكانات) الباردة.. ثم ضحكت من ألمه وقلبت رأسها إلى الخلف بينما يستمر العالم بابتلاع الفصول الأربعة والدم والأسلحة والجرذان وكذب كل يوم.. شعرها صنع للرصيف شجرة جديدة.
متأخر أنا بكل شيء ولا وقت لدي أو مقدرة لفهم قفزات العالم المتحضر
فأنا مشغول بالدماء التي تسفك في العربة الأخيرة لهذا القطار المعطوب..
كما أتدرب كل يوم منذ الصباح الباكر على استعادة صوت أمي في أغنية شعبية كان يرددها العسكر المُساق إلى (السفر برلك).. كانت الكلمات حزينة تصلح لمأتم واللحن بإيقاع راقص.. ربما كان على العسكر استحضار كذبة راقصة تنسيهم تفسّخ كعوبهم من المشي الحثيث إلى الجبهات المشتعلة بعيدًا.. أفشل وأستمع للأمهات الجديدات يُمسكن راحات صغارهن يُمررن أصابعهن فوقها وبصوت يدغدغ “باح يا باح يا ورق التفاح”..
.. النظام الشمسي هاهنا أقرب من مكانه بقليل.. إنه في غرفة الوسائل التعليمية لمدرسة بسيطة، بصفوف معتمة، ضائعة في قلب البلاد، عادة ما يتم الخلط بين اسمها القديم المتداول بسهولة من يقول اسمه، وبين اسم الشهيد الذي ينام على بابها طوال العام الدراسي بما فيها العطلة الصيفية وحيدًا في البرد والمطر الممل.. يمرّ التّلاميذ قرب صورته ويعلمون أن (روسيته) لا تطلق الرصاص الحقيقي كما مسدساتهم البلاستيكية.
نيبتون يبدو مثل عازب يغازل الزُهرة على إيقاع المسار.. مرة أو مرتين لا تتلاقى نظراتهما.
المشتري مكانه فارغ.. سقط بركلة معلم غاضب كان يقصد الكرة الارضية.. لكنها نجت ليضيع ويتدحرج بعرجٍ في كون غرفة الصف.. سرقه نجيب المشاغب وعلقه -كما زعم الزملاء- في بيتهم في غرفة الضيوف.
المعلمة في حجرة الصف مازالت تحدّث الجميع عن أهمية النوم والطعام الصحي.. يراقبها هيكلها العظمي ويقهقه.. تتدحرج دمعتها
صور القادة الأبديين تتربص بنقشات الأرضية الحجرية وبرائحة العيون.. وتبتسم للمستخدمة المنهكة من جمع براز الكلام الذي يجعل الوطن فوق الجميع.. الجميع هنا تغمره السعادة من حكمة “تنوعت الأسباب والموت واحد”.
كمية معقولة من الكراتين الفارغة للجثث الجاهزة.. لكن لا أحد يفطن لذلك.. كان حلًا مذهلًا للرائحة التي تنتشر منذ سنين
في البيوت
في مواقف الباصات
في المحال التجارية
في المقاهي.. والمدارس.. والبنوك.. والمؤسسات وبيوت الدعارة.. في المشافي العامة والخاصة في المطابخ وتحت الدرج والحدائق والشواطئ والخيم والفيلات وبين الشجر وفوق الأسطح وتحت إبط سوريا التي لم تستحم منذ دهر.
تلك السمكات الورقية معلقة الى خيطان ملونة تطير في الصف صنعها تلاميذ الصف الثاني أولئك الذين سيكملون حياتهم مختنقين بأفراحنا وأحزاننا وشعاراتنا وصدقنا الخاطف المتسلل بين الكلمات.. سيتعلمون أحجام الكذب ويظنونه صدقًا بألوان باهتة.
نحن نسافر بين المدن التي حفظنا أسماءها في كتب الابتدائية.. نسافر قرب الشجر الذي يرجع إلى الخلف.. قرب البحر الذي لا يعرف اسمه المكتوب في كتابي المشلّع.. اسمه الذي قالته لنا المعلمة سعاد في درس الجغرافيا.. يومها رفعت يدي لأصحح لها المعلومة.. سخرت مني وضحك الجميع حتى سوزان صاحبة المقعد الأول والشنتة الجديدة.. ثم لسنين بقيت أشكك بمعلومتها وأقول في سري: لا يمكن أن يكون الأبيض المتوسط!!! بل هو (الأبحاث.. جول جمال.. ابن هاني.. وادي قنديل.. السنكر.. الكورنيش الجنوبي.. رأس البسيط.. البدروسية.. فشيفش.. الرمل الفلسطيني.. أم الطيور.. العصافيري).
في المدارس الخشنة تستطيع (طابة) نجيب (المخفوتة)
أن تُخيط السعادة في قلوب الأولاد حتى الحصة الأخيرة.. ووحدها تنام في عتمة المدرسة..
بالقرب قليلًا من صورة الشهيد
قلت له: لماذا نسيت كرتك..!؟ منذ أيام أراها هنا؟!!
رد: لا أستاذ ما نسيتا بتركا هون يلعبوا فيا الكل.
نجيب الذي أجهضته أمه من روحها بعد الولادة تمامًا وغادرت بينما حلمتاها تنزان حليب أول رضعة.. يُكمل أيامه مع صفعات المتنمرين في ساحات القرية وفي المدرسة.. يقايضهم الابتسامة وفتات اللطف المستعجل بكرة ميتة.
جاري يجرّ أشجارًا في الشارع
يسحلها فوق الأسفلت..
يبدو أنه ترك الأغصان الصغيرة في الحقل المزدحم بأزهار (لبّيسة القطة) والسوسن البري..
مُرهقٌ مثل حمار فلاحٍ لئيم..
جاري يملك سترة عسكرية مخصصة للعمل وللمشاوير القريبة..
ويقضم حلمة زوجته عن بكرة أبيها كل مساء
وككل رؤساء العالم يدعك الصدور العارمة في مناماته الطويلة
ويطبّش على المؤخرات الرجراجة.
في البيوت التي تأخذ الحزن على محمل الجد
في المقاهي التي تشعل نارًا بين الطاولات في عز الصيف وتعطي للزبائن مظلات وهمية.
في البحر الذي يلعب الطميمة مع أسماكه ثم ينامون جميعهم مثل القتيل..
القتيل يبتسم إذ شاهد اسمه لأول مرة خفيفًا في حكاية فيها لعب وضحك ونوم.. موجة حزن شديدة أخذ نفسًا عميقا كأي قتيل عادي نراه كل يوم في كل مكان.. أخذ نفسًا ثم فكّر في أمر يشبه شظية عمياء (لماذا كانت الحياة عندما كنا فيها على ذاك النحو المخجل لشدة القهر.!!
في تلك البيوت كان الحزن جدارًا وكان بابًا وشباكًا وطاقة حمام ومنور يسمح للمطابخ أن تتنفس ويسمح للهوام أن تتنقل بما يشبه السيرك أو ما يُذكّر بقطيع عبرته شاحنة.
فيما يحصل هناك في القريب من غُرفنا
من أسرّتنا
خلف الستائر السميكة
وقرب مطابخنا
بالقرب الشديد من ضحكاتنا ومن خطواتنا ع الأدراج
خطواتنا العادية..
وبالقرب من صوت غليان الماء في أباريقنا على النار..
بالقرب من ثيابنا
بالقرب من أطفالنا القتلى.. ذاتهم من يرتّبون كُتبهم في الحقيبة
ويتفقدون أقلامهم الملّونة خوفَ أن يغفلوا دفترًا أو كتابًا لحصص الغد في اليوم المدرسي..
في سهرة الأهل تلك التي يدور فيها الضحك والبكاء تمامًا كما تدور كؤوس الشاي والصمت المفاجئ..
فيما يحصل هناك بالقرب من الكرة الأرضية بالقرب من شبابيك كلّ سكانها
بالقرب من شهيقهم ذلك الذي سيتجاهلون أنه معطل برائحة البارود والدم وأحذية الصغار الملطخة بلون عادة ما يفرح صغارهم ليلة عيد الميلاد..
كل هذا سيمرّ في كتب التاريخ
على أكبر تقدير بسطر طويل نسبيًا
بما يُفهم منه ولو من باب التخمين الكسول
أن ثمّة بشرًا قُتلوا بينما هم على أسرّة المشفى.. قُصفوا بينما الأطباء يقفون فوق رؤوسهم.. يأخذون نبضهم المُتبقي
قُصفوا بينما الأسرّة تصدر صرير ألم لا يُحتمل.. بينما ممرضة تقف مثل مهرجٍ لتُضحِك صغارًا بأطراف محروقة
ووجوه ملطخة بدمِ الآباء أو الأمهات أو الإخوة..
صغارًا بأنوف صغيرة سوداء أصابها سخام هذا العالم..
ثم ليعود الناس
كل الناس إلى أعمالهم البسيطة.
رجل ميت في الحافلة لكنّه يستطيع أن يمشي إلى الخلف بكل هدوء واتزان
أنا أصدق هذا، بالقرب من المقاعد الصفراء، بالقرب من النوافذ التي لا تفتح، بينما أنتِ تصدقين كل كلمة في مواقع التواصل الاجتماعي
تصدقين الدم النافر من الشاشات ذلك الذي يلطّخ أدوات المطبخ.. عدد القتلى على الطرقات السريعة وفي قلوب الذين ينجون مصادفة ثم يتصرّفون تمامًا كما يتصرف الأحياء.. تحطّم طائرة لسياسيٍّ في ظروف من ضباب واضح.. اقتتال لا يهدأ هنا وهناك.. مدخنة من أجساد الأطفال بالقرب من بيتنا.. لكن الهيئات الدولية لا تكترث وتطلب المزيد لتصدّق الحرائق.. تصدّقين حتى عروض استبدال الكراسي المكسورة بأخرى ستنكسر عند أول استعمال..
تعالي أُخبرك أمرًا ستصدّقينه
الرجل الذي مات قربي في الحافلة البطيئة ظنّت الصبيّة (أم الشعر المخوتم) أنه يتحرش بها حين مال برأسه على كتفها.. الرجل كنت أراقبه من مقعدي كانت حركاته حقًا تشبه محاولات المتحرش الخبير
أنا مكانك كنت لأصدق فقط موت الشعراء بقصيدة مسمومة.