في الدخل الذي وضعه الاستاذ محمد الجزائري بعنوان "الثريا" وصف كامل لمنهجه التأليفي في "تخصيب النص"، فلأن الشعر والشعراء – في رأيه – لا يشتغلون على المخيلة وحدها، في عصر "الحجارة" و "الانترنت" فانهم خصبوا نصوصهم بشذرات من بطولات أبطال الاساطير، ومن الرموز ليشحنوها بقيمة فن تصل بها الى مرحلة الجمال، اضافة الى أن المخيلة الشعبية أضفت على الابطال صفات خارقة في تناول سيرهم، تعوضهم عن الجدب والغياب والخسائر في اليومي والسائر من الازمان، لذا تدفع بالروي الى ذلك المهاد في المعادل الحياتي ولتعويض عن ذلك البحث المضني عن منقذ، لهذا اصبح الابطال الاوائل في النص الاول نماذج تتحد مع شهدائنا – مثلا – حتى في اليومي من الحياة، خذ حفصة، محمود العلوان، احمد الناطور(السياب).
إن النص الأول في يقين الجزائري ذو سلطة مهيمنة – عبر الأزمنة – فبقدر ابتعادنا عنه ندنو منه، نلتصق به ونتعانق، لأنه سيمتليء بالاشارات والدوال مما جعل الميثولوجيا، اشارة لما سبق، نسيجا داخل النص المخصب. لذلك يشتغل "تخصيب النص" على اثراء بنيته بمقومات القوة تلك لأن البشر عندنا – من وجهة الجزائري – بحاجة الي التحفيز والحا فزية والتشوير والثورة لأن الشاعر يشتغل على واقعية الكم والتراكم، وهذا يضيف تجارب الى تجاربه، ولكن يجب أن يغفل الاضافة، ولأن هناك محاولات من البعض لخلط تلك الاضافات بالزبد بهدف تضليلها فقد جاء مضمون "تخصيب النص" نوعا من المقاومة، اتكأ به المؤلف على الشعر الذي يخصب نصه بالنار والمعرفة أمام التطويب والغنائية الساذجة والرومانسية الشاحبة، وأمام نص الفذلكة، نص التيه الذي يطلق عنوانا لضياع "الحداثة" و "ما بعد الحداثة"، لهذا يكون الكتاب ضد من يحبسون أنفسهم في قوانين تستدعي مناهضة نظام الكتابة بالهدم والفوضى والعبث، لهذا يكون تساؤله مبررا >دما الضير، اذا أعاد هذا الناقد أو ذاك تخصيب منهجه أو رؤاه، تعبيريا كان أو غير ذلك، فالوجه السومري في التماثيل الرافدينية المصنوعة من الطين أو الحجر – كان تعبيريا ومازال، كأنه تخطى التعبيرية الألمانية منذ ثمانية آلاف عام. من وجهة النظر هذه، لابد من النظر الى الأساطير أو الحكايات والرعون والسير الشعبية، عصريا، لا أمحراث غائب أو غائم أو منسي، من هنا اكتنزت أعمال البياتي، خليل حاوي، أدونيس، ومن قبلهم السياب بذلك التناص المضمر،من ثراء القراءة والاستقراء، ومن خصب ذلك الفنى في الأساطير والسير والرموز، حتى ليكاد الأثر من دقة التخصيب، ومتانة نسجه في النص، ومع ذلك يحسه القاريء حتى وان ضيع الشعراء الأثر.
ينشغل (تخصيب النص) بتفعيل المشاعر والانفعالات والألوان والأشياء والمعارف والنصوص الأم والنصوص المجاورة لها، ليخلق في النص حياة ثانية، ليس عبر القناص وحده ولكن بالتمثل، بالامتصاص، وذلك بتحويلها الى مادة قابلة للصقل والتهذيب، كما في إعادة المادي المطمور في سباته الى حالة مغايرة جديدة يخرج من حيزه الأول الضيق الى فضاء رحب وفاعلية أجدى. واذا كان التناص يتوغل في النص الأول فإن التخصيب ينال المعنى والحياة، لأن حالة الخصب في الأشياء والموجودات بعد تفعيلها، كأنه عشتار وتموز يخرجان من العالم السفلي الى فضاء حر فيمنحان النص الحياتي الفوقي قوة جنينية جديدة هي قوة البقاء والنمو والتكاثر والديمومة من خلال ما أخرجاه من صلبهما من العمق كي يحيا بالآخر الجديد المولود توا، وهكذا تستمر دورة الحياة، تضمحل أشياء وتفنى، لكن أخرى تتبرعم مادة بجذورها في عمق الأصول، كأنما النص الجديد يتأسس على بنية تحتية.
قسم الجزائري كتابه الى ثلاثة أقسام، الأول: منصة التأسيس والثاني: منصة الريادة، والثالث منصة التطبيق. ولا يعني هذا أن الأقسام الثلاثة لا تتبادل أو تتداخل في الأفكار، لم يكن هناك قفز في الأفكار، والمؤلف يعيد على نفسه ما سبق أن دونه فذلك يعينه على التسلسل الطبيعي نحو الخاتمة.
وتطبيقيا، لم تكف المؤلف سقدمته ددالثريادد، وانما جعل لكل قسم من أقسام المنصة الأولى مقدمة تمهد للتطبيق، والمقدمة هنا هي دراسة شاملة، بمعنى أن المنصة الأولى تحتوي على ثلاث دراسات، واحدة عن الأسطورة ابتداء من حيث كانت في العصور الأولى والقديمة سمة مفسرة معتقدات الناس ازاء القوى العليا، آلهتهم وأنصاف ألهتهم، أبطالهم وخوارقهم وكذا معتقداتهم الدينية الى ما تعني كلمة الأسطورة اليوم، الفكرة المبهمة أو الكذب أو الخطأ الخيال والوهم، أو الى ما تعني الأسطورة اليوم، حيث تمت اعادة الخلق والصياغة بشكل مكثف لأساطير الأشخاص كما حدث في الملاحم حول طر وادة وأصبح عوليس مثالا للمسافر الدائم وصار أسطورة معاصرة منذ جيس جريس حتى السياب، فوفق الدراسات الحديثة لا تعرف الأسطورة بمادة رسالتها وانما بالطريقة التي تنقل بها هذه الرسالة. أما الدراسة الثانية فهي مقدمة الجزء الثاني من المنصة الأولى وكانت عن السيرة على أنها رسالة مأثورة تعبر عن ضمير جمعي من دون أن ترتبط بمرسل محدد، لذلك يشتغل في السيرة الميثولوجي والشعري في منطقة متداخلة، لذلك أحاط المؤلف بالمفهومات كاملة عن الفلكلور والأغاني الشعبية والأمثال. أما الدراسة الثالثة فكانت مقدمة للقسم الثالث من المنصة الأولى بعنوان "الرمز: الأسطورة والفضاء". درس تجليات الرمز في إدراك أن شيئا ما يقف بدلا عن شيء آخر أو يحل محله أو ليمثله، بحيث تكون العلاقة بين الاثنين علاقة الملموس المشخص العياني بالمجرد، وذلك على اعتبار أن الرمز هو شيء له وجود حقيقي مشخص لكنه يرمز الى فكرة أو معنى مجرد، واذا كان القسمان الثاني والثالث من المنصة الأولى قد انتقل من الدراسة النظرية (المقدمة) الى التطبيق، اختار للقسم الثاني: السياب خليل حاوي، أمل دنقل. واختار للقسم الثالث: أدونيس فان القسم الأول تركه المؤلف من دون أن يعقبه التطبيق، لذلك تكون المنصة الثانية هي التطبيق للدراسة التي جاءت في المنصة الأولى عن الأسطورة واختار للتطبيق اشعارا من بدر شاكر السياب، وعبدالوهاب البياتي، وخليل حاوي، وأدونيس. في هذه المنصة أوضح لنا المؤلف كيف تمت الاستفادة من الأساطير والملاحم في الابداع الحديث قصة، وشعرا، ومسرحا، فأخرجوا الأساطير من عالم النص المفلق الى حضور مفتوح في القراءة والتأويل والكنايات، وكيف طبق النقاد والمفكرون مناهجهم عليها، بارت منهجه البنيوي، ولوميان كولد مان عند تطبيق منهجه الاجتماعي، وطبق (ش.مورون) منهجه النفسي. من هذا المنطلق ذكرنا أن هناك تداخلا بين المنصة الأولى والثانية.
أما المنصة الثالثة فهي دراسة عن مجموعة من الشعراء الأردنيين من أجيال مختلفة، والزاوية التي اختارها المؤلف للدخول الى أشعارهم لها علاقة بمجمل الدراسات التي قدمها في المنصة الأولى، والتي لها علاقة بالميثولوجيا والسيرة والرمز والأسطورة، من تلك التي يحسن تخصيب النص بها، يمكن القول أن المنصة الثالثة مكملة للمنصة الثانية، الفرق بين الاثنتين، أن التطبيق في المنصة الثانية شمل شعرا من الشعراء الرواد. أما المنصة الثالثة فقد أدرجت شعرا لشعراء ينتمون لأجيال مختلفة، إن المنصة الثالثة تعطينا فكرة علي أن المؤلف لا يعتقد أن بامكانه الاكتفاء بدراسة عدد قليل من الشعراء الرواد على اعتبار أنهم وحدهم من يصلح للتطبيق في بعض المفاهيم، وانما وسع من دائرة اهتمامه فشملت شعراء من أجيال حديثة، لقد اتخذ من شعر الجميع وسيلة لتحقيق غاية مشتركة.
لقد استخدم الجزائري منهجا واحدا ميسور التحديد في النقد التطبيقي، فكان "تخصيب النص" كتابا مهما في هذا المجال. فضلا عن أن المعلومات الدراسية التي تتصل بالاسطورة والسيرة والرمز والميثولوجيا، والتي دخلت في طياته، تشكل قيمة اضافية، حققت أعظم نجاحها، عندما التحمت في النقد التطبيقي.
عائد خصباك (كاتب يقيم في اليمن)