عبد الرحيم العلام
سأتناول، في هذه الورقة، جوانب مضيئة ومشرقة في الحياة الثقافية والفكرية للباحث العربي الراحل الدكتور جابر عصفور، بما لعبه فقيد الثقافة العربية وقطبها الكبير، من أدوار ريادية كبرى في حركة الثقافة العربية، وفي تطوير النقد الأدبي، وتجديد أسئلته ومناهجه، وفي الانتصار للفكر التنويري، وذلك من منطلق امتلاكه لرؤية ثقافية ونقدية، عقلانية فريدة من نوعها، ما جعله يحظى بمكانة اعتبارية رفيعة، في بلده وفي كافة البلاد العربية وحتى خارجها.
لقد عمل الدكتور جابر عصفور، طوال رحلته الطافحة بالعطاء والإنتاج والتأمل وتجديد أسئلة فكرنا النقدي العربي، على تشييد مشروعه الثقافي والفكري الكبير والمؤثر، عبر ما كل خلفه للمكتبة العربية من مؤلفات وكتب رائدة في مجالها، وأيضا عبر ما نشره من مقالات ودراسات وأبحاث وترجمات، منشغلا فيها بقضايا عديدة، همت: التراث والأصالة والحداثة والمعاصرة والعقلانية والتنوير والخيال والجمال والحرية، والصورة والمرآة ومفهوم الشعر ومفهوم النقد والوعي والمنهج النقديين، والنظرية النقدية ونقد النقد والزمن الإبداعي، من ناحية، والمثاقفة والترجمة ومستقبل الثقافة العربية، من ناحية ثانية، وغيرها من القضايا التي شرع ناقدنا العقلاني في تناولها منذ وقت مبكر، بكل ما يملك من عُدة منهجية ومعرفية جديدة، إلى جانب اشتغاله الموازي على أجناس أدبية، يأتي على رأسها الشعر العربي، قديمه وحديثه، قبل أن تأخذه الرواية، بشكل مهيمن، إلى زمنها وإلى عوالمها المثيرة، وغيرهما من الأجناس الأدبية التي اهتم بها الدكتور جابر في كتاباته وأبحاثه، كالقصة القصيرة والسيرة الذاتية ورواية السيرة الذاتية…
كذلك هو الحال بالنسبة لترجمات الدكتور جابر عصفور إلى العربية، في نوعيتها ورصانتها وحجيتها، بما قدمته لتجربته النقدية، هو شخصيا، وللنقد الأدبي العربي، من إمكانات نظرية ونقدية ومنهجية مرجعية، موجهة ومضيئة، على مستوى تفاعله مع بعض المدارس النقدية التي تأثر بها جابر عصفور في فكره وأبحاثه النقدية…
واعتبارا لأهمية إسهامات الدكتور جابر عصفور المشهود له بها في الحياة الثقافية والفكرية والنقدية العربية، فقد شكلت مؤلفاته الأساسية الأولى حول “الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي”، و”مفهوم الشعر: دراسة في التراث النقدي”، و”قراءة التراث النقدي”، مراجع لا مناص منها للنقاد وللباحثين والأكاديميين العرب، ممن تأثروا بأبحاثه ودراساته، من حيث كونها قد شكلت، في مجموعها، أرضية خصبة ومضيئة لأبحاثهم النقدية ولأطاريحهم الجامعية.
كذلك هو الشأن بالنسبة لكتابه الموالي، الرائد هو أيضا في مجاله، عن الفكر النقدي الأدبي عند طه حسين بعنوان “المرايا المتجاورة، دراسة في نقد طه حسين”(1983)، بما حققه هذا الكتاب، منذ ظهوره، من إقبال لافت على طروحاته ونتائج مبهرة، وأيضا بما ساهم عبره الدكتور جابر عصفور في تحقيق حركة الاستنارة العربية، وتجديد أسئلة الفكر النقدي العربي، في تفاعل تام بين التراث النقدي العربي وإفرازات الحداثة الغربية، وهو ما ساهم بشكل كبير في ترسيخ مكانة الدكتور جابر عصفور النقدية في الساحة النقدية العربية. فضلا عن مؤلفاته الأخرى المختلفة عن مشروعه النقدي التنويري، التي أبرزته باعتباره صانعا للوعي، ومضطلعا بأدواره التنويرية كما كرس لها حياته وفكره، وهو ما يبرز الأهمية البالغة والمضيئة لهذه المؤلفات جميعها، في تناولها لقضايا مختلفة، همت: التعصب والإرهاب والجمود الديني والتنوير والرواية والاستنارة والعقلانية ونقد ثقافة التخلف وحوار الحضارات والثقافات والهوية الثقافية، وغيرها من القضايا التي تصدى لها جابر عصفور باجتهاد وجرأة وحرية، وكذلك بنقض لكل ما لا يتفق عنده مع العقلانية.
وفي سياق هذا التحول الثقافي العربي، كان لابد من الإشارة إلى أن مجلة “فصول”، التي أسسها جابر عصفور بمعية أستاذه عز الدين إسماعيل وصديقه صلاح فضل، كان لها، ولا يزال، تأثيرها الحاسم، منذ بداية صدورها، في تقريب المدارس النقدية والاتجاهات والنظريات الحديثة من الباحث والقارئ العربي، وهو ما ساهم في بروز جيل جديد من النقاد العرب في مجموعة من البلدان العربية.
وفي هذا المستوى، عرف الدكتور جابر عصفور، في إطار استئنافه لوعيه الجديد بفن الرواية، ومن منطلق إدراكه لتحولات الزمن الإبداعي العربي ولبعض الرؤى المغايرة، بكونه من السباقين إلى الانتباه للصعود اللافت للرواية في مجتمعاتنا العربية، وهو ما دفعه، في وقت متقدم، إلى تخصيص عددين من مجلة “فصول” لـ”زمن الرواية”، شارك فيهما كبار الأكاديميين والروائيين والنقاد والباحثين العرب، في بادرة فريدة واستثنائية وقتئذ من جابر عصفور، وفي ذلك ما يؤكد نبوءات أساتذته (علي الراعي ونجيب محفوظ)، ويؤكد ظنه وحدسه وإيمانه هو أيضا، بأننا فعلا نعيش زمن الرواية.
ولربما ذلك، هو ما حفز الدكتور عصفور، من منطلق وعيه النقدي المفتوح، المؤمن بالعقلانية والتسامح والحرية والمنتصر للاختلاف والتغيير، على التفكير في إصدار كتابه “زمن الرواية” (1999)، وهو كتاب يشبه في اعتقادي، كتاب ملهمه طه حسين “في الشعر الجاهلي”(1926)، اعتبارا لما أثاره الكتابان معا من نقاش واسع وردود فعل نقدية كثيرة، لحظة صدورهما، بالنظر لجرأة الكتابين ولسجاليتهما، ما جعلهما معا يخضعان لمراجعات بعدية، حتى على مستوى عنوانيهما، كما في كتاب جابر عصفور الموالي “زمن القص: شعر الدنيا الحديثة” (2019)، وفي كتاب طه حسين التالي “في الأدب الجاهلي” (1927)، مع تباين الزمان والسياق والدوافع طبعا..
وفي مستوى آخر، كان لابد من التذكير بالأدوار الطلائعية والتنويرية، التي نهض بها جابر عصفور في الجامعة المصرية، سيرا على خطى ملهمه طه حسين، وفي الجامعة الكويتية، وفي غيرهما من المؤسسات الثقافية المصرية والجامعات الدولية، بشكل يبدو معه من الصعوبة، هنا، أن نفصل بين أدواره الريادية على مستوى الممارسة الثقافية والعمل المؤسساتي، فهي تبدو متداخلة فيما بينها ومنصهرة في بعضها، بالنظر لارتباطها الوثيق بالأفق نفسه، ألا وهو نهوض جابر عصفور بمشروعه الحداثي التنويري، ومواصلة حمل مشعله، بما يعزز مكانته وإسهاماته الريادية على المستوى الفكري والنقدي والأكاديمي، تأليفا وترجمة، بحضوره الموازي الوازن على مستوى صياغة السياسة الثقافية لمصر، خلافا لأساتذته الآخرين، ممن عرفوا فقط بأدوارهم المعرفية الأكاديمية. كان ذلك في البداية، في “المجلس الأعلى للثقافة” بالقاهرة، باعتبارها مؤسسة ثقافية رائدة، عمل الدكتور جابر عصفور، منذ التحاقه بها، على إخراجها من دائرة الجمود والإهمال والمحلية، فصيرها فضاء ثقافيا واحتفائيا وحواريا مشرعا أمام أجيال المثقفين والأدباء، من مصر والبلاد العربية والعالم، كما ساهم، من خلالها، في إخراج مصر من عزلتها الثقافية التي كانت مفروضة عليها وقتئذ، بسبب معاهدة كامب ديفيد، حيث انبرى جابر عصفور إلى تحطيم تلك العزلة، متوسلا بعدته الثقافية، وليس السياسية، عبر إشرافه على تنظيم عديد من المؤتمرات والملتقيات والندوات والمحاضرات والأيام الثقافية الكبرى، ضمن رؤية ثقافية قومية منفتحة، آمن بها جابر عصفور وظل مدافعا عنها، خارج أي إطار شوفيني ضيق.
وداخل هذا الإطار نفسه، كان الدكتور جابر عصفور حاضرا بقوة، أيضا، في “المركز القومي للترجمة”، بعد أن قام بمأسسته، بشكل يلبي حاجيات مجتمعاتنا العربية من المعرفة، ويلحقها بقاطرة التقدم البشري، وبركب الحضارة الإنسانية، وأيضا بما يساهم في تحقيق حركة الاستنارة العربية.
وتلك إنجازات، شملت آثارها الساحة الثقافية العربية والعالمية، من منطلق ما ساهم به جابر عصفور، من جهود بارزة ومؤثرة في التأسيس لحوار ثقافي جديد بين المثقفين المصريين والعرب، وفيما بينهم ومثقفي العالم، مساهما بذلك في تجديد أسئلة الثقافة والفكر والإبداع في عالمنا العربي، أمام تراجع مشاريع الإصلاح العربية وتصاعد الأصوليات الدينية الجامدة.
وكان القصد من تلك اللقاءات القومية والدولية الأولى، في نظر جابر عصفور، تعريف المثقف العربي بكبار العقول الأوروبية والأمريكية التي كان يقرأ لها ويتأثر بأفكارها، وخلق فرص للنقاش معها والتعرف على أفكارها…”(“ذكريات المجلس الأعلى للثقافة”، مجلة العربي، العدد 709، 12- 2017)، وهو ما تجسد فعليا، من خلال تفعيله لذلك المستوى الثالث من مستويات إستراتيجية عمل المجلس الأعلى للثقافة، كما خطط لها جابر عصفور في بداية إشرافه على تدبير شؤون المجلس، من حيث حرصه على “تأكيد العلاقات الوثيقة بين الثقافة الوطنية والقومية من ناحية، وبينهما والثقافة العالمية من ناحية أخرى…” (المرجع نفسه).
وبذلك، ظل جابر عصفور سباقا إلى الانتباه إلى ما طال ساحتنا الثقافية العربية من تحولات، مستلهما بعض موضوعات مؤتمرات المجلس الأعلى، من سياقات مختلفة، من قبيل مؤتمر: “نحو خطاب ثقافي جديد”، الذي نظمه بعد غزو العراق المؤسف للكويت، ومؤتمر “مائة عام على تحرير المرأة العربية”، الذي انعقد بمناسبة مرور مائة عام على صدور كتاب قاسم أمين “تحرير المرأة”، وغيرهما من المؤتمرات والملتقيات التي أدت أدوارها الثقافية القومية بكل انفتاح وحرية ومردودية، فيما كان الدكتور جابر عصفور يؤدي، من خلالها، واجبه التنويري إزاء الثقافة العربية التي ظل يفخر بالانتماء إليها والدفاع عنها.
موازاة مع ذلك، راود جابر عصفور حلم آخر كبير، سهر على تحقيقه من خلال المركز القومي للترجمة، بما يلزم من جدية ومسؤولية، يتمثل أساسا في النهوض بحركة الترجمة من لغات أخرى إلى العربية، جاوزت الثلاثين لغة، وذلك من منطلق إيمانه الراسخ بالتجدد والتغير على حد قوله، ومن منطلق رغبته في تحقيق حلمه، متمثلا في ترجمة الأصول والكتب الأساسية من المؤلفات ومن مصادر المعرفة، في حرص تام من جابر عصفور على أن يوصل للآخرين كمًّا من المعارف التي تساعدهم على تطوير طرائق تفكيرهم وأوعائهم وأبحاثهم وإبداعاتهم، وعلى “رسم خرائط عقلية جديدة”. مشروع، تمكن الدكتور جابر عصفور من فتح أبوابه أمام المترجمين، من مشرق العالم العربي ومغربه، مستجيبا بذلك للمبدأ السابع في مخطط المشروع، والمتمثل في “اقتران طموحه القطري بنزوع قومي يعين على تحقيق الغاية، ويفيد من الخبرات الثقافية الكثيرة الموزعة على امتداد العالم العربي” (جابر عصفور، “حول المشروع القومي للترجمة”، مجلة العربي، العدد 494، 1-2000).
وكلها جهود رائدة، استطاع جابر عصفور، من خلالها، أن يفتح “ثغرة في المستحيل”، كما عبر عن ذلك، وجسدت بالفعل جوانب مضيئة من مشروع جابر عصفور النقدي والثقافي والتنويري والعقلاني والمؤسساتي، وقد تحول عنده إلى مشروع حياة ووجود في الحياة -على حد تعبيره- باعتباره مشروعا ستظل الساحة الثقافية العربية تدين له ببصماته المميزة فيه، وتشهد له بأياديه البيضاء عليه، حتى بعد رحيله -رحمه الله-، وهو ما يدحض تلك الانتقادات والتهجمات التجريحية والنعرات التشكيكية في أدوار جابر عصفور الثقافية الطلائعية، هو الذي عمل، منذ وقت مبكر، على النهوض بها وتطويرها وإثرائها، وعلى حمل هموم التنوير في العالم العربي، والدفاع عنها والصراع من أجلها، ضد خطر التيار الأصولي المحافظ ومؤسساته، ما جعل البعض ينعتونه بـ”حارس التنوير”، ويصفونه بآخر التنويريين العقلانيين في مصر، بعد طه حسين.
تلك بعض المحطات المضيئة في حياة الدكتور جابر الثقافية والنقدية، التي يستحق معها أن تخلد آثاره بنصب تمثال له أمام المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة؛ تمثال يليق بمكانته الثقافية وبعطائه الفكري والمعرفي والمؤسساتي الرفيع، يظهر جابر واقفاً بشموخ إلى جانب عظماء الثقافة والأدب والفن بمصر، ممن خلدتهم القاهرة عبر تماثيل ستظل شاهدة على مدى حضورهم وعطائهم وعبقريتهم.