نشأة الدولة العربية في سيناريو ( ما أشبه اليوم بالبارحة )
.. في دولة صغيرة, عاصمتها هي مدينتها الوحيدة, ويحكمها رجل واحد هو المختار الذي صوت له الجميع منذ الشهر الأول لرسم حدود الدولة الجديدة بقبائلها المتجانسة التي قطنت أراضيها منذ وقت واشتغلت على الاستثمار الزراعي والحيواني والبحري مع دول المجاورة, تقايضها بالعملة الصعبة لشراء الجرارات ومضخات المياه والمواسير والزوارق والعربات وقطع الغيار اللازمة لهذه المستوردات وغيرها. وكانت هذه الدولة إلى حد كبير تنعم بهذه الحال في ظل الحكم الرشيد للمختار الذي لا يتقاضى غير راتبه الشهري ونسبة من العمولات على معاملات المقايضة. وقد يأخذ بعض الهدايا والإكراميات جزاء خدماته العامة.
لا لصوص ولا قتلى في المدينة. ولا مأوى للخارجين عن قانون المجتمع القبلي, بالرغم من وجود بعض الفقراء والمحتاجين والمعوقين الذين تكفلت الدولة بالإنفاق عليهم عن طريق صندوق الإعانة الاجتماعية الذي يتشر ف المختار برعايته وتحصيل الأموال له.
***
ولأن هذه الدولة الصغيرة في شعبها وفي إمكانياتها. والمتواضعة في تعليمها وفي إدارة شؤونها, هي في معزل عن المعارك السياسية في الدول المجاورة, ولا شأن لها بما يدور حولها.
ولأن حدودها تتحص ن بالتجاويف الصخرية الحادة, وبالحيوانات المفترسة الضالة على طول الحدود, فإنها لم تلجأ الى قيام جيش بملابس كاكية وأسلحة خفيفة وثقيلة للدفاع عن مكتسباتها. فمكتسباتها في جيوب مواطنيها, والبحر الذي يصدر الكافيار إلى باريس هو ملك للجميع. والأرض التي تنتج الذرة والفاكهة والخضرة هي لكل قاطنيها من أبناء القبائل التي يسودها الوئام.. ولأن مستقبل الدولة من مستقبل قبائلها, فقد حرصت الدولة في قرار مجلس الأعيان والفقهاء, على تنفيذ بعض المشاريع الخيرية في مجالات التعليم والصحة والإسكان, لتكون الدولة في مستوى الحوار مع الدول المجاورة التي تولي اهتماماتها الأولى بالتعليم والصحة والإسكان, ليجيد المواطنون القراءة والكتابة والحساب. وليتمتعوا بصحة جيدة في ظل خدمات صحية لازمة. وليقطنون المساكن الصحية حتى لا يؤذيهم الصيف في حرارته والشتاء في برده. ولا يؤذيهم الهواء الطلق في كل الفصول والذي أدركت الدولة انه لا يلائم سوى الحيوانات. وعلى الإنسان أن يطور مسكنه لينام مرتاحا على روحه وعلى نقوده… ولاقت كل تلك الأفكار استحسان المواطنين.
***
عندما أعلن المنادي موت المختار المفاجئ إثر نوبة قلبية مفاجئة, حمل الأعيان نعشه الى المقبرة الوحيدة في الدولة. ومشى في جنازته جمع غفير من الرجال والنساء.. وعقب الدفن, وقبل مغادرة المقبرة, اختلف الأعيان على خلافة المختار.. وعادت كل قبيلة الى ديارها لتدبير أمر الخلافة. لكن لم يبدأ النقاش على الخلافة, بل بدأ النقاش على الخلاف والاختلاف. وبدأت الحرب. سقط المختار فاندلعت الحرب. الحرب بالكلام. والحرب بالحجارة.. وكثر عدد المنادين الذين صاروا يصيحون كالإذاعات المعادية. ومن خلفهم الصغار يزودونهم بالماء والحليب والزيت والعسل.. المنادي يحتسي من أباريق الخشب وينادي. ويأتي آخر بالكلام الفصيح.
***
بعد مضي عشرة أيام ونيران الحطب جبهات وفضاء عمليات, والهمهمات من بعيد تحمل أسرارها الريح, الكل متيقظ والكل متحفز, والكل يريد الدولة على طبق من الرضا.
لكن العناد بات هو السائد بين العشائر التي مات مختارها الكبير ذو العقل الراجح دون أن يخلف لنفسه مساعدا ليتشبع الأعيان والأهالي برجاحة عقله وتدبيره.. لقد فعلها المختار ومات. كل ما فعله كان عين الصواب, وأخطأ الخطأ الذي أضاع كل شيء.. كل شيء فعله المختار صار نسيا منسيا, وهاهم العشائر يصنعون الهراوات والمجانيق للانقضاض على بعضهم, ومن يفز في المعركة يحتل البلاد.
***
عندما تركوا وراءهم الأرض والبحر طوال الخمسة والعشرين يوما, وكثر الكافيار في خليجه البارد. وفي أوج استعدادهم لاعلان الحرب. فر الكافيار من طعمه ودخل البحر هاربا من أزيز محركات السفن والزوارق الحربية التي رست على الشاطئ ونزل منها الجنود وكأنهم في رحلة صيد.. ودخلوا البلاد ونصبوا خيامهم على سنابل الذرة الوارفة. ونزحوا في رحلة صيد حقيقية على طول الحدود. فاصطادوا الأرانب البرية والغزلان.. وعادوا بعد رحلة صيدهم يطلقون العيارات النارية مخترقين الجمهرات الشعبية من أهل الوطن الذين اقتعدوا التراب منذهلين مرتعبين من شكل هذا الأبيض القادم باللباس الكاكي ومعه الذخيرة الحية والعلم الملون.
***
لم يقم جيش الاحتلال بأية محاولة للنيل من الأهالي, بتأميم ممتلكاتهم مثلا, أو اغتصاب نسائهم, أو الزج ببعضهم في السجن أو حرق محاصيلهم وأكواخهم ومراكب صيدهم.. ولا شيء من ذلك قد حدث, لأن الأرض ومن عليها, صارت تلقائيا تحت سيطرة النعل العسكري الأسود. والأهالي تركوا هراواتهم قبيل المعركة بقليل, وتفر غوا صغارا وكبارا للتفرج على هذا القادم القوي دون أدنى محاولة للمعارضة والاحتجاج. فقد كان ما بأيدي الغرباء مثل العصا السحرية العجيبة, تطلق النار من بعيد فتصيب أهدافها في الصميم.
انهارت القبائل أمام الغرباء البيض بنظاراتهم السوداء وسط الغبار الذي تحدثه عجلات الجيب. وألقوا بهراواتهم أمام البنادق اللامعة, واكتفوا بهز رؤوسهم في الهواء وقراءة الفاتحة على المختار الذي مات.. وعلى الدولة التي أخذها الغريب !
***
بعد ليلة طويلة عاشها الأهالي على عواء ذئاب الخلاء من بعيد, حل الصباح بدفوف نشيد المستعمرين في ساحة المدينة وهم يرفعون العلم الجديد تحت سماء زرقاء صافية ونسيم عليل. طوق الأهالي الساحة مندهشين منبهرين في لون العلم البرتقالي الذي يشبه لون الشفق على بحرهم الهادئ. وفي صمت العيون والشفاه, وضع الحاكم العسكري حجر الأساس على أرض موقع بناية الرئاسة الحكومية الجديد.. والأعيان والأهالي, لا حول لهم ولا قوة. لا سؤال ولا جواب سوى الذهول في الأيادي البيضاء التي بدأت تصف ق عاليا برفرفة العلم وسط الساحة. ثم قال الحاكم العسكري بالمختصر المفيد : جئناكم لنحميكم من أي عدوان. جئناكم لنحميكم من أي مكروه, فعليكم طاعتنا حتى لا نغضب منكم فنغضب عليكم. فكونوا تحت ظل وقداسة هذا العلم حتى نبني معا الدولة المتقدمة الغنية بخيرات هذه الأرض المعطاء. سنصدر القمح إلى إنجلترا, وسنصدر العنب إلى إيطاليا, وسنصدر الكافيار إلى فرنسا, وسنصدر الفاكهة إلى أميركا.. وسيكون لكم السوق والدجاج والشكر الجزيل.. وشكرا !
سمعوا ما سمعوا, وهز الرأس لا يعني بالضرورة الفهم. فمن فهم غادر المكان, ومن لم يفهم تسمر في مكانه حتى غادر الحاكم الساحة وتبعه الحرس والجنود في سياراتهم العسكرية. بعضهم ذهب إلى حقله ليستأذن جمع بعض ذرة القمح. وبعضهم من ذهب الى البحر ليلتقط بعض السمكات النافقة في خليجه. وبعضهم من لحق بغنماته ليعيدها إلى صوابها في الفي جنب الدار.. والأعيان تعبوا من قلة التفكير في أمر هؤلاء الغرباء المدج جين بالسلاح, ولا حول لهم ولا قوة تمنع الخضوع لأوامرهم.
***
لم يظهر الفلكلور الشعبي لهذه الدولة وتسمع به شعوب الدول المجاورة إلا بعد افتتاح الإذاعة التي أذاعت نص خطاب الحكومة الجديدة في الشعب. وليسمع العالم أن دولة »طين« تعني »التراب«. وعندما يلتقي الطين بالتراب, يكون لهم الماء والزرع. ويكون لنا البترول. وظهر البترول فعلا من باطن الأرض التي شهدت منذ زمن الحكايات الشعبية والفروسية وقصائد الغزل العربي.. جاء الغريب ليحفر بآلة تشبه ذيل الديناصور الأسطوري ويظهر الذهب الأسود ليرى النور ويرى بالتالي البحر وهو في طريقه إلى أوروبا.. سعر البرميل بسعر المعد ات النفطية والحربية والذخيرة والويسكي والعاهرات.. غير أن العربي وهو في حانة العاصمة, اكتشف أن قيمة بتروله أغلى بكثير من الويسكي المستورد, فهو ليس صفائح سمن بلدي, إنه ذهب أسود, والذهب الأسود لابد أن يكون بقيمة الذهب الأصفر. عي نوه وزيرا للبترول, وأعدموه بعد شهر بتهمة الاختلاس.
***
بعد تلك الواقعة, صار أبناء البلد لا يتقلدون سوى المناصب التقليدية البعيدة عن الشبهات. فقد اختاروا وزارة التعليم ليمسكوا بالطبشور ويعلموا أولادهم القراءة والكتابة والحساب, حتى يحسنوا معاملة الأجانب. واختاروا وزارة الأوقاف ليفتحوا المساجد والزوايا للمدائح النبوية والأذكار. واختاروا وزارة الشباب والرياضة ليركضوا شيبا وشبابا حول المدينة طوال اليوم.. وفي الليل ينامون كالحمير من شدة التعب.
أما وزارات البترول والمالية والصحة والسياحة والكهرباء وغيرها من الوزارات الحيوية, فكانت لهم قلبا وقالبا.. فالمازوت والدواء والنور والويسكي في أيديهم.. ومن يرد مازوتا أو دواء أو نورا أو ويسكي, يدفع من ميزانية التعليم والأوقاف والشباب والرياضة, ليعيش في ظلال علمهم وظلال عماراتهم التي باتت تنطح السحاب كل يوم وتعود بالفائدة في المساء. وبعد المساء, في الليل, تفتح الحانات وصالات القمار في فنادق الخمس نجوم, ليكون ليلهم بعد منتصف الليل بآلاف النجوم.
***
صاحب الأمر والنهي مازال يشغل بال وتفكير بعض الأعيان الذين كانوا يحلمون ذات يوم بخلافة المختار. فما جنوا غير الخيبة. لكن كانت القناعة دائما كنزا لا يفنى. فقد ظلت لهم دوابهم من الحمير والإبل والماعز, وظلت لهم متاجرهم وسفرياتهم ومعاملاتهم على حساب كرامة عربية ترتفع وتنخفض في سوق البورصة. وقد كانت دائما أقل سعرا من ثمن برميل بترول واحد.. كل يوم تخسر فيها الأرض برميلا من البترول, تخسر فيه الأرض اشبارها, وتخسر أمتارها من الكرامة.
صاروا بشوارب وبلا شوارب. وصاروا بجوارب وبلا جوارب. ولم يعد للطربوش الأحمر أي معنى سواء لب سه العاين أو العادي والصالح والطالح… فالكل في نظر المستعمرين – بكسر الميم – مجرد مستعمرين – بفتح الميم – ومجرد رجال – بالشد على الجيم – ومجرد رقم في تعداد السكان. فلا يملكون ولا يديرون من أمر الدولة سوى فتح الطريق لعرباتهم, وفتح الطريق لكلابهم, وفتح أبواب الحانات لآخر السكرانين في طابور الجيش الذي يستورد الويسكي ليشربه مع النساء المستوردات ومع نساء البلد اللائى خرجن عن طاعة الشريعة قبل طاعة العشيرة, وقد خرجن في الليل لأول مرة, ساعة لمع وجه أول عسكري يدخل المدينة
سالم الهنداوي كاتب من ليبيا