هذه ترجمة لفصل عنوانه "ما بعد الحداثة تاريخ فكرة" اخترته من كتاب ألفه الأستاذ ديفيد لاين بعنوان ما بعد الحداثة Postmodernity (مطابع الجامعة المفتوحة، باكنجم، الطبعة الثانية، 1999). يرى المؤلف في هذا الكتاب أن ما بعد الحداثة تمثل "إشكالية" قيمة تلفت انتباهنا إلى مسائل أساسية تخص التغير في المجتمعات المعاصرة وتدعونا الى المشاركة في النقاش الدائر حول طبيعة المجتمعات الحالية ووجهتها المستقبلية فى ظرف يتسم بالعولمة والشمولية. كما يذهب إلا أن التداخل بين ما بعد الحداثة وما بعد الحداثية يشير إلى أن الاجتماعي والثقافي ينتميان الى نفس المجال رغم أن معنى النقاش ما بعد الحديث للأسف يدور فى جو من البحث المجرد دون مرجعة أساسية ترسخه فى الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
"لقد تخطت عاصفة العالم الثلجية عتبة الباب و…قلبت نظام الروح"
ليونارد كوهن، "المستقبل"
هل ما بعد الحداثة فكرة، تجربة ثقافية، وضعية اجتماعية، أم هي كل هذه في آن واحد؟ مما لا شك فيه أن ما بعد الحداثة توجد كفكرة أو شكل من أشكال التحليل النقدي في أذهان المثقفين وفي وسائل الإعلام، وقد تمخضت منذ الثمانينيات عن جدال حاد، غاضب تارة وقلق تارة أخرى، شمل العديد من الاختصاصات من الجغرافيا وعلم الألوهية الى الفلسفة والعلوم السياسية، ثم امتد في التسعينات الى الاختصاصات التطبيقية أكثر التي أخذت تتساءل عما قد تعنيه "الممارسة مابعد الحديثة" في علوم التسيير والعمل الاجتماعي والتعليم والقانون.
أما النزاع القائم حول "ما بعد الحداثة" في ميادين الفن والهندسة المعمارية والنقد الأدبي والسينمائي فهو أقدم، فبناية ملحق المتحف الوطني فنتوري Venturi في لندن والروايات مثل آيات شيطانية" Satanic Verses و "المريض الإنجليزي"The English Patient والأفلام مثل Blade Runner وPulp Fiction كل هذه شكلت في وقت ما بؤرة هذا النزاع؛ كذلك ظهرت اشارات إلى ما بعد الحداثة في وسائل الإعلام الأكثر شعبية تذهب من السخرية والاستهتار الى مسلسل من ثلاث حلقات عنوانه "الحقيقة" أو "الشيء الحقيقي" The Real Thing على شاشة التليفزيون البريطاني BBC في بداية التسعينيات. وهكذا نجد أن ما بعد الحديث قد تسرب من مسام جدران الأبراج العاجية وهو بذلك يدل بالنسبة للكثير على ضرب من التجربة اليومية المعيشة.
غير أن فكرة ما بعد الحداثة قد تكون في نهاية المطاف وهما من أوهام الخيال الأكاديمي الجامح أو المبالغة الشعبية أو الآمال المتطرفة الخائبة، كما نجدها، أي ما بعد الحداثة، عرضة للانتقاد القائل أنها، رغم أنفها، يمكن أن تعتبر ظاهرة غريبة خاصة بالغرب، ولذلك يجب التخلي عنها لصالح عبارة أنسب مثل "عصر الشمولية" “global age” (1)، الا أن مثل هذه الاعتراضات يمكن ردها كما سنرى فيما بعد. ان مفهوم ما بعد الحداثة يستحق التحري والبحث لأنه يلفت انتباهنا إلى سلسلة من الأسئلة الهامة ويشحذ ذكاءنا وحساسيتنا، ويساعدنا على النظر إلى بعض القضايا على أنها مشكلات قابلة للشرح والتحليل، ويجبرنا على النظر إلى أبعد من القضايا التقنية الضيقة المنفصلة وعلى الاشتباك مع التغير التاريخي بشكل عام. ولكن أود أولا أن أبدأ بتقفي النصب الاجتماعي والفكري لما بعد الحداثة، فما هو إذن تاريخ هذه الفكرة ؟ هناك سلسلة من الأفكار الغربية تبدأ بفكرة "العناية الإلهية" التي تتحول بعد ذلك الى فكرة "التقدم" ثم تتغير مرة أخرى الى فكرة "العدمية"، ولو أن لكل من هذه المفاهيم حمولته من الدلالات المتميزة الا أن هذا المخطط يمثل منطلقا مناسبا. وتتعلق العناية الإلهية بتكفل الإله بالكون بعد خلقه وتحكمه في عملية التاريخ بحيث تتقدم تقدما خطيا نحو هدف محدد، ومن دعاة هذه الفكرة في القرن الرابع عشر المفكر المسيحي أوغسطين هيبو الذي سيكون لتأملاته في "مدينة الإله" The City of God الأثر العميق في تشكيل الحضارة الغربية، وتنفي نزعة العناية الإلهية وجود أي حركة تكرارية أو دائرية في التاريخ موحية بذلك بالأمل الموجه نحو المستقبل عوض الاستسلام والتشاؤم.(2)
غير أنه تم الجمع بسهولة، خاصة تحت تأثير الفكر التنويري في بداياته، بين التأكيد على حركة التاريخ باتجاه الأمام والاعتقاد بأن الأمور عموما تتجه نحو التحسن، وقد دفع تحرر العقل من قبضة العصور الوسطى والفكر التقليدي إلى الاعتقاد بأنه بمقدور البشرية تحقيق تقدم أكثر وأسرع. وتكمن المفارقة في أن المعلقين المسيحيين أنفسهم كثيرا ما شجعوا هذه النظرة. ولكن التأكيد على دور العقل والتقليل من دور التدخل الإلهي أديا إلى زرع البذرات الأولى لنوع مادي من العناية الإلهية، أي فكرة التقدم،(3) وحلت شقتنا في حواسنا محل شقتنا في القوانين الإلهية، وبذلك ظهرت الى الوجود النظرة العلمية الحديثة للعالم، وفي نفس الوقت بدأت أوروبا تهيمن على العالم سياسيا واقتصاديا، كما يرى آنثوني جيدينس": Anthony Giddens
"لقد شكل نمو البأس الأوروبي العامل المساعد المادي للفرضية القائلة بأن النظرة الجديدة للعالم تأسست على قاعدة متينة وفرت في نفس الوقت الأمن والأمان والتحرر من دوجماتية التقاليد."(4)
ولكن ما مدى متانة هذه القاعدة؟
رغم أن هدف التنوير، وبالتالي مشروع الحداثة، هو القضاء على الشك والتأرجح إلا أن العقل المستقل لن يتخلى عن شكوكه أبدا، وهي شكوك ضرورية إذا أراد أن يتجنب السقوط في "الدوجماتية"، وهكذا أصبحت نسبية المعرفة تتخلل الفكر الحديث وتلازمه، ولكن لأن القوانين الطبيعية الشاملة مازالت مرغوبا فيها في عملية المحاكاة المادية للفكر الإلهي كان ينظر إلى النسبية كشيء مزعج. أما اليوم فالتسليم المتزايد بأن ملاحظاتنا، مهما كانت دقيقة، تعتمد على فرضيات، وأن تلك الفرضيات لها علاقة بتصورات مختلفة للعالم وبمواقع سلطوية، جعل النسبية تبدو وكأنها موقف طبيعي، وهنا يرى أولئك المتأثرون بنيتشه Nietzsche عدم جدوى أحلام الحداثة بالشمولية والكونية.(5) وهكذا بدأ جنين العدمية يتشكل في أحشاء الحداثة.
وبلغ الإيمان بفكرة التقدم أوجه في قمة الطمأنينة الفيكتورية والاستعمار الأوروبي واستئناس العالم الجديد في أمريكا الشمالية، وقد وجد هذا الإيمان مبرراته في ملاحظة (موجهة بعض الشيء) بعض الظواهر والأحداث، إذ أن الآمال لم تفتر كلية بالرغم مما توالى من الأحداث المحبطة كالحرب العالمية الأولى وأزمة 1929، فقد احتفلت البشرية سنة 1933 بمناسبة معرض شيكاغو العالمي "قرن من التقدم"، وفي نفس السنة اعتلى هتلر سدة الحكم في ألمانيا واعدا بالتقدم من خلال الاشتراكية الوطنية، بسياراتها الميكانيكية ومخططاتها الصحية. ثم خفقت شعلة الإيمان بالتقدم وكادت أن تنطفئ من جرا، الحرب العالمية الثانية فقط لتنتعش اصطناعيا بواسطة تطور علمي تكنولوجي ضخم وانفجار استهلاكي لم يشهد له نظير، وفي هذا الجو بالذات تكرس مفهوم الحداثة كتجسيد لهذه التحولات. غير أن الضرر كان قد حدث، فالاستعمار انهار بانتزاع المستعمرات الواحدة بعد الأخرى لاستقلالها السياسي، وبدأت الشعوب تهاجر من منطقة الى أخرى عبر العالم بشكل متزايد كما بدأت مساوي التطور الصناعي تتجلى بشكل مرعب في تدهور البيئة وتناقص الموارد غير المتجددة وتآكل طبقة.
وكانت نتيجة كل هذه المستجدات (وليس هذا متصورا على المستوى الفكري) وضع كل المعتقدات الموروثة موضع السؤال العميق، ففي الغرب أدت ثورة ثقافية كبيرة الر. تليين الحدود القديمة أو زعزعتها، وقد طرحت الستينات تحديات ثقافية وسياسية على غاية من الأهمية فتحت المجال واسعا أمام امكانية إعادة صياغة التقاليد والأذواق، أي أطلق العنان لـ "الثورة التعبيرية" the expressive revolu كما ظهرت إلى الوجود حركات اجتماعية جديدة ووجدت التشكيكية مؤونتها في حرب الفيتنام وفضيحة ووترجيت، وبموازاة هذه التطورات ازدهرت الحركات الديمقراطية في أوروبا الشرقية وأعطت ثمارها في سقوط الشيوعية. وهكذا أصبحت فترة 1789- 1989 رمزا لقرنين من الزمن يمثلان عمر الحداثة التي تجسدت سياسيا في البحث عن عالم عقلاني – من الثورة الفرنسية الى سقوط اشتراكية الدولة البيروقراطية.
ومع تبدد أحلام التغريب الحمقاء وتعالي الأصوات المعارضة (كالإسلام السني مثلا) ازدادت حدة مساءلة فكرة عالمية المعرفة أو الثقافة أكثر من أي وقت مضى، (7) وبدأ يتجلى أن التقدم بواسطة التطور الصناعي والنمو الاقتصادي له جوانبه السلبية الهامة. فبقدر ما أتت العقلانية بالأحلام اللذيذة كانت أيضا مصدرا للكثير من الكوابيس، أما لاعقلانيات المخدرات والديانات الجديدة فهي تعد بأشياء أحسن. كما لوحظ أخول كبير في الشرعية السياسية وفتور في حافز المواطن للعسل، وراح المفكرون والمثقفون يتنازعون حول ما اذا كانت هذه الأزمة كارثة أم فرصة جديدة، وراحوا يبحثون عن مصطلحات جديدة للتعبير عن الوضعية الناشئة، ومن بين هذه المصطلحات مصطلح "ما بعد الحداثة"، هذه الأخيرة التي يجب مقارنتها بمصطلحات أخرى. قد يفضلها البعض. تتشكل من بادئات أخرى تسبق كلمة "حداثة" أو مفاهيم أخرى. كمفهوم العولمة مثلا. لا تحمل اشارة واضحة الى فكرة "الحديث".
ان المخطط الذي يربط العناية الإلهية بفكرة التقدم ومن ثمة بالعدمية يبدو بسيطا ولكنه على غاية من الأهمية، وبالطبع يمكن أن يقال إن جذور العدمية ضاربة في الزمن وأن الإيمان بالعناية الإلهية والتقدم مازال موجودا اليوم ويتمتع بصحة فكرية جيدة. كما يمكن أن نلاحظ أن هناك تصورين لكل من هذه المفاهيم الثلاثة، تصور سطحي وتصور جاد معمق ؟ ففي التصور الأول يبدو أن العنائية Providentialism لا شيء أكثر من القضاء والقدر وأن التقدمية Progressivism دائما متفائلة بشكل أعمى وأن العدمية Nihilism لامبالية ولا مسؤولة تماما. ولكن إذا تمعنا في الأمر من حيث محاولة إدراك التغيرات الكبرى في الوعي الاجتماعي التي تلهم القوى التكتونية الاجتماعية وتجسدها، فان هذا المخطط يسلط الضوء على المزاجات والأحوال الناشئة. واذا اتسمت الحال ما بعد الحديثة بشيء من العدمية فذلك معناه أن الواقع والحقيقة تغشاهما الضبابية وأن اثبات الحقيقة لم يعد بالسهولة التي كان يبدو عليها من قبل، وهذا لا يعني بالضرورة أن الإنسان قد فقد القدرة على الإيمان تماما أو أنه يقف مشلولا أمام افتقار الوجود الى معنى واضح ثابت.
إن مصطلح "ما بعد الحديث" يستعمل في هذا النص بمعنى استنفاد. وليس بالضرورة موت. الحداثة واستهلاكها، ومن حيث كونه أداة تحليلية خامة من الأحسن أن نفرق بين "ما بعد الحداثية" Postmodernism حيث التأكيد على البعد الثقافي، و "ما بعد الحداثة"Postmodernity حيث نركز على البعد الاجتماعي.(8) أقول أداة "خامة" لأسباب سنتعرض لها بشكل أعمق فيما بعد تكمن أساسا في عدم امكانية استخلاص الثقافي من الاجتماعي مهما كان ذلك مرغوبا فيه، وهناك احساس قوي بأن الاجتماعي أصبح ثقافيا أكثر فأكثر. ويتعلق مصطلح "ما بعد الحداثية" هنا بالظواهر الثقافية والفكرية وبإنتاج المنتجات الرمزية وتوزيعها واستهلاكها، ويتمثل أحد الأمثلة من الجانب الفكري في التخلي في فلسفة العلوم عن مبدأ "التأسيسية" foundationalism، أي النظرة القائلة ان العلم مبني على أمس متينة من الحقائق الثابتة، وأدى هذا الى ما عرف بـ "حروب العلوم" في التسعينات. بالإضافة الى هذا تسائل ما بعد الحداثية كل المعتقدات والالتزامات الأساسية في التنوير الأوروبي، وكما يقول جاري وولي Gary "تستهدف ما بعد الحداثية الإطاحة بثالوث التنوير. العقل، الطبيعة، التقدم. الذي يبدو وأنه أطاح بالثالوث السابق."(9) ولكن يمكن ملاحظة ما بعد الحداثية في الحياة اليومية في تعتم الحدود بين الثقافة "الراقية" والثقافة "الدنيا"، وانهيار الترتيبات السلمية في المعرفة والذوق والتصور، والاهتمام بالمحلي عوض الكوني أو الشمولي. فالعلم إذ يتخلى عن صلابته ومتانة أسسه تتزعزع سلطتة وتضعف مكانته ويصبح الشعار "تعلم من لاس فيجاس" (او من السكان الأصليين أو من الطبيعة)، ووراء كل هذا يكمن ضياع "الكلممركزية" ttrism logocer في زخم الخطابات وتعددها، في الكتب وشاشات التليفزيون، في الكلمة والصورة، في النص والتعبير. أما ما بعد الحداثة فهي، بالإضافة إلى التركيز على استنفاد الحداثة، تتعلق بالتغيرات الاجتماعية المفترضة، وهنا تتضخم بعض مميزات ما بعد الحداثة في حين يتقلص البعض الآخر ويفقد أهميته لتتولد تشكيلات اجتماعية جديدة. وبينما تبدو الظروف الناتجة الجديدة عادية في نظر المطلعين على الحداثة إلا أنها تستدعي إعادة النظر، فالبعض يرى أن حافز الحداثة التنظيمي السابق تزعزع بفعل التشتت والاختلاف الجامحين اللذين يميزان الحاضر،(10) فإما أن نوعا جديدا من المجتمع مازالت ملامحه غير واضحة قد ظهر إلى الوجود (موقف زيجمونت باومن Zygmunt Bauman) أو أن مرحلة جديدة من الرأسمالية قد حلت (موقف ديفيد هارفي David Harvey) وفي كلتا الحالتين هناك إعادة نظر في أنماط التحليل الاجتماعي والممارسة السياسية السابقة إذ أن موازين القوى تتغير والتكتلات تتفكك وتتشكل من جديد، وفي كلتا الحالتين أيضا هناك مسألتان جوهريتان: هيمنة المعلومات الجديدة وتطور تكنولوجيات التواصل التي تسهل توسع العلاقات الاجتماعية أكثر فأكثر مثل العولمة والاستهلاكية مما قد يؤدي إلى زعزعة أهمية الإنتاج التقليدية.
وفي نهاية المطاف لا يمكن فهم ما بعد الحداثية بدون ما بعد الحداثة، مثلما لا يمكن فهم الثقافي بدون الاجتماعي أو العكس. لقد أعادت النقاشات ما بعد الحديثة فتح مسألة تداخل الاجتماعي والثقافي وتخللهما لبعضهما البعض، وكما يرى أحسن المعلقين، لكي نفهم التغير الاجتماعي يجب أن نفهم التغير الثقافي.(11) وفي نفس الوقت يقف هذا الكتاب عند عتبة المساواة بين الثقافي والاجتماعي أو اختزال أحدهما إلى الآخر، إذ أن علاقات السلطة وتداخلاتها التي تسم المجال الاجتماعي لا يمكن أن تدرك فقط من خلال مفاهيم أو تصورات مثل "المجتمع" أو "الاجتماعي"، كما أن معناها لا يتضح أكثر بالاعتماد على مفهوم الثقافة. إن المجال الاجتماعي بالمعنى المستعمل هنا يتعلق بالاقتصاد والدولة -الأمة والعرقية والمنطقة والجنس البسيكوثقافي والطبقة.
آباء ما بعد الحداثة
لكي يتسنى لنا فهم التيارات الأساسية في الفكر ما بعد الحديث يجدر بنا أن نرجع قليلا الى الوراء لنستجوب أولئك المفكرين الذين استبقوا ما بعد الحداثة، ومن دون شك أن أهم مفكر في هذا الصدد هو فريد يريك نيتشه (1844-1900) Friedrich Nietzsche ، فهو بحق مفكر ما بعد حديث سابق لأوانه. وقد صرح في 1888 أن "العدمية أضحت تدق على الأبواب"، وبالفعل فإن "أغرب الضيوف هذا" كان مثارا للشكوك والمخاوف في أوروبا، أما بالنسبة لنيتشه فالحقيقة "هي فقط تبلور أو تصلب الصور المجازية القديمة"، ويجب فهم هذا التعبير في سياق أوروبا التنويرية كما يجب إعادة تذويب الصور المجازية لنبين أنها معتقدات بشرية أو وجهة نظر هذه الفئة الاجتماعية أو تلك. لقد كرس نيتشه حياته للكشف عن خواء الآمال التنويرية، إلا أن أعماله بدأت تفهم فقط، وبشيه من الثأر لتجاهلها، بعد مضي قرن كامل من الزمن (12)
يدور أحد أهم موضوعات النقاش ما بعد الحديث حول الواقع reality (أو الحقيقة) أو عدمه أو تعدده، وتمثل العدمية المفهوم النيتشوي الأكثر مطابقة للتعبير عن سيولة ولامحدودية الحقيقة أو الواقع.(13) وعندما تنصب نظرة العقل الحديث، المشككة المواضبة، على العقل نفسه تتولد <لعدمية، وهي تهاجم العقلانية أينما كانت، في الفن أو في الفلسفة أو في العلوم، حيث ان الأنظمة التي تسمي نفسها أنظمة عقلية (أو فكرية) هي في الحقيقة أنظمة إقناع، وهكذا يتم اسقاط القناع عن إدعاءاتها باكتشاف الحقيقة لتبدو كما يقول نيتشة فقط كتجليات لـ "إرداة السلطة"، أي أن أولئك الذين يدعون يضعون أنفسهم في منزلة أعلى من أولئك الذين يدعى عليهم وبذلك يهيمنون عليهم.
لقد اكتسب نيتشه شهرة كبيرة عندما صرح بـ "موت الإله"، ولو أن الكثير يرون أن هذه الصيغة ليست الا تعبيرا مجازيا عن فقدان الأمس الفلسفية ولكنها أيضا تمثل شكلا جادا من أشكال ضد الألوهية. وعلى كل حال فإن نيتشه يعني أنه لم يعد بإمكاننا التأكد من أي شيء، فالأخلاق كذبة والحقيقة خيال، ولا يبقى أمامنا الا الخيار الدايونايسي (نسبة إلى الإله الإغرقي دايونايسوس، إله المسرح والخمر) المتمثل في تقبل العدمية والعيش بدون أوهام أو إدعاءات ولكن بتحمس وفرح. وينجم عن كل هذا زوال الفرق بين الحقيقة والخطأ، هناك فقط الضلال والأوهام، ولم يبق أي مؤمن أو ضمان لأسباب الاختلاف – مثل الإله – خارج لفتنا ومفاهيمها، ويتم الكشف عن الاختلاف أيضا كجزء من إرادة السلطة، وهي نقطة تربط فكر نيتشه بفكر مارتن هايدجر Martin Heidegger الذي سنتعرض له بعد قليل.
قد تبدو الصدمات الكونية مجردة وروحية بعض الشيء إلا أن كارل ماركس (1818-1883) قد سبق نيتشه بعقدين من الزمن عندما نظر إلى نفس العملية في صورة دنيوية أكثر، فما اعتبره نيتشه مشكلة بالنسبة للعلوم والفلسفة والميتافيزيقا أوعزه ماركس إلى "آليات النظام الاقتصادي البرجوازي، العادية البسيطة".(14) وبمعنى آخر: في النظام الرأسمالي يسمح الناس للسوق بتنظيم حياتهم، وحتى حياتهم الداخلية، وبمعادلة كل شيء بقيمته التجارية – أي الأسلعة" – نجد أنفسنا نبحث عن الأجوبة المناسبة للأسئلة التي تتعلق بالنجاعة والشرف وحتى الحقيقة في ساحة السوق؛ ويمكن أيضا أن نفهم العدمية بهذا المعنى العملي اليومي.
وفي الظرف ما بعد الحديث أصبح اقتباس ماركس وانجلس Engels لكلمات بروسبيرو Prospero في مسرحية شيكسبير "العاصفة": The Tempest "كل ما هو صلب يذوب ويصبح هواء" الجملة المستشهد بها أكثر من غيرها من البيان الشيوعي(15) The Communist Manifeso وبالمناسبة فإن صلابة الحياة اليومية على شفتي بروسبيرو، بما في ذلك الحياة البشرية نفسها، هي فقط مظهر خارجي يجب أن يترك مكانه لحقيقة أو واقع أكبر. فبالنسبة لماركس ما بعد المعصرن postmodernised تذوب الحقائق التي يعتقد أنها صلبة في حمام الحوامض الكاشطة البرجوازية حيث تتحلل الدلالة والحقيقة نفسهما، وفي عدمية نيتشه يتم قلب الوضعية تماما، حيث أن غياب "الحقيقة الكبرى" يشكل في نظره بداية الحياة بدون أوهام.
إن ثاني أهم مفكر فيما قبل تاريخ ما بعد الحداثة هو مارتن هايدجر (1889-1976) الذي نال شهرة واسعة بكتابه "الكينونة والزمن"Being and Time. لقد اهتم هايدجر على الخصوص بطبيعة التفكير عند البشر وذهب من خلال قراءته لبرنتانو Brentano دوستوفيسكي Dostoevsky وكيركجارد Kierkegaard إلا أن الاضطلاع بالمشكلات التاريخية الملموسة والهامة يبين الطريق قدما أمام الفلسفة. لقد تشابك هؤلاء المفكرون مع نفس المسائل الوجودية التي تعامل معها نيتشه ولو أنهم انتهوا إلى خلاصات مختلفة. وقد تصارع دوستوفيسكي مع إمكانية الموقف التالي: "بما أنه لا حدود يقف عندها البشر إذن كل شيء مسموح به" بينما كان كير كجارد يبحث عن الوجود البشري الحقيقي في علاقته مع الإله واعتبر ذلك الوجود بحثا متواصلا عن الإيمان والالتزام. وعلى غرار هايدجر حاول هذان المفكران مجابهة تحديات العالم الحديث المتجسد في هيمنة العلوم الطبيعية والتكنولوجيا التي أنستنا الاهتمام بحياة الأفراد الحقيقيين.(16)
إن هايدجر يشاطر نيتشه اهتمامه بـ "فلسفة الاختلاف" لكنه يذهب إلى أبعد منه عندما يعلن أن الكينونة، وليس الحقيقة، هي موضوع الفلسفة، معترضا على فكرة نيتشه القائلة بأن الاختلاف هو فقط نتيجة من نتائج إرادة السلطة. في "الكينونة" سابقة لـ "الكينونات" المتعددة التي نصادفها على الأرض بما في ذلك البشر، ولذلك فا لكينونة نفسها، وليس إرادتنا البشرية، هي التي تنتج الاختلاف، ويكمن خطأ الفلاسفة، ومن ضمنهم نيتشه، في التركيز على الحقيقة في استكشاف العلاقات بين الكائنات، بينما كان أحرى بهم أن يضعوا كينونة تلك الكائنات في بؤرة الاهتمام لكونها سابقة.
ويرى هايدجر أن النزعة الانسانية تجد نفسها اليوم في أزمة بالتحديد لأنها وضعت الإنسانية بدل الإله في مركز الكون، وأصبح البشر يعتبرون أنفسهم المرجع القياسي لكل الأشياء الأخرى عوضا أن يدركوا اختلاف الكينونة، وبهذا المعنى ليس هناك تضاد بين النزعة الإنسانية والتكنولوجيا، بل على العكس تعبر التكنولوجيا عن النظرة المهيمنة المتحكمة التي تترتب عن وضم البشر في مركز المهيمنة المتحكمة التي تترتب عن وضع البشر في مركز الكون والأشياء، ويصر هايدجر على أن "جوهر التكنولوجيا ليس شيئا تكنولوجيا أو صفة تكنولوجية"، ويمثل الإقرار بكل هذا المخرج الوحيد للتخلص من قيود التكنولوجيا الحديثة.
ان الطريق الى الأمام حسب هايدجر يكمن في تقبلنا لوضعيتنا البشرية، ولن تنفع الميتافيزيقا ولا الإنسانية ولا التكنولوجيا لاساس للحياة، ويجسد هايدجر تقبل وضعيتنا هذه، والتي لا يعني التحكم فيها أو التغلب عليها، في كلمة,Verwindung وفي النقاش حول ما بعد الحداثة يدافع جياني فاتيمو Gianni Vattimo بالخصوص عن مثل هذا الموقف ويكرسه، وهو الذي يرفض المبالغة المهولة من طرف بعض المفكرين الذين يرون في نهاية الحداثة انحطاطا أخلاقيا وانهيارا ثقافيا: فهايدجر يلاحظ "غسقا" في الفكر الأوروبي ولكنه يعتبره فرصة لإعادة البناء وليس نهاية مطاف.
وليس هناك جدوى في الزعم بأن عمالقة ما يسمى بالفكر الوجودي لم يكونوا منهمكين في البحث عن أساس ما بعد مسيحي لتأويل التاريخ وشرحه. يقول فاتيمو:
"إن الحداثة. بتطوير وتحسين الموروث اليهودي- المسيحي في صيغة دنيوية ومادية (وأعني بهذا الموروث، فكرة التاريخ كتاريخ خلاص، معبر عنه بلفة الخلق والخطيئة والغفران وانتظار يوم الحساب). هي فقط التي تعطي وزنا وجوديا للتاريخ ومعنى محددا لموقعنا منه.(17)
إن المسألة التي أثارها هايدجر. وكير كجارد أيضا. هي: هل يضعنا نقد الأمس القديمة أمام بديل دنيوي مادي بحت؟ (18) سؤال بات يطرح بحدة والحاح متزايدين ونحن على أهبة المرور من القرن العشرين الى الواحد والعشرين، فالمنظرون الاجتماعيون أمثال دونا هاراواي Donna Haraway وديفيد نوبل David Noble، يعترفون تاريخيا بالمعاني والتيارات المسيحية التي تتخلل نسيج الحداثة، ولكنهم يضعونها جانبا بصفة نهائية. (19)
وتكمن نفس المسألة في عرض ثالث لـ "مأساة الثقافة" يقدمه جورج سيمل (1858-1918) Georg Simmel وهو الذي استقطب اعترافا واسعا ليس فقط بمنزلقه كواحد من الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع بل أيضا كـ "المفكر ما بعد الحديث الوحيد" في صفوفهم.(20) ويجمع سيمل بين مجالي علم الاجتماع والتحليل الثقافي، وتكمن مأساة أو أزمة الثقافة في نظره في الهوة التي مافتئت تتسع بين الثقافة الموضوعية، التي يمكن ملاحظتها في التكنولوجيا مثلا، والفرد الذي ما فتئ يتزايد احساسه بالانسلاب والإحباط في بحثه عن جوهر الفردية الحقيقية. ولم يبدأ سيمل تحليله، على غرار النير من علماء الاجتماع الحداثيين، بتقديم صورة شاملة للمجتمع، بل بدأ بشذرات (أو شظايا) الواقع الاجتماعي.
وتركز سوسيولوجيا الثقافة عند سيمل على مظهر فقدان المعنى في عالم التصنيع الحديث، ويربط هذا الفقدان بأسباب عديدة منها "تقهقر المسيحية"، فقد اعتبر الحركات المعاصرة كالاشتراكية في السياسة والانطباعية في الفن بمثابة رد فعل يعبر عن الحاجة الملحة إلى "هدف أو شيء نهائي" في الحياة، "أسمى من كل ما هو نسبي، أسمى من طبيعة الحياة البشرية المتشتتة"،(21) ولكن في تشخيصه هو للحداثة حاول سيمل أن يرسم صورة لـ "لحظة الحياة الزائلة" بكل مظاهر التقطع والنشاز التي تميزها.
فبالنسبة لسيمل يبدو أثر المعايشة الاجتماعية للحداثة خاصة في توسع المدينة الكبرى وفي انسلاب وانفصام اقتصاد نقدي متطور،(22) ويتجلى أبعد ادراك لتلك المعايشة في الحياة الداخلية للأفراد، موفرا بذلك وزنا اجتماعيا سيكولوجيا مقابلا لتحليل ماركس للمجتمع الرأسمالي. لقد استبق سيمل بعض المسائل الأساسية في ما بعد الحداثة،(23) وهو على عكس ماركس يرى أن مجال الحركة الاقتصادية والتبادل والاستهلاك مستقل نسبيا، تحكمه قوانينه التي يصنعها بنفسه لنفسه، وينشغل أكثر بالمعنى الرمزي للنقد والبضائع، فالولع المتزايد بـ "عالم الأشياء" هذا يفقد عالم البشرية قيمته. لقد تكلم سيمل أيضا عما اعتبره استقلالية المجال الثقافي، ففي الوقت الذي تعمل فيه الثقافة الموضوعية. الشكل. ضد الحياة يتبنى سيمل نظرة مأساوية يصبح فيها الزواج، مثلا، جائرا عديم الحياة أو يبتعد فيها الدين عن المعتقدات الواضحة وينحط الى التصوف والتأمل، وأخيرا يتأكد البعد الجمالي. فالفن، بالنسبة لسيمل نفسه، يمثل وسيلة لتخطي تناقضات الحداثة، وكان يعتقد أنه في زمن الفوضى والشك سيحدث تحول عام نحو الجمالي؛ وكلا هذين السببين، ملاحظة الابتعاد عن الشكل والبحث عن المعنى أو الأخلاقية في الفن يظهران من جديد في النقاش حول ما بعد الحداثة.
النجوم الجدد
بإمكاننا أن نرى الصورة ما بعد الحديثة بشكل أوضح إذا توصلنا إلى وضع بعض الأجزاء "ما قبل ما بعد الحديثة" في مكانها في اللغز puzzle وعلى غرار تاريخ الأفكار فإن صورة اللغز المجازية قد لا تعجب بعض المنظرين ما بعد الحديثين. إن فكرة أنه بإمكاننا أن نبني ونتقدم شيئا فشيئا نحو صورة كاملة. أو لا سمح الله شاملة. لما بعد الحداثة غير مقبولة تماما، ثم ان مفهوم ما بعد الحداثة أصلا متناثر جغرافيا ولذا فتاريخه "يهاجر" ويتنقل. وبينما ساهم بعض المنظرين الأوروبيين في إشعال النقاش ما بعد الحديث الا أن لهم علاقة بالأمريكيين، ولا غرر في ذلك فالولايات المتحدة تمثل خلاصة "الحداثة": التي تنحدر منها ما بعد الحداثة. إن كل ما أحاول التعبير عنه. في صورة مجازية أخرى. هو أنه باستطاعتنا أن نحدد الروافد التي تغذي السيل ما بعد الحديث، ولكن هذا ليس معناه أن نحلل، أو أقل من ذلك، أن نقهر السيل نفسه أو أن نروضه.
وبالرغم من أنني سأحدد هذه الروافد في شكل مساهمة بعض الكتاب المعينين إلا أن هناك موضوعا مشتركا. أثرته أعلاه وسأدخل في تفاصيله فيما يلي. يتعلق بالمعرفة والخطاب. إن "تعدد الحقائق" عند نيتشه يظهر من جديد وبقوة بمعنى "تعدد الخطابات" في أعمال جاك ديريدا Jacques Derrida مثلا، وهناك خطأ شائع في قراءة هذا الأخير مفاده أن ديريدا يعتقد أنه ليس هناك معنى خارج اللفة وأن الخطاب منفصل عن العالم. وتأخذ هذه القراءة البعيدة الأثر الصورة التالية: بما أنه ليس هناك منفذا يكون ضمانا نهائيا للدوال فهي تطفو في حرية لتفهم فقط في علاقتها ببعضها البعض في إطار خطابات متميزة، ويتكسر عالم الدلالة ويتشتت كقطع الجليد الطافية تحت أشعة شمس الربيع مما يجعل حتى مجرد الكلام عن المعنى بالمفهوم التقليدي أمرا مستحيلا. صحيح بالطبع أن طرق التفكير القديمة حول المعرفة تتبخر كي يعاد تشكيلها كمظاهر مبنية أو. كما تبدو واضحة في أعمال ميشال فوكو Michel Foucault أكثر من غيره. في علاقتها بالسلطة. ان مجرد إمكانية التوصل إلى المعرفة أو إعطاء شرح للعالم أصبح مشكوكا فيهما، وبينما كان بإمكاننا بالأمس ملاحظة كيف أن بنية المعرفة تعكر بنية المجتمع الذي أنتجها. فكر مثلا في دراسات ماكس فيبر Max Weber للبيروقراطية في ألمانيا العقلانية. تنفي ما بعد الحداثة وجود مثل هذه البنية في المعرفة أو في المجتمع: هكذا نودع المعرفة كما بنيناها من قبل ونرحب عوضها بالخطابات المتنقلة اللدنة.
لقد دخل مصطلح "ما بعد الحديث" الاستعمال العام خاصة بعد ظهور كتاب جان فرانسوا ليوطار Lyotard Jean-Frangois "الوضعية مابعد الحديثة" (24) Condition ,he Postmodern ولكن بعد تأسس هذا التيار التحق به كتاب آخرون. معظمهم فرنسيون. وخلال الثمانينات ورغم أن العديد من هؤلاء الكتاب تجاهلوا هذا المصطلح أو نفوه أو ابتعدوا عنه إلا أنه بقي عالقا بأسمائهم، ومن بينهم جان بودريار Jean Baudrillard وجاك ديريدا وميشال فوكو وليوطار نفسه طبعا. ولتبسيط الأمور بعض الشيء سأتعرض بالخصوص لهؤلاء رغم أنه لا يمكن تجاهل كتاب آخرين مثل جيل دولوز Gilles Deleuze وجياني فاتيمو وريتشاردRichard Rorty ويقتضي التبسيط كذلك أن أركز على فكرة أو فكرتين أساسيتين عند كل كاتب حتى يتسنى للقارئ فك الخيوط عندما يرد ذكرهم آنفا.
يقول ليوطار: "تبسيطا الى أقصى الحدود، أعرف "ما بعد الحديث" بأنه موقف عدم التصديق تجاه الميتاروايات".(25) ويبحث كتاب ليوطار. متسترا ببراءة وراء قناع تقرير عن وضع المعرفة في المجتمعات المتقدمة لفائدة مجلس جامعات مقاطعة كيبيك في كندا. في صميم مصير الفكر التنويري في عصر عولمة التكنولوجيا العالية. وتتمثل "الميتارواية" الرئيسية هنا في الخط التنويري القائل بأن العلم يفرض مصداقيته وشرعيته كحامل للتحرر، فالمعرفة "الحديثة" تبرر وجودها من خلال علاقتها بالروايات الكبرى كخلق الثروة أو ثورة العمال: سنتحرر أكثر كلما فهمنا عالمنا أحسن. أما ليوطار فينفي هذه النظرة تماما عندما يقول إنه لم يعد بإمكاننا أن نركن إلى مثل هذه الخطابات. لم لا؟
إن العلم، الذي كان يمثل حجر الأساس في المعرفة الحقة، اختصاصات تتفرع بدورها إلى اختصاصات جزئية لا حصر لها، من الصعب أن نحافظ على اعتقادنا بأنها كلها تنتمي إلى نفس المشروع أو نفس المؤسسة. فكل شكل من أشكال الخطاب يضطر إلى توليد أقصى سلطة خاصة ممكنة، وسيكون العلماء أكثر تواضعا مما كانوا عليه سابقا ولن يكون بمقدورهم إصدار أحكام نهائية بل فقط تقديم وجهات نظر أو آراء، أو كما يقول ثسيبونت باومن: لم يعد بإمكان المفكرين أن يشرعوا، بل فقط أن يؤولوا(26) هناك "شبكات مرنة من الألعاب اللغوية" فقط (27) وهكذا يتفكك مفهوم "المعرفة" التقليدي. إن ليوطار لا يتعمق في الجوانب الاجتماعية لنظريته ولو أنه يشير إلى بعض العوامل السياسية والاقتصادية التي تؤثر على وضع المعرفة.
إن ميدان دراسات العلم والتكنولوجيا الذي يتسم بالنمو السريع يتعمق في تبصرات ليوطار وأمثاله محاولا فهم نمو المعرفة من حيث كونها عملية اجتماعية وثقافية، ويغطي هذا الميدان كل شيء، من الدراسات العامة الشاملة (مثلا: تأثير الجيش على توجيه وتطوير المشاريع التقنية العلمية) إلى مستوى التحليل الجزئي (مثلا: الخفايا الدقيقة في عملية الوصول الى القرارات العلمية بشأن خطة العمل في محابر البحث)، وكل هذا يبدي مدى المؤثرات الاجتماعية مما يزعزع الاعتقاد القائل بأن بعض العلوم "صعبة" بالقدر الذي يزعم أصحابها، غير أن نجاح بعض هذه الدراسات قد تعكره المبالغة موحية بأنه ليس هناك عالم خارجي أو أن عملية القيام بالعلم بأكملها تبقى في نهاية المطاف عملية ذاتية بحتة.
وبالرغم من أن بذور فقدان العلم لشرعيته كانت قد زرعت في القرن التاسع عشر (مثلا، عندما قلب نيتشه شرط الحقيقة في العلم على العلم نفسه) إلا أن النتائج تسارعت في نظر ليوطار بوصول تكنولوجيا المعلوماتية في أواخر القرن العشرين، إذ ساعدت هذه الأخيرة على تغيير بؤرة الاهتمام من قضايا القيمة الجوهرية للمعرفة أو أهدافها إلى "الأدائية"، أي إلى نجاعة الأنظمة وإنتاجيتها، فقد أصبحت لفائف المعلومات التي تخرج من الكمبيوتر موضع ثقة كبيرة من حيث كونها مؤشرات لمعلومات موثوق منها وغدت دليلا يملي أساليب البحث والدراسة.
وبالفعل يلاحظ ليوطار أن السبب الأساسي أو الهدف من وراء العلم قليلا ما يهتم بأبعد من المباشر أو الفوري، وقد يتساءل أولئك الذين لم ينتبهوا بعد لتفكك "الميتاروايات" نفسها: زمن يحتاج إلى الميتاروايات عندما تكفي علوم التسيير؟"
ويقترن كل هذا بظاهرة أخرى برزت بعد الحرب العالمية الثانية وهي عودة الرأسمالية الليبيرالية بقوة، أي "عودة مجددة أقصت البديل الشيوعي وأضفت قيمة عالية على تمتع الفرد بالسلع والخدمات."(28) وهكذا يبين ليوطار في جملة واحدة كيف أن انهيار الشيوعية كإيديولوجيا (وبعد 1989، كنظام سياسي) يمهد الطريق أكثر أمام التشتت النووي للمجتمع" في شكل عناقيد استهلاكية بحسب الأذواق والموضات، وهو موضوع سنعود اليه بعد قليل. ولكن يجدر بنا أولا أن نقول بأن اهتمام ليوطار بانهيار الشيوعية ليس مجرد اهتمام عابر، وهو الذي يعتبر مستقبل الشيوعية مظهرا أساسيا في ما بعد الحداثة، إذ أن الشيوعية على الرغم من كل شيء تمثل إحدى أكبر الميتاروايات في تاريخ البشرية. كما يرى ليوطار أيضا أن التحليل الماركسي مازال يحتفظ ببعض أهميته. فالمعلومات المولدة من الكمبيوتر في حد ذاتها أصبحت سلعة – ولكن الماركسية فقدت إلى الأبد ادعاءها بالكونية أو الشمولية.
وإذا كان التشتت النووي للمجتمع يعني في نظر ليو طار أننا كلنا مسجونون داخل ألعابنا اللغوية فإن المسألة بالنسبة لجاك ديريدا مسألة "نصوص". وعلى غرار ليوطار يثير ديريدا مسائل جوهرية تتعلق بما يسميه بـ "التقاليد الفلسفية الغربية"، ويرى أن الحياة الثقافية تتضمن تقاطع النصوص التي ننتجها بنصوص أخرى تؤثر على نصوصنا بطرق لا نستطيع أبدا أن نفهمها كلية، وتكمن مهمة "التفكيكية". وهي استراتيجية استنبطها ديريدا من قراءته لهايدجر. في إثارة أسئلة ملحة حول نصوصنا ونصوص الآخرين ونثبت أن النص الثابت أو المستقر لا وجود له. فالنظرة الكلممركزية logocentric التي تتسم بها الحداثة تتزعزع جذريا بالتأكيد على عدم استقرار اللغة ولامحدوديتها، وبالرغم من أن بعض المفكرين، كريتشارد رورتي مثلا، يعتقدون أن ديريدا يعني أن عصر التنوير الحديث قد انتهى، يصر البعض الآخر على أنه، أي ديريدا، مازال يعمل داخل معايير وقيم ذلك التنوير نفسه.(79)
إن مفهوم التفكيكية عند دريدا. بفض النظر عن اعتقاده أو عدم اعتقاده هو بأن تحليله يمثل عرضا ما بعد حديث. أصبح الآن مصطلحا معترفا به في قاموس التحليل النقدي ما بعد الحديث. وكما يبين عرض ليو طار كيف فقد العلماء مكانتهم يبين عرض دريدا كيف اضمحلت السلطة والسيادة نفسهما، وبالمعنى الحرفي، لا يستطيع "كتاب" النصوص. أو أي عمل فني ثقافي – فرض معنى على نصوصهم لأنها بكل بساطة ليست من انتاجهم وحدهم، وعندما يخرج النص إلى الملأ يتضخم بواسطة تأويلات الآخرين ممتدا أبدا خارج كل الجهود التي قد تحاول ترسيخ النص في الحقيقة أو اعطاءه معنى ثابتا مستقرا، ومن الأهمية بمكان أنه بينما يعتقد البعض أن هذا يعني أن كل المعرفة عرضية أو محتملة أو أن الاتفاق حول المعنى مستحيل يحاول دريدا نفسه جاهدا أن يجعل نصوصه مرآة لمواقفه ويطلب من محاوريه عدم إساءة فهمه.
إن النمط التفكيكي قد ينطبق في ميادين أخرى كطريقة للتعامل مع التشكيك في التقاليد الفكرية والأدبية أو مع حرية المتعة. وتصبح المشاركة الشعبية في الإنتاج الثقافي خيارا في هذه النظرة حيث يساهم المستهلكون في تحوير النصوص ومزجها، ويصبح الكولاج collage ، أي وضع الأشياء جنبا إلى جنب، الأسلوب ما بعد الحديث، وتسبر آراء متفرجي المسلسلات التليفزيونية عن خلاصات حلقتهم المفضلة، وفي ضواحي المدينة تتجاور القصور والفيلات الريفية والشقق، وعلى أمواج الإذاعة يلتقي سكوط جولن وجورج تيليمان Telemanr Georg ومهاليا جاكسون Mahalia Jackson وستين Sting سترفينيكي Igor Stravinsky وجوني ميتشل Joni Mitchell ، ولكيلا نفكر أن كل هذا يعبر عن ديموقراطية الثقافة (أي تحولها إلى ديزني لاند)، يحذر بعض النقاد أن إحدى النتائج المحتملة قد تكون التلاعب بالسوق الجماهيرية.( 30)
إن تعريف نيتشه لـ"الحقيقة" فقط كـ" تبلور الصور المجازية القديمة أو تصلبها أو ترسخها" قريب جدا من عالم النصوصية المحتمل عند دريدا، إذ لم تبق هناك حدود بين المعرفة والعالم، أو بين النص والتأويل، والعقل باستمرار يجدد ويعيد تحديد النصوص التي يحاول أن يحتويها، وهذا يعني أنه لم يعد باستطاعة العلم أن يعتمد على التماسك المنطقي في الحقيقة أو قابليتها للاكتشاف، وينطبق هذا على علم الاجتماع الذي تأثر لفترة طويلة بالنزاع القائم بين الاقترابات اليقينية والاقترابات الشر حية. التأويلية. إن الخلاصات التي يصل اليها باومن بشأن علم الاجتماع هي أن هذا الأخير يجب أن يعترف بوضعه الخاص والا يحاول تصحيح وجهات نظر الأشخاص العاديين بل أن يحاول فقط اكتشاف المتبصرات التي تتيحها مثل تلك الدراسة.(31) ولكن بينما قد نرحب بالمزيد من التواضع إلا أن علم الاجتماع قد يموت تماما إذا ما سمحنا للحس النقدي بالتآكل والاضمحلال.
لقد انتهى النقد النسائي إلى استنتاجات أخرى انطلاقا من أعمال دريدا، وبالخصوص لموس
ايريجاري التي تعطي أولوية جوهرية لمسألة "اللغة والمرأة "، إذ احتدم النقاش بعد أعمال إيريجاري حول إمكانية وجود لغة فريدة خاصة بالنساء، وبينما يدافع دريدا عن فكرة "التأجيل أو الاختلاف " ضد طغيان التشابه والاتفاق مستهدفا تفكيك التقابل أو التضاد "رجل /إمرأة " تعود إيرياري إلى هذا التقابل مدعية أن الذاتية الأنثوية مصدر للقوة والسلطة.(32) إن النقاش النسائي مع ما بعد الحداثة. ممثلا في شخصيات أخرى مثل جوليا كريستيفا Kristeva Julia وهيلين سيكسوHelene Cixous في فرنسا وجوديث بتلر Judith Butler في أمريكا الشمالية. على قدر بالغ من الأهمية. إن أعمال ميشال فوكو تتعرض في نفس الاتجاه عموما الى موضوعات مشابهة لتلك التي يهتم بها دريدا، ولكن بينما يركز هذا الأخير على الجانب الأدبي والفلسفي يهتم فوكو أكثر بالعلوم الإنسانية. لقد لمحت منذ قليل إلى أن معظم المنظرين ما بعد الحديثين يرفضون مفهوم "تاريخ الأفكار" أصلا، إذ أن الاعتقاد بوجود تطور خطي للمفاهيم واستكشاف العلاقة بينها من حيث أصوله مشروع حداثي بحت. ويرى فوكو، معتمدا على نيتشه، أنه أحري بنا أن نستعمل علم الأنساب , genealogy فالمعرفة مازالت محل الاهتمام والتحقيق ولكنها مرتبطة بالسلطة وبالأجساد أيضا، ففي علم الأنساب نرسم خط النسب أو النسل ولكن دون أن نفترض علاقات سببية أو نبحث عن المنشأ الأصلي، وبينما يرى نيتشه أنه يمكن استعمال الجسد لشرح السلوك يعتقد فوكو، على الأقل في أعماله الأولى، أن الأجساد مفعول بها، أي أنها ليست فاعلة بل خاملة متلقية.(33)
وفي مخطط فوكو يمكن استشفاف إبستيمين epistemes إثنين في الفكر الغربي، فالفكر النيوكلاسيكي في القرنين السابع والثامن عشر لم يخصص مكانا للبشر، أما "الإبستيم" الحديث الذي يسم القرن التاسع عشر وما بعد فقد شكل أور كب "الإنسان" فاعلا وموضوعا، وبينما تبتعد اللغة تدريجيا عن التمثيل وينسحب "الطبيعي" تاركا مكانه "العادي" كذلك تخرج إلى الوجود الإمكانيات الخاصة للعلوم الإنسانية.(34) ولكن إذا أمكن تحديد هذه البداية فكذلك يمكن لنفس السبب تحديد النهاية، ويكشف فوكوعما يعتقد أنها حدود علم الاجتماع وعلم النفس ويبين أنه يمكن أيضا "فك" أو"تحليل" الإنسان بواسطة اختصاصات أخرى مثل التحليل النفسي. لقد أعطت أعمال فوكو مصداقية قوية ليس فقط لفكرة أن الإبستيم الحديث بدأ ينهار بل أيضا لفكرة أن موضوعه. الإنسان. مات وانتهى.
إن أعمال فوكو الأخيرة تؤكد هذا الاستنتاج الصارم من زوايا مختلفة، فبينما يمكن اعتبارا لعلوم الإنسانية. ومقابلها التطبيقي كالعمل الاجتماعي مثلا. "خطابات سلطة ط تعيننا وتحددنا وتجدولنا وتصنفنا وتحللنا داخل مخططات غريبة فإن ذلك يبدو واضحا في أنظمة القمع الجنسي وفي الحياة داخل السجون التي حظيت أيضا باهتمام فوكو، وتتركنا درا سته لمفهوم "البانوبتيكون " ("الذي يرى كل شيء) في التصميم المعماري للسجون بانطباع قوي فحواه أن السلطة تتلاعب بنا وتسيرنا كلنا كالمساجين تماما، والأدهى من ذلك أننا نتواطأ مع سجننا في المجتمع، ويبدو أن الإنسان بمعنى الكائن الواعي النشيط أو حتي الثائر ليس له مكان في هذا العرض.(35) وبالنسبة لفوكو في "أضبط وعاقب " Punish Discipline and يبدو وكأن الحرية وهم من أوهام الفلسفة الحداثية، ولكن من جهة أخرى بتأكيده على لاخريات الحداثة يزج بنا فوكو في مفارقة مفادها أن لمشكلة ما
بعد الحديثة قد تكمن في التخمة من الحرية، أو على الأقل في تعدد الخيارات.(36) وإذا كان فوكو لا يعطي النير من الإشارات إلى ما يمكن أن يوجد خلف الأفق فإن حظنا مع مواطنه جان بودريار أقل حتى من ذلك، فهو بالفعل ينصحنا "أن ننسى فوكو"،(37) ويغير عوض ذلك موضوع الاهتمام من جديد، هذه المرة الى وسائل التواصل الحديث، فبينما اعتمدت العصور الماضية اما على تبادلات رمزية مباشرة وجها لوجه، أو كما في العصر الحديث على الكلمة المطبوعة، نجد أن الصورة ووسائل الاعلام الإلكترونية تهيمن على العالم المعاصر، حيث يتم التواصل الفوري عبر مسافات شاسعة لم تتصورها المجتمعات التقليدية، ويأخذ هذا التواصل شكل تركيب أو "مونتاج " montage أي وضع الصور جنبا الى جنب لضمان التأثير الأمثل. وهذا ما يميزه عن الكلمة المطبوعة، ومن خلال هذه العملية تتم مراجعة ادراكنا للحقيقة بشكل جذري.
(38)
وعلى غرار العديد من المفكرين ما بعد الحديثين تنبع أعمال بودريار جزئيا من نقاش مع شبح كاول ماركس، فقد كان قريبا جدا من مركز عاصفة الثورة الطلابية سنة 1968، وكان آنذاك يهتم بالفوضوية والماركسية البنيوية وسائل الإعلام، ولكن نظرته في كتابه "المجتمع الاستهلاكي" Consummer Society تنشق عن الماركسية المستقيمة التي ترى أن الاستهلاك يمثل الميزة الأساسية للهيمنة الطبقية، اذ يتم تجنيد أفراد المجتمع في رأسمالية الاحتكار كمستهلكين وتصبح "حاجاتهم على نفس القدر من الأهمية كقدرتهم على العمل ".(39) فبودريار يرى أن تبادل السلع أمر هام ولكن التبادل "الرمزي" في نظام الاستهلاك يمثل الأساس – لإعادة نظر نقدية جذرية في الرأسمالية.(40)
كيف يمكن اذن بناء مثل هذا النقد؟ بالطبع ليس على أمس ماركسية أو على الفكرة العقلانية القائلة بأن المفاهيم تدرك أو تفهم موضوعاتها بطريقة ما، فهذه كما يقول ليوطار ميتا روايات تعداها الزمن. أما الآن فبودريار يقول ان وضعيتنا وضعية "واقع مضخم "، وبزوال النروق بين الأشياء وتمثيلاتها تبقى هناك فقط "أشكال ظاهرة". أو "تظاهر". لا تدل على شيء عدا نفسها، كالإشهار التليفزيوني، مثلا. وتذهب هذه المرجعية الذاتية الى أبعد من تخوف ماكس فيبر من عالم بدون سحر ولا تقاليد تفقد الدوال فيه علاقتها بمداليلها بحيث إن مواضيع بعض الإشهارات، سيارة كانت أو ساعة أو زجاجة جعة، لا تظهر على الصورة أصلا. وتشهد أواخر القرن العشرين تلاشيا لأسس الدلالة لم يشهد له مثيل أصبح فيه البحث عن الحد الفاصل بين الواقعي واللاواقعي، بين الحقيقي واللاحقيقي، أو بين الأخلاقي واللاأخلاقي، أمرا تافها لا طائل من وراءه.
بالرغم من كتابات بودريار المستفزة. التي يعتبرها البعض لامعقولة. من الصعب جدا أن نتجاهل أنه بصدد شيء هام. فعالم التلفزة، وعالم الواقع التقديري virtual reality بالخصوص، أصبح يحاكي أو يتظاهر بشكل 0 مقنع أكثر فأخر جعل الفرق بين "الحقيقي" و"التقديري يتلاشى، أي أن معايشة بيئة الواقع التقديري لا تختلف عن الواقع في شيء بالنسبة لأولئك المربوطين إلى الشاشات والأجهزة بالسماعات والحساسات، بمثل ما يكون الحلم حقيقيا بالنسبة لصاحبه، أو المرض السيكوسوماتي حقيقيا بالنسبة للمصاب به. وهكذا فالتظاهر كما يصر بودريار ليس تزييفا أو كذبا وله آثار حقيقية بالتأكيد، ولكنه يشكل تهكما بالمحددات التقليدية للمعني، وكما يقر ألان توران" فإن بودريار على الأقل صريح فيما يخص فقدان المرجعية الاجتماعية.(41) وبالرغم من ذلك فقد فستسمح أنفسنا في التساؤل عما إذا كانت هذه النظرة تمحو الآثار الأخيرة "الاجتماعي" نهائيا. فبودريار يعتقد أن "الاجتماعي" اختفى في التصدعات الموجودة بين "الأداتية " (الشركات والحكومات العاملة في الأسواق) والثقافة (المعنى شيء ذاتي شخصي لا يمكن اقتسامه)، وفي ميدان الثقافة أصبح البحث عن المعنى يدور أكثر فأكثر حول الهوية.(42) ولكن هل بودريار على حق ؟ وهل يمكن اعتبار ما يقوله تحليلا نقديا؟
يبدو أن مصطلح "التحليل النقدي" نفسه يفقد أهميته طالما أن ليس هناك موقع يمكن انطلاقا منه أن نقدر أو نقيم أو نحكم، ولكن العديد من المنظرين الاجتماعيين يرون في أفكار بودريار – ولو بتخفيف المسحة التنبؤية عدة درجات. إمكانيات إيجابية لمثل هذا التحليل النقدي،(43) ويرى آخرون أنه يبالغ في طرحه. أنه يمكن فهم كل شيء من خلال التظاهر التليفزيوني، أو أن الكآبة حالة ملازمة لمجتمعاتنا الرقمية الخالية من المعنى. إلى حد يجعل التحليل النقدي مستحيلا ما لم يغير موقفه بشكل محسوس،(44) ولكن غيرهم، مثل آرثر كروكر , Arthur Kroker يرى أن"هلعه" هو "أحسن معبر عن الحالة النفسية للثقافة ما بعد الحديثة " بتأرجحه في نهاية الألفية بين قمة الغبطة والسرور وأعماق اليأس.(45) ربما أن كل هذا يعني أن بحث بودريار نفسه عن الحقيقة مازال متواصلا، فعالم التظاهر البحت والاصطناعية التنبؤية يبدو في أوضح تجلياته في درا سته القاسية ("أمريكا" ,America حيث يلخص الحضارة الأمريكية، في واقع مضخم، في طريق سريعة وسط الصحراء، ويوضح أن بعض الأشياء بكل بساطة لا يمكن تصديرها ولذلك فحنين العديد من المثقفين الأمريكيين إلى الأفكار والثقافة الأوروبية لا معنى له، ولكن للأوروبيين أنفسهم قسطهم من الحنين وهو يتعلق بالثورات الفاشلة. ويرى براين تارنر Brian Turner أنه ربما هناك "نموذج ديني كامن" يتوانى هنا يجعل بودريار ليس فقط ما بعد حديث بل أيضا ضد-حديث، وربما "يمكن قراءة أعماله نفسها كبحث عن الحقيقة التي تختفي عن ناظره كالسراب في الصحراء".(46)
الاجتماعي والثقافي
قد تبدو بعض جوانب جولتي السريعة في مسار ما بعد الحداثة غريبة بالنسبة لبعض العاملين في العلوم الاجتماعية، ولكن ما أردت أن أوضحه هو أن هناك تداخلا معقدا بين الاجتماعي والثقافي، ولا يمكن للنقاش حول مستقبل الاتجاهات الاجتماعية. والكونية. أن يتجاهل أبعادها الثقافية. وقد لا يكون المجال الاجتماعي بصدد الاضمحلال ولكنه يشهد تغيرات جذرية باتجاه ما يسميه ما نويل كاستلس Manuel Castelis مجتمع الشبكات"Society ,netwi وبموازاة هذا هناك بروز الهوية كمصدر للمعني، أو كمرجل للثقافة، ولكن هناك أيضا شيئا من قصر النظر في تصور أنه بإمكاننا فهم الفن المعاصر أو الهندسة المعمارية أو السينما بدون ادراك بعض التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تحدث ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين.
إن الطريقة التي تحولت بها العناية الإلهية إلى فكرة التقدم ومن ثمة إلى العدمية لم تحدث من فراغ فكري، بل إن تاريخ نمو الرأسمالية وتطور العلوم والتكنولوجيا، مع الأزمات اللاحقة التي حلت بالرأسمالية والتصنيع، تساعدنا على فهم كيف تم بناء هذه الأفكار أو تجاهلها أو ابرازها، وبالمثل كان لهذه الأفكار الأثر البالغ في إلهام أفعال يافعة بالأمل أو في تلقين الاستسلام والرضا، وهذا هو السبب بالضبط في انتقاد بعض المعلقين لأفكار ما بعد الحداثة، فالتصادم يحدث على مستوى عميق جدا. يتساءل مارشل بورمن عما يمكن أن يدفع الناس إلى اختيار الاختناق مع فوكو في سجنه، ويقترح أن هذا الأخير يعطي مبررا لأحلام اليقظة في أوساط المسنين المتطرفين اللاجئين من الحركات العمالية -الطلابية في الستينات. أدما الفائدة من مقاومة اللاعدالة عندما لا تزيدنا أحلامنا بالحرية الاحلقات في سلاسل قيودنا؟ لكن عندما نفهم عدم جدوى كل شيء يمكننا على الأقل أن نسترخي ونستريح ".(47) ويذكرنا أخذ بورمن على فوكو بالنظرة القائلة بأنه إذا لم تعط الأولوية للصراع الطبقي يجب الاستسلام للظلم واللاعدالة. فبالنسبة لفوكو، وعلى غرار العديد من النقاد ما بعد الحديثين، تغطي مشكلة الحداثة رقعة الرأسمالية ولكنها أعمق منها إلى حد يجعلنا في رأيي نبحث في نهاية المطاف عن الحلول ليس أين بحث عنها ماركس، داخل الحداثة.
نلاحظ أن الخيوط الرئيسية للفكر ما بعد الحديث تربط بين الاجتماعي والثقافي، كما أن فكرة أنه يجب إعادة التفكير في الحداثة ومراجعتها أو رفضها ليست بمعزل عن الأوضاع الاجتماعية الحقيقية التي انجرت عن – الكمبيوتر وتكنولوجيات الشاشة أو الانتصارات المحققة من طرف الرأسمالية الاستهلاكية. ان الثقافة الشمولية التي ساعدها انتشار التكنولوجيات الإلكترونية مثلا تحاول أن تقلل من وطأة الأفكار الغربية التي هيمنت في السابق بينما تسمح لنا نفس التكنولوجيات بمزج الأذواق الموسيقية والتوفيق بينها والقفز من قناة تلفزيونية إلى أخرى عن طريق جهاز التحكم عن بعد. إن التخلي عن التأسيسية في العلوم وتلاشي الترتيبات السلمية في المعرفة والمعتقدات تبدو أقل مفاجأة أو سرية إذا نظرنا اليها من هذه الزاوية.
غير أن أسئلة كبرى تبقى مطروحة، فما بعد الحديث قد يشير إلى نهاية الحديث ولكن هل يدعو هذا إلى التأبين أم هو بكل بساطة يدعو إلى خلق متسع لتحليل نقدي جديد للحداثة ؟ هل ماتت الكلممركزية أم أنها فقط في سبات عميق ؟ هل نسقط في فخ المنطق الخطي الحديث إذا تصورنا أن الطريق من العناية الإلهية إلى فكرة التقدم ومن ثمة الى العدمية تسير باتجاه واحد وليس فيها عودة ؟ كيفما أجبنا على هذه الأسئلة لن نستطيع أن نعالجها بدقة إذا اعتمدنا فقط على التغيرات الاجتماعية المفترضة وحدها أو على التغيرات الثقافية وحدها. وبالرغم من أن العلوم الاجتماعية بدأت بمحاولة عزل العوامل المتضمنة في التغير الاجتماعي على منوال العلوم الطبيعية فإنها أصبحت الآن تعتمد أكثر فأكثر على التحليل الثقافي، وهذا لا يعني التخلي عن طلب البحث المنظم، بل بالأحرى تجسيد هذا البحث بإدماجه مع التحليل الثقافي. يجب أن ينظر إلى كل من ما بعد الحداثية وما بعد الحداثة من خلال بعضهما البعض.
هوامش :
1- يقترح مارتن أولبراوMartin Albrow هذه التسمية في "العصر الشمولي" The Global Age (منش رات بوليتي، كامبريدو، 1996). أنظر على الخصوص ص 78-79.
2 – ديفيا ببينتن David Bebbington" نسر وأنماط في التاريخ " Patterns in History (منشورات إنترفارسيتي، لامتر، 1979)، ص 43. 3- يعمق كاول لوريث Karl Lowith هذه النظرة في "المعنى في التاريخ Meaning in History (منشورات جامعة شيكاغو، شيكاغو، 1949). وينفي هانزبلومنبر- Hans Blumenberg هذه الأطروحة في "شرعية العصر الحديث The Legitimacy of the Modern Ageمنشورات أم آي تي، كايمبريدج-، ماساتشوستس، 1983)، ويذهب إلى أن فكرة التقدم احتلت المجال الذي تركته فكرة العناية الإلهية، وهكذا تبدو المصلحة الذاتية العصرية بمظهر المحفز الشرعي للحداثة. إن عمل بلومنبرج الفكري عظيم حقا إلا أن تعديله لموقف لوريث يعتم أن فكرة التقدم فكرة عقائدية. أنظر مثلا، بوب ودزفارد ؟ " Goudzvaard الرأمسالية والتقدم " Capitalism and Progress دار إيردمانس، جراند رابيدز، ميشيجن، 1979).
4- أنثوني جيد ينز Anthony Giddens عواقب الحداثة " Modernity The Consequences of (منشورات بوليتي، كايمبريدج، 1988 )، ص48.
5- أنظر تسيجمونت باومان Zygmunt Bauman "الحداثة والتأرجح" Modernity and Ambivalence ( منشورات بوليتي، كايمبريدج، 1988).
6- هذا التعبير من تصميم برئيس مارتن، Bernice Martin كتابها "سوسيولوجيا التغير الثقافي المعاصر" Asociology of Contemporary Cultural Change (بلاكوال، أكسفورد"1981)
7- أنظر ارنست النر , Ernest Geliner " ما بعد الحداثية والعقل والدين " Postmodernism, Reason and Religion ( راوتلادج، لندن ونيويورك، 1992)، ص 17. تحت تأثير الخميني تحول الإسلام من الإسلام الشيعي إلى السني "العالي".
8 -يستعمل هذا التمييز مثلا من طرف يدنز Giddens في "عواقب الحداثة " The Consequences of Modernity ص 45-46.
9 -اري وولي (محقق) ,Gary Woller (ed.) ،الإدارة العمومية وما بعد الحداثية " Public Administration and Postmodernism عدد خاص من "العالم السلوكي الأمريكي"Behavioural Scientist: American 141 :1997 ص9.
10- ستيفن كروك , Stephen Crook يان باكولسكي Jan Pakulsky ومالكم وولترز Walters Malcolm ما بعد العصرنة: التغير في المجتمع المتقدم rnodernisation: Change in Advanced Society (سايج، لندن، 1992).
11- يرى مايك فاذرستون Mike Featherstone إن المجال الثقافي في الوقت الحاضر لو يفقد مركزيته بقدر ما أعيد تحديد تلك المركزية: ويصر في نفس الوقت أن التحليل الاجتماعي ضروري حتى يتسنى فهم الخصوصيات الثقافية على حقيقتها: "غير أن مدى امكانية مشاركتنا كلنا في الإنتاج والاستهلاك الثقافيين يختلف تاريخيا ومن مجتمع لآخر" (فك الثقافة: العولمة وما بعد الحداثة والهوية Undoing Culture: Globalisation, Postmodernism, and ldentit سايج، لندن، 1995 (ص3).
12- لقد فهم الكثير أهمية نيتشه من خلال كتاب جيدني فاتيمو ,Gianni Vattimo " نهاية الحداثة"End of Modernit 78 ( منشورات وليتي، كايمبردج) الذي نشر في هذه الترجمة الإنجليزية سنة 1988، أي مئة سنة بعد الطبعة الأصلية الأولى لكتاب نيتشه "دار ادة السلطة " to Power.: The
13- جان فرانسوا ليوطار ,Jean-Frangois Lyotard ا لوضع ما بعد الحديث: تقرير حول المعرفة " The Postmodern Condition: A Report on Knowledge منشورات جامعة مينيابوليس، مينيابوليس، ومنشورات جامعة مانشستر، مانشستر، 1984)، ص 77.
14- مارشل بيرمن , ) Marshall Berman كل ما هو صلب يذوب ويصبح هواء All That Is Solid Melts (بينوين، نيويورك وهارمندزورث، 1988)، ص 111.
15- وليم شيكسبير، "العاصفة" ,The Tempest الفصل الرابع، المشهد الأول، السطر 150.
16- أنظر ستيفن ايفانس ,Stephen Evans "العقل المتقد: فهم شظايا كيركجارد الفلسفية "
Fragments Passionate Reason: Making Sense of Kierkegaard منشورات جامعة انديانا، انديانا، 1992).
17- جيدني فاتيمو Gianni Vattimo "نهاية الحداثة "of Modemitry The End (
(منشورات وليتي، كايمبردج، منشورات جامعة جونز هو كينز، بالطيمور، 1988)، ص 4.
18- انظر تعاليق جون ر. سنايدر Jon R. Snyder في مقدمة المترجم لكتاب فاتيمو، "نهاية الحداثة"، ص 46 بالترقيم الروماني.
19- أنظر أدناه، الفصل السادس، ص 131.
20- تسيمونت باومن ,Zygmunt Bauman "إيحاءات ما بعد الحداثة" Intimations Postmodamity (راوتلادج، لندن وبوسطن، 1992)، ص 31.
21 – مستشهد به في ديفيد فريزيي David Frisby "شذرات من الحداثة" Fragments of Modernity (منشورات أم أي تي، كايمبريدج، ماساتشوستس، 1986)، ص 43.
22- ان أشهر عمل لسيمل هو "فلسفة المال" The Philosophy of Money (راوتلادج، لندن وبوسطن، 1978).
23- ديفيد فريزيي، "سيمل وما بعده" Simmel and Since (راوتلادج، لندن ونيويورك، 1992)، ص 169.
24- لقد ظهرت الطبعة الأصلية الفرنسية لكتاب ليوطار: "الوضعية ما بعد الحديثة: تقرير حول المعرفة" La Condition postmoderne: rapport sur le savoir سنة 1979 لكن الترجمة الإنجليزية لم تظهر الا سنة 1984.
25- ليوطار، "الوضع ما بعد الحديث" ص 24 بالترقيم الروماني.
26- تسيمونت باومن، "مشرعون ومؤولون" and Interpreters Legilators (منشورات وليتي، كايمبريدج، 1987).
27- ليوطار، "الوضع ما بعد الحديث"، ص 17. تأتي فكرة "الألعاب اللغوية" من لدن لودفيج فيتجنشتاين Ludwig Wittganstain الذي يعتبر على غرار فرديناند أو سوسير De Saussure Ferdinand من أهم المؤثرين على النقاش ما بعد الحديث حول "الخطاب".
28- نفس المصدر، ص38.
29- أنظر مثلا، كريستوفر نوريس Christopher Norris "التفكيكية وما بعد الحداثة والفلسفة"
Deconstruction, Postmodernism and Philosophy في ديفيد وود (تحقيق) ,(David (Wood (ed. "ديريدا: مختارات نقدية" Derrida: A Critical Reader (بلاكوال، أوكسفورد، المملكة المتحدة، وكايمبريدج، الولايات المتحدة، 1992)، ص 167-97.
30- ديفيد هارفي , David Harvey "وضع ما بعد الحداثة" The Condition of Postmodernity (بلاكوال، أوكسفورد، المملكة المتحدة، وكايمبريدج، الولايات المتحدة، 1990)، ص 51.
31- باومن، "ايحاءات"، ص 133.
32 – لوس إيرجاري Luce lrigaray "مرآة المرأة الأخرى" Speculum of the Other Woman (منشورات جامعة كورنال، آيثاكا، الولايات المتحدة، 1985).
33- أنظر سكوت لاش ,Scott Lash "سوسيولوجيا ما بعد الحداثية" Sociology of Postmodernism (راوتلادج، لندن ونيويورك، 1990/، ص 55 هامش.
34- ميشال فوكو، "نظام الأشياء: أركيولوجيا العلوم الإنسانية" The order of Things: An Archeology of knowledge (كتب فينتج، نيويورك، 1973).
35- تجري مناقشة هذا الموضوع في ديفيد لاين David Lyon، "بانوبتيكون بينثم: من المعمارية الأخلاقية إلى المراقبة الأخلاقية" From Moral Architecture to Electronic Surveillance Bentham Panopticon: "مجلة الملكة الفصلية", Quarterly The Queen 98: 3، 1991؛ وفي "البانوبتيكون الإلكتروني: نقد سوسيولوجي لنظرية المراقبة"
Panopticon: A Sociological Critique of Surveillance Theory
Electronic ص "المجلة الاجتماعية" The Sociological Review , 4: 41، 1993.
36- أنظر سيجمونت باومن، "ما بعد الحداثة ولا محتوياتها" Postmodernity and Its Discontents (منشورات جامعة نيويورك، نيويورك، 1997).
37- جان بودريار Jean Baudrillard "ضع فوكوجانبا" Forget Foucaull (سيميوتاكست، نيويورك، 1987).
38- ان أحسن مدخل الى أعمال جان بودريار وبتزكيته منه يتمثل في كتاب مارك بوستر, Mark Poster ، "جان بودريار: نصوص مختارة"Jean Baudrillard: Selected Writings (منشورات وليتي، كايمبريدج ومنشورات جامعة ستانفورد، ستانفورد، كاليفورنيا، 1988).
39- جان بودريار، "مرآة الإنتاج" The Mirror Production (تيلوس، سانت لويس، 1975) ص 144. تعود الطبعة الفرنسية الأولى الى سنة 1973.
40- انظر جان بودريار، "نحو نقد الاقتصاد السياسي للدال" Sign For A Critique of the Political Economy (تيلوس، سانت لويس، 1981). تعود الطبعة الفرنسية الأولى الى سنة 1972.
41- ألان توردن، "نقد الحداثة" Critique of Modernity (بلاكوال، أوكسفورد، 1995)، ص 144.
42- انظر مانويل كاستلس Manuel Castells "سلطة الهوية" The Power of Identity (بلاكوال، أوكسفورد، 1997): و كرايج كلهون (ed. Craig Calhoun (تحقيق)، "النظرية الاجتماعية وسياسة الهوية" Social Theory and the Politics of Identity (بلا كوال، أوكسفورد، 1994).
43- انظر مثلا، مارك بوستر، "نمط الإعلام" The Mode of Information (منشورات وليتي، كايمبريدج، 1990)، الفصل الثاني.
44- انظر مثلا مارتن جاي ,Martin Jay "حقول القوة" Forcefields (راوتلادج، لندن ونيويورك، 1993) ص 90-98؛ وباومن، "ايحاءات"، ص 155: وبراين تارنر Bryan Turner وكريس روجاك Chris Roiek (تحقيق)، "انس بودريار" Forget Baudrillard
(راوتلادج، لندن ونيويورك، 1993).
45- هذا الاستشهاد من آرثر كروكر Arthur Kroker وماري لويز كروكر Marialouise Kroker وديفيد كوك David Cook (تحقيق)، "موسوعة الهلع" Panic Encyclopedia (آفاق العالم الجديد، مونريال، 1989)، ص 13، 16. آرثر كروكر مشهور أكثر بكتابه "المنظر ما بعد الحديث: الثقافة البرازية والجماليات المضخمة" Hyper-Aesthetics The Postmodern Scene: Excremental Culture and (آفاق العالم الجديد، مونتريال، 1988).
46- براين تارنر، "نظريات الحداثة وما بعد الحداثة" Postmodernity Theories of Modernity and (سايج، لندن وبيفرلي هيلر، كاليفورنيا، 1990)، ص 10: وباري سمارت , Barry Smart "أوروبا/أمريكا: مقارنة بودريار القاتلة"
Fatal Comparison Europe/America: Baudrillard في تارنر وروجاك، "انس بودريار".
47 – بورمن، "سكل ما هو صلب يذوب ويصبح هواء" Melts Into Air That Is Solid بينجوين، لندن ونيويورك، 1988 ص 35: تعود الطبعة الأصلية الى سنة 1982.
ديفيد لاين
خميسي بوغرارة (اكاديمي من الجزائر)