لم تكن لؤلؤة أول من سأل ذلك السؤال, وهي بالأحرى ليست آخرهم على الإطلاق, لقد تردد كثيرا على مسامعي في الشرق وفي الغرب في عمان وفي المملكة المتحدة وأحيانا في غيرهما من الدول التي مررت بها في السنوات الأربع الأخيرة. هذا التكرار – على ثقله – زادني حنكة ودراية بمقدار الرد : طولا وقصرا مدللا بالإثباتات ومثبتا بالأدلة على صحة ما أعتقد. لم تكن هي أول السائلين في ذات مساء على طاولة العشاء بالسكن الطلابي بجامعة لندن حيث اجتمع سليمان العماني ومجدي المصري وجون اليوناني ولؤلؤة الكورية المتحدثة بالعربية فصحاها ودارجتها (الدارجة المصرية) وكاتب هذه السطور. قالت : ماذا تدرس? قالتها بعربية فصيحة لم تخرم منها شيئا. أجبت: الأدب العربي. وبدت عليها الدهشة والاستغراب تخبر بذلك عيناها اللتان انفرجتا بأقصى زوايا الانفراج. واصلت: تدرس العربية هنا في لندن!!! وبدت مني ابتسامة خفيفة, ابتسامة الواثق بالانتصار وسكت هنيهة قبل أن أرد عليها بسؤال أخر: أين تريدينني أن أدرس? هي: في أية دولة عربية. قلت: طيب, أولا لابد من تصحيح فكرة محورية في هذا النقاش وهي أنني لا أدرس اللغة العربية ولكنني أدرس الأدب العربي. فالعربية هي لغتي الأم ولم آت إلى لندن لأعرف كيف أتحدثها أو أقرأ بها أو أكتب وإنما أتيت لتعلم أساليب البحث المنهجية. ثانيا : مناهج البحث العلمية الحديثة – بشكل عام – هي مناهج غربية المصدر يستوردها العالم كله بما في ذلك دول العالم الثالث, والمناهج النقدية في النظرية الأدبية لا تشذ عن ذلك بأي صورة من الصور. فالبنيوية وقبلها المنهج التاريخي وبعدها التفكيكية والنقد الحداثي وما بعد الحداثي وصولا إلى الإتجاهات الجديدة في الدراسات النسوية هي مناهج غربية المنشأ ويطبقها النقاد في تحليل نصوص تنتمي إلى لغات وسياقات مختلفة ومتباينة: افريقية وهندية وعربية وفارسية وهلم جرا. ثم لنكن واقعيين ولنفترض أنني ذهبت إلى القاهرة أو تونس أو عمان فسأدرس على أيدي أساتذة هم انفسهم خريجو جامعات غربية. فمحمود الربيعي وصلاح فضل وعبدالسلام المسدي وعبدالهادي الطرابلسي وغيرهم تخرجوا في جامعات غربية والنصف الثاني في قائمة أسماء النقاد العرب المؤثرين لم يتخرجوا في جامعات غربية بشكل مباشر وإنما ادمنوا قراءة مناهج النقد الغربية بلغتها الأصلية كمصطفي ناصف وشكري عياد وجابر عصفور وكثيرين غيرهم. أرجو أن تكون إجابتي واضحة يا لؤلؤة. قالت: إنها واضحة ودقيقة والآن أرى سببا قويا لمجيئك للدراسة في لندن.
لم تكن حواراتي الأخرى في الموضوع ذاته بتلك السلاسة المشار إليها وإنما كانت أحيانا مع أناس ذوي قناعات مسبقة لا يتغيرون بسماع الأدلة أو مع أناس أكثر طيبة ولكنهم أقل إمكانية عقلية لاستيعاب ما يقال على الرغم من بساطة الطرح. اعترض أحدهم مرة فسألته ببساطة : أين تقترح أن أدرس الأدب العربي? فقال متفلسفا : الأمر شديد الوضوح, العربية هي لغة القرآن والقرآن نزل على سيدنا محمد في مكة, وبالتالي اذهب إلى مكة فهي المكان المناسب لدراستك. فكان علي ان اقنع هذا المتفلسف أيضا أنني لم آت إلى لندن لدراسة العربية وإنما لتحصيل لغة عالمية ودراسة النظريات النقدية. ولكنه أصر أنه من غير الممكن ألا تكون هناك نظرية نقدية عربية صالحة لدراسة النصوص الأدبية. فقلت له: إن أسمى ما صاغه النقد العربي في هذا الشأن هو ما تم منذ مئات السنين بجهود نقاد من أمثال عبدالقاهر الجرجاني وحازم القرطاجني ولكننا لا نستطيع تطبيق نظرياتهما تلك تطبيقا مباشرا وإنما نحتاج لفهمها إلى مناهج غربية والدليل على ذلك الدراسات التي تمت في هذا الصدد كدراسة كمال أبو ديب لنظرية الصورة الشعرية عند عبدالقاهر الجرجاني والتي قارنت إنتاج هؤلاء النقاد بانتاج نقاد غربيين من أمثال اليوت وريتشاردز وغيرهما.
كثرة تردد هذا السؤال هو ما جعلني أقضي أمسية كاملة أشرح فيها لصديقي الذي ضج من الإستفسارات/الإعتراضات التي يواجهه بها الناس. شرحت له الموضوع بكل ابعاده ودقائقه ابتداء من فائدة تعل م لغة أخرى إلى جانب اللغة الأم كما تشير إلى ذلك الأحاديث النبوية ومنها »من تعلم لغة قوم أمن مكرهم« أو »أمن شرهم« وكما تشير بعض الأدبيات إلى أن كل لغة جديدة هي عقل جديد, مرورا ببيان النظريات النقدية ومنشأها الغربي وأن الإتصال بالغرب هو اتصال لاقتباس هذ النظريات من مصادرها لا الذهاب إلى وسطاء في أماكن أخرى من العالم, وانتهاء إلى شرح الموضوع الذي ادرس وكيفية تطبيقي لتنظيرات غربية على نصوص شعرية عربية.
لم تعيني الحيلة في توضيح الواضح وإثبات الثابت وإن كان الشاعر يقول:
و ليس يصح في الاذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
ولكن الاستفسارات في ذلك المقام تنداح بحسن نية ووجودها لن يؤذي أحدا . غير أن الأمر يختلف كثيرا ويصبح من الأهمية بمكان إذ ترتبط به حركة علمية وثقافية ويصبح أمر إثارته ليس مجرد نزعة شخصية محدودة بل تجربة تتصل بحركية المجتمع ككل ويصبح توضيح بعض الأفكار المغلوطة لدى بعض المسؤولين من الأمور ذات الأهمية القصوى. لقد حز في نفسي ان اسمع تساؤل لؤلؤة على ألسنة بعض المسؤولين وان اسمع استنكارهم لدراسة الادب العربي بجامعات أوروبية وأنه من الأمور التي يجب يمنع استمرارها وأن المكان الملائم لهكذا طلاب هو جامعات الدول العربية. هل ترانا نحتاج إلى أن نعيد سرد الأبجديات السالف ذكرها مما يتصل بالنظريات النقدية ومما يتصل بتعلم لغة عالمية أم ترانا نحتاج إلى أن نذكر بمثال لرائد من رواد النهضة العربية هو الشيخ رفاعه رافع الطهطاوي الذي ابتعث إلى باريس كمرشد ديني لبعثة علمية وكان دوره محددا في أن يقيم الصلاة بالمبتعثين وأن يجيب على تساؤلاتهم الدينية. ولكنه أضاف إلى هذا العمل الشريف عملا أخر فانكب على دراسة اللغة الفرنسية حتى اتقنها ربما أفضل من المبتعثين الأساسيين. ولما عاد إلى وطنه (مصر) قام بدور تنويري رائد منه انه أسس مدرسة لتعليم اللغات اسماها »مدرسة الألسن« اعترافا منه بدوراللغات الأجنبية في رقي وتطور المجتمعات. كما كان – وهو الشيخ الأزهري – من الداعين إلى تعليم المرأة وان يكون لها دور فاعل في بناء المجتمع على أسس علمية. وكانت له من المآثر ما يستحق الإشادة به وتمثـله. ويأتي كتابه »تخليص الإبريز في تلخيص باريز« من الكتب الهامة في أدبيات النهضة العربية فصل فيه ملاحظاته على المجتمع الفرنسي مقارنا إياه بالمجتمع المصري بما في الأول من قيم ايجابية بنـاء لا تظهر بشكلها المشرق في المجتمع الثاني متوصلا إلى حضور القيم الإسلامية العالية في الحياة اليومية للفرنسي فيما يتصل بحبه للعمل وإخلاصه فيه وما إلى ذلك. هل نذكر نموذجا نهضويا آخر? إنه المفكر المعروف علي مبارك مؤسس كلية دار العلوم التي قال فيها الشيخ محمد عبده إنها المكان الوحيد الذي تحيا فيه اللغة العربية. كانت تجربة مبارك مشابهة لتجربة الطهطاوي واجه فيها المجتمع الفرنسي ونقل تجربته إلى أبناء جلدته في شكل مؤلفات علمية وأدبية ومشاريع كبرى.
أتصور أن الوضع الصحيح – في ظل غياب خطة علمية محكمة – أن يبقى أمر اختيار مكان الدراسة مربوطا برغبة الباحث نفسه فإن ذلك أدعى إلى تفانيه في العطاء ومثابرته على التحصيل وأنه اذا كان طامحا في تحصيل لغة جديدة أن تسهـل له السبل وتذلل العقبات ويمنح من الوقت مايكفي لتحصيل اللغة أولا ثم التركيز على موضوع البحث ثانيا . ومن الجوهري, أن طالب الأدب العربي يمكن ان يدرس في أي بلد غربي حيث يتوافر المناخ العلمي ابتداء من الأستاذ المشرف الذي يقوم بدوره – غالبا – على أتم وجه ضمن جدول زمني متعارف عليه بينه وبين تلميذه, لا يتأخر عن موعد ولا يضن بنصيحة. وهي باختصار علاقة سليمة. ثم هناك المكتبات وتسهيلات الإعارة والإعارة البين مكتبية إضافة إلى وفرة المصادر والمراجع بجامعات عريقة تبلغ خبرتها مئات السنين, وتبلغ مخازن بعض مكتباتها سبعة أميال كما هو الحال بإحدى الكليات باكسفورد, هذه هي المخازن فقط!!. إضافة إلى ذلك كله, البيئة العلمية النشطة التي تساعد على الإنتاج والتحصيل.
وكما يقال »وبضدها تتميز الأشياء« فلنقف وقفة سريعة على حال الجامعات العربية مع الإحترام الكامل لدورها الريادي والأبوي في بث نور العلم والثقافة إلا إنها – كأي مشروع عربي – أمست تعاني مشاكل مفصلية. فعلاقة المشرف بالطالب في كثير من الاحيان علاقة غير طبيعية, غير انتاجية تعرقل الطالب وتضيـع الكثير من جهده والكثير من عمره ويكفي أن نعرف أن مشروعا علميا يحتاج – عادة – ثلاث سنوات يقضي فيه الطالب خمس سنوات والبعض سبع سنوات والآخر – وهذا هو الأغرب – يقضي عشر سنوات !! مثال اخر يمكن ان يقدم عن المكتبات وخدماتها ومصادرها ومراجعها. في تجربة لي بمكتبة بعض الكليات المرموقة في جامعة عربية طلبت رسالة دكتوراة في موضوع نقدي يتصل بالصورة الشعرية, فقالت لي الموظفة: الرسالة في »التجليد«. وبحسن نية صدقت هذا العذر, فليس هناك سبب واضح للكذب في موضوع كهذا. وحيث إن الرسالة من المراجع الهامة لي فقد سألتها سؤالا آخر: متى تنتهي عملية »التجليد« ? فسأطلب من أحد أصدقائي أن يعود ولو بعد أشهر ليصو ر لي بعض الأشياء منها. قالت الموظفة وقد أدركت مدى حرصي على الحصول على الرسالة: الموضوع ببساطة أن هذه الرسالة لن تعود ثانية فهي مفقودة بل بلفظ ادق هي »مسروقة« وأن لفظة »تجليد« ليست الا تهذيبا وتطرية لكلمة أكثر قسوة هي »مسروقة«. وكانت اجابتها كالصاعقة هل يعقل أن تسرق رسالة علمية من جامعة عريقة ومن مكتبة يفترض ان تكون حصينة!! ولماذا سرقت? أما الإجابة على ذلك فهي أمر وأقسى من الاجابة الاولى. فكما قالت الموظفة: سرقت لتقدم إلى جامعة أخرى باسم باحث آخر كل دوره أنه أزال الورقة الأولى ليضيف اليها ورقة مزيفة بمؤلف مزيف وعنوان آخر. هنا ادركت فظاعة الإنحطاط والتخلف في العالم العربي:
و اذا أصيب القوم في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتما وعويلا
و بطبيعة الحال أن ما ذكرته عن الإشراف والمكتبة ما هو الا غيض من فيض. حديث مليء بالمرارة والواقع الخانق الذي لا نريد أن نعانيه لفرط قسوته بل نهرب من ذلك إلى الكذب كما فعل من قبل شاعر العربية الأكبر المتنبي عندما هرب إلى الكذب عن تصديق خبر وفاة أخت سيف الدولة الحمداني:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
هرعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
وما يماثل ذلك مرارة ألا نلتفت إلى هذه السلبيات ونظل مصر ين على بعث طلابنا للدراسة في جامعات لم يعد لديها الكثير لتقدمه أو بشكل أدق قست عليها الظروف السياسية والإقتصادية المتردية في العالم العربي فحو لتها إلى ما آلت إليه من أطلال جامعات وأشباح أساتذة.
عندما كتب الصديق سيف الرحبي محتفيا »بحزمة الأوهام الجميلة« في إشارة لبقة منه إلى مشاركات لبعض الشباب الأكاديميين كان لدينا شيء جميل مفرح وإن كان هذا الشيء مجرد أوهام فقد تصدق الأماني مرة واحدة أو مرات عديدة, ولكن في ظل توجه أشرت إليه سابقا لن يعود للأجيال القادمة »حزمة أوهام جميلة« يفرحون بها إذا ما دفع بهم ضد رغباتهم العلمية.
وفي الختام أريد التأكيد على أن القضية تخرج من إطار التجربة الفردية إلى ما يمكن أن يؤثر سلبا على جيل تال أو على أجيال تالية من الدارسين. وأن استقرار نظرة كتلك ينبغي ألا يستمر. وفي إطار مراجعة هذه القضية هناك اصوات عديدة لها حضورها من مثل التجربة الفذة للزميلة شريفة اليحيائي في تحليلاتها لاتجاهات القصيدة الحديثة في دول الخليج العربي والمؤثرات السياسية والإجتماعية على هذا المنتج وكذلك الإشارة لتجارب ما زالت في طور التشك ل للزميل هلال الحجري الذي يتبنى بعض مقولات نقد ما بعد الحداثة في معالجته لنصوص نثرية تنتمي إلى »أدب الرحلات«, وكذلك الزميلة سناء الجمالي التي تضيء تجربة سردية لأحد الروائيين العرب المعاصرين لمنظـر شكلاني اجتماعي له تأثيره الشديد على الحركة النقدية المعاصرة هو باختين. تتصل هذه التجارب بشكل أو بآخر بنقد الأدب العربي ولا يوجد أي تعارض في ذلك مع كون الباحثين المشار إليهم درسوا أو مازالوا يدرسون في جامعات غربية.
محمد المحروقي
أكاديمي من سلطنة عمان