سعاد زريبي
كاتبة تونسية
“في هذه الدنيا أمور كثيرة لم تسمّ، وأمور كثيرة حتى لو سُمّيت لم توصف أبدًا، وأحدها هو تلك الحساسية الحديثة بدون جدال، وأحد أشكال الذوق إنما بالكاد المتطابق معه التي تسمى باسم “التكلف”، هكذا عبّرت سوزان سونتاغ في مطلع مقالتها عن نظرية التكلف المعنونة “ملاحظات حول ظاهرة التكلف”. ترى سونتاغ أنه لا شيء قد كتب عن هذه الظاهرة أو بالكاد، باستثناء وصفٍ كسولٍ يقع في صفحتين في رواية العالم في المساء لكريستوفر إيشروود سنة 1954.
لكن ماذا نقصد بجماليات التكلف؟ متى نشأ “فن” التكلف؟ وما الدوافع الاجتماعية والثقافية لنشأته؟ بين القبيح والجميل، بين السير على قواعد الذوق العام للفن، والتكلف والمبالغة في التصنع، كيف نقرأ التكلف بوصفه موضوع دراسة جمالية، ونتترحّل في أشكاله ومختلف دلالاته ومعانيه الفنية والجمالية بل والاجتماعية والحضارية أيضا؟ هل يمكن أن نعتبر أن اللحظة الرّاهنة لحظة تكلف؟ أية راهنيّة لموضوع التكلف اليوم؟
في الحقيقة إن البتّ في البحث في موضوع نظرية التكلف نابعٌ من يقين شديد بأن اللحظة الراهنة هي على توافق كبير مع مبادئ التكلف وخصوصيته؛ لكن ليس التكلف بوصفه فنا؛ بل التكلف باعتباره أسلوب حياة يحاكي انفلاتًا كبيرًا في صورة العالم المعاصر، ونظرة الإنسان لنفسه ولمنتجاته ولحضارته ولثقافته نظرة ازدراء وقلق كبير جعلته يسقط في ثنايا التكلف أو الكامب. لعلّ الصور الكاريكاتورية لبعض الشخصيات السياسية ودخول الإنسان المعاصر مرحلة التمظهر والتفسخ والرغبة الجامحة في الظهور المبالغ فيه على غير القواعد والثوابت الثقافية والحضارية فيما بات يعرف بمنطق الاستعراض والعرض والسلعنة، هو نوع من التكلف بشكل كبير، ولكن لنحترس، ليس التكلف مسخًا أو شططًا أو تفسخًا، بل هو فنٌّ له خصوصيته ودلالاته الفكرية العميقة.
ذكر معجم أكسفورد للغة الإنجليزية هذه الكلمة camp للمرة الأولى عام 1909 فحمّلها دلالة المبالغة والتكلف والاستعراض، أما بالنسبة لسونتاغ فالمفهوم أعمق مما تقوله اللغة. “ملاحظات حول ظاهرة التكلف” هو عنوان مقالة كتبتها الأمريكية سوزان سونتاغ، تتضمن المقالة 58 تعريفا لهذا المفهوم ولهذه الظاهرة. فالتكلف بالنسبة لسونتاغ هو كل هذا، نمطٌ جماليٌّ خاص، إنه أسلوب في النظر إلى العالم بوصفه ظاهرة جمالية. لا يتعلق الأسلوب المتكلف بالجمال، بل بدرجة التصنع والأسلبة والتغيير والتحويل للقاعدة، إلى شكل من النشاز البصري والخلخلة للثابت، فهو نوع من الضجيج البصري والصوتي، بل وحتى الحركي والخطابي لكل ما زاد عن حده لغة أو صورة أو نغما. فهناك خطابات سياسية متكلفة وصور سينمائية ولوحات تشكيلية ورسوم كاريكاتورية متكلفة، بل يوجد أيضا أشخاص متكلفون وموسيقى متكلفة ولكل أسلوب خصوصيته ورهاناته.
يراهن التكلّف على تضخيم الأسلوب في مقابل اختزال المضمون، إنه يقترح موقفًا محايدًا بالنسبة للمضمون أو يتنازل عنه بشكل جذري. التكلف ظاهريّ بشكل كامل. لا يوجد فقط رؤية متكلفة وأسلوب متكلف في النظر إلى الأمور، فالتكلف صفة يمكن اكتشافها في الأشياء وسلوك البشر على حدٍّ سواء، فهناك أفلام وأزياء ومفروشات وأغنيات شعبية وروايات وأشخاص وأبنية متكلفة. للذوق المتكلف تقول سونتاغ: انسجاما مع بعض الفنون دون فنون أخرى، فالأزياء والمفروشات وكافة عناصر الديكور البصري على سبيل المثال، تشكل جزءا كبيرا من التكلف. إن الفن المتكلّف غالبًا ما يكون فنًّا زخرفيًّا يشدد على النسيج والملمس الحسي والأسلوب على حساب المضمون. تقول سونتاغ: “جوهر التكلف هو عشقه للمصطنع، للتظاهر والمبالغة”. ولكن لنحترس، فليس التكلف اعتباطا وتمظهرًا فحسب، فله جديّته الخاصة ورهانه خفيٌّ وملغز، فالتكلف ظاهرة خاصة بالفن، وهو أسلوب فني، فلا يمكن أن نقول: هذا المشهد الطبيعي متكلف، “لا شيء في الطبيعة يمكن أن يكون متكلفا”، ولكنْ للتكلف تصور خاص مع الطبيعة، إنه يحاول طمس وتحويل طبيعة الأشياء والمشاهد وإعادة تركيبها فنيا. التكلف هو قدرة التحويل أو بالأصح هو نوع من التحويل والمسخ.
تُميز سونتاغ بين شكلين من التكلف: التكلف الساذج والتكلف المتعمد، الأول خالص والثاني مرضي. التكلف الساذج فن، والتكلف المتعمد هوس اجتماعي مَرَضي ونفسي، فالتكلف غير المتعمد هو في منتهى الجدية، تقول سونتاغ: “في التكلف الساذج أو الخالص، يكون العنصر الأساسي هو الرصانة التي تخفق. بالطبع، لا يمكن رد الاعتبار لأي رصانة تخفق بوصفها تكلفا، بل فقط إلى تلك التي تتحلى بالمزيج الصحيح من المبالغة، والروعة والشغف والسذاجة”. التكلف هو السعي للقيام بشيء فريد بمعنى أن يكون في أغلب الأحيان، مميزا وفاتنا.
فالتكلف عابث وطفولي وعفوي وساذج، فهو لا يمكن أن يكون تراجيديا أو حزينا ظاهريا، ولكن يتطلب القرار الذي يتخذه الفنان من أجل الإبداع بطريقة متكلفة وضعا مؤلما يدفعه للتكلف كتعبير عن تمرده ورفضه للواقع الاجتماعي والحضاري. فلئن كانت الروايات التراجيدية والسوداوية تسبح في قتامة الموضوع وتغوص عميقا في دروب التجربة الإنسانية، فإن التكلف عرض وثورة وتمرد حزين في حركته، لكنه ساذج من حيث الشكل حتى إنه مثير للاشمئزاز والنفور من قبل الجمهور وخاصة جمهور الفترة التاريخية التي نشأ فيها فن التكلف، لأنه كان فنا مضادا للمجتمع الأرستقراطي في أوروبا آنذاك. إن التكلف والتراجيديا نقيضان؛ فالتراجيديا تتضمن جدية خاصة وفي أغلب الأحيان تتضمن تأثرا أو ألما مثلما نراه في الكثير من روايات هنري جيمس، مثل رواياته: الأوروبيون والعصر الغريب، وأجنحة اليمامة، ولكنها تبقى روايات متكلفة، فالتكلف رغم سذاجته واندفاعه الحيوي الشرس والمغاير للضوابط، إلا أنه يخفي ألما باطنيا في حركته ولكن لا يرتفع إلى مرتبة التراجيديا. يجسد هذا التوجه انتصارًا للأسلوب على المضمون والجماليات على الأخلاق والسخرية على المأساة، على سبيل المثال، ثمة ذلك النوع من الجدية التي من علامتها المميزة القلق والقسوة والاضطراب العقليّ والتمزق العاطفي، مثل أعمال ساد ورامبو وكافكا وأرتو.. أي الفن الذي ليس غايته إيجاد التناغمات، بل الإمعان في الضغط أكثر فأكثر عنفا وخلْقا للتشظي غير القابل للحل أو للتركيب، حيث أصبح العمل الفني بالمعنى القديم والثابت ليس ممكنا مثل رواية سيدة الأزهار لجنييه، التي تظل شديدة القتامة، والكتابة نفسها في منتهى السمو والرصانة. تسير نظرية التكلف في الاتجاه المعاكس لهذا التيار حيث التشظي والانكسارات تلتقي وتحافظ على حدتها دون أن تخلق تناغما، بل تخلق صدمة. تقول سونتاغ: “ينجذب المرء إلى التكلف حين يدرك أن الصدق ليس كافيا”، فلئن كانت روايات رامبو وأرتو وكافكا صادقة ومتوافقة مع واقع الإنسان في مأساته فإن التكلف يسير في طريق مختلف: التلاعب بالعناصر والصور، ليقدم معيارا جديدا هو الحيلة والمسرحة بوصفهما نموذجا أعلى من التعبير عن الحقيقة. ليس هناك للذوق نسق أو براهين ثابتة، ولكن ثمة ما يشبه منطق الذوق وهو الحساسية الثابتة التي تشكل أساس ذوق ما وتكون باعثا له لكن لا يرتبط الذوق المتكلف بتلك الضوابط المنطقية المحددة ولا يحترم منطق الذوق بل يعتمد على العفوية والاندفاع والخلط والمزج اللامتوازن بين الأشياء. يقدم التكلف معايير مختلفة إضافية للفن وللحياة.
التكلف هو نوع التهكم والنقد والسخرية من آلام المجتمع وجعلها مثيرة وساذجة، ذلك لأن مقصد التكلف -تقول سونتاغ- هو إنزال الرصانة عن عرشها، فالتكلف عابث. يقترح التكلف رؤية هزلية وساخرة عن العالم. من جهة أخرى لا يرتبط التكلف بالقبح بشكل مباشر وإن كان لا ينفيه إلا أنه يميل إلى الإغراء والفتنة البصرية لأنه يرتبط وفق الكاتبة الأمريكية بالغندورية Dandyism، وهي نزعة أدبية ازدهرت في فرنسا وإنجلترا في القرن التاسع عشر، وتتميز بالمبالغة في التأنق، والتي تعتبر التكلف -بحسب سونتاغ- “بديلا للأرستقراطي في الثقافة، فالتكلف هو الغندورية الحديثة، التكلف هو الحل للمشكلة التالية: كيف تكون غندورا في عصر الثقافة الجماهيرية”. الغندور مفرط التكلف والسذاجة والنقد، وهو كما تقول سونتاغ: “يعتمد الازدراء موقفا أو السأم، ويبحث عن أحاسيس نادرة لم يلوثها التقييم الجماهيري. كان الغندور يكرس نفسه للذوق السليم”. ينقسم الغندور إلى صنفين: الغندور العتيق والغندور الجديد، أما العتيق فهو يمقت الابتذال، وأما الغندور الجديد فيعجب بالابتذال، العتيق يبعث المرح والبهجة، والمبتذل مثير للملل. من جهة أخرى يرتبط التكلف بالتصور اليوفوي، وهو أسلوب مشحون بالألوان البديعة وتضخيم البهرج البصري بما يسرح بالخيال ويمتع القارئ بالأسلوب لا بالمضمون. اليوفوي هو Euphuism نسبة إلى Euphues الكاتب الإنجليزي جون ليلي. الذوق المتكلف هو نمط استمتاع وإعجاب لا نمط تقييم، والذوق المتكلف يتميز بسخائه. إنه يريد الاستمتاع بالألوان أو بالكلمات، بأسلوب الكتابة أو بحركة الفرشاة. الذوق المتكلف نوع من الحب، إنه يستطيب ولا يقيم. إن ميل نظرية التكلف في الفن جعلت منه فنا شعبيا وجماهيريا، ويمكن أن نعتبره -بحسب سونتاغ- الفن الصانع للبهجة الشعبية، فلقد كان جزءا من الدفاع عن الثقافة الشعبية، ومعبرا عنها في الستينيات في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية خاصة في مجال الموسيقى والسينما.
تعود بداية هذه الظاهرة إلى أوائل القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر بسبب الميل الفريد الذي شهدته تلك الحقبة إلى التأنق والسطحية والتناسق ونزعتها إلى الفاتن والمثير… لقد كانت نهاية القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر حقبة التكلف العظمى. تقدم سونتاغ قائمة طويلة من الفنانين المتكلفين وهم: الكاتب أوسكار وايلد، والكاتب رونالد فيربانك، في الروايات القوطية، وهو توجه أدبي نشأ في إنجلترا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، يقف بين الرومانسية والعناصر السوداء لينتج نصوصا غامضة ومثيرة مرغبة وخارقة للمألوف. أما في فن الرسم فقد كان هنري روسو وجورج دي لا تور ولوحاته الصاخبة، وكارافاخيو، من أكثر الرسامين تكلفا في عصرهم وفي تاريخ فن الرسم. كما تعتبر سونتاغ أن الأوبرا والبالية يختبران على أنهما من الكنوز المتكلفة الثمينة. أما في عالم السياسة، فتعتبر سوزان سونتاغ أن شخصية الرئيس الفرنسي شارل ديغول شخصية متكلفة، حيث تحتوي خطاباته على الكثير من الكامب، بل وتنطوي تحت رايته. وفي عالم السينما، فالساحة السينمائية حافلة بالكامب خاصة في سلوك وملابس شخصياته، فالسينما عالم الكامب بنوعيه الخالص والمتعمد.
تعتبر سونتاغ التكلف نمطًا جماليًا خاصًا، إنه نظرة خاصة لبعض الفنانيين المخرجين السينمائيين، أو لكتاب أو روائيين وفنانين تشكيليين ومصممي ديكورات.. التكلف صفة يمكن اكتشافها في الأشياء وفي سلوك البشر على حد سواء، وعالم الموسيقى يعج بالتكلف. تذكر سونتاغ بعض النماذج وهي: الأغاني الفرنسية التي سادت نهاية الخمسينيات وإلى حدود نهاية الستينيات مع المغني والمؤلف الفرنسي كلود فرانسوا 1939- 1978، الذي يعد من أشهر نجوم البوب في العالم في الستينيات والسبعينيات، وجوني هاليداي الملقب بإلفيس الفرنسي، نظرا لتأثره الكبير بإلفيس بريسلي، والذي عرف بمزجه بين الروك الأمريكي والموسيقى الفرنسية، والفنانة الفرنسية فرانس غال 1947-2018، وهي إحدى أهم نجمات موسيقى البوب الفرنسية، والفنانة ومؤلفة الأغاني فرنسواز هاردي 1944-2024، حيث تميزت موسيقاها بطابعها الحزين، وتعتبرها سوزان سونتاغ أبرز رموز حركة يي- يي Ye Ye في فرنسا… التكلف هو السعي للقيام بشيء فريد، بمعنى أن يكون في أغلب الأحيان مميزا أو فاتنا.. ليس للتكلف فقط وجه قبيح، بل هو ظاهرة لها مضمونها الخاص وأسلوبها في التعبير عن الجمال بطريقة خاصة، “فالتكلف ليس فقط بالضرورة فنًا رديئًا، ولكن بعض الذي يمكن أن نقاربه بوصفه متكلّفا مثل أفلام لوي فوياد، يستحق أكثر الإعجاب والدراسة رصانة”. والفن الجديد هو أكثر الأساليب المتكلفة نموذجية وتطورا، لكنه حافل بالمضمون حتى في النوع السياسي والأخلاقي. لقد كان يشكل حركة ثورية في مجال الفنون. إن التكلف نمط إغرائي يعتمد الأساليب المتأنقة المتوهجة التي من شأنها أن تحتمل تأويلا مزدوجا والحركات المخادعة والمتضمنة دلالة ذكية للعارفين” .
أما في عالم الرسم فتذكر الكاتبة الأمريكية الرسام والفنان الفرنسي هنري روسو كفنان متكلف. هنري روسو هو رسام فرنسي ولد في 1844 وتوفي في 1910، ومن أشهر أعماله لوحة شخصية، وليل في كرنفال، 1886 أكسوتيكا، الغجرية النائمة. كسر هنري روسو القواعد الرسمية في فن الرسم وكان له تأثير كبير على الفن وعلى الكثير من الفنانين في فن الرسم خاصة بيكاسو وماتيس.. يقول أحد نقاد الفن وهو الكاتب الفرنسي ميشال دي دسكار: “إنه يرسم الأحلام”، فهو رسام بدائي وساذج. بلا ورشة رسم أو أكاديمية فن أو تكوين أكاديمي، حاول روسو أن يرسم ما يراه وما يحسه، مغايرا للتقاليد ومبادئ فن الرسم آنذاك، لكن بقيت لوحاته ذات جمالية خارقة. وفي عام 1877 بدأ الرسم ولكن في عام 1885 بدأت شهرته كرسام متمرد، وساذج، وطفولي، وبدائي، مما جعله عرضة للنقد والنفور من بعض أكاديميي الفن، حتى أن أحدهم يصف فنَّه: “بأنه يرسم بأرجله ومغمض العينين”. تتراوح لوحاته بين البورتريه والطبيعة الميتة والمشاهد الطبيعية. كان هنري روسو شخصية مختلفة عن رسامي تلك الفترة، فلم يكن مهتما بالحياة الباريزية، لا يتردد على المقاهي والمسارح التي كانت أماكن بارزة تؤسس للحياة الفنية في باريس في تلك الفترة بل كان يميل إلى الحدائق والمحميات والغابات والتي أثرت في توجهه الفني في لوحة لقاء في الغابة 1886، نزهة في الحديقة 1886، الرجل يرسم زوجته 1890، على ضفاف النهر 1890، لوحة المفاجأة 1891، حيث يتمازجان في هذه اللوحات الواقعي بالخيال لتتحول اللوحة إلى شكل من الكولاج البصري بين العناصر المختلفة والألوان غير المتجانسة: فن القطائع والإلصاق.
مثلت لوحات روسو ثورة على النظم والقواعد فحين استسلمت ريشته إلى رؤيته الخاصة ونزوعه الشخصي نوع المغاير والمختلف، هل هذا نوع من النشاز؟ لا هو نوع من الإبداع الذي يفترض أن يقدم عليه الفنان من أجل خلخلة النظم والقواعد في الفن ونوع من الرغبة والميل الشديد نحو التغيير والتجديد. استعصت لوحاته على وسائل التقييم الأكاديمي والتحليل والتصنيف النقدي. تعتبر لوحاته نوعا من النزوع الطفولي نحو عفوية وبراءة الأطفال في وجه كل قواعد ومبادئ الكبار في نوع من النقد الصارخ للاعتداء الحضاري الغربي على عالم البراءة والإنسانية، ولقد اعتبر الكثير من النقاد أن أعمال هنري ساذجة وغير ذات أهمية فعلية داخل تاريخ الفن الحديث، لأنها لوحات مشاكسة، غريبة وغير مألوفة. يمزج روسو العناصر أو يعجنها ثم يلطخ تلك العناصر داخل فضاء اللوحة على غير هدى، تبدو مبعثرة غير متوافقة وبلا انسجام بصري وكأن هنري روسو يكتب قصة أسطورية أو فيلما خياليا. في لوحة الأسد الجائع، تحضر كل عناصر ومقومات الخيال، أسد جائع، غزال بريء، طيور جارحة. أما العلاقة بينها فهي الجوع والنهم: يأكل الأسد الجائع الغزال ثم تأتي الطيور لتنهش ما بقي من فتات الفريسة “الغزال”.
أما في عالم السينما وعالم التمثيل فتذكر الكاتبة الأمريكية الممثلة الكوميدية والشخصية الأكثر جرأة واستفزازا في تاريخ هوليوود ماي ويست، التي ولدت في 1893 وتوفيت 1980 ومن أشهر أفلامها She Done him wrong 1933، وفيلم أنا لست ملاكا، حيث تقوم بدور مدربة أسود في سيرك، وهو الفيلم الذي تسبب في مضاعفة الرقابة على أفلامها، وفيلم جميلة التسعينيات Belle of the Nineties 1934، وتقوم بدور مغنية في كباريه، وهي شخصية جريئة وساخرة، وتدور الأحداث في تسعينيات القرن التاسع عشر، أما في فيلمها “آني من كلوندايك”، فهي تجسد دور مغنية تهرب من حياتها الفاسدة وتتحول لامرأة صالحة.. تقدم ماي ويست عن طريق أسلوب التكلف تصورا نسويا، أي صورة الكاتبة المدافعة عن المرأة في المجتمع من كل أشكال الاستغلال التي تعيشها داخل المجتمع بأسلوب تهكمي ونقدي شرس.. الممثلة والمغنية الكوميدية البريطانية الكندية بي ليلي Bea Lillie من أشهر أعمالها السينمائية “ملي العصرية تماما” Thoroughly Modern Milie 1967 وهو فيلم موسيقي ساخر عن عشرينيات القرن العشرين، الفيلم من بطولة جولي أندروز وبي ليلي، وفيلم ابتسامة الوداع Exit Smiling 1926، وهو فيلم صامت تؤدي بي ليلي دور ممثلة متجولة، وهو دور ساخر ولكنه إنساني ونسوي.. وبيتي دافيس في “كل شيء عن حواء” 1950 All About Eve الذي أدت فيه دور مارغو تشانينغ، الفيلم من إخراج جوزيف مانكيفيتس، وأنيتا إكبرغ في فيلم “لادولشي فيتا” لفريريكو فيلليني، والتي تلعب فيه دور الممثلة الأمريكية “سيلفيا” وخاصة مشهد النافورة تريفي Fontana di Trevi وهي تطلب من مارشيللو Marcello Mastroianni الالتحاق بها، ومشهد السلالم وهي تصعد بسرعة ويعجز مارشيللو عن اللحاق بها، الفيلم هو نقد ساخر ولاذع للسطحية.
لا شك أن هذه الظاهرة الجمالية قد تواصلت إلى حدود اللحظة الراهنة مع عديد الموسيقيين والرسامين والمخرجين السينمائيين مع فن البوب ومع فنون الكاريكاتير والفيديو آرت، خاصة مع تطور تقنيات وآليات الذكاء الاصطناعي، بل لقد أصبح التكلف عنوان العصر في عالم الموضة والإعلام والسياسة أيضا ولكن على غير قواعده كفن وأسلوب حياة فبعضها متعمد وسيئ، وبعضها ساذج وأصيل وفني إلى أبعد الحدود. لعل أفلام المخرج الإسباني بيدرو ألمودفار من بين النماذج الفنية السينمائية على هذا الشكل من الجمالية لا تقل أهمية عن النماذج التي ذكرتها الكاتبة الأمريكية سونتاغ.
تنطوي أفلام بيدرو ألمودفار تحت مظلة جماليات التكلف، حيث نجد الكامب في كل أفلامه: تحدث إليها 2002، كل شيء عن أمي 1999، أمهات متوازيات 2021 Madres Parallelas، تحدث إليها Talk to Her 2002، تربية سيئة 2004 Bad education، الجلد الذي أعيش فيه 2011 The skin I Live in، العودة Volver 2011، أفلام تمرد على القواعد، تهكم وتوتر وفوضى لونية ماتعة وعنيفة تذكرنا بأفلام سيرجي باراجانوف “فيلم لون الرمان The color of pomegranate 1972”.
أين يكمن التكلف في أفلام بيدرو ألمودفار؟
لا يسرد ألمودفار قصصا بقدر ما يفضح مجتمعا وتصورات وثوابت وعقلية اجتماعية، لذلك لا نرى في أفلامه تسلسلا زمنيا للأحداث، فنجده يحطم بالصور العلاقة بين الأزمنة بين الحاضر والماضي الذي غالبا ما يكون المؤثر الرسمي على الحالة النفسية والاجتماعية للشخصيات، فيصبح الحاضر أسير الماضي، فتتنقل الشخصيات بين الأزمنة لتكشف عن عمق تأثير الزمن في الإنسان.. ليس هناك زمن خطي منتظم في أفلام بيدرو ألمودفار، بل هناك “تشويش” وضغط وانفلات عن كل أشكال التسلسل، ليخلق الفيلم نوعا من التشويش الفكري لفكرة الوحدة والثبات. ليس هناك شيء ثابت في أفلام ألمودفار، كل شيء في تغير مستمر وسريع ومفاجئ لا يقتفي سيرورة الزمن بقدر ما يخرب النمطية والخط الواحد، ليخلق مسارات وخطوط إفلات لا محدودة في الأحداث وفي العلاقات بين الشخصيات وفي مخيلة المتفرج والجمهور.. إن “التغير” و”الحيوية” و”الانفلات” و”الاندفاع” و”النشاط” هي السمات الأبرز للزمن الفيلمي في أفلام بيدرو ألمودفار، تحاكي هذه الخاصيات خصوصية الموضوع: المرأة وخاصية فن الكامب. عالم كثير الانفعال والتوهج والاندفاع والحيوية والنشاط إجمالا: كثير المشاعر.
استطاع بيدرو ألمودفار أن يخلق أفلاما تمزج بين الخيال الفني والواقع الاجتماعي للنساء وبين الدراما والكوميديا، الهدوء والصخب، الرقة والقسوة، الحب والكره، الحياة والموت، التضحية والنكران، المحبة والصداقة بين النساء ولحمتهن في مواجهة قسوة حياتهن، في اختيار الألوان المتوهجة وتركيب الديكور واختيار الملابس المفعمة بالحياة والقوة..
تعد الديكورات والإضاءة والأزياء العناصر الأساسية التي تحدد جمالية الفيلم، وهي تهدف إلى دعم خصائص الشخصيات لتصوير طبقتهم الاجتماعية وشخصيتهم ودوافعهم بما يعطي للصورة السينمائية مصداقية أكثر. يدعم الديكور والملابس نظرية التكلف في أفلام هذا المخرج الإسباني، حيث تبدو الشخصيات ساذجة ومتوترة ويدعم مظهرهم ذلك، وهو نوع النقد الشرس لقضية المرأة بوصفها كائنا يعيش اضطرابات وتأثرا كبيرا بالعنف الاجتماعي.. يتجلى الكامب في أفلام هذا المخرج الإسباني في عمق رابطة هذا المخرج الإسباني بالألوان، فهو يعتني بأزياء الشخصيات والديكورات ويختار لها ألوانا ذات خصوصية مميزة، ولو أردنا جمعها تحت عنوان واحد فسنقول: إنها ألوان الحياة أو ألوان القسوة والاندفاع: الأحمر، الأخضر، الأصفر، الأرجواني، الزهري، هي ألوان شكلت صورة سينمائية متكلفة في أفلامه.
التكلف هو تقنية مخرج في العمل وفي تركيب أفلامه. يحتفظ ألمودفار بهذه الثوابت منذ أفلامه الأولى إلى حدود أفلامه الأخيرة بما يجعل من أفلامه أفلاما ذات خصوصية مميزة، يقول واصفا طريقة عمله في اختيار هذه العناصر: “قبل البدء في أي فيلم يسألني المصور السينمائي عن المراجع التي يجب توظيفها، عادة أتحدث معهم عن التصوير الفوتوغرافي لأفلام أخرى، أقتبس كثيرا من جاك كارديف وأفكر بشكل خاص في الأفلام التي صنعها وأفكر في الرسامين أيضا.. أفكر بشكل خاص في إدوارد هوبر فرانسيسكو دي زورباران بالإضافة إلى موسيقى البوب، وأعرض عليهم بعض الصور الموجودة في المجلات والكتب التي أقرأها”. هاهنا يظهر بشكل جلي وواضح التوجه المتكلف في أفلام بيدرو ألمودفار. لذلك يصح القول إن بيدرو ألمودفار يرسم بالكاميرا وشغوف بالعناية بالجانب البصري للصورة، وذلك وعيا منه بقدرة الصورة على إحياء الشغف الذي فقده الإنسان المعاصر..
إجمالا، التكلف كما تقول سونتاغ هو “نوع من الحب، الحب للطبيعة البشرية، إنه يستطيب، ولا يقيم الانتصارات الصغيرة واحتدامات “الشخصية” الصعبة المراس.. يتماهى الذوق المتكلف مع ما يستمتع به والأشخاص الذين يشاطرون هذه الحساسية، لا يضحكون على ذلك الشيء الذي يطلقون عليه اسم “التكلف” بل يستمتعون به، فالتكلف شعور رقيق”. طبعا ليس كل تكلف فنا وحده، التكلف الخالص منبع للحب وللمشاعر الإنسانية.