… «ورد ورماد» هو عنوان الكتاب الذي صدر في المغرب مؤخرا يحتوى على رسائل الروائي محمل شكري والناقد محمد برادة. وان كان من المتوقع أن تعكس هذه الرسائل تلك التعقيدات في العلاقة بين المبدع والناقد عادة. الا ان هذه الرسائل على غير المتوقع، تقدم علاقة تصل الى حدود التفاهم التام بين الاثنين. ربما لان محمد برادة يكتب الرواية الى جانب مزاولته للنقد. وربما أيضا بسبب الدور الهام الذي لعبه برادة في خروج ظاهرة شكرى الى الوجود. ويمكن تقسيم الأدوار بينهما، ففي حين أن شكري مشغول بهواجس الكتابة التي ربما وصلت الى كونها الكتابة المستحيلة. فر هذا الوقت نجد أن برادة يشارك شكري في صعوبة الكتابة. ولكن لأسباب أخري. وهى انه مشغول طول الوقت بالندوات والسفرات والعمل الجامعي ونكتشف أيضا أن برادة له هم آخر لا يشاركه فيه شكوى وهو أسئلة القراءة. فهو قارئ جيد بحكم انه يدرس الأدب العربي. ويكتب النص الروائي ويحاول أن يأخذ بيد شكرى إلى دنيا الكتابة والثقافة..
هواجس الكتابة
تبدو علاقة شكري بالكتابة معقدة. عندما قابلته في طنجه كان أول ما لفت نظري فيه هو قلم حبر ضخم ومن النوع القديم معلق في جيب جاكتته العلوي والقلم من النوع الغالي جدا. وهو يبرزه حتى يكون أول ما ترده فيه عند اللقاء. وآخر ما يبقى في الذاكرة عند الفراق. وعندما قرر أن يكتب لي إهداء على كتابه تنسى وليامز في طنجه، أخرج القلم من الجيب ونظر اليه وتمعن فيه طويلا. ومسحه من الحبر السائل قبل أن يكتب به.
ومحمد شكري معذور في هذا، لان حزب أعداء النجاح في المغرب يشيعون عنه انه لا يعرف القراءة ولا الكتابة. وان أدبه شفاهي. وهناك من يكتب له. بل يقولون أن الخبز الحافي "بيضة ديك" محمد شكري، قد نشرت باللغات غير العربية قبل أن تنشر بالعربية بعد ذلك.
يعبر شكري في هذه الرسائل عن صعوبة الكتابة بالنسبة له. ويدفعه محمد برادة إلى الكتابة باستمرار وبدون توقف او انقطاع:
ما عليك إلا الكتابة بانتظار. أنا لا اكتب إلا قليلا. وهذا مصدر شقائي.
ويكتب برادة لشكري في رسالة أخرى:
– ان كتابة الرسائل تعوضني على الأقل من حرمان الكتابة. خاصة حينما تكتب لمن تعرف انه يدرك ما وراء ألفاظك.
يكتب برادة لشكري عن فعل الكتابة في يناير 1975:
منذ فراقنا وأنا أفكرني الكتابة اليك لكن كتابة الرسائل إلى الأصدقاء ليست عملا سهلا. فهي أيضا كتابة بالمعنى المطلق وما يستلزم ذلك من مخاض وجهد وولادة. وفي هذه النقطة بالذات تكمن الصثكلة مشكلتي أساسا. أشياء كثيرة أكتبها بالخيال أو قبل النوم. دفعة واحدة بلا ألفاظ أو بألفاظ تعبر مرة واحدة عن كتلة الإحساس أو تعاريج الفكرة. يوما بعد يوم تتنامى مشاريع الكتابة، إلا أن شيئا ما يرجئها. يخبئها في الذاكرة أو يعلقها على رؤوس الأصابع. ولا أظن أن هناك شيئا أقسى من هذه الحال. الرغبة الجامحة في الكتابة ثم الإحجام لعائق حقيقي أو وهمي. إننا نصير غير ما نحن عليه، أو ما تريد أن تكون عليه من خلال الممارسة والرقابة.
وبرادة لا يشخص حالة التوقف عن الكتابة فقط. ولكنه يقدم الحل الذي لا يقدر عليه من اجل الاستمرار في الكتابة ويتمنى أن يأخذ به شكري وينفذه.
الحل بسيط نظريا ما علينا الا ان نكتب بانتظام. الا أن الأمر أصعب مما نتصور. المحيط الذي نعيش فيه وانعدام النظام في حياتنا وفي حياة من حولنا. يجعلنا أسرى هذا السديم المضطرب وما أحوجنا إلى أن نعلن حالة طوارئ لنعتكف ونكتب حتى نستنزف ما يدور داخلنا. ثم نعود إلى الممارسة والمشاهدة.
يكتب شكري لبرادة 25/11/1977:
منذ شهرين لم اكتب سوى خواطر أضعها في قصص. احلم بها منذ عهد مضى.
ويرد علية برادة:
ألح عليك دائما أن تكتب. أن تتخذ من الكتابة أفيونا. تكتب في الصباح وبعد الظهر وفي الليل. تتنفس كتابة. تسجل كل ما يمر بخلدك من حب وكراهية من تجاوب ونفور. اعتقد أن الكاتب الفرنسي ساتندال حقق ذلك، كان يكتب مذكراته ويكتب رحلاته ويكتب الروايات. ويكتب بأسماء مستعارة، لكي يحقق التوازن في حياته من خلال الكتابة. وطالما تراودني الفكرة لأنني أيضا لا أحس بالارتياح الا عندما اكتب. لكن شروط حياتي حالت بيني وبين ذلك. لأنني أعيش في دوامة من الاجتماعات والكلام. فإذا جاء الليل جاءت معي الوساوس. التي تحاورني أحيانا وأنا عاجز عن سلاحقتها ومن ثم الشعور بعذاب مصدره نقصان الفعل المجزي وغياب العلاقات المتحررة والعجز عن التحقق المحطم للكتب والمواصفات ان علاقتي مع ليلي "زوجة محمد برادة وهى الآن سفيرة فلسطين في باريس" تملأ الكثير مما كان ينتصب فراغا مخيفا. لكن فراغ الكتابة لايزال فاغرا فاه وما أزال احلم بملئه.
ويرد عليه شكري:
لا أبالغ إن قلت لك بأنني في حاجة دائمة إلى من يحفزني على العمل. فلولا بول بولز لما كتبت سيرتي الذاتية وجان جنيه وتنسى وليا مز في طنجه، إنني مصاب بالكسل اللذيذ وأيضا بهوس الكتابة إلى حد الانهيار في العمق. إنني افضل الانهيار في الكتابة. ليس كل ما في بليدا.
في 9/9/1980 يعود برادة ليحث شكري على الكتابة. وهو ينصح شكري بما لا يقدر هو نفسه على القيام به. وان كانت الأزمة مع برادة مختلفة عن شكري الكتابة هي طوق النجاة في هذا العالم الخطير المبنى على كثير من التناقضات والمهازل. طبعا الكتابة لا تنوب عن الحياة خلال فترة من حياتي استسلمت للمياة اليومية في اشد مظاهرها ابتذالا. وتخليت عن الكتابة. لأنه لا فائدة من ذلك مادامت أبواب النشر مقفلة. والناس لا يقدرون المواهب. وسيكون التسكع بمعناه الواسع متنفسا لك. وحول ذلك تنسج أسطورة رغم ارادتك أحيانا. عن الطفل المرعب والبوهيمي المتمرد.
إنني أتيح لنفسي أن أتحدث لك بقلب مفتوح. قلب صديق لا يريد لصد اقتنا أن تتوارى خلف مواقف مصطنعة أو تتحرج من المكاشفة. إن حديثي اليك لا تمليه الوصاية أو الحرص على الأخلاقية والسلوك الحميد. إنني لا أفعل هذا إلا مع من اعتبرهم أصدقاء. فأخول لنفسي مصارحتهم. كما أكون سعيدا أكتب ما تشاء وبأية نزوة تحاصرك وتجتاحك فكتابتك ستكون مجالا لتدعيم تجربتنا الأدبية المغربية والاستمرار في الكتابة بالنسبة لك هو فرصتك للأخذ بالثأر من هذا المجتمع ومن قيمه ومواصفاته. لتثبت انك اكبر من أن تؤثر فيك الدعاية. أو تشلك الأسطورة. طريقة حياتك تحملني على القلق. لأنك لا تتصور المرض. لا تتسق الانهيار. لا تتصور العقم الذي يتسلل الى النفوس من خلال تبلد الحواس والكتابة والحكي الفاضي. ماذا يبقى لنا عندما لا نقاوم العالم من خلال عملنا الخاص وحوارنا للأشياء وللكائنات عبر المطالعات المتواصلة والكتابة ومساءلة الكون والنفرس والعواطف.
ألح عليك أن تأخذ حقيبتك وتعبر البوغاز وليكن ما يكون. لتخرج من حانات طنجة ووجوهها المكررة. لتكتشف عوالم مثيرة وجميلة. وأسمعك تقول: ما عندي فلوس هذا المنطق هو الذي يعلن إفلاس شكري. يجعله إنسانا منتظرا أن تفتح له خزائن الأرض والسماء. يجعله شيخا قبل الأوان كيف تتوارى عن مواجهة الأخطار والمفاجآت والآ لاو وتسجن نفسك وقدراتك في شريط أسطورة عقيمة؟ أنا لا احبك هكذا. أنا أريدك صديقا جسورا على مواجهة الحياة اليومية. وعلى تغيير نهجك وأسلوبك في الحياة.
أنت لست بئيسا بالقدر الذي تتصور هناك في المغرب حالات لكتاب تبعث على الرثاء.
وفي مصر التي زرتها هذا الصيف. ومع هذا فانهم يقاومون ويكتبون ويجددون حياتهم.
لعلك معي في أن الانتهاء إلى اليأس ليس حلا وليس جميلا ولذته تنضح بالمرارة. لست ادري إن كنت ستغفر لي هذه الصراحة وتدرك ما وراء الكلمات لتخرج من منطق الإمكانات المادية. إن الجرد في موضع آخر وعليك إن تواجهه بإرادة خاصة وأنا لن أيأس من ذلك ولن اكف عن مطالبتك بهذا التغيير. ولا أخفيك إن لقاءاتي بك لن تسعدني إذا استمر رت في هذه الحال.
ويرد عليه شكري:
لا طريق هناك إذا لم نصنعه كما يقولون. لن أسير في الماء. أريد أن أسير حيث اترك اثري. الإنسان هو أثره حتى لو جاء من يريد أن يمحوه. الخبز الحافي صدرت بالعربية عن دار الساقي. لقد كتبته وتركتهم يختصمون. فشلت في شركة التصدير والاستيراد التي ساهمت في تأسيسها، السبب هو أنني طلقت الكتابة. وتزوجت تفاحة الحانات. كان ينبغي أن استمر في الكتابة رغم الإحباط في النشر حتى خطي تردى بعد أن لم اعد اكتب سوى برامج الإذاعة وبعض الرسائل. ليس عندي أدنى استعداد للكتابة في هذه الرواية لم تخرج إلى الوجود. إن الفشل الحقيقي هو في عدم القدرة على الكتابة. هذا المعنى يلح عليه محمد شكري كثيرا ويلمح له برادة اكثر.
أسئلة القراءة
قال لي محمد شكري. انه سيكتب كتابا كاملا كجزء من سيرته الذاتية عن القراءة والكتابة اللتين تعلمهما على كبر ثم قراءاته التي جعلت منه كاتبا معروفا ربما يكهن عنوانه: قصتي مع القراءة والكتابة. وشكري عندما تقابله. يبدأ في الكلام فورا عن قراءاته. وكأنه يريد أن يثبت لنفسه قبل الآخرين. انه من الكتاب والأدباء الذين يقرأ ون. بل ويسرف في القراءة. تسمع شكري يتكلم عن قراءاته بلفة فصحى. يشكلها عند نطقها لدرجة التقعر أو الدرعمية (نسبة إلى خريجي دار العلوم)، ويحاول أن يبدو معجونا في جذور ومنابت لفة العرب كما عرفها أسلافنا في بداية التاريخ العربي.
أول ذكر للقراءة في هذه الرسائل يرد في رسالة من برادة إلى شكري. يكتب له: شكري بك. قرأت الفصل الذي أعطيته لي من سيرتك العطرة "من أجل الخبز وحده". كان هذا هو عنوان الخبز الحافي في البداية – وجدته ممتعا ومليئا باللقطات الإنسانية. واعتقد مبدئيا أن لا شئ يحول دون نشرها هنا في المغرب.
وفي رسالة أخرى من برادة إلى شكري مكتوبة في 19/2/1977 من الرباط: قرأت صفحات رائعة في كتيب صغير ترجم للفيلسوف الألماني المعاصر: فيدغر عنوانه: ما الفلسفة؟ ما الميتافيزيقا؟ اقتطف منه هذه العبارة: والملال العميق الذي يرنو كالنمامة الصامتة في أغوار الآنية بين الناس والأشياء وبينك في سوية عجيبة. وهذا الملال يكشف الموجود في جملته. ويكتب شكري لبرادة:
ألاحظ أن معظم القصص والروايات المغربية مكتوبة بلفة إدارية مثل: نظرا لان ولم يكن له في الأمر يد. وفكر به. مثل هذه الكلمات قرأتها في قصص مغربية. إن القصة القصيرة لا يمكن لها أن تكون إلا مثل قصيدة شعرية في لغتها وأسلوبها.
وفي 3/11/1978 يكتب برادة لشكري:
إن الرواية الروسية في القرن الـ18 تستحق اهتماما اكبر لأنها تخرجنا من شرنقة الرواية الواقعية الأو ومن صفاتها المحدودة الساعية إلى فهم دينامية مجتمع دستوري رأسمالي بتصورات عقلانية هنا عند توا العودة إلى الرواية الملحمية الممتدة الشاسعة اا بالحسي والجسدي سعيا لفهم ما هو أوسع. دستويفسكي احياء للتراجيديا الإغريقية بدون مسرح هل صحيح ان ما شغلهما هو الله فقط؟! أم إن الذي شغلهما هو محنة الحياة؟ ثم ملاحقة الحق في تناقه اللا منتهية. لقد وجدتني أفكر في أدبنا المغربي. الى أن هناك شيئا كبيرا ينقصنا. ركيزة غائبة تب العقبنات معلقة في الفضاء. قد يكون من المحتم علينا ان نبحث عن مسقط رأس يجعل انتاجنا ممتدا في الماضي وفي المستقبل من خلال مراهنة على مسقط رأس يفسره العقل وحده. ولا الأرقام ولا الإحصائيا التحليلات الأيديولوجية. ذلك الشيء الذي يقد كارنينا أو الجريمة والعقاب أو المهانون أن تذ شامخة اصلب من كل المؤسسات قبل الثورة وبعده الثورة التي كانت ضر مرة تاريخية.
وفي نهاية رسالة أخرى يكتب شكري لبرادة:
اقرأ الكتب في حياتي لهنري ميللر وكارل ماركس لروجيه جارودى. نسيت أن أخبرك عن المقال الذي الطاهر بن جلون في لوموند عن الحياة الثقافية في المغرب. انه يجهل الأدب المغربي المكتوب بالعربية قال عنى: شكري روى حياته لبول بولز وأنني مجرد حكواتي كتبت توضيحا قصيرا في الموضوع وأرسلته إلى المحرر لكنهم لم ينشروه.
برادة يكتب لشكري من باريس في 2/4/1986:
سعدت لأنك تقرا ألف ليلة وليلة لست ادري إن قلت لك بأنني أتابع ندوة حولها وحول الكتابات العربية المتصلة بالتخيل العربي. فهي ذخيرة غنية بالصور والأقاصيص والرموز والأجواء الموحية. إن قراءتها متعة وأيضا مجال كشف عن المحجوب والمكبوت المغيب وراء النصوص الرسمية. في ألف وليلة يعشق الإنسان الجنية وتتداخل العوالم والاجتماع والأديان. وينطلق الخيال ليحرر الكائن من وضعيته البشرية المحدودة والضعيفة نص جميل يداعب خيالات غافية في الأعماق. ولعله أن يوحي لك بأشياء وأشياء في المعيشي والمكتوب
ثم يكتب برادة لشكري من باريس في 31/3/1987:
قرأت "في قبوي" لدستويفسكى وهى تحكي عن لقاء رجل متوحد، متعاظم، أخلاقي بمومس. ولم يعرف كيف يواجه الموقف. فانطلق في مهاجمتها وإيقاظ ضميرها حتى لا تظل خائفة وخائضة في الوحل. كان يبحث عن الحب ويعرضه عليها. يعرض أن ينقذها أعطاها عنوانه. وعاد إلى مشاكله اليومية والى مواجهة فقده وحزنه لكنه فوجئ بها ذات يوم تحضر لزيارته لتجده في وضع سيئ وهو يخاصم خادمه. انفجر ضدها. وضد نفسه. الكلمات ليست مثل الواقع. الكلمات عاجزة عن أن تواجه صلابة الواقع. إنها مسكينة صدقته. وتخيلت أن هناك من يقدرون على الحب والعطاء وهاهي تكتشف أن الكل سجين المسافة التي يبعد بها الواقع والتحقق عن التخيل والمثل والصور الزاهية. ماذا يفيد اذن أن نتحدث عن تلك الفتيات اللائي رأيناهن في المرقص أو في البيت. احتمل هذا التفلسف منى.
ويكتب برادة لشكري من الرباط في 2/11/ 1987:
أنا بصدد قراءة رواية ليلة القدر للطاهر بن جلون. كل ماله صنعه وفبركه بقصص مفصلة على قدر جمهور معين. لا يصل الى الآخرين وتوخى الوضوح والإشارات الى قضايا كبيرة بنوع من التبسيط. واعتقد أن الطاهر بن جلون منذ أن وصل الى باريس في 1971 كنت هناك وجاء عندي وتعارفنا. كان قد وضع في رأسه خطة لتحقيق مجده الأدبي انطلاقا من لوموند والعلاقات مع الصحفيين والنقاد واستيعاب لعبة النشر والدعاية وكانت له مزية العمل المنظم الجاد فيما يتصل بالكتابة والتفقير وهذا ما جناه اليوم. أدبه ليس عميقا وهو لا يزعم ذلك. ومن ثم فهو يستحق الجائزة المعمولة لهذا الصنف. أما نحن فينقصنا العمل المنظم. وتنقصنا المحفزات والسوق والجوائز والفلوس أيضا
انتهت الرسائل ولم تنته القضايا التي أثارتها..
يوسف القعيد (كاتب وروائي من مصر)