بدأت القصة باختفاء كتاب، قد تجدون في هذا الأمر ظاهرة عادية، لا غرابة فيها، فكم من الكتب ضاع او اختفى أو سرق، قيل إن رجلا جاء الى أديب ليستعير منه كتابا، فأجابه الأديب: "لا استطيع ان أعيرك ". فسأله الرجل: «لماذا؟" قال: «انظر حولك الى مكتبتي العامرة، لقد صنعتها من الاستعارة ". لكن الكتاب الذي فقدته من مكتبتي كتاب لا يمكن لشخص حريص مثلي أن يفقده.
كان مسرحية ألمانية عكفت على ترجمتها من الانجليزية، وانجزت مسودة تلك الترجمة اعتمادا على طبعتين مختلفتين، اختفتا معا، دون أثر، وبقيت لدي الترجمة التي تحتاج الى مراجعة، كان عنوان المسرحية "يقظة الربيع" لفرانك فيديكند، وكنت قد تعرفت عليها حين كنت أدرس التمثيل في معهد مسرحي مشهور في لندن، يومها، قال لي شاب بريطاني غريب الأطوار، يملك قدرة على الحدس السليم، عندما ذكرت أمام الزملاء أنني أرغب في ترجمتها: "لن تجرؤ، روح الشرق لن تسمح لك بنشرها أبدا". قبلت التحدي، ورغم انقطاع رؤيتي له، وعدم تبادلنا الرسائل، إلا انني صممت.. وترجمتها. لكن الأصل ضاع.. بل ضاع بأعجوبة، ولم أعثر على أية من النسختين بالفعل ابدا. قالت زوجتي، بعد ان كلت من البحث، وداهمني اليأس: «اترك المسألة. دعها تمر. لابد أن شبحا أخذها". قلت بابتسامة مريرة: «أين يمكن أن تختفي نسختان معا من كتاب ترجمته، وانا- كما تعلمين – شديد العناية بأشيائي؟ ثم ان النسختين بالانجليزية، ولا أعرف أحدا ممن يتردد علينا يتقنها، حتى أشك بالسرقة، فأين اختفت المسرحية ؟ إذا كان ثمة شبح حقا، لا شك انه شبح مثقف !"؟
مرت سنوات عدة، وأنا أكرر بين الفينة والأخرى التفتيش عن "يقظة الربيع " بنسختيها، تلك المسرحية التي كنت قد شاهدتها بالألمانية في مسرح برتولد برشت "برلينر انسامبل " دون أن أفهم كلمة واحدة، ثم شاهدتها ثانية في مدينة لوس أنجلوس في الولايات المتحدة بمحض الصدفة بعد أن أنجزت مسودة. ترجمتي، وفي كل مرة، كنت أنتهي بإعلان يأسي، إذ لم أعثر لأي من النسختين على أثر في أي مكان. إن من يعرف المشهد الأخير من «يقظة الربيع " يمكنه أن يتخيل لماذا بت – أنا العلماي- أؤمن بالأشباح.
كانت المسرحيه تنتهي بمشهد شديد الصعوبة تنفيذيا، وهو مشهد ظهور شاب انتحر بسبب فضيحة اجتماعية ناجمة عن كبت الثقافة الجنسية عن الشباب، وهو يحمل راسه تحت إبطه، ليقنع صديقه الأقرب ان ينضم اليه، لكن الصديق يتشبث بالحياة، ويترك من اختار الموت يذهب إلى عالم المظلمات متحملا مسؤولية ما ارتكب، اذن، لعله ذلك الشاب المنتحر الذي خرج من القبر براس مزقته طلقة مسدس خذ نسختي المسرحية من مكتبتي، بعدما فشل في إقناع صديقه الأثير في اقتراف الانتحار واختبار الموت مثله، او لعلها روح أرقها تشابه ما معه، أو ربما شبح جذبته أحداث تلك الحكاية التي تصلح لشرقنا العربي في أواخر التسعينات مثلما كانت تصلح لألمانيا في النصف الأول من القرن العشرين.
عدت بالذاكرة الى الوراء، تساءلت بيني وبين نفسي: "هل ضاعت لي كتب أخرى عندما كنت أقطن، وأهلي في البيت القديم " دهشت اذ تذكرت: «نعم، فقدت بعض الكتب في ذلك البيت بصورة عجيبة عندما كانت مكتبتي اصغر من الآن بكثير، وعندما كنت أكثر فقرا، واشد حرصا". وكان في اختفائها أمر غريب، فكيف يختفي كتابان بالتحديد من بين جميع الكتب للمؤلف نفسه ؟ كان المؤلف هو الدكتور صادق جلال العظم، والكتابان «النقد الذاتي بعد الهزيمة " و«نقد الفكر الديني". لم يكن ثمة من يستعير من مكتبتي سوى ابنة خالي، التي تكبري بقليل، ولم تكن مغرمة بقراءة شيء سوى الروايات، فضلا عن أنني كنت أسجل على مفكرة صغيرة عنوان كل كتاب تستعيره. وكانت مكتبتي في بيت أهلي القديم موضوعة في أقصى نقطة بعدا عن مدخل الدار. ففي حين كان المرء يدخل الى بيتنا من أرض ديار تتوسطها بحرة لها نافورة، كان على المرء أن يتوغل الى أقصى زاوية من أعمق غرفتي النوم كي يصل الى مكتبتي، فكيف لأي انسان أن يسرق كتابا منها؟
احترمت الشبح المثقف، وعذرته، جعلني حبي لاقتناء الكتب، وشغفي بها الى حد تشمم روائحها المختلفة، اعقد أوامر صداقة خفية مع تلك الروح الهائمة التي اختارت أن تؤنس وحدتها بقراءة بعض الكتب المختارة، في طفولتي، كان عمي الراحل "مدحت " يشتري اكواما بعد أكوام من المجلات والكتب الشعبية الدارجة، من «المختار" الى "ميكي" ومن «روايات الجيب " الى "روايات الهلال ". وكنت القارئ النهم التالي له في التهامها، كان الشيء الوحيد الذي يزعجه، ليس نبشي للفافات الكتب القديمة المكدسة تحت سريره، مثل فأر جائع، رغم بقايا الورق وخيوط المصيص التي كانت تنغص معيشة عمتي "اللتين رحلتا أيضا الآن عن عالمنا" بل لسبقي إياه في قراءة كتاب أو مجلة جديدتين قبله هو الذي دفع ثمنهما، وعلى ضوء مصباح يدوي ببطارية، كنت أنبطح متسللا كالأفعى بين ربطات تلك الكتب، أنبش روايات فروسية لرافائيل ساباتيني، أو روايات بوليسية من بطولة أرسلين لوبين أو شرلوك هولمز او هركول بوارو، أما روايات بطلي الآخر المفضل مايك هامر، فكنت اتلقفها طازجة من المطبعة، فاندس بين أغطية السرير، لأشم رائحة طباعتها في شغف ولذة. وطدت العزم أن التقي بالشبح، وأن أرجوه، كي يعيد الي كتبي المفقودة فاستعارة الكتب مشروعة، لكن الاستيلاء عليها حرام، وساعده، مقابل ذلك، بوضع بقية مكتبتي رهن تصرفه، لكنني ما لبثت ان سخرت من نفسي، فمكتبتي كلها بالفعل تحت تصرفه، شئت هذا أم ابيت، واذا كان بمقدوره أن يتسلل عبر الأبواب والجدران الصلدة، ويستعير كتابا أو كتابين أو ثلاثة أو عشرة، فان في وسعه أن يخفي مكتبتي بأسرها عني، إذا شاء، أو يحرقها، استسلمت، وكففت عن البحث، لكن كتابا آخر اختفى، فأضاع من وقتي ساعات طوالا وانا بغاية الانهماك والحاجة اليه، باحثا عنه دون جدوى. كان هذه المرة رواية لم أكن قد قرأتها بعد، أو عرفت شيئا عن مضمونها، بدأت أتوهم، كثيرا ما صرت أغضب لضياع كتاب، ثم ما ألبث أن أجده. وأحيانا تثور ثائرتي لأن أحدا قد غير ترتيب أوراقي عما تركتها عليه، وتقسم زوجتي الأيمان أنها لم تمسها أو تدع أيا من ولدينا يقترب منها، ثم أتذكر أنني أنا نفسي غيرت وضعها، أو ربما أنني أتذكر، هل خرفت ؟ هل أخذت ذاكرتي بالتلاشي؟ مازلت في مطلع الكهولة، والشيب الذي لم يغز شعري كما يجب بعد يجعلني وأنا في العقد الخمسين من العمر أبدو كمن في الأربعين. أتراني أعاني من انفصام في الشخصية، أم تراني أسير في نومي، فأخفي بعض أوراقي وكتبي دون أن أدري؟ واذا كانت هذه حالتي الآن، فكيف ستصبح ذاكرتي ووعيي عندما تدب في الشيخوخة، وأضحي عجوزا مسنا؟ إنني افضل عندئذ أن أحمل رأسي تحت ابطي، كما فعل بطل مسرحية فرانك فيديكند، دون أن أطلب من صديق أن يؤازرني ويرافقني ويرحل معي، لأنني عندها سأتسلل إلى أية مكتبة أشاء، فأستعير منها الكتب التي أشاء، والتي لم يتح لي في حياتي وقت لقراءتها، فأقرأ وأقرأ وأقرا، أدع أرواح الذين خطوا تلك الكتب تتغلغل في روحي، حتى تصبح روح الكتب ممتزجة بروحي.
أقسم لكم أنني صحوت ليلة أمس فجأة، وانا في كامل يقظتي، لم أكن قد نمت كفايتي، وكانت زوجتي تغط في نومها، وكذلك ولداي، نهضت، كأنما هاجس يقود خطاي، اتجهت الى غرفة مكتبي، حيث يقبع الجزء الأعظم من مكتبتي، مغطيا جدارا برمته، وجزءا من الجدار الآخر، هالني ضوء عجيب ينبعث وهاجا من الغرفة. دنوت. ومن خلال فرجة الباب، وجدت شابا منكبا على قراءة كتاب، والضوء الذي ينير موقعه في الغرفة ذاتي، كأنه نابع منه، ارتعشت من رأسي حتى أخمص قدمي، وسرت قشعريرة في عمودي الفقري. استجمعت فلول شجاعتي، وأنا أتمتم ما أحفظه من آيات القرآن الكريم، وحركت الباب ببطء، صدر عنه صرير ثبتني وجمد الدم في عروقي. رفع الشبح وجهه الي، ارتعت، كنت كمن ينظر من مرآة، رأيت في الشبح ملامح وجهي حين كنت شابا تكرست هواية المطالعة لديه، تأوهت، وتنهد الشبح، ومن خلال آهتي وتنهيدته، حامت في مكتبتي والبيت ودمشق وسورية والعالم كله أحرف كثيرة جدا بمختلف اللغات، وترددت اصداؤها متداخلة مثل قطعة سيمفونية، وصار الهواء مشبعا بروح الكتب.
رياض عصمت (كاتب من سوريا)