لما تبدأ يدي بالتدوين على صفحة الكتابة البيضاء، تكون هذه اليد قد بدأت بالحفر في مصطلح اسميه الوقت. الوقت هو هذا الحرف المحفور في مكان الكتابة، الوقت هو الحركة الأكيدة، أولا بأول. نحو لا نهائية الزمن. والتدوين هو وقت كتابي يجعل من الفعل الجسر الرابط بين مرآة الذات ومرآة المطلق، أي بين الكتابة والمحاولة فيها، بين لحظات الفكر المستهلكة على الورقة ولحظة بلوغ المنتهى. وأقول محاولة لأن الكتابة ليست كتابة على الاطلاق، انما مجرد محاولة منها وفيها للوصول اليها، اعني الى ذاتها، تلك الصيغة النهائية. فبين الصياغة والصورة النهائية، ثمة مكان يجب اجتيازه، وهو مسافة هذا الشرخ الذي يحدثه الفعل الكتابي اثناء لحظات التدوين، الشرخ هو المساحة الطبيعية للكتابة حيث على متن الهامش او على هامش المتن، يتم هذا الجرح "الكينوني"، وهنا آخذ المصطلح من عبارة الباحث المغربي مصطفى الحسناوي. إذ يقول "التجربة الكينونية" أي "الكينونة-من أجل – الموت". تجربة الكائن – الكاتب في الفعل الكتابي، هي مدة تحمله مشقة اجتياز فسحة الكتابة التي يكابدها، والتي تمتد تخومها من الشيء المفكر به إلى اسم هذا الشيء. المسافة الكتابية هي إذن هذا المأزق الذي يضع اكائن-الكاتب بين مكان الكتابة ومكان اللاكتابة واعني بالأخير ذلك الفعل المضاد حيث الكتابة هي وليست هي، حيث وجه الكاتب على
سطح المرآة وفي جوفها معا، هذا الوجه الذي هو وليس هو، على غرار هذا الوجه الريبي تكون ريبة لكلمة التي تأتي الى الورقة لكي تبقى مدونة، لكنها في جميع الاحوال هي مادة فضاءات الشكل والغياب، إذ كلما ظهرت توارت، وكلما تساءل الكاتب حولها مات. فالكتابة ليست ما يدون إنما ما يحدث أثناء التدوين، وهذه الأثناء هي ما اسميه المكان الكتابي، الشرخ – الجرح الذي يرسم فضاء الالتباس، فضاء اللغز الذي يلف جسد الكلمة. مكان الكتابة هو مكان اللغز، واعني به أيضا الغربة. مكان الغموض هذا يمثل وقتا ما، هو وقت التساؤل حتى الهلاك حيث أبواب اللغة – الذات مشرعة على هاوية الموت. هذه الهاوية هي التي تحدد أمكنة الكينونة، فاصلة بين مكان الوقت الكتابي ومكان الزمن إلما بعد الكتابة. وبين الوقتين تنشق جغرافية الكائن، وهي جوهر الشرخ الذي ذكرناه مرارا، حيث على الكاتب مكابدة آلام الفصل والوصل بين المحاولة والبلوغ، بين الكتابة البائنة، المؤقتة، والكتابة المضادة. ففعل الكتابة هو فعل اجتراح أثم الكتابة حيث خطأ الابتداء حتى التكرار، والتكرار حتى الوصول، والفسحة التي ما بينهما هي مساحة الموت بسبب
الكتابة، أو الكتابة حتى الموت. إما الكتابة المضادة فهي التي تصنع ذاتها لتلغي ذاتها، هي التي تظهر لكي تتوارى، التي تقبل التدوين لكي تقبل الامحاء. الفعل الكتابي، بتعبير آخر، هو ما يعجز أمام احتمالات الكتابة المضادة، أمام لا حدودها، تلك المشرعة على مساحات اللغة الشاسعة التي يكشفها وقت الفعل، بل وقت الالتباس حتى الجنون. انه وقت اللامكان، هذا الحد الفاصل بين وهم الفعل وحقيقته، بين سطح المرآة وجوفها. وقت اللامكان هو الشرح المؤدي الى زمن الموت، أي زمن الابعاد كلها والاحتمالات والآفاق، حيث مشروع اللغة ينجز لكن الكتابة ذاتها لا تتم. الكتابة هذه هي كتابة الموت، لأنها الفعل الهامشي بامتياز، أي فعل الخروج من دائرة الأمان، وأعني بها دائرة الكلمة الممكنة والمعقولة، الى الفضاء المنفلش الى ما لا نهاية، فضاء اللاأمان واللامعقولية. الكتابة الآمنة، هي تلك الظاهرة فقط على ورقة القارئ، وهي بالتالي مؤقتة، إذ تنتهي مع انتهاء قراءتها. إما كتابة الموت، هي تلك التي تصنع على هامش الورقة، تلك التي لا يردها القارئ وبالتالي لا يقرأها، فلذلك تبقى وتدوم، هي الكتابة التي يظل يكتبها صاحبها حتى الهذيان، حتى الجنون منها، حتى الموت منها وفيها، إنها الكتابة التي تستمر ما بعد التدوين على الورقة لتخرج منها، فتتفاعل في هامشها، في الخفاء، وراء الأحرف الظاهرة، فتبين وتتوارى في فعلها السري- السحري، كي تقول ولا تقول، بل كيلا تنجز أبدا. في هذا الشرخ – الفسحة الفاصلة، في هذا الهامش الاختباري أي الجحيمي، يرتكب فعل الكتابة المضادة، حيث اجتراح خطئها وإثمها، حيث محاولة الوصل بين الشيء واسمه. الهامش هو المكان اللامعقول، هذا الذي تتم فيه، كيلا تتم، الكتابة الضد، تلك التي تنقض ذاتها باستمرار، تلك التي تنفي ذاتها كلما تأكدت بالتوالي، كيلا تبقى ولا تزول، كي تخرق الحدود ولا ترسمها. هذا المكان – الحد- الفاصل، هذا الجرح المفتوح بين وقت التدوين وزمن الكتابة أي زمن الموت، هو الذي يضع الكاتب في المكان البياض، المطرح الذي طالما رأيته أثناء وقوعي في الشرخ الكتابي لما تتخطى الكتابة أمان اللغة لتقفز في مجهولها، في موتها، لما اقفز في الموت منها، هناك، حيث هي هي وليست هي، حيث يصبح الحرف لامعقولا. هناك حيث تبدأ مفارقة الذات واللغة. يقول جاك ديريدا: "إنها الهوامش كخطوط بركانية متقطعة، لا تسكن ارضا معلومة، ولكنها تبتكر ترحيلات كأنماط وجود، أو كإمكانات جديدة للمياة، نوع من الكتابة التي تكتشفها في ليلة النسيان تلك، غريبة وسردابية، أي كتابة فالتة، بفضل الحضور الفعال الاختلافي، والاختراقي للهوامش". مطرح الشرخ او الفسحة – الهامش التي يجد نفسه فيها الكاتب اثناء التدوين وبعده، هو تلك الارض المجهولة حيث لا ثبات ولا سكون، حيث لا ترتاح الكتابة ولا تستقر، حيث لا انجاز انما مشروح دائم قيد الانجاز. مطرح الشرخ – الهامش هو حيث تصنع اللغة الكبرى، لغة عدم الانجاز، تلك الرحبة والمخيفة، الهائلة والمريبة، لغة الاحتمالات حتى العدم. هذه اللغة اللامعقولة، حيث العدم يجاوز الممكن وحيث الترحال الدائم يذكر اللغة بما يخالفها، هذه اللغة هي زمن الموت، وهل من موت أصدق من هذا الذي يزعزع وجود الكاتب ويضمن وجود الكتاب ؟! فالحالتان مترابطتان، واعني بالكتاب الموجود، هذا الذي عبر ترحاله اللغوي- الاختراقي، يظل باحثا عن ذاته في انعكاساته العديدة، يظل محاولا التشابه أي التوحد عبر اختلافه. فالكتابة لا تكون الا في الهامش، اعني على العتبة، بين الحضور والغياب، ففي العتبة، مكان الالتباس هذا، يقبض الكاتب عليها وهي تفلت منه، العتبة هو مكان الغربة والحركة، مكان الريبة والاختراق. فكلها اخترقت اللغة ذاتها واختلفت مع وقت تدوينها وفلتت في متن الصفحة الآمنة لتحضر شاسعة في هامشها، كلما تأكد وجودها- وجود الكتاب، والأخير ليس ما يبين وقت الكتابة إنما ما يخفى منه في زمن الهامش – زمن الموت. وهذا الوجود الأكيد للكتاب من شأنه، كما قلت آنفا، زعزعة وجود صاحبه الذي كلما اخترقت لغته المناطق الممكنة، أي الآمنة، نحو مناطق غير ثابتة وغير معلنة، ادرك هو معناه، هذا الكامن في غبش الحضور، أي المكان الأبيض حيث لا موت ولا حياة في معنى التناقضات المتساوية، بل حيث الهلاك الاكبر في معنى التناقضات المريبة. إزاء هذه الريبة الهائلة لا يبقى أمام الكاتب سوى ان يقلق على ذاته، هو الذي همش نفسه وهمش عمله في الوقت ذاته. وهل في كتابة حميمية خارج الهامش ؟ فمن يقرر القيام بهذه المجازفة، واعني بها الفعل الكتابي، يكون قرر في أي حال مواجهة مخاطر هذا الفعل القاسي والمؤلم، وابرزها الوقوع في التشكيك الدائم في وجود الحرف ووجود الذات. هكذا تخلق المفارقة الصعبة، تلك المتعلقة باللغة وبمن لعب في سراديبها ودخل متاهاتها وغاص في مقرها، في هاويتها. بتعبير آخر، من يكتب يموت ويحيا في آن، يكون ولا يكون، تماما كما الكتابة اذ نراها ولا نراها، ولعبة الموت – التهميش متبادلة، فتارة أنا التي اخلق الكلمة واقذف بها خارج الصفحة العادية – المرئية وأعالجها، وتارة أخري، هي التي تسيطر علي، بل تخلق ذاتها وتميتني وتقذف بي خارج الممكن والمعقول، لكن في أي حال، مهما يكن من أمر، يظل الغموض هو سيد الموقف في الفعل الكتابي إذ كيف إذا تزعزعت أنا، تتمكن الكتابة، وإذا تأكدت هي أندحر أنا؟! من هنا يقيني إن ما نفعله هو "كتابة آتية "(إذا الفرنسي)، تلك اللغة التي تفعلنا لكي تغيب ونفعلها لكيلا تحضر. يقول بلانشو في هذا الصدد:"التجربة الأدبية هي امتحان التفتيت في حد ذاته، إنها التقرب مما يفلت من الاتحاد، إنها تجربة اللاتفاهم، اللااتفاق، اللاأفق-الخطأ والخارج، المتعذر القبض عليه واللامنتظم".(ص301)- فالهامش، إذن هو مكان التفتيت والتشتيت في المعنى الذي أراده المفكر الفرنسي حيث المحاولة هي كل ما يقصده الكاتب لما يرى نفسه في غمرة الخريطة هذه، في غمرة ازدحام التناقضات وكأن ما يفعله عبث محض. انه عبث الجنون إذ الكاتب يمارس تجربته في خطأ المكان وخطأ الوقت، فوقت التدوين ليس الوقت الأصلي إنما ما يؤدي إليه، ذاك الذي في آن وفي أي حال، لا يثبت في زمن واحد ولا يركن إلى مكان. وقت الكتابة هو التجربة القادمة دائما، تجربة ما يتحول أبدا، ما يهرب باستمرار من قبضة الكاتب، ما يصنع في الهامش، أي في اللامكان، وهو التعبير الأصح. كأن الكتابة في الخارج وتحاول الدخول ولما تكون في الداخل تتوق إلى العكس، وهكذا دواليك والى ما لا نهاية، حتى الحفر عميقا في هاوية الخطأ، في دائرته الجحيمية حيث لا فرار من الفعل الكتابي ولا انصهار به، من غير الممكن جعل الكتابة وصاحبها واحدا، فالتجاذب والنفور عنصران أساسيان في الفعل الكتابي، عنصران حافزان لخلق تجربة الزمان والمكان التي لا تتم إلا في أروقة الخطأ، حيث وقت الكتابة المؤقت على الورقة البيضاء، وزمن الكتابة اللانهائي على هامش هذه الورقة. يتساءل موريس بلانشو، لكن في كتاب آخر "الفضاء الأدبي" قائلا:"ربما الفن طريق نحو الذات، وربما أيضا نحو موت قد يكون موتنا، لكن أين الفن ؟، استعنت بشهادة لبلانشو لكي أطرح السؤال ذاته ولو في غير الاتجاه الذي قصده المفكر الفرنسي. وقد أسأل بدوري وفي الطريقة ذاتها، إن أين الكتابة في النهاية، هذه التي تقسم في الوقت ذاته في مكانين وزمنين، هذه التي بالأحري تبقى أبدا بين الوقتين والمطرحين، هذه التي تقودنا نحو ذاتنا، والذات في الوقت عينه متجهة دائما نحو الموت. أين الكتابة من موت الذات وموتها هي، هي التي تموت على ورقة التدوين لتحيا في الهامش حيث تعيد موتها كذلك كيلا تجمد وتنتهي، كي تبقى في آفاق المرآة الوهمية، هي وليست هي، موجودة وغير مرجوة. كي تكون صورتنا غير الملموسة، وموتنا الحتمي والمؤجل، الكتابة قد تكون في هذا المطرح بالذات، مطرح المفارقة الصعبة: الوجود المعقول والوجود اللامعقول، بسبب كتابة ظاهريا منجزة وجوهريا مؤجلة. إثم الكتابة، هو هذا الذنب الذي نحمله في داخلنا إزاء الفعل – المأزق الذي قمنا به أصلا دون قصد الأذى. فالوقت الكتابي يحيينا، والزمن الكتابي يميتنا، إلا أن موتنا يميت بدوره الكتابة كي تدخل الأخيرة لا نهائية الفعل، أي الموت الأبدي. فالصوت هنا، يعني جنون الصيرورة الدائمة.
صباح زوين (شاعرة ومترجمة من لبنان)