بدر الشيدي
قاص عماني
ما الذي تفعله الشوارع بنا؟
الشارع الذي لا تزال طفولتنا بين جنباته، الشارع الذي لا تفارقه قهقهات الصبا وحكايات الشقاوة، شارع الحب الأول والنظرة الأولى، شارع حركات المراهقة العجيبة التي لا تهدف إلا للفت أنظار الصبايا.
سحر الشوارع والطرق والأزقَّة الضيقة كما للمباني سحرها الخاص أيضا وفلسفتها العميقة. كلمة الشارع مكتنزة بالدلالات والرمزية. لكن كثيرين الذين لا يدركون تلك اللمسة الخافتة من السحر. الشوارع كلمة مخاتلة قد توحي من الوهلة الأولى إلى الحرية والانعتاق، فأنت في الشارع لا قيود تحدك، قل ما تشاء وافعل ما يحلو لك. هي ببساطة عكس الأماكن المغلقة التي تبعث الحزن والكآبة.
شيء آخر توحي به كلمة الشارع أو الشوارع، توحي إلى الفوضى وإلى كل شيء سيئ. يقال مثلا في وصف سيئ الأخلاق بأنه ابن شوارع، ويقال للذي يحدث الضوضاء أو الذي يتكلم بصوت عالٍ: أتحسب نفسك في الشارع. الشوارع مرادف للضوضاء والإزعاج والانفلات من كل شيء. تلك نظرة تقليدية للشوارع بلا شك، عفى عليها الزمن أو كما يقال: أكل عليها الزمن وشرب.
لكن في المقابل كلنا يدرك أن الشوارع لم تعد فقط مكانًا للسير والعبور إلى أماكن ومدن ودول وتفضي بك إلى عوالم أخرى.
من منا لا يحب الشوارع وخصوصا إذا ما كانت تعبر عن الانشراح والبهجة والفرح. شوارع كثيرة تقبع في الذاكرة لا تحيد عنها أبدًا. تلك الشوارع التي تنبت على جانبيها المقاهي الحديثة الطراز والتقليدية البناء، عامرة بالمحلات التجارية والمطاعم وأكشاك الجرائد والمجلات.
أسماء الشوارع هي الأخرى حكاية جميلة، أغلبها تحمل أسماء مدن وشخصيات ووقائع. في إحدى الدول العربية همس إليّ سائق التاكسي ذات مرة بأن هذا الشارع الذي نقف عليه الآن، كان يسمى شارع إبليس.. فعجبت لذلك، لا أدري إن كان هذا صحيح؟ لكن ذكرني ذلك برواية الجزائري أمين الزاوي (شارع إبليس)، وهي الرواية التي قال عنها الشاعر سيف الرحبي:«أمين الزاوي ينقض فيها على القيم والتصورات التي شكلت منظومات الوعي العربي المعاصر، من جزائره إلى مشرقه، وفي معول النقض والتهشيم».
في حياتنا الكثير من الشوارع التي تثير الشجن وتبعث السعادة.
في السبعينيات عندما بدأت عُمان تنهض من كبوتها التي استمرت لفترة طويلة، مثل شارع روي بحي روي التجاري في مسقط الذي كان مكانا نابضا بالحياة ولم يكن قلب مسقط النابض فقط، بل قلب عُمان كلها. كان شارع روي وحده عالمًا مختلفًا، شارع كوزموبوليتي بحق بما يمثله من طراز حديث في المباني ومواقف السيارات، كان يزخر بالكثير من المحال التجارية والبنوك والمطاعم والمقاهي. اشتهر الشارع بمحلات بيع الذهب فكان مقصدا للعرسان الجدد. وانتشرت على ضفتيه الكافتيريات والمطاعم، أذكر منها على سبيل المثال، مطعم الروشة (تيمنًا بمنطقة الروشة اللبنانية) الذي ذاعت شهرته في تلك الفترة، المطعم افتتحه بعض الاخوة اللبنانيين وكان يقدم أشهى المأكولات والوجبات اللبنانية التي أضافت بهجة وسرورًا على رواد المطعم، وأجزم بأن مطعم الروشة هو أول من أدخل الشاورما في عُمان. كنا ونحن طلبة في الابتدائية ومن ثم في المرحلة الثانوية لا يكاد يمر يوم إلا وذهبنا إلى ذلك المطعم، يكفي أن نعبر من أمامه ونشاهد أعمدة الشاورما المرصوصة على أسياخ معدنية تدور على المجمر الكهربائي، وتلك الروائح الذكية للحم المشوي التي تنبعث منه.
كان هناك أيضا مطعم العالم العربي الذي يقع في الدور الأول من مبنى يقابل مركز الشرطة، كان يقدم خليطًا من الوجبات العربية والهندية. يتفرع من الشارع أسواق صغيرة، كسوق المهرة وسوق الذهب، وسوق لبيع الحقائب والجلديات وسوق العطور. من معالم الشارع محل زجاجي تخصص لبيع ساعات رادو الثمينة، ظل هذا المحل لسنوات طويلة قابعا في مكانه على إحدى ناصيات الشارع. ما يميز الشارع في الليل تلألؤ أنواره المختلفة. وعندما يأتي المساء تشاهد البسطات على جوانبه لباعة البخور والعطور والأعشاب والكماليات كالساعات وأشرطة الكاسيت وأشرطة الفيديو. في نهاية الشارع كانت سينما النجوم بمبناها المميز، وفي المقابل يقع جامع السلطان قابوس وهو أول جامع تم إنشاؤه في مسقط بطرازه الحديث وفنائه الواسع. استمر الشارع في نبضه وعنفوانه في الثمانينيات إلى منتصف التسعينيات، ثم خفت وتوارت أنواره.
شارع هوندا في الحمرية الذي سمي بذلك لوجود وكالة سيارات هوندا عند مدخله، هو الآخر كان عامرًا بالحياة والنشاط، تخصص في بيع مواد البناء ومستلزماتها، لا تخفت حركته أبدا، في تلك الفترة كانت المحلات تزدحم بالناس وخصوصا وقت المساء.
هذه الشوارع خفتت الآن وانطفأ بريقها منذ نهاية التسعينيات عندما أقيمت أحياء جديدة في ضواحي مسقط أكثر تطورًا واتساعًا.
شارع الفراهيدي هو الآخر من الشوارع النابضة بالحياة، الشارع يقع بمحاذاة منطقة روي، وأبرز معالمه، فندق روي، وهو من أوائل الفنادق التي أقيمت في المنطقة، ولاحقا شيد مقابلا له مجمع مركز عُمان والكويت التجاري، وهو أول مركز تجاري أو مول يبنى بطراز حديث. الشارع كان يضج بالحركة، وكان الشاعر مبارك العامري قد استوحى منه أحداث روايته المعروفة بعنوان (شارع الفراهيدي)، وصفه كنصل وسط المدينة وكتب على لسان بطله يقول: كنت أمارس عن كثب ولبضع دقائق يوميا رقابة مستترة على البشر السائرين على بلاط رصيف شارع الفراهيدي. أحدق من الثقب المستدير ميممًا وجهي شطر الشارع، متعة طارئة تتسلل إلى داخلي، تغمرني اللحظات وأنا أشاهد أمامي وجوهًا تكسوها ملامح متباينة. بعضها يسير متباطئًا، كأنه ينوء بعبء يثقل كاهله، بعضها حذر، بعضها مسرع غير مكترث بشيء.. وبعضها مهموم كدر، أو ساهم محدق في الفراغ.
شارع الحب في شاطئ القرم، وهو بالمناسبة مسمى غير رسمي، فقط متعارف عليه وخصوصا بين الشباب. الشارع مُقامٌ على جانب منه مقاهٍ ومطاعم ذات علامات عالمية. شارع الحب بدأ يستقطب الشباب وتتجه إليه الأنظار، وأصبح مكانًا للفسحة وممارسة الرياضة.
في المغرب أينما ذهبت سوف تجد شارع محمد الخامس، رمز كل المدن، هذا الشارع أجزم بأن العين لا تخطئه أبدًا. تتشابه هندسته وتصميمه في كل المدن. أينما ذهبت سوف تجد متاجر بائعي الجلود، والمقاهي، والمكتبات، والبسطات على ضفتيه، وأكشاكًا تبيع الجرائد والمجلات. لكن يبقى شارع محمد الخامس في الرباط أشهرها، وأشهر معالمه مبنى البرلمان ومحطة قطار المدينة ومقهى بليما الذي يستقطب العديد من المثقفين والمبدعين، وأصبح ملتقى لكثير من الشخصيات الوطنية والنخب والوجوه البارزة في سماء الفكر والأدب والسياسة، الذين يزورون المدينة، ويمتاز المكان بالشجر الظليل ووجود مساحة واسعة للعابرين والباحثين عن متعة النظر والقراءة. يقع مقهى بليما مقابل مجلس النواب تماما، مما سمح للعديد من الصحفيين بالتواجد على مقاعده في انتظار خبر أو معلومة تخرج من مبنى البرلمان. الشاعر المغربي عبد الرفيع الجواهري كتب قصيدته بعنوان (بليما) قال فيها احتفاءً بالمكان والذاكرة ..
ما الذي بيننا؟
قهوة أم شجر ؟
جوقة العابرين ؟
واختلاس النظر ؟
آه يا زمان
مر في خلسة
دون تلويحة وعبر
ها هنا فوق هذا الشجر
ذكرياتي تحدق في رأسي ،
تعاتبني
ها هنا ذكرياتي ،
مشت فوق هذا الحجر
فوق هذا الحجر
والذي مضى صار ذكرى سفر.
شارع فال ولد عمير في حي أكدال بالرباط. (نسبة للمناضل الموريتاني محمد فال ولد عمير 1920- 1965)، شارع يشطر الحي بالتساوي إلى جزءين. يمتاز الشارع ببناياته الجميلة ونظافته، يتسم بالهدوء والبعد عن ضوضاء المدينة، تكثر في الشارع المحلات التجارية، والحانات، لكن ما يميزه أكثر تلك المقاهي التي تقع على ضفتيه، وكان أشهرها مقهى الحطبة وغيره الكثير، يكتظ بالشارع على مقاعد المقاهي العديد من الصحفيين والمثقفين. كتب الشاعر عبد الرفيع الجواهري قصيدته (كلاب لطيفة جدًا) مستوحيا ما يدور في شارع فال ولد عمير، تحفل بالتفاصيل الدقيقة لحركة الشارع، وكأنه يشاهد مجموعة من الفتيات يرافقن كلابهن يتبخترن بغنج ودلال في الشارع، يراقبن واجهات المحلات التجارية، ويثرثرن ويغنين عن وفاء الكلاب وغدر الرجال. يقول في أبيات القصيدة:
يغادرن
يدخلن في خفة
لمقهى ظلال
ويمشين للحديقة كمشي الغزال
وفي يد كل صويحبة كلبها.
ويجلسن يطلبن شايا
وقطعة حلوى
يثرثرن في حسرة
عن حكايا المحبين
عن إليسا
وعن لست آسفة
عن وفاء الكلاب وغدر الرجال
الشارع هو ما يميز الحي، ويعرف الحي بالشارع أكثر ما يعرف الشارع بالحي، فالذاهب إلى هناك بمجرد أن يذكر شارع فال ولد عمير يعرف بأنه ذاهب لذلك الحي. لذلك أصبح الشارع عنوان الحي كله. الشارع نابض بالحياة لا يهدأ ولا يسكن أبدًا. طوال ساعات النهار، وعندما يأتي المساء يتحول إلى كرنفال ومزيج من الألوان وروائح عطور تكتسح جنباته. حقًا.. إنه شارع سعيد.
ذلك الشارع يليق به وصف الشاعر مبارك العامري في قصيدته (شارع في الرباط).
سعيد ذلك الشارع ونابض كقلب يافع حيي
لأن ثمة أقمارا تعبر رخامه الصقيل
سعيد ذلك الشارع بالتأكيد
لأن نبعا من أقمار ينساب فوق رصيفه برهافة وخفر
وثمة حقل من أزهار يسير على قدمين
سالكا دربًا بمحاذاة السوق
نافثا عبيره في الأزقة.
الكاتب المغربي عبدالله الدامون كتب مرة عن حي أكدال في الرباط وعن شارع فال ولد عمير. كتب يقول «عندما تجول مساء سبت دافئ في الشوارع الرئيسة لحي أكدال بالرباط تعتقد أن هناك مشكلة حقيقية تتمثل في وجود نوافذ غرف بلا شبابيك، وأن ذلك يتسبب في سقوط فتيات نائمات مباشرة من أفراشهن نحو الشارع ، لكن القضية ليست كذلك بالمرة، فهؤلاء الفتيات اللواتي يرمين على أجسادهن ما خف وزنه وغلا ثمنه، لم يسقطن من نوافذ غرف النوم، بل خرجن بذلك الشكل مع سبق الإصرار والترصد.. الإصرار على الإغواء وترصد أول من تحْوَلُّ عيناه لمجرد أن يرى قطع لحم مكتنزة خلف أثواب لا تقي بردا ولا تمنع صهدا».
في مراكش شارع علال الفاسي الذي يفصل حي الداوديات وحي أسيف. شارع آخر يظل مكانا للبهجة والسرور ينفث الفرح في نفوس المارة، تراهم مسرعين في وقت النهار كل إلى جهة ما، تتداخل ملامحهم. يتفرع الشارع ويفضي إلى كلية الحقوق وكلية الآداب بجامعة القاضي عياض، لذلك كان أغلب الطلبة يسكنون الأحياء القريبة من الشارع كحي أسيف وإسيل. ولا غرابة، عندما يأتي المساء تظهر بسطات بائعي الكتب المستعملة والملابس وبائعي البذور المحمصة والألعاب. يتحول الشارع في المساء إلى مكان للبهجة والاحتفال. يتقاطر الطلبة والطالبات على شارع علال الفاسي متشابكي الأيدي يمشون في سعادة وود، وئيدي الخطى يترنحون في مشيتهم على أنغام الموسيقى المنبعثة من المقاهي الكثيرة المقامة علي جانبيه يصلون إلى نهاية الشارع ثم يعودون، هكذا يلوكون الوقت ويبددون الفراغ. وقت الظهيرة وقت هدوء وانسحاب إلى البيوت، وخلاء الشارع من المارة، يبقى الطلبة وحدهم يدفعون الوقت في مشوارهم إلى الكلية، تطلق المقاهي -وكأنها على اتفاق- العنان لصوت السيدة أم كلثوم ما يضفي مزيدا من الهدوء والسكينة والخمول.
في القاهرة عندما بدأت رياح السفر تأخذنا إلى هناك لاح لنا شارع جامعة الدول العربية بحي المهندسين. يمتاز الشارع باتساعه، في وسطه مكان وكأنه حديقة تمتلئ بالناس في الليل. شارع عجيب هو، لا تعرف ليله من نهاره، زحام وضوضاء طوال اليوم. مكان للفرح الدائم، شارع المناسبات والاحتفالات. لا يمر ليله إلا وتسمع الأهازيج والاستعراضات. لا تمر ليلة فيه دون احتفال ، من أعياد الميلاد والأعراس وحتى فوز الأندية الرياضية بالبطولات، كل تلك المواكب لابد أن تمر من خلاله. لن تجد عربيًا يزور القاهرة إلا ووطئت قدمه ذلك الشارع، هو ملتقى للسائحين القادمين من الدول العربية وكأن لاسمه نصيبًا منه. يتوفر الشارع على العديد من المقاهي والمطاعم والمحلات التجارية والبنايات ومحلات الصرافة ومكاتب شركات الطيران، وأشهر تلك المقاهي مقهى العمدة ومطعم قدورة وسينما الهواء الطلق، ولا أنسى القهوة بطعم جوزة الطيب التي شربتها في كشك صغير فُتح مؤخرا في أحد أركان الشارع.
شوارع وسط البلد تبهرك بطراز البناء الفيكتوري والعمارة الإيطالية للمباني من حولها. تتجول بين باعة الأرصفة. شارع طلعت حرب بمناراته وميدانه الأثير الذي يتوسطه تمثال الاقتصادي المصري طلعت حرب باشا داعم النهضة الاقتصادية المصرية خلال العشرينات، ومكتبة مدبولي ومكتبة الشروق على جانبي الميدان، يقابلك مقهى جروبي الذائع الصيت، ومقهى ريش ومقهى زهرة البستان العامر بجلسات المثقفين والكتاب والرسامين التشكيليين، أغلب كراسيه وطاولاته توضع في الممر، وصفه الشاعر أمل دنقل بـ (العمق الاستراتيجي لريش).
الزائر لوسط البلد أيضًا لابد أن يذهب لشارع عبدالخالق ثروت الذي يزخر بالمكتبات وأكشاك الكتب والمجلات وغيرها الكثير من الواجهات الزجاجية التي تعرض بضاعتها.
شوارع كثيرة رسمت ملامح مدن وأصبحت مقصدًا للعديد. شوارع ارتبطت بتراث وثقافة شعوب وأخذوا منها وأخذت منهم.
الشوارع فينا شواهد تبقى عالقة في ذاكرتنا لن تمحوها عواصف الزمن وتقلباته.