يبدو أن الأبواب هي الأبواب. ماذا لها غير أن تفتح أو تفلق. مهمة غير عسيرة. ولكنها أيضا مهمة لهذه الروح أن تفته على أريحية المكان، أو تفلق على ضيقه.
لم نكن بعيدين عن المشهد.. فالطفولة مخزون الذكريات. البداية كانت الفاتحة لقراءة المكان بامتداده وضيقه، كنا صفارا وكان البحر في كفوفنا أسماكا وطحالب. سفنا نقرأ أيدينا كمفاتيح لدروب الغواية واللغة الملتبسة بقدمين نحيلتين كان الجسد ورقة للهوا، والأهواء لم نكن صفارا فقط كان كل شي صغيرا، بقدر ضخامتنا واتساع المكان وأفقه اللامتناهي.. البحر يمتد والسوق يمتد بنا.سفينة هذا السوق لا بل جزيرة هذا السوق. يمتد السوق فيخرج البحر لسانه وتمتد، أصابع السوق ألوانا على أجسامنا وأجساد العابرين والذين ترحوا وحشتهم على بابه.
أيها الصابغ بلون الأرض.. أنت رملي أم رمادي أم من نحت ذلك البازلت المطبق على عنق الفضاء لحان عليه أن يستنشق هواء الجبال المحيطة ليدفن الصوت القادم بالصوت الساكن.
صوتك ساكن ومجروح في هدوء المكان، لا بل في ضجيجه والغرباء.
أنت أيضا غريب مثلي.. لماذا هذه القدسية هل لفحتك شمس القيظ. أم تركت دبس الفضيلة في قاع "الخن ".
حتى واحلتك أناختك بعيدا أو قذفت بتمر الصيف على أرصفة الميناء والسوق.. نحن وأنت ألوان في ظلمة هذا السوق.
كان سوق الظلام المبهر بنور شمس الشرق دوما تجعل منه اكثر بياضا من لب الشمس.
كنا صغارا وكان البحر يخطف أقدامنا بفرشاته السمكية وأظلاف محاراته الشوكية التي تلون المكان بصبغة الدم. نعبر الهواء كما نعبر المكان أو نحبرهما على هودج الطفولة البريئة، الشقية. لحان البحر أو لحانت الجبال فاصل لقائنا وافتراقنا حيرة في المكان، كما اللغة.. اللغات الساقطة من الألسن وهي تدب في أرقته، كل زاوية بلغة وكل لغة مطوية بموجة سحبتها أسنان الوحشة وقلة الحيلة.
اللغة :شممتها بأنفي، الصدمة الأولى لحضور المكان بطقوسه وحكا ويه. لحت أعتقد أن صوتي يصل بي نهاية الجبل حين تنخطفه لغة مغايرة. لا بل سحنات مغايرة. بدأ المكان يكشف ذاته كبضائعه المعلقة بين الخطوة والخطوة.
مندهشا كنت أول الأمر. قريتي النائية تسكنها الضاد، وقليل من البشر. يبدو أن بحرنا القروي طري وطازج بملحه وأسماكه. بحر مطرح لا يشبه الا بلون السماء ومن وصلوا تنكشف الطفولة بالقرب من سوق الظلام على طفولات متعددة، كانكشاف المكان في صيرورته الأبدية.
نركض تركض الطفولة خلفنا. مشهد واحد في السوق يفنيك عن سفرة بعيدة أهوالها لا تعد ولا تحصى. لحان البحر يأتي لكي ينظف ما تركه جدال المبايعة وجمهرة الفضوليين وفاعلو الخير. وللشتاء موكبه الخاص فالوادي المنجرف من أعلى جبال مطرح يجري كالمنقاد بحد السيف الى نهايته في كنف البحر.
ضاقت بسوق الظلام ظلمته المنيرة. كيف لنا أن نسمي سوقا مشحونا بكل هذه الشمس التي تعمي البصر، بأنه مظلم، بانوراما الضوء والظل لوحة تخترق سعفات النخل لتخلق في ممرات السوق خطوطا فسيفسائية موهمة العابر بالحذر والخديعة من الوقوع بين الظل والظل.
يأتي البحر الى عنق آخر دكان في السوق بملوحته ورطوبته اللزجة وكما نأتي نحن من جبل ناء أو أرض باعدها الفراغ بين عنق الزجاجة وقعرها المسكون بنخيل وأشجار ليمون لنطعم بها هذا السوق وذاك البحر الذي يسقط أمامنا بسفنه ومخلوقاته التي لم نعهدها من قبل.
كنت أشاهد وليمة الاستغراب في عيون البحر لا في عيون الذين يشاهدونه لأول مرة. الدهشة خديعة الفضول. البحر فرحنا وخديعتنا وليمة لنا ووليمة له. نأكل منه وربما يأكلنا.
الوحوش تتقدم،كنا نضج ونبيح بالاحلام كصراخنا. أصواتنا دليل وجودنا يأتي أحدهم يصحح معلوماتنا البدائية، هذه ليست وحر شد بحرية.. انها سفن. ماذا؟ كنا نهز رؤوسنا والدهشة تلبس ثوب التصديق عن حكايات البحر وأهواله وما يقذفه من خيرات على شاطيء تنام البيوت بأبوابها ونوافذها على أطراف أقدامة. وصوته مراجيح أطفال يسترقون بين صمته غفوة عابرة.
والأيدي تتلمس ماءه كدليل على الاطمئنان من خطورته وأهواله.
في سوق الظلام كان لطفولتنا مذاقها الخاص والعابر. كنا نرى ولو بشكل ضبابي انقياد الغرب للشرق، لم تكن لتسقط هواجس فرانسيس فوكوياما وصامويل هننجتون على رؤوسنا في دورتها النهائية بين صراع وصراع، كان الشرق تاج الشمس والقطن ملبوسنا والحرير. كم هي دائرة معرفتنا صغيرة. وكم هي محيرة أيضا. لحيرة لأننا نستكبر حالتنا بالمكان وان كان صغيرا وبدائيا ففيه أفكارنا الصغيرة النابتة بين جمرات الصحراء والماء.
هانحن نرمم حنينا كمن يسوق السوق الى متوالية الذكريات حين تذكر المجانين قبل العقلاء المشترين قبل الباعة العابرين قبل المقيمين. حضور المكان ببشره وكائناته زواره والغرباء دهاليزه التي تنتهي الى الانفتاح أو الانطلاق دكاكينه ومحلاته التي تجعل من بلدانه بين قبضتي الجسد والمعدة عابرون من عبروا هذا المكان المليء بالواقعي والمطلسم بروائح الشرق بخوره وسحرته حكاية تطوي مثيلتها كالمسبحة التي تكرر ذاتها لم نكن على عجل من سماع ألف حكاية ربما تسكن شهرزاد قلب الحاكي.. كما تسكن الظلمة قلب السوق أو يسكن السوق قلب الرماد البحري.
حركة بسيطة في ظلمة الليل الدامس تجعل الحواس متيقظة "كالأواكس " لهذا فالقطة السوداء ملمح بانهزام الغرائز الى ركنها القصي في وحشة الذات. لليل أمطرته وللنهار مسطرة البيع والشراء في سوق الظلام.
عندما يكون الهواء معتلا كنا نقومه على أغصان طفولتنا ونيممه شطر الماء فنغتسل ويغتسل الماء بنا. بقدر ما تثيرنا بضائعه والحلم المستحيل بالأرض التي زرعت بضائعها أمامنا. كنا نرى الشرق خطوة لحوت عابر ينثر عنبرا على قلوب الغواية والشواطيء القي تخرج البلاد من سباتها الباسم نحو البحر كان السوق والميناء بوابة المكان ونهاية النهايات في زواياه وامتداداته لهذا يأخذنا السوق بحركة سندبادية من أول اليوم الى نهايته بين الهند والصين وافريقيا، وكانت آسيا نبتته الطرية التي ما انفلقت زمرتها بوحشية كالتي نواها اليوم بقي ما بقي.. هو السوق شاهد وشهادة، تغيرت أحوال وازمان وتغير السوق بمعروضاته وبشره كما تغيرت ظلاله بألوان الطيف.
* سوق الظلام.. غلالة تشف هي التاريخ تصل ما بيننا وما نراه في هذه الدروب التي تضيق. وتقسن وفق هوى خاص،غلالة تسمح لنا برؤية ما، للمكان والزمان وفريستهما الانسان لكنها في الوقت :اته تفصلنا عنه في تحد غريب.
كالداخل الى المدن الأسطورية عليك بتلاوة تعويذات، تعبر بك تلك البوابات التي تشهق تارة وتختفي تارة أخرى في حياء بين جدران بيوت لم تنتظم أبدا، لو أنصت قليلا لأدركك صدى وقع أقدام خلفك، الأقدام التي تحمل أوزارا من الذكريات المدهشة والآسرة والأليمة في مزيج فطري.
الحديث عن السوق يبدأ وينتهي بالبحر، كما الحديث عن البحر يبدأ في السوق وينتهي اليه. ترى ماذا يجمع البحر من سمات مع سوق الظلام ؟ يلتصق السمع بذاكرة محدثك كما يذوب مله البحر في الكلمات العذبة :
( كان البحر العدو كما كان الصديق، وكان قبر الفريق مثلما هو قشته، وكان الباب الذي يشق الظلمات أو يلج بك النور.لم يكتف البحر بما منحنا من فيض كائناته الحية، لكنه كان يرسل بين الحين والآخر كنوزا ابتلعها من سفينة غرقت، لم يعرف بحارتها كلمات السر لعبور غياهب المحيط. فيجمع الصبية والشباب تلك الكنوز فيأتون بها الى السوق).
توقف محدثنا قليلا، وأشار:
(هاهنا أسطرلاب ومنظار، وساعة بحار، وقطع نقود فضية وأخرى ذهبية، وصندوق لم يحتفظ بما حواه يوما من حلي. البحر أعطانا الكثير، لم يبخل علينا بشي ء، حتى الخوف، لا تزال تدق في أذني ضرباته القوية على بوابات السوق الخشبية الضخمة، كما لان لت أسمع النساء يتمتمن من وراء المشربيات بالدعوات أن يبعد، ونحن الأطفال آنذاك – نداعبه بأكفنا الصغيرة عبر النوافذ العالية، ولو أدركنا خوفه ما أدركتنا حرفة اللعب معه).
لا تعد تلك المحلات التي يعود بعضها الى مشارف هذا القرن، إلا أن تكون جزرا صنعت لنفسها مدها المميز وجزرها الأثير، جعلت لها زوارها وقاطنيها واحتفظت بطقوسها الخاصة.
تدخل محلا للعطور، للوهلة الأولى تخال تلك الزجاجات صورا مكرورة، تتأملها قليلا لتدرك الاختلاف بينها، عطور من كل لون بامتد اذ درجات الأصفر والبني والأحمر وعطور من كل صنف السوائل والدهون والمساحيق، عطور تنتمي بأسمائها لأماكن عديدة، تدخل بك الى طقوسها التي تشبا طقوس الليالي العربية.
مضمخا برائحة العرد والعنبر – أوسواهما – ستسلمك الأزقة الضيقة من حانوت العطور الى متاجر العاديات أصبحت مقصد جل زوار سوق الظلام، المشغولات اليدوية كثيرة، صاغتها أيد لفتها الفن، ولهجتها البراعة ولكتنها التفرد، ولسان حالها يختزل التاريخ في قطع نحاسية خشبية، عاجية أو قماشية خزفية أو زجاجية، ربما تدرك أي القطع جمعتها أمرار التجإرة من شرق الساحل الافريقي أو جنوب الشاطيء الآسيوي.. وربما يعوزك القليل من التخمين والكثير من المساعدة :
هذه التماثيل تخيل صاغتها يدا مثال عجوز وضرير من زنجبار هذا الجرامفوز تركه الورثة، مع اسطوا نته المشروحة، وبوقه النحاسي، لابد أنه أشجى صاحبه دهرا!
– أما هذه فآلة تصوير من بولندا، لا تجربها فهي لا تعمل، يكفي أن تحتفظ بها بجانب كتاب مطبوع بلغة غير مفهومة !
محلات تبيع العطور، تعبق برائحة أعواد البخور المشكلة أبدا ربما تسأل عن عطر بعينه، فيحاول أن يبيعك آخر. دكان لبيع التوابل والحبوب والليمون المجفف والأعشاب، تخبر البائع اللحوح أنك ستعود اليه. متجر متخصص في الحقائب الجلدية وما على شاكلتها، لابد أن تجادل كثيرا في السعر. معلم صغير تفوح منه رائحة أطباق آسيوية تسرع الخطي حتى تتجاوز برابته. جوسق عصير وغزل البنات وفيشار، تلتهم الفيشار الساخن كما لو كنت تستعيد طفولة منسية سوبر مار كيت يبيع كل شي ء، فتلتقط منه أي شيء. مكتبة عتيقة تشتري منها كتابا يحمل اسم تودد الجارية، أحدى حكايات ألف ليلة وليلة. تاجر عاديات يبيعك الفضة بالجرام، وآخر يكتشف فيك آثار السائح فيعرض عليك سوارا تقليديا يبالغ في ثمنه كثيرا. حظك في الصباح أن تكون المشتري الأول، أو هكذا يوهمك البائع، تدرك أن السعر سيكون على هواك.
تخلق المحلات من تنافرها لحنا متجانسا، بعضها يجلس أمامها أصحابها، شواهد على عصر مختلف، لحان بالأمس القريب، منذ 3عقود بالتحديد يموج بحركة مختلفة :
(بالأمس قسمت السوق الحرف والألسن، كما قسمته العائلات واليوم ترى كل شيء ينصهر في بوتقة واحدة، كل شي. مختلط، ضاهت الحدود أو وهنت وربما تناساها الزمن. اختلفت لغة التعامل، كما اختلفت الأقدام الواردة عليه).
(هنا أمام المحلات هنا نشغل الوقت بالسمر، حلقات تجتحه طوال النهار، ولا يفرقها إلا الايذان بإغلاق السوق عند المغرب لم يكن هناك مكان للمبيت داخل السوق، ولم يكن مسموحا بذلك، ويفك الليل ضفائره الطويلة ينثرها بين الطرقات الملتوية، نجري خلفها حتى البوابات كي لاتفلق دوننا).
للأسواق العربية عبقها الخاص وسحرها الأثير، تنسه لفضاءات العوالم كلها تحت سقف واحد، رحابة لا يطويها ضيق الحارات والأزقة التي تربط بين أجزاء ذلك الجسد كما الشرايين،تتدفق فيها الحياة هل صباح حاملة معها رتابة متجددة.
تصافحك وجوه المحلات بكرنفالية رائعة، في أحد محلات التوابل يتوسط البائع مر آتين خلفه، تعكس في تناسق بهي صور الأواني والعلب والزجاجات والصناديق والأكياس التي تحرق الأعشاب والحبوب والمساحيق والثمار المجففة وغيرها. نلقي عليه التحية، كان يعرف أن طقس جلسته هو الذي جذبنا، يبتسر وهو يقدم لنا عرضا لشرا، شيء ما.. نشكره ونمضي.
كلما ابتعدنا، خفت الضوء واتسعت العبارة،. داخل ذلك الزقاق الضيق، المحلات تحمل أسما0مألوفة وغريبة، آسيوية وافريقية، كتبت بحروف عربية وغربية، بعضها جديد، وأكثرها احتفظ بطلائه الأول، في غرابة تقتفي خطواتنا العيون التي اكتشفت طزاجة معرفتنا بالمكان، وبعضها حرص على مواصلة عمله الأزلي في صمت أبدي، بينما أكثرها توقف ربما لادراكه أن شيئا مختلفا يدور.
تحمس بعض أصحاب المحلات لالتقاط الصور، رفض معظمهم الاستجابة.
لكنها كانت تختلف، رمقتني بنظرة ما وهي تسر في أذن زميلي بكلمات. لم يعبر ضوء آلة التصوير نقابها الذي لم يبرز غير عينيها. كانت تيبع الكحل وعيناها كحيلتان، تمسك قارورة العطر ومر مضمخة به، تربت على صندوقها بكف ذات أصابع دقيقة حناؤها داكنة كبشرتها(هكذا اكتشفت حينما السوق كمها قليلا عن ساعدها الأسمر) كثيرات يعبرن السوق بهذه الصناديق الساحرة التي تحتفظ للمرأة بسر ما، لكن قليلات كن في مثل سنها. كان هناك ميثاق، كالأسطورة بينها وبين بضاعتها لا يفك طلسمه، إلا من تجلس اليها لتشتريه منها.
ترسل الفوانيس نورها في تناسقية بديعة وبالوان زاهية. مصابيح السوق منارة بشكل دائم، فأسقفه السعفية البديعة تمنع أشعة ضوء الصباح من أداء مهمتها بشكل لحامل. ستعيش طقس الدخول الى الليل حتى في قلب النهار.
لابد أن تتمتع بحاسة مكانية استثنائية حتى تتجنب التجول في دوائر لا تنتهي، ربما كان من الأجدى أن تجد علامة ما على أنك وطئت هذا الركن أو ذاك حتى لا تعود اليه، فطرق السوق تتشابك كما تتشابك أيدي العشاق.
******
وتسمية السوق بسوق الظلام ترجع الى كثرة الأزقة والسكك التي تصطف عليها المتاجر التي يتميز بها سوق الظلام. وثان يبدو شبه مظلم لانغلاقه، حيث تحتجب عن هذه الأزقة أشعة الشمس خلال النهار وتتضاعف العتمة في الأيام الغائمة بحيث تحتاج حينها الى ضوء مصباح لكي تحدد خطواتك".
"سرق الظلام " يطلق بالتحديد على الجزء الذي يمتد من مسجد الرسول الأعظم الى خور بمبه وهذا بالفعل فيه دكاكين مكثفة بحيث لا تترك فرصة لدخول أشعة الشمس. أما الجزء الشرقي فختلف حيث كانت فمه فتحات تسمه بدخول، ضوء الشمس. وعلى منوال التفاصيل الصغيرة للسوق..د،هناك تسمية أخر تق لهذا السوق بشقيه التي تفصل بينها فتحة خور بمبه. وهي السوق الصغير والسوق الكبير. وتسمية السوق الصف ر تطلق على سوق الظلام أما السوق الكبير فهو سوق الجملة ".
كان بناء السوق من الطين وسعف النخيل وهي المواد التي كانت تلائم ارتفاع درجات الحرارة في ذلك الوقت وظروف البيئة الصعبة".
كثر من ملامح السوق أدخل عليها تغيرات لا تمت بصلة الى هوية السوق السابقة. بداية من الأبواب التي كانت في السابق من الخشب المشغول بأيد عمانية الى طريقة البيه. فسابقا لم تكن هناك طاولة أو كراسي في أي دكان في السوق وكان أصحاب الدكاكين يجلسون على الأرض أو تكية. أما الآن فترى المكاتب الفخمة والدواليب بمختلف الأنواع الكراسي.(1)
***
"قضيت بقية نهاري متنقلا بين مقهى "الغرنيكا" وجمعية الفنانين التشكيلين، وسوق الظلام حيث اجد متعة خاصة في تنسم عبق الماضي المنبعث من أعماق الدكاكين القديمة. وتامل حرفة الباعة والمشترين. كنت أهرع الى سوق الظلام حين أشعر بالحاجة الى الانعتاق من أسر الذات والدخول في فضاء مشهدي ينبض بالحياة قادتني قدماي الى مكتبة تنفرد ببيع أمهات الكتب في الأدب والعلوم الانسانية. تجاذبت اطراف الحديث مه صاحبها الحاج محمود الذي تربطني به معرفة سابقة. فانا واحد من زبائنة الذين يترددون بصورة دائمة على مكتبته. اشتريت هذه المرة "البيان والتبين " للجاحظ. وطواسين الحلاج، وكتابا صغيرا عن الزخرفة الاسلامية. شكا لي الحاج محمود عن تردع أحوال البيع لديه وقلة المشترين معللا ذلك بتزايد أعداد المكتبات التي تيبع كل شيء، ابتداء من الكتب الخفيفة التي لا تحور شيئا ذا قيمة وانتهاء بالدفاتر والاقلام والحقائب المدرسية "(2).
***
"انعطفت صوب سوق الظلام، حيث اعتدت أن أمر بما في اتجاهي نحو سوق السمك، وحيث كنت أشتم روائح البهارات المختلطة بروائح البخور الكثيرة وروائح الصندل ودهن العود وألمح عن قرب وجوه النساء المزدحمة أمام شرفات المحلات وايدي الهنود والسيخ: التي تتعمد ملامسة النساء في الاماكن الرخوة.
كانت السوق تبدو مظلمة هذه المرة مثل اسمها، حتى تلك الحشرات الصغيرة التي لحشرت الصغيره التي ألمحها تسحق تحت الأقدام وهي تتربص بجموع نحو قطع السكر الملقاة، اختفت هي الأخرى. وتساءلت حينها: هل هو يوم مت صمت عالمي تكاتفت فيه سائر المخلوقات الأرضية عداي ؟!!.."(3)
(وأخيرا استجاب لنصيحة الفئة التي ينتمي اليها لمزاولة مهنة العتالة في سوق الظلام . فمن ظلام الأصفار الواقعة دوما في خانات الشمال Ji ظلام آخر يتربص به في ضيافة المدينة فعليه أن يحمل الأصفار والمدينة وكل كدر تركه على بوابات القرية . سيحمل البحر والبستان وجحيما آخر يسكن في أزقة السوق ويدلف في ضجيج غير ضجيج المدينة سينهار ليالي ويبلعه سوق الظلام ، لابد من دفع الأتاوة الى الزعيم "خصوب الزامط " حامي حمى سوق الظلام ومرعب العتالين ).
ومع مرور الزمن أصبحت حركة سوق الظلام تقل بل أصبحت شبه ساكنة . بعد سنوات من زمن الرحلة شامخة أصبح للمدينة مجمعات تجارية أنقذت سكانها مع قمه الصيف وفي أحد تلك المجمعات التجارية يافطة لبيع الذهب والتحف والمجوهرات لصاحبها خصوب الشتاء وشريكا سعد العتال الى أن تقيأت من موجات الضحك . وأنا أرشف آخر قطرة من فنجان القهوة التركية بمقهى يجاور ذلك المحل وفي التساؤل هل يعود سعد الشتاء ويسقط قناع خصوب الزماط ذكرونا ان نسيناهم ؟!
هبط الليل عنوة لتصارعه مصابيح الشارح العام وأضواء الميناء التي انعكست على صفحة البحر مكونة مشهدا رائعا، ثم ارتعشت بشدة ، ثم ضاعت معالمها.
تبدو قلعة مطرح كلوحة سوريالية من وراء جدار المطر الشفاف الذي يمنع الرؤية بوضوح .. هنا التاريخ .. هنا احتمت فلول البرتغال قبل أن تطر>، هنا الماضي بكل ما فيه يتربع على مطرح . علت أصوات السفن في المياه وأبواق السيارات المدرة بجانبنا، وازداد مطول المطر لتتسع خطواتنا أكبر عن زي قبل ، والرصيف الذي غاص في ماء المطر لا يريد أن ينتهي.(5)
وفي المقهى الأخير من السوق حيث بخار اللحظات يفقد التركيز رغم المزيد من الشاي والقهوة العمانية المتساقطة من بين أنامل البائع المتجول . هكذا ننقاد في سوق الظلام بهاجس الخطوات المثقلة . وصدى الأيام الماضية حيث السوق – الميناء بوابة الطفولة والانفتاح البدئي على الفضاء المتسع ، ما بين مشهدي السوق والميناء نمشط أحلامنا الذهبية كلما شاهدنا سفينة تحتضن أعماق البحار ،، ونحن نقبض على اللحظات من الافلات من بين أيدينا.(6)
أكتب شيئا من الأنين أو ربما الحنين للماضي التليد الذي حقا توج رمزا لحضارتنا وعبر عنه بأحدث الأساليب العصرية . ما نلمسه اليوم حاضر مشرق بنته سواعد فتية بزمن يكاد أن يكون معجزة ، ان جاز التعبير. بالأمس القريب وليس البعيد كان ميناء مطرح التجاري ينبوعا لكل زائر يقتني منه عبق عمان ومناطقها التجارية الأسيلة . تلك التي كانت مربعا لتمازج مناطق وولايات السلطنة بعضها ببعض . استذكر الماضي الجميل كنا أطفالا نسابق الريح بين تلك الأزقة المغبرة في كل صباح نصطاد شيئا من الأسماك الصغيرة على شاطيء مطرح ثم نشويها على . مخلفات الأوراق أو قطع الأخشاب الصغيرة جدا ونشتم رائحة السمك المشوي تلك الرائحة التي كانت تتغلغل داخل النفس فتضفي عليها سمة الرضا والقناعة .
ومن ثم ننشد السوق حيث كل شي ء بسيط فيه بارع في الجمال الدكاكين الصغيرة والباعة المتجولون وحلقات البيع والأزقة والأصوات المتصاعدة المتنافية الجودة ! نعم المتنافية الجودة ذلك لأنها كانت عربية إلا أن الزمن تسابق مع الماضي ونحاه بعيدا جدا وألقى بنا أطفال الأمس رجال اليوم بأزقة جديدة ومحلات كبيرة وأناس من أجناس متضاربة وأضحى الماضي بكل ما حوى ذكرى ننشدها فلا نلمس منها إلا أطلالا ، إلا أن ما يسعف القلب ذلك الوجود الذي تحقق عبر السواعد الفتية التي آلت على نفسها إحياء الماضي بوجدانه ، جميلة مطرح وقلاعها الفتانة (7)
***
حين تمددت لأول مرة على شاطئك
الذي يشبه قلبا، نبضاته منارات
ترعى قطعانها في جبالك الممتدة
عبر البحر
أطلق بين مقلتيك منجنيق طفولتي
وأصطاد نورسا تائها في زعيق
السفن .
نجومك أميرات الفراغ
وفي ليل عريك الغريب تضيئين
الشموع لضحاياك كي تنيري
طريقهم للهاوية .
أبعثر طيورك البحرية لأظل
وحيدا. أصغي الى
طفولة نبضك المنبثق من
ضفاف مجهولة
تمزق عواصفها أشرعة
المراكب
كم من القراصنة سفحوا أمجادهم
على شراطئك
المكتظة بنزيف الغربان
كم من التجار والغزاة
عبروك في الحلم
كم من الأطفال منحوك جنونهم
مثل ليلة بهيجة
لعيد ميلاد غامض ؟
القرويون أترك من قراهم ،
حاملين معهم صيفا من الذكريات
مطرح الأعياد القزحية البسيطة
والامنيات المخمرة في الجرار ،
الدنيا ذهبت بنا بعيدا
وأنت ما زلت تتسلقين أسرارك القديمة .
وما بين الطاحونة و"المثعاب"
يتقيأ الحطابون صباحات كاملة ،
صباحات يطويها النسيان سريعا.(8)
الهوامش:
"شريط الذكريات _ مجلة تصدرها بلدية مسقط".
مبارك العامري من روايته شارع الفراهيدي.
يونس الأخرمي من مجموعة حبس النورس (قصة يوم صمت في مطرح ). علي المعمري من مجموعة اسفار وملج الوهم (قصة سوق الظلام ).
سالم آل تويه من المجموعة القصصية : المطر قبيل الشتاء (قصة :حين تركنا مطرح ).
طالب المعمري جريدة عمان 1988
مرتضى بن عبد الخالق عبدالله
سيف الرحبي من مجموعة رأس المسافر
(من قصيدة حب الى مطرح )
سوق الظلام
مسافة… المسافة بين الضوء والظلمة
طالب المعمري..أشرف أبو اليزيد
تصوير: ابراهيم القاسمي