… كان حينها يعيش في الجبل ولم تكن الحياة على الساحل في حسبانه. يسرح بالأغنام ويحضر دروس القرآن والفقه. صادق المفازات بحثا عن الكلأ، وبث نجواه لجنيات الليل وشكا لها عوز قومه وقلة حيلتهم أمام القحط وفناء الزرع. كانت البلاد أيامئذ على صفيح ساخن، فالمحْل يستفحل في الريف ويفترس القرى، والخصام بين حكومة المركز والأطراف يتفاقم وأصابع القبائل موضوعة على الزناد. الأسواق تترقب أخبار المؤن وعصابات قطاع الطرق تتربص بالقوافل. كان محظورا عليه أن يبتعد خارج حدود القرية لئلا يقع هو والماشية فريسة للأوباش. يحذره الرجال من ذلك أو يجبرون خاطره بقولهم أن الغنم سيجد في الحجر ضرعا لو دعاها الأمر. خرج يومها كعادته باكرا، وهبط من قريته المدفونة في إبط الجبل إلى السهل، يتبعه قطيعه الضامر أو أنه يسير خلفه. كان عليه ألا يرهق القطيع ويتركه يرعى ويقتات وأن يحول له سراب الأرض إلى أمل. نظر إلى السماء فكانت تكرارا لسماء الأمس: قاحلة بلا ماء أو رجاء. لقد وهنت بالأمس إحدى نعاجه فتردت من شاهق، وقد تلحقها اليوم أخرى وتتبعها أخريات حتى ينفق القطيع عن بكرة أبيه!
تأخرت عودته ذلك اليوم ولم تسمع القرية ثغاء الغنم في موعده. كانوا يعرفون عناده ويتوقعون بأنه سيقع في المحذور. حملوا السلاح ورفعوا المشاعل ونزلوا إلى السهل. بحثوا في المراعي المعهودة وأصاخوا السمع للبعيد، ثم سرعان ما قادهم حدسهم إلى مكانه. وجدوه ملقيا على وجهه وبجواره سلاحه وبركة دم دافئة.
فيه روح؟
شقت صرخة أبيه سكينة الليل وكان يسير خلف الجميع بقدر ما تحمله قوته.
فيه.. فيه.
رد إخوته وأبناء عمومته ومن رافقهم من الجيران.
لا تلمسوه ودعوه لي.
انكب العجوز على ولده وأخذ يبحث عن الجرح بيدين خبيرتين حتى وجده أسفل الكتف.
لم يريدوا قتله… هذا واضح. لقد تركوه ينسحب، فالطلقة أصابته في مكان أبعد من هنا. ولكنه فقد الكثير من دمه الشقي.
أخرج الأب مرودا وأدناه من شعلة النار ثم غمسه في قارورة مسحوق الثوم الموصولة بحزامه. دهن ظاهر الجرح وعالج حوافه، باشر بعدها في إيغال المرود شيئا فشيء حتى أفرغ ما بحوزته من دواء في جوف الجرح.
احملوه وأطفئوا المشاعل فالقمر يكفينا.
j j j
ظل طريح الفراش يصارع مرضه أياما وليالي. والده، وهو مطبب القرية، وقف على اسعافه بالادوية المعمولة من أعشاب مُرّة وأخرى استخلص منها البلسم. لم ينفع تعقب الرجال أثر القطيع المسلوب بشيء ولا أتى سؤالهم في الأنحاء المجاورة بفائدة. وعندما استرد عافيته واستقامت صحته، لبد في مكانه يجتر المصيبة التي جلبها إلى القرية ويحتمل وزر الغم الذي اعتلى وجوه القوم. اقترضوا ما تيسر من رؤوس الماشية وقايضوا بالتمر والقمح أخريات وشرعوا يعالجون الجرح الذي سببه لهم. ولكنه ما لبث أن شمر عن ساعديه القويتين وبدأ يحمل ما يحمله عشرة منهم. ترك الرعي وزيارة الفلوات القاحلة لغيره، وأخذ يرمي بخطاه إلى القرى المجاورة وما بعدها وإلى الأسواق البعيدة، يبيع من مؤن القرى ويشتري ويقايض ويفاوض في أمور شتى. يحمل سلاحه على ظهره ويخبئ وجعا في قلبه لا يني ينغزه. خبر الطرقات واختبر أحوال البلاد. تسلل إلى مخابئ اللصوص، عرفهم وعاشرهم سرا واتخذ من بعضهم معاونا ومن آخرين عينا. وفي كل مرة يعود فيها إلى القرية كانت بندقية جديدة وذخيرة مدفونة في قعر جرابه. دار فلك الأيام على القرية، ولم يكن كله قحطا وكربا، فقد وجد الخير مسارات فيه. كل يوم كان يأتيه بلقب. سمي الصقر لاجتيابه الآفاق وسمي البرق لسرعته وغزارة همته ولقب بالبحر لكرمه وغور أسراره وسمي سيد الجبل. وعندما استوفى ما كان يجهز له، انتبذ ثغرا من الجبل في أقصى القرية ونقل إليه عتاده. أوعز إلى أصحابه في القرى ومعاونيه الذين استمالهم أن يفدوا إليه مرتين في الشهر: عند محاق القمر وعند تمامه. كان السلاح مكدسا في باطن الكهف: جديدا يكفي لخمسين رجلا. في الاجتماع الأول جاءه عشرة رجال، وفي الثاني أتوه وخلف كل منهم رهط من أصحابه فحظي بالخمسين. أغراهم بالسلاح والزاد الذي كان يمتلك مئة سبيل للوصول إليه.
j j j
لم يكن وحاله بذلك اليسر يطمع بمال ولا كان يرغب بسيادة فقد أسلمته قيادها، وليس من البله وقلة الشيمة ليطلب ثأرا من زمرة جائعة سطت عليه وأطلقت رصاصة كانت سببا لحياته وحياة قومه. كان مطلبه أبعد من ذلك ودونه دروب وعرة. لقد خرج من قريته المدفونة في إبط الجبل وضرب رحله جوار القرى المنكوبة والأسواق العابسة. شاهد عجز الناس وقلة حيلتهم ورأى بأم عينه القوافل الحبلى بالمؤن وهي تختفي في بيوت وقلاع محصنة. ركبه الفضول فاستنبأ عن أهل الحصون، وبعد بحث وتزلف لحراسها وجد ثغرة إليها. دخل وعاش بين سكانها فوجدهم غافلين عما يدور خارج أسوارهم وسادرين في رغد عيشهم. صار يعمل معهم وقرّبه أمير منهم واتخذ زوجا من بناتهم، وكان كلما صعد إلى سطح القلعة وسّرح النظر إلى القرية، شعر بمرض في فؤاده وبلبلة في رأسه. يحاور نفسه ويتساءل: لو أن الناس خارج القلعة قد ألفوا الفقر وجعلوا من أنفسهم سببا ونتيجة لحالهم، فذلك لأنهم لم يعيشوا إلا تحت سماء عابسة ولم يعرفوا سوى أنفسهم. ولم تكن حقيقة الناس داخل القلعة لتختلف. فلو أنهم ركنوا لحياة العز المصانة بالأسوار والبنادق، وأنهم احتموا بسماء الخير والبركة، فلأنهم لم يرضعوا إلا من عقولهم ولم يعرفوا غير حشوة حياتهم الرخص. عاش بينهم ردحا من الزمن وعقد الصلات مع الأمراء والتجار والحراس وصار له أصحاب وحياة وذكريات، وكان يصعد إلى السطح ويرمي نظره إلى القرى وناسها ويسرح فكره. ثم أن فكرة سكنته ولم يستطع منها خلاصا؛ فلو أن الفريقين غارقين في أتون الغفلة، أليس من الشرف والفضيلة أن يرغما على اليقظة ولو كان ذلك بالقوة!؟
عقد عزمه من حيث هو. كف عن الصعود إلى سطح القلعة وصار يشحذ همته على الأرض مستخدما كل ما امتلك من حيلة، ومانحا طاقته من أجل تحقيق فكرته. داهن الأمير ووطد صلاته بعقداء العسكر وراوغ التجار حتى كسب إعجابهم ووجد بينهم مكانا. منزلة بين السلطة والقوة والمال هو ما يلزمه في مرحلته الأولى. سافر مع قوافل التجار إلى مسقط حتى عاد مرة على رأس قافلة تخصه. في عاصمة الحكم ربط علاقات عديدة وتزود بمعارف جديدة ولو أن الغموض كان يشوب بعضها. فالأسواق هنا عامرة والبيوت قائمة ولا وجود يذكر للأسوار. الناس كلهم يعيشون في مكان واحد، بيد أن لكل واحد منهم صحنه، وكان صحن الفقير يقتات من مصاطب الغني. عاش في بيت كبير تجار البندر وأحبته واحدة من بناته السبع فعقد عليها. سنة نكاح وجاه ونسب في عاصمة الحكم. ولكن هدفه كان نصب عينيه لم يغب عنه لحظة.
j j j
كان أبوه يعالجه بالدواء والحكمة ويقول له: «يا محمد، لقد وقف القدر بين الرصاصة وقلبك فكتبت لك حياة أخرى. أريق منك دم كثير وفجر الله في عروقك دماء جديدة. ولكن إياك والظن أن الموت هو أقسى ما يحيق بالإنسان في حياته. الموت يأتي مثلما يختلف علينا الليل والنهار، فهو سنة من سنن الكون وأمره بيد الله يقضي به ولا جدال في أمر الله. أما ما يدور في فلك الحياة ورحلة المرء فيها، ما تفرشه في طريقه من رغبات وما تفتح له من خزائن المسرات وما ترميه به من مصاعب وتبتليه من نوائب، فإن الإنسان من يدبرها بعقله وهو الحاكم لها بيده. لقد أخطأ قاتلك قلبك أو أنه لم يرد موتك، مع ذلك فهو قاتلك وإن لم يزهق روحك. وستكون على حق لو أخذت بدمك المراق وتشفيت ممن ظلمك، فالانتقام سر في الإنسان، بغيض ولكنه لا ينكر. ولو أنك في قادم الأيام واجهت قاتلك أو صادفت من يشبهه، فأرجو منك أن تكون كالقدر الذي حماك من الموت لا كالرصاصة التي اخترقت جسمك. أرجو ألا تقتل قلبك حين تواجه عدوك، وإلا فأنت ميت قبل أن تنال منه وبعد».
كانت عدته من الرجال والسلاح والذخيرة طوع يده وخطته مرسومة في رأسه وعلى الأرض. ولكنه لم يكن واثقا من تطبيقها وما قد ينتج عنها، وكانت أفكاره تشطح وتحلق بعيدا، ثم لا تني تفتر قوتها وتهوي. كان ينقصه السند القادر على تثبيته في أمره. فعدى رهط قليل من رفاقه، أسّر لهم ما هو عازم عليه، فقاسموه فكرته وتحمسوا لها، كان البقية يلهون بوقتهم في الجبل بانتظار ما يؤمرون به. رهط الرفاق ذاك، وإن كانوا قد وافقوه مأربه ووعدوه بالوقوف معه، إلا أنهم لم يجربوا ما جربه ولم يستنفدوا الوقت للتفكير، فجاء دعمهم له محاباة وليس قناعة راسخة.
كان عليه أن يستسلم للوقت ويدعه ليمتحن همة الرجال.
يأتون منتصف الشهر وآخره. شباب وشيبة. وجوه عفرة نتأت عظامها، وأيد خشنة متشققة، ونعل بالكاد ترافق أقدامهم. يحملون بنادق مهشمة ويشدون خناجرهم على خصور نحيفة لم تعرف من الطعام غير التمر والماء ونخالة السمك المجفف. زمرٌ من سابلة الجبل وما رمت به البراري والصحراء. أدمنوا الجوع، ولكن شهيتهم تنشق عن ذئاب شرهة ما إن لاح ظل فريسة. كانوا يصْدقون الوعد لمن يطعمهم ويؤويهم، وتراهم يهيمون على وجوههم ويختفون خلف السراب كلما انتهى الزاد.
وجد نفسه أمام مهمة شبه مستحيلة لتشكيل مفرزة متآلفة يعتد بها ويدفعها بخطى واثقة إلى الهدف. كان أكثر ما يصلحون له، تنفيذ غارات تخريب ونهب لقرى بائسة، ومن العبث والحماقة بمكان أن يحرضهم على اعتناق أفكاره لإطلاق حملة طويلة الأمد، إن لم تعد لهم بالخير، فلأبنائهم وأحفادهم من بعد؛ أن يقنعهم بالاستجابة لخططه في تنظيم غارات لا تطلق فيها رصاصة واحدة طمعا بالغنائم، وأن تدك أسوار القلاع لا من أجل هدمها وإنما لإيقاظ سكانها من غفلتهم وإسماعهم صوت الظلم والجوع. لا شيء من كل هذا سيبني عزمهم ويستنهض همتهم. ولكن الأدهى أنهم لو عرفوا ما كان يهيئهم له، لانفضوا من حوله وولوا له ظهورهم، مستخفين بأمره ومحتقرين لشأنه. غير ذلك، وبعد كل شيء، فقد كان الاختلاف القبلي للجماعة يشكل عقبة كأداء في طريقه، وكان لا يخشى شيئا قدر خشيته أن يصطدم بها ويواجه حريق القبليّة لو أنه اندلع. فهذه الزمرة المتشابهة بقْدرها وقدرها، كانت ألوانا من القبائل. كل فريق منها مسكون بالولاء لقبيلته وموصول بحبل سرة إليها. ولو نادت القبيلة أحد أفرادها، وإن كان لأمر هان شأنه، فإن نداءها له نشوة سحرية يتعاظم في وجدانه ويصخب بدمه.
في مواجهة خطر وجودهم في مكان واحد، عمد إلى عزلهم عن بعض، وإيلاء أمر كل مجموعة لقائد من صنفها.
توزعوا فرقا صغيرة على كتف الجبل، أولائك الأشباه الأخلاف. الصحراويون عقدوا أيديهم خلف رؤوسهم واستلقوا متكئين على بنادقهم. غرباء مطرودين من كل مكان، ولكن بين ضلوعهم يخفق قلب الحياة. أحوال الأرض لا تضيق بهم ولا يقلق راحتهم طارئ من الفضاء، فالوقت ملك ورثوه من صاحب الوقت. جماعة الجبل تمنطقوا بخناجرهم. نظراتهم حاذقة وخطواتهم محسوبة لئلا يغدر بهم حجر. يبحثون عن الظل الذي لا غنى لهم عنه، تحته يعقدون تمائم الأيام ويقرأون طالع الزمان. أبناء الأرض العتيقة، البريون، «الشواوي»، كل واحد منهم قبيلة من شد ما يؤوي بداخله مزيج من الحقيقة والسرمد. بإمكانه أن يأكل من الهواء لو جاع أو يلعق من إناء أوهامه. يربط حزاما على خصره ويحزقه بخنجر أو سكين أو حجر أو حطبة. سهل كخرير الماء ولكنه ملون كطبقات الأرض ومتحول مثل ضوء النهار.
لاحقته الأسئلة عن عاقبة ما هو مقدم عليه: أخير سيأتي من ورائه أم أنه سيوقظ فتنة ويراكم البلاء؟
j j j
تواترت أخبار الهجمات المتكررة على قوافل العاصمة ووصلت إلى مقر الحكومة فاعترى التوجس أروقة ديوان الحاكم. وقد بلغت حدة شكاوى التجار من نهب القوافل ذروتها حين تعرض قطاع الطرق لقافلة تعود لكبير التجار وحاشية الحاكم، وهي قافلة موسمية تتمتع بمنعة ترهب العصابات فلا يتمنون أن تمر على أراضيهم. تضاربت الأنباء عن تنفيذ الهجوم على القافلة. الحرس أكدوا أن في الأمر خيانة، ولا يعرفون من المستفيد منها إلى جانب العصابة. التجار المرافقون اتهموا الجند بتخاذلهم عن صد الهجوم وأبدوا تعجبهم من سهولة الطريقة التي نهبت بها البضاعة. ولكن الجميع اتفقوا على أن للعصابة شأنا يختلف عن زمر اللصوص، وأن خلفها يقف تدبير عظيم. لم يوفر القائمون على الحكم وقتا لاستبيان الحقيقة وقطع دابر الشائعات التي بلغ بعضها إلى إيعاز ما يحدث إلى الجن والسحرة. أرسلوا عيونهم إلى المناطق التي شهدت الحوادث الأخيرة وبدأوا يتقصون القرائن ويجمعون الخيوط. ومن قرية في سهل إلى أخرى في الجبل، حملوا البراهين وعادوا أعقابهم. «إنه محمد، زوج ابنة التاجر من يقف وراء العصابة، وله أتباع في كل الجبل. معروف في القرى واسمه يردده الصغير قبل الكبير، ولكن مكانه مجهول. لا أحد يعرف من أين يأتي وإلى أين يعود. يظهر فجأة في القرى محاطا برجاله، يوزع عطاياه المسروقة على السكان ثم يختفي بلا أثر».
لم يكن قائد الجند بحاجة لأكثر من هذا ليجهز قواته ويدفعها إلى منطقة الجبل. إن إسكات عصابة من اللصوص، أزعجت السلطات وسببت القلاقل في العاصمة، أمر بمتناول اليد، عوضا عن أنه سيعود له بعظيم الفائدة. ومهما كان بأس غريمه ومبلغ قوته، إلا أنه لن يصمد أمام أساليب الجيش وطولة يده.
سار القائد بجنده وكأنه خارج في نزهة.
j j j
كان منتصف الشهر والقمر يتدلى من السماء. تبرق مشاعل الجند على طول الوادي وعرضه وتضيء الدرب المؤدي إلى القرية المدفونة في إبط الجبل. الصمت يتنفس في الأنحاء وكأنه جسد يحتظر. على عتبة الكهف وقفت الجماعة وقد ضمها الوجوم بقبضة واحدة. قرأ محمد رسالة جيش الحكومة التي تعني أمرين لا ثالث لهما: النيل من قريته وأهله وأخذهم رهائن أو استسلامه. لم يكن غافلا عن منظر الجيش وهو يحتل الوادي ويصوب بنادقه إلى القرية، فقد بزغ له قبل ذلك من بين ثنايا أفكاره. ولكنه لم يحب أن يباغته هذا المشهد ويطيح بآماله وهي في مهدها. كان يدرك في أعماقه أن مجهوده سيتوقف وأن فعله لن يجلو بأية حال عن جنة الخيال. ولكنه ظل يأمل برحمة الزمن ومؤازرة الحق له، وبأن الحكومة ستفاوضه قبل أن تدفع جيشها لقتله… أن تستمع إلى صوته الذي لم تند عنه قطرة دم واحدة.
نظر إلى جماعته. مظهرهم أفضل عن ذي قبل. سيتفرقون بعد قليل عائدون إلى حياتهم السابقة في الأحراش والمخابئ! بنادقهم جديدة تنزل الروع في نفوس الرعاة والمسافرين العزل. أصبحوا يجيدون التخطيط وقد لا ترهبهم القوافل المنيعة. وراءهم وبعدهم الجوع وفضلة الطعام والإنتقام.
صافحهم الواحد تلو الآخر وأدار لهم ظهره.
جلس على حجر ومد بصره إلى الوادي. وحيدا كما كان أيام الرعي. يعرف كل شبر في المكان وكل أحجار الوادي. هناك في مكان من وسط الجيش حيث أقام القائد خيمته وأحاطها الحرس بالمشاعل ينتهي خندق الساقية المهجورة. كان قد نظفها من الأعشاب وما علق بها من الجيف. وموه فتحتها تحسبا لأي طارئ. فترت عنه ابتسامة وهو يهيء نفسه للمهمة الأخيرة. أسند بندقيته على الحجر وعلق عليها عباءته. خنجره مسنون وقد حزمه على خصره بشق من عمامته. دخل الساقية. زحف حتى وصل إلى رأسها بجوار خيمة القائد. ثلاث خطوات تفصله عن الخيمة، قد يقتله فيها الحراس أو قد يصل إلى هدفه، وفي كلتا الحالتين، سينقذ أهله وسيأتي الصباح على القرية كما كان على الدوام. الصمت يعوي في المكان وفي أركان نفسه. عض على خنجره، وحابسا أنفاسه واصل زحفه تحت ضوء القمر. جثا على صدر القائد النائم، وكادت أن تند عن الأخير صرخة هلع، ولكن نصل الخنجر المحزوز على رقبته حال دون خروجها. ألزمه الصمت ودنا إليه برأسه.
ها قد جئتك بنفسي، وكما ترى فرأسك بين يدي. بإمكاني أن أفصله عنك وأعود من حيث أتيت. ولكن إن توخيت السلامة لنفسك أولا ولغيرك من بعد فالأمر عائد إليك.
قل ما أردت فالكلمة لك!
انتهى كل شيء. هذه هي كلمتي. سرّحت جماعتي ولن يمس أحد قوافلكم بعد اليوم. عد بجيشك، وإن أردت أن تجدني فابحث عني في مكان آخر غير الجبل.
سأفعل. أعدك بذلك.
سآخذ منك وعد رجال.
وعد شرف.
قيده وكمم فمه بشق عمامته ثم طواه الليل. وإلى السهوب رمى خطاه حتى أشرقت عليه الشمس وهو على ضفاف الساحل وقد توارت الجبال خلفه في المدى البعيد.
كاتب من عُمان يقيم في موسكو