دائما وأبدا , الأسئلة هي التي تقض المضاجع , ت قلق المياه الساكنة في النفس , تدعو إلى شد الرحال للبحث عن شيء يهدئ من الروع و يشفي الغليل , أو لركوب أهوال مغامرة تشيع الحياة وتتقصى الأحلام .
لذا سأبدأ بسؤال وسأنتهي بسؤال :
لماذا ت حاك القصص , ويستمر السرد , ومن ثم تبقى الحكاية , وتتواصل الحياة ?
سؤال قد يلج عمق الحكاية ويعري النص محاولا الكشف عن شموسه / أسرار البقاء , سر الوجود , ديمومة الحياة وصيرورتها .
إن النموذج الصارخ الذي يهوي بحضوره عند هذا السؤال هو حكايات ألف ليلة وليلة حيث تبدأ المسألة , في الحكاية الأم / الرئيسة , بصدمة قوية غير متوقعة وغير مبررة بعد أن ظل الملكان الأخوان مدة عشرين عاما يحكمان بالعدل ويعيشان في غاية البسط والانشراح – أو هكذا يتوهمان .
هذه الصدمة , غير المبررة , هي الخيانة الزوجية .
ي عتبر الفعل غير المبرر عمليا شيئا من الخون . فزوجة الملك تعيش حياة مرفهة وتنال كل ما تتمنى وتحقق كل ما تحلم به , كزوجة لملك أكبر الإمبراطوريات .
فلماذا الخيانة , إذن ???
قد نجد تبريرا لهذه المسألة بمنطق عصرنا الحالي , لكن في ذلك العصر , فعل الخيانة غير مبرر تحت أي ظرف من الظروف , إلا إذا كان البشر يعيدون الأزمات التاريخية بأشكال مختلفة ومتغيرة , أي بأنماط معاصرة .
قد نستشف من هذه الحالة مفهوم الفعل غير المبرر وهو الخيانة , أما الفعل المبرر / المسبب فهو فعل يحق لصاحبه أن يمارسه , كالجائع مثلا يحق له التسول . أما بالنسبة للإنسان المتخم فإن التسول فعل ذميم بالنسبة لصاحبه .
ومع ذلك , أرى أن فعل الخيانة لزوجت ي الملكين الأخوين مبرر بالرغم من عدم تبيان الأسباب صراحة في نص القصة . فالقصة التي تليها تؤكد أن الخيانة مبررة حتى لو كانت من زوجة مخلوق أعظم وأقوى من الملوك أنفسهم , حيث تقول القصة أن عفريتا اختطف فتاة ليلة عرسها ووضعها في علبة وجعل العلبة داخل صندوق أقفله بسبعة أقفال وجعله في قاع البحر العجاج المتلاطم بالأمواج . وكانت الفتاة قد خانت العفريت خمسمائة واثنين وسبعين مرة أثناء سجنها في العلبة والعفريت لا يعلم من الأمر شيئا .
إن تبرير الخيانة بالنسبة لهذه القصة هو الانتقام , وأن المرأة إذا أرادت فعل شيء لا يغلبها الأمر مهما كانت الأسباب .
السؤال الذي يلح الآن بقوة : هل تحمي المؤسسة الزوجية الشرعية مثلا ( كنموذج للعلاقات الإنسانية ) أو المؤسسة العفاريتية اللاشرعية ( كنموذج للقوى الخارقة ) الإنسان من الخون , أو هل تصونه من الانتقام بالخيانة على أقل تقدير ? هذا مثار جدل وشك , طبعا …
أليست ردة فعل الإنسان الذي يتعرض للأزمات والضغوط مفتوحة ولانهائية ولا تدور بخلد عاقل ?
أليس العقل م غي با أصلا ? وما هي جدواه إن و جد ?
لأنه لو و جد العقل لما حدثت أزمة أصلا في بلاط الملك , ولما تجل ت المشاهد الفضائحية لمجرد إدارة الملك ظهره , حتى قبل الشروع في السفر !!!
فإذا قد رنا أن أفعال الملك مجنونة ( بمعنى اللامعقولة ) , وأفعال زوجته وأنجاله مجنونة , وأفعال الحاشية مجنونة , وأفعال الوزراء والمنتفعين مجنونة , فمن باب أولى أن تغدو أفعال عامة الشعب أكثر جنونا وهي التي ترنو إلى الحرية والعيش بسلام والتمتع بالجمال بصفته بشر يحق لهم ممارسة إنسانيتهم .
استمر فعل الصدمة لدى »شهريار« مدة طويلة من الزمن تقدر بثلاث سنوات , حيث كانت ردة فعله هو القتل والتمتع بالمشهد الدموي بعد قضاء ليلة من التمتع والتلذذ بافتضاض بكارة فتاة عذرية – وهو نوع آخر من القتل الضمني .
ظاهر العدوانية تلك , تخفي شيئا باطنيا ي قلق الملك , شيئا يروعه , يعيشه في هلع دائم , شيئا يخاف نهايته , هو فقدان الملك لإمبراطوريته وسلطانه .
الزوجة شريكة في الحكم / السلطة بحكم العلاقة الزوجية وبحكم النسل الذي ولدته تلك العلاقة بينهما . وعندما يكتشف الملك خيانة زوجته فمعنى ذلك ضياع الإمبراطورية منه , وسوف ينتقل الم لك للزوجة وللأبناء وللرجل الذي شارك زوجة الملك الخيانة . وسيتم ذلك إما بقتل الملك مباشرة أو بإزاحته عن الحكم ونفيه . ولا يتحقق ذلك إلا بمؤامرة كيدية .
لذا ستظهر المؤامرة كمشهد يومي في حياة سكان القصر , وسيكون كشف قصص المؤامرات هي مهمة السرد الذي يتميز بنقل الأحداث بأسلوب مراوغ وبابتداع أساليب جديدة لتدمير المخيلة القديمة وبناء أخرى حديثة على أنقاضها .إن مقدمة المؤلف »المجهول« لها دلالة ما , سنحاول أن نلج ظلالها قدر الإمكان .
»فإن سير الأولين صارت عبرة للآخرين , لكي يرى الانسان العبر التي حصلت لغيره فيعتبر , ويطالع حديث الأمم السالفة وما جرى لهم فينزجر , فسبحان من جعل حديث الأولين عبرة لقوم آخرين«.
إن مقدمة المؤلف تلك تؤكد على :
* أهمية الحركة التاريخية وعلاقتها بالحركة الاجتماعية وما تنتج عنها من تحولات وغيرها .
* إن الحركة الاجتماعية توجد تاريخها .
* الاستفادة من تجارب الآخرين والتي يمكن أن نلاحظ من خلالها طبيعة التحولات الكونية .
* أن الزمن لا يتوقف وأن المجتمع الذي لا يتحرك في المياه التاريخية مجتمع لا وجود له في تلك اللحظة التاريخية .
* فاعلية السرد وأشكاله لفهم صيغ التحولات العامة والمؤثرة في حياتنا .
»إن س ير الأولين صارت عبرة للآخرين« قصص مجتمعات عاشت تحت ظروف معينة وضمن شروط اجتماعية واقتصادية وسياسية معينة أفرزت وعيا تاريخيا معينا لا يمكن تجاهله في مسيرة ثقافتنا الإنسانية . ذلك الوعي هو في الأساس مرتكز على صراع العلاقات المختلفة في المجتمع وما أنتجه من خطاب ثقافي ولغة خاصة به يعبر عن التغيرات أو التحولات التي شك لت مجتمعا جديدا حتى لو كان بنسبة بسيطة أو ظاهريا .
من هنا أخذت السيرورات التاريخية أهميتها من خلال علاقاتها المباشرة بالحركة الاجتماعية , ولذلك كان الاهتمام بس ير الأولين من أجل محاولة استكشاف آليات التحول الاجتماعية في المسيرة التاريخية , ومحاولة تفسير وتأويل الظواهر الاجتماعية مستندا على استجلاء ب نيات الظرف التاريخي المشك لة للمجتمع .
قد يكون ما أشرنا إليه »نظريا« إلى حد ما . لكن المؤلف المجهول لألف ليلة وليلة يبرر أهمية سير الأولين ؛لكي يرى الإنسان العبر التي حصلت لغيره فيعتبر , ويطالع حديث الأمم السالفة وما جرى لهم فينزجر«.
إن مسألة الاستعبار تقودنا إلى أهمية بحث ودراسة الظرف التاريخي بمجالاته المختلفة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية, وبدون دراسة الظرف التاريخي تصطبغ رؤانا بالنرجسية والفردية والوهمية .
بتلك المقدمة البسيطة , التي سط رها مؤلف كتاب ألف ليلة وليلة , أدخل مفتاحا لفضح الملك الذي تخيل حكما عادلا مستقرا …….
إذ أن سوسة الزيف والخداع أخذت تكشف ما يعتلج داخل غرف قصر الملك , ومن أقرب الناس له .
الاستقرار المزعوم ما هو إلا زمن موقوت للانفجار لحظة ما . وقد حانت تلك اللحظة في عز الفرح والانتشاء استعدادا للسفر في رحلة صيد ترفيهية .
من هذه الأزمة بالذات أخذت »شهرزاد« على عاتقها تحويل فهم المسار التاريخي عن المعاني المتعددة التي أفرزها المجتمع الجديد وحتى يمكن الحفاظ على إمبراطورية الملك من سقوط محتم , ذلك أن الحركة الاجتماعية في مثل هذه الحالات تخلق صيغتها الجديدة وتاريخها الجديد .
إن التواصل بين الأقوام »فسبحان من جعل حديث الأولين عبرة لقوم آخرين« حتمية تاريخية إلا إذا كان هناك انقطاع في التاريخ .
والسرد هو أحد أساليب التلاقي الموضوعي والروحي بين المجتمعات والأفراد عموما .
انفرد السرد منذ البداية عبر أساليبه وأشكاله المختلفة في التقاط مفاتيح التحولات الموضوعية أو التاريخية في القصة أو الحكاية .
والزمن »التاريخ« هو البنية الرئيسة والمشكل المهم للنص السردي مهما بلغت تقنيات روايته من فن وإبداع .
جاءت عوالم ألف ليلة وليلة لترسم لوحة الزمن لذاكرة جمعية تؤرجح فوانيسها داخل فضاءات النسيان التي تداهم المجتمع عندما تركد مياهه وتتطحلب جدرانه منذرا بموت قادم .
بهذا المعنى , ي قلقنا السرد وتتلقف النصوص كل تجربة يمكن لها إحداث دوي مربك حتى ينتابنا الذهول وتتسع أحداقنا لنرى الفاجعة القادمة بعيون أكثر يقظة وأرحب مدى .
أيها النص , أيها السرد قولا ما تشاءان وكيفما تشاءان واستنبتا لي الحكمة .
يقفز سؤال فضولي : إذا كان »شهريار« قد قتل الكثير من الفتيات خلال ثلاث أعوام , فلماذا لا يثور المجتمع وآباء الفتيات ضده كشكل من أشكال المقاومة ?
أليس هذا الإرهاب كفيل بإطلاق شرارة التغيير والتحرر من العبودية ?
ألا يمكن للإرادة الجماعية أن تنجز عملا وطنيا وذاتيا في نفس الوقت? أم أن قوة السلطة جي شت غالبية فئات المجتمع كحصن لبقائها ?
ربما …. وربما لأن التاريخ يثبت فعالية الجهد الفردي (الذاتي ) في التغيير أو , ربما , أراد الراوي أن يلفت انتباهنا إلى وسائل أخرى تقوم بنفس الدور من خلال الليالي التي يتماهى فيها الشعور باللاشعور والواقع بالخيالي والنسبي بالمطلق . من أجل ذلك قبلت »شهرزاد« مهمة الزواج للقيام بالتغيير من الداخل , هدم الأسوار المرعبة , في الوقت الذي عجز المجتمع عن قيادة فعالية التغيير من الخارج .
أهو تطهير الذات الفردية / الجزئية و الكلية ?
كان مصير الفتيات اللاتي يتزوجهن »شهريار« , هو الموت / الفناء . عليهن أن يؤدين دور العروس التي ت زف مساء , يتصنعن البهجة وي شعن الفرح والسعادة حول المكان . لكن , هناك خيط رفيع غير منظور يربطهن بمصير محقق . ذلك الخيط هو الزمن , تلك اللحظة المنتظرة التي ستدمر كل مساحة الأمنيات وكل بلاغة الدعوات وكل خشوع الصلوات من أجل البقاء .
الصباح سيجلب لأهل العروس أخبارا مؤلمة بلا شك , لأنهم يدركون مسبقا شكل الخارطة الدموية التي سيشتغلون على إخفائها / ردمها في قبر ربما قد أ عد من قبل حسب التوقعات المصيرية . ليس هذا فحسب , بل سيمتد هذا الهلع / رعب المصير إلى ليلة أخرى حيث ستجهز عروس أخرى .
إذن , تبدأ الحكاية باللذة / الزواج وتنتهي بالألم / الموت. وكان ي فترض أن تبدأ الحكاية بالألم وتنتهي باللذة , أو هذا ما ي فترض أن يحدث في النهايات المحتملة.
تلك حكاية أسطورية ليس فيها فعل الحكي الخرافي الذي يقلب الم شاهد أو يغير من نمط سير الأحداث مثلا . حكاية منطقية / واقعية / تقليدية , والقصة لم تتغير . تنقل الأحداث كما هي من فتاة إلى أخرى . رجل يتزوج فتاة ويقتلها في الليلة ذاتها لأنه لا يثق في إخلاص النساء , حينما اكتشف خيانة زوجته .
لذلك فالقصة واحدة , والسرد واحد , والحكاية واحدة .
»شهرزاد« , قلبت الموازين . أدركت قوانين جديدة للقص , أو بالأحرى , اكتشفت القوانين الأصيلة لفعل القص وهو أن هناك علاقة شرطية بين مسار القص وتقنياته و البقاء على قيد الحياة .
و»شهرزاد« لم تكن فتاة عادية, ( بل كانت ذات حسن وجمال وبهاء وقد واعتدال ) , هذه هي الخاصية الأولى .
وكانت قد ( قرأت الكتب والتواريخ وسير الملوك المتقدمين وأخبار الأمم الماضين , قيل أنها جمعت ألف كتاب من كتب التواريخ المتعلقة بالأمم السالفة والشعراء . فقالت لأبيها : مالي أراك متغيرا حاملا الهم والأحزان وقد قال بعضهم في المعنى شعرا :
قل لمن يحمل هم -ا إن هم ا لا ي-دوم
مثل ما يفنى السرور هكذا تفنى الهموم
فلما سمع الوزير من ابنته هذا الكلام حكى لها ما جرى له من الأول إلى الآخر مع الملك . فقالت له : بالله يا أبت زوجني هذا الملك , فإما أن أعيش وإما أن أكون فداء لبنات المسلمين وسببا لخلاصهن من بين يديه .) , وهذه هي الخاصية الثانية : المعرفة والخبرة والتجربة .
هذا ما تأملته »شهرزاد« وفكرت به وعلى إثره قبلت التحدي للزواج من مصير محتوم في نهاية ليلة الزفاف , وكأنها تعني بذلك محاولة شق طريقا آخر لنفسها غير طريق سابقاتها اللاتي لقين حتفهن . طريق يشكل لها خصوصيتها أو هويتها , حسب رؤية الفيلسوف »بول ريكور« بقوله ؛إذا أحطنا بحياتنا في نظرة واحدة , فستبدو لنا حقلا من الفعالية البنائية , المستعارة من الفهم السردي , الذي نحاول من خلاله أن نكتشف , لا أن نفرض من الخارج فقط , الهوية السردية التي تشكلنا« .
– من منا من لم يتمثل الحكايات في حياته الأولى / الطفولية ?
– من منا من لم يتماه مع احدى شخصيات الحكاية وأفعالها أثناء مراهقته ?
– من منا من لم تشكل الحكايات شيئا أو جزءا من أحلامه , طموحه , مخيلته , بل مشروعه المستقبلي ?
– من منا من لم يختف وراء حكاية تخيلها في لحظته لدرء عقاب محتمل من أحد الوالدين ?
وهناك نماذج معيشة كثيرة , شكلت الحكاية فيها مسارا مهما لحياتنا وقلبت الأحداث بشكل عجائبي لا نجد له تبريرا .
ففي مستهل ليلة الزفاف , بدأت »شهرزاد« تحيك خيوط الروابط الشرطية – الاستراتيجية – والتي ستحقق لها استمرارية الحياة ليلة أخرى على الأقل . وأول ما بدأت به هو شرط فعل القص نفسه , بعيدا عن القول الخطابي , الوعظي , الإنشائي , الذي ليس له تأثير الحكاية نفسها وعوالمها .
نسجت »شهرزاد« القصة / وضعت خطة الاستراتيجية , وأخذت تمد بخيوطها إلى أبعد مدى . رسمت العوالم الخرافية / القهر , وحاكت العلائق العجائبية / المستحيل, فجرت ينابيع المخيلة / الممكن , تعمقت إلى منتجع التأثر الحسي للحياة / الرغبة , بالمتعة , لذة السرد وحلاوة البقاء من أجل الحكاية .
قامت »شهرزاد« بفعل السرد كحدث رئيسي , أشعلته بمخيلة لابد لها من التيقظ من أجل الاستمرار (تحطيم صنم المفهوم والصيغ الجاهزة ) ولم تقم بدور القص التقليدي (دور الزواج وشهوة اللحظة ) إلا بشكل مساعد لاستكمال تدفق شهوة السرد الذي أغرى الاثنين معا , شهريار وشهرزاد , مما زاد من مساحة حميمية اللقاء حيث كان الإدهاش والمتعة , والتأمل , والمعرفة والتآلف الروحي بينهما . (فقالت لها) دنيازاد : وأين هذا مما سأحدثكم به الليلة المقبلة إن عشت وأبقاني الملك . فقال الملك في نفسه , والله ما أقتلها حتى أسمع بقية حديثها . ثم إنهم باتوا تلك الليلة متعانقين) . حدث ذلك منذ نهاية الليلة الأولى . فتحولت العدوانية المضمرة في نفس الملك إلى نوع من المهادنة لسماع بقية الحكاية المحتملة. والتحول سمة مهمة من سمات القص , داخل النص أو خارجه بفعل التأثير السحري (النفسي والمعرفي) على المتلقي .
هناك شيء آخر ملفت للانتباه وهو سكوت شهرزاد عن الكلام المباح بعد نهاية كل حكاية . من أين استمدت »شهرزاد« الشرعية / الإباحة للكلام? وما هو الكلام المباح ?
بشيء من التأمل نستطيع ملاحظة تلك العلاقة بين عملية إبداع الحكي ( الكلام المباح ) التي تتطلب حذق البناء التخيلي – والتي لا تتحمل الاعتباطية / حسب قاعدة »تعلق السابق باللاحق« – وبين الفعل الواقعي ( الإباحة للكلام ) , الحدث الذي تستمد منه الحكاية جذورها / خارجية النص . فالشرعية التي خولت شهرزاد للحكي هي حدوث زواجها من الملك , وتاليا من حقها المحافظة على حياتها عندما يتهددها الخطر .
كان الرابط الشرطي للبقاء هو الحكاية والتي لولاها لما استمرت الحياة . وتوالت القصص واستمر السرد على كل تنويعاته وتقنياته والذي كان عاملا فاعلا لامتداد الزمن ولاتساع فضاء الحكي . لأن »للسرد سلطة عجيبة لا تقاوم . كلما يتقدم السرد كلما يهدأ المستمع وتسترخي ملامح وجهه المكفهرة , أي أنه يسقط في الفخ الذي نصبه له الراوي عندما أخذ في السرد«. حسب رؤية د.عبدالفتاح كيليطو.
لم تنقل »شهرزاد« القصة (التجربة) كما يجب أن ت فعل (تحكى) , بل حاولت خرفنة التجربة حتى تصبح أكبر من وعي وتجربة وإدراك »شهريار« , وحتى يصبح اللامعقول شيئا واقعيا , ممكن الحدوث والإحساس به حياتيا .
حنكة »شهرزاد «المعرفية والثقافية هدتها إلى التفكير في استراتيجية سردية تحقق لها البقاء واستمرارية الحياة . كانت تلك الاستراتيجية محتملة , قد تنجح وقد تفشل , لكنها قابلة للتجريب والمغامرة .
إذن , في كل الأحوال , كانت الحكاية محتملة حتى بعد انقضاء الزمن التجريبي حسب الاستراتيجية السردية (ألف ليلة وليلة ) .
سؤال يطرح نفسه علينا : هل بالضرورة اختلاق استراتيجية محتملة لسرد الحكاية ?
إن ما كشفته حكايات »شهرزاد« هو ضرورة وجود استراتيجية , ليست محتملة فقط بل محكمة أيضا . فمن خلالها تسعى إلى إنجاز هدف أسمى وهو إنقاذ حياتها وحياة ( بنات المسلمين ) من موت محقق .
لذا عمدت عند وضع الخطة , أو هكذا أضمرت , على الأخذ في الاعتبار تقطيع الحكايات والتوقف عند مواضع مثيرة تجبر المستمع / المتلقي على الانتظار ليلة أخرى لاستكمال الحكاية . لكن الحكاية لن تنتهي , بل تتناسل / تتوالد إلى أن تصبح كشجرة معمرة لا يعرف فرعها من أصلها .
يوهمنا تقطيع الحكاية بأن الأمر متعلق بحبكة القص نفسه , لكن الحقيقة هو أن التقطيع صاغ امتداد الزمن الخارجي واستمراريته إلى أن بلغ ألف ليلة وليلة . نكتشف من ذلك , أن تقطيع / تجزئة الحدث لم يكن اعتباطيا حسب أهواء الراوي لتصوير م شاهد متناثرة هنا وهناك , بل كان لهدف سام وهو خلق استراتيجية التسلسل التاريخي / الزمني .
بالطبع , كان الزمن قادرا على إحداث مفعول النسيان أو الاسترخاء أو التغاضي أو التضليل أو جميعهم معا . والأهم من ذلك كله هو الخطاب الثقافي الذي ركزت فيه على إعادة صياغة مفاهيم وعقلية ؛شهريار« عن تحولات الحياة وإحباطاتها , أفراحها وأحزانها , نقائها وفسادها و عن العلاقات المختلفة بين البشر وعن أقدارهم الحياتية.
استمرت ؛شهرزاد« في تحفيز المخيلة واستثارتها إلى أن جاءت لحظة استرداد الوعي ( تقرير المصير ) , لحظة الصدمة والمواجهة الواقعية واختبار نتيجة تجربة الرابط الشرطي ( القص ) . في الليلة الأخيرة , يجب اتخاذ القرار وتقرير المصير لأن الحكاية حسب هدفها الرئيسي قد انتهت , ويجب الآن كشف الحقيقة :
»فلما فرغت من هذه الحكاية قامت على قدميها وقبلت الأرض بين يدي الملك وقالت له : يا ملك الزمان وفريد العصر والأوان , إني جاريتك ولي ( ألف ليلة وليلة ) وأنا أحدثك بحديث السابقين ومواعظ المتقدمين , فهل لي في جنابك من طمع حتى أتمنى عليك أمنية ? فقال لها الملك : تمني ت عطي يا شهرزاد , فصاحت على الدادات والطواشية وقالت لهم هاتوا أولادي , فجاءوا لها بهم مسرعين وهم ثلاثة أولاد ذكور واحد منهم يمشي وواحد يحبي وواحد يرضع . فلما جاءوا بهم أخذتهم ووضعتهم قدام الملك وقبلت الأرض وقالت : يا ملك الزمان هؤلاء أولادك وقد تمنيت عليك أن تعتقني من القتل إكراما لهؤلاء الأطفال , فإنك إن قتلتني يصير هؤلاء الأطفال من غير أم ولا يجدون من يحسن تربيتهم من النساء . فعند ذلك بكى الملك وضم أولاده إلى صدره وقال يا شهرزاد : إني قد عفوت عنك من قبل مجيء هؤلاء الأولاد لكوني رأيتك عفيفة نقية , وحرة تقية بارك الله فيك وفي أبيك وأمك وأصلك وفرعك . وأ شهد الله على أني قد عفوت عنك من كل شيء يضرك . فقب لت يديه وقدميه وفرحت فرحا زائدا وقالت : أطال الله عمرك وزادك هيبة ووقارا«.
كانت الحكاية ( قصة شهرزاد ) هي التي قلبت موازين القوى , وحولت نمط الحياة ( الصيغة الجاهزة) إلى غرائبية واقعية يمكن تحقيقها بالمغامرة ( التجريب) والتعمق في أرخبيلات النفس البشرية التي تكشفها الممارسة السردية .
كنت أتساءل في نفسي : هل الحكاية انتهت فعلا , بعد ألف ليلة وليلة ?
أعتقد أن الحكايات لا تبدأ من أجل أن تنتهي . قد تتوقف مرحلة تاريخية معينة نحسبها نهاية زمنية بالنسبة لنا – رغم علمنا أن الزمن ممتد لا نهاية له – لكن الحكاية مستمرة مادمت الحياة تدب في عروق الإنسان , كما أن السرد الذي قوامه الزمن أصلا لا يتوقف .
و»شهرزاد« لا تزال – حينها – مستمرة في نسج أفعال حكايات لا تنتهي وهي بجانب »شهريار« إلى أن يوافيهما الأجل المحتوم طبيعيا , ومن ثم تنتقل الحكاية بكل أفعالها القصصية للإنسان المغامر , لمن يحمل روح البقاء , وبذرة جنون الإبداع , والعمق الرؤيوي .
الأمر الآخر هو أن الحكايات كانت ضمن استراتيجية محددة توقفت فعاليتها عند ذلك الحد المرسوم لها . لكن السياق السردي في حد ذاته لا ينتهي ولا يتوقف , حيث يمكن لرواة من أزمنة لاحقة تناقل تلك الحكايات عبر الأجيال وي ستفاد منها كإضافة تخيلية للذاكرة المعيشة , لأن الحكايات مدونة وإن لم تكن مدونة فستروى بطرق مختلفة حسب تعدد المرجعيات المتنوعة للرواة . كما يمكن أيضا إبداع حكايات أخرى خارج تلك الاستراتيجية متزامنة مع السياق السردي العام , لأن شهرزاد و شهريار / الراوي والمتلقي مساهمان فعالان في إدارة شؤون الحياة اليومية الاجتماعية منها والسياسية والثقافية وما تفرزه من أحداث / حكايات تؤثر في تقرير مصير شؤون الدولة , مثلما تؤثر في تربية أبناء الملك بصفتهم الورثة الشرعيين للحكم من بعده .
هل هذا كل شيء ? طبعا , لا .
إذ أن »شهرزاد« ليست سوى راوية ضمنية , أما السارد الحقيقي فهو خارج الحكاية , مؤلف مجهول توارى خلف الراوي الضمني بعد أن قدم أصل الحكاية . كما أنه توجد طبقات من الرواة في كل حكاية يتبادلون الأدوار بشكل طبيعي وبسلاسة غير متكلفة .
المؤلف الذي نجهله ونجهل العصر الذي عاشه ونجهل مرجعيته المعرفية والثقافية , أيقظ فينا – ونحن نعيش الألفية الثالثة – دهشة الخوارق والغموض وطرح إشكالية موت المؤلف كتجربة واقعية .
لماذا ت حاك القصص , ويستمر السرد , ومن ثم تبقى الحكاية , وتتمادى الحياة في غي ها ?
في الحقيقة : لا أعرف …. ولا أسعى لمعرفة الإجابة .
لو عرفت الإجابة , لتوقفت عن الكتابة , وودعت الحي
محمد القرمطي
قاص من سلطنة عمان