لم يستغرب الذين يتابعون تطور تجربة الشاعر الايرلندي شيموس هيني منذ سنوات طويلة حصوله هذا العام على جائزة نوبل للآداب. فهو، ومنذ سنوات يعد واحدا من أهم شعراء العالم المناطق بالانجليزية، وأهم شاعر ايرلندي بعد وليم بتلر ييتس، بل انه يعد في الحقيقة وارث ذلك الشاعر الايرلندي الكبير سواء من حيث العالم الشعري الذي يغوص عميقا على التقا ليد والارث الايرلنديين أو من حيث محاولته الدائمة لتصعيد الوقائع السياسية وعدم التحول الى شاعر لحظة سياسية. وكما جر هذا الانسحاب الرمزي من عالم السياسة اليومية والصراع الدامي في ايرلندا الشمالية الاتهامات، والغضب السياسي الايرلنديين الذين يقودون حركة الصراع السياسي، على وليم بتلر ييتس ووجه هيني بالاتهامات نفسها الى درجة اتهامه بالخيانة عندما انتقل عام 1972 من بلفاست الى دبلن عاصمة ايرلندا الجنوبية ليعيش هناك، أو عندما ذهب الى لندن عام 1988 لتسلم جائزة بريطانية في الوقت الذي اندلع فيه الصراع الدموي بقوة وعنف بين الجيش الجمهوري الايرلندي والقوات البريطانية في ايرلندا الشمالية مسقط رأسه.
ولربما تكون هذه الظروف السياسية التي أحاطت بتجربة هيني الشعرية هي التي دفعت عددا من النقاد للربط بين محادثات السلام البريطانية – الايرلندية التي جرت خلال العام الفائت ومنح شيموس هيني جائزة نوبل للآداب. لكن ارتباط اللحظتين السياسية والأدبية لا يقلل بأية صورة من الصور من مكانة هيني الشعرية وابداعه الشخص الذي تطور منذ نشر ديوانه الأول عام 1966 بصورة مدهشة.
ويبدو أن ظروف ولادته ( 1979) لأسرة كاثوليكية في ايرلندا الشمالية البروتستانتية الديانة، ونشأته في مزرعة في مقاطعة ديري، قد حددت عملية تطوره الشعري ووجهت حساسيته الادبية ليصبح شاعرا رعويا حديثا تحتل الأرض ومتعلقاتها الحسية مركز عمله الشعري.
في صباه فاز هيني بمنحة دراسية لمدرسة القديس كولمب ومن ثم انتقل الى جامعة كوين في مدينة بلفاست البروتستانتية بعد حصوله على منحة أخرى تعطى للمتفوقين من أبناء المناطق الريفية وأصبح في ذلك الوقت الأكبر سنا بين عدد من شعراء الجامعة الشباب، جون مونتاغيو وتوماس كينسيلا وريتشارد ميرفي وديريك ماهون ومايكل لونغلي وآخرين، وقد لفتوا الانظار اليهم وأصبحوا فيما بعد من خيرة شعراء ايرلندا المعاصرين وهو يشير انه خلال تلك الفترة لم يبدأ كتابة الشعر الا بعد أن قرأ شعر الجيل الجديد ممثلا بتيدهيوز وباتريك كافاناه وآر. اس توماس اضافة الى زملائه من الشعراء الايرلنديين الشباب الذي ذكرنا بعضهم قبل قليل. وما بين 1989 – في 1994 عمل هيني استاذا لمادة الشعر في جامعة اكسفورد واستاذ كرسي بويلستون للبلاغة والخطابة في جامعة هارفارد.
بدأ هيني ينشر شعره في بداية الستينيات، وأصدر عام 1966ديوانه الأول "موت عالم طبيعة" الذي تشكل طفولة هيني الريفية الخلفية المحفورة للعديد من قصائده. وتضم المجموعة الأخيرة عددا من القصائد التي تتخذ من المكان الريفي أو الحيوانات موضوعا لها، لكن ذلك لا يجعل من هيني شاعرا من شعراء الطبيعة، اذ أن ما يشده في التجربة الريفية هو المجتمع وتقاليده، والطقوس الريفية ومهارة الحرفيين وأصحاب الصناعات اليدوية. كما أن الثيمات الرئيسية في عمله الشعري تتمثل بالحفر عميقا على تجربة النمو والنضج في ذلك الريف الايرلندي، ومن هنا تبدو ذكريات الطفولة وتجاربها، وذكريات العائلة كذلك هي المصدر الفعلي لأفضل قصائد هذه المجموعة ومجموعات شعرية تالية. ومن اللافت للانتباه ان القصيدة الأولى في هذه المجموعة الشعرية هي بعنوان «حفر» في اشارة واضحة لجوهر ما يفعله الشاعر في قصائده، حيث يحفر في ذاكرته كاشفا عن والده وحياته ثم يغوص عميقا في حياة جده ايضا مشكلا عالمه الشعري من المادة العائلية اليومية التي سيضفرها مستقبلا مع جذور التجربة التاريخية الايرلندية.
ان هيني يحدد منذ البداية مشروعه الشعري، ذلك المشروع الذي يضع هدفا له أن يمنح صوتا للصامتين والمقموعين ومع أن هيني يعمل في كتابه الشعري الأول على تفحص علاقته مع تاريخ بلاده وماضي عائلته الا ان التطور الأساسي الذي حدث في شعره يتمثل في تلك الانتقالة الحادة التي نشاهدها في شعره بدءا من عام 1967 بعد أن قرأ لأول مرة كتاب عالم الآثار الايرلندي بي.في. غلوب «أهل المستنقعات » The Bog People الذي أحدث في شعر هيني تأثيرا عميقا يماثل الأثر الذي احدثه كتاب جيسي وستون " من الطقس الى الرومانس " في شعر تي.اس إليوت. فقد فتح الكتاب المذكور عينيه على المستويات العميقة لتطابق التاريخ والأسطورة وهو يقول عن ذلك الكتاب انه:«يركز بصورة أساسية على أجساد الرجال والنساء التي وجدت محفوظة في مستنقعات أراض الجوت عارية، أو مشنوقة، أو مقطوعة الأعناق، ترقد اسفل نبات الخث نصف المتفحم منذ العصر الحديدي المبكر. ويجادل المؤلف بصورة مقنعة أن عددا من هذه الأجساد، وعلى الأخص انسان تولند الذي يحتفظ برأسه في آروس في متحف سيلكيبيرغ، كان جزءا من طقس تضحية للآلهة الام، الهة الأرض التي كانت بحاجة الى عرسان جدد تقطع رؤوسهم في الشتاء، كل شتاء ليناموا معها في الربيع».
ونحن نلحظ التأثير العميق لهذا الاكتشاف الآثاري على شعر هيني في مجموعاته الشعرية التي أصدرها بعد عام 1966. فهو يتخذ من سكان المستنقعات نموذجا بدنيا، حيث تمتزج في ذهن الشاعر صور هؤلاء الضحايا التي لا تنسى بصور الأعمال الوحشية التي ترتكب في الماضي والحاضر في طقوس الصراع السياسي والديني في ايرلندا، كما يشير هيني نفسه. والمجموعات الشعرية «باب يفض الى العتمة» (1969)، من هذا الفهم لطقس التضحية الماضي والمعاصر مادتها الشعرية التي منحت شعر هيني خصوصيته وعمقه. ويمكن لنا هن خلال عناوين هذه المجموعات ان نحدد موضوعات هيني الشعرية: الطبيعة والفصول والخطر الذي يتهدد الحياة الايرلندية في المناطق الريفية، في الماضي والحاضر الذي يسود في عدم الاستقرار السياسي.
ان صورة الأرض الايرلندية التي تشربت دم الماضي واحتوت عظامه تصبح رمزا أساسيا ومفتاحيا في شعر هيني. وبهذه الطريقة تدخل الصراعات السياسية الحية والمريرة لايرلندا المعاصرة شعر هيني من باب الاهتمام بالماضي ورموزه وطقوسه وعوائه الدموية، في محاولة من الشاعر الايرلندي ان يتملص من التعبير المباشر عن مشكلات شعبه السياسية المعاصرة. وهو يتجنب بذلك تبسيط هذه المشكلات المعقدة، ويثبت في الوقت نفسه انه ظل منذ عام 1970، يدور حول مسالة جوهرية في داخله لا يستطع القبض عليها أو فهمها، وهي مشكلة علاقة الشاعر المعاصر بالقضايا السياسية الواهنة لوطنه. وتعود هذه الحيرة والارتباك الى عدم قدرة الشاعر على الانسجان في قمقم الرؤى التبسيطية للصراعات بين البشر والشعوب، وعدم رغبته في تحويل شعره الى معرض للآراء السياسية التي ترض فريقا وتغضب آخر. ان هيني رغم ما يبدو من انشغاله بماض ايرلندا التاريخي واساطيرها وطقوسها شاعر معاصر بكل ما في الكلمة هن معنى، وليس توجها الى الماضي الا محاولة لفهم الحاضر والقبض على جوهر صراعاته. وتوفر قصيدته "انسان تولند" محاولته القاء ضوء على الحاضر من خلال النظر الى طقس الماضي واسطورته.
لكن هيني، ومنذ انتقاله للعيش في دبلن عام 1972، أصبح مهموما اكثر بالحصار الذي يفرضه عليه دوره كشاعر مهتم بصورة عميقة بالمشكلات السياسية لايرلندا المعاصرة. وتظهر هذه المشكلات بصورة لا تخطئها العين في قصائده التي سها بعد مجموعته "شمال" خصوصا في «عمل ميداني» (1979) و "جزيرة المحطة" (1984).
في «قنديل الزعرور» (1987) و«ابصار الأشياء» ( 1991) يدخل شيموس هيني أرضا تخيلية جديدة. قصائده هنا، خصوصا في "قنديل الزعرور" تستقصي ثيمة الفقدان، الفقدان بعامة وفقدان والدة الشاعر بخاصة. وهو يتأمل في الوقت نفسه وعيه ككاتب، ويعود بالطبع الى ذكريات الطفولة والنضج، الى حياة العائلة وأرض المستنقعات التي جدل أسطورتها بشعره. ومن هنا يبدو عالمه الشعري متماسكا حول موضوعات وثيمات اساسية، ويتشكل حول صور تتطور من عمل الى عمل شعري آخر. وهو يثبت من خلال تواصل تجربته الشعرية انه بالفعل "حفار" يقوم بالمكسف عن ماضي شعبه وجذوره التاريخية من خلال الكتابة.
مختارات من شعر شيموس هيني
ترجمة: فخري صالح
التابع
بمحراث يجره حصان حرث أبي الأرض،
كتفاه تكورتا مثل شراع مشدود
بين مقبض المحراث وثلم الحقل.
والحصانان جاهدا مستجيبين للسانه الذي يطقطق.
بمهارته وخبرته كان يثبت الذراع الجانبية
ويثبت شفرة المحراث الفولاذية المدببة اللامعة.
كان المرج يمتد دون انقطاع على مرمى البصر.
وفي المساحة غير المحروثة من الحقل كان الفريق
الذي يتصبب عرقا يروح ويجيء قاطعا الأرض
بعزم وقوة عينه
كانت تضيق وتستدير،
وتحسب مساحة اعلم الحقل بدقة لافتة.
كنت اتعثر فوق آثار نعليه على أرض الحقل،
واسقط احيانا فوق أرض المرج المحروثة ؛
كان أحيانا يردفني خلفه
منحنيا الى الامام ومعتدلا بقامته في مشيته المتهادية.
كنت اتحرق شوقا لأن أكبر واتمكن من حراثة الحقل،
ان أغلق عينا واحدة واشد ذراعي.
لكن كل ما فعلته كان ان اتبعه
متواريا في ظله الكبير اذ يعبر المزرعة.
كنت شيئا مزعجا، يتعثر ويقع،
يلغو ويثرثر في العادة.اما الآن فان ابي
هو الذي يتعثر خلفي،
لكنه لن ينجح في اللحاق بي.
كير الحداد
كل ما أعرفه هو باب واحد يفض الى الظلام.
وفي الخارج توجد محاور عجلات ودواليب عتيقة
واطارات حديدية تصدأ؛
وفي الداخل حلقة سندان مطروقة قصيرة الانحدار،
ثم مروحة الشرر غير المتوقعة
أو الهسيس الصادر عن حدوة حصان جديدة تصير
صلبة في الماء.
ينبغي أن يكون السندان في مكان ما هناك في الوسط،
مدببا مثل قرن وحيد القرن، في مربع ما هناك،
ثابتا لا يتحرك: مذبحا
يضحي بنفسه شكلا وموسيقى.
أحيانا كان يميل مستندا، بمريلته الجلدية والشعرات
في أنفه، الى حافة الباب
مستعيدا أصوات قرقعة حوافر الأحصنة اذ تلمع
صفوف الاشارات الضوئية ؟
ثم يصر بأسنانه ويهرع الى الداخل، صافتا وراءه
الباب
ليطرق الحديد الحقيقي وينفخ في الكير.
شربة ماء
كانت تجيء كل صباح لترفع الماء من البئر
مثل خفاش عجوز يترنح على أرض الحقل:
سعال المضخة الديكي، والجلبة التي أحدثها
الدلو، والصوت المتلاشي ببطء وهي تملأ الدلو أعلنت
جميعا عن وجودها. وها أنا اتذكر
مئزرها الرمادي، طلاء الدلو المعتليء الأبيض الحائل
اللون في بعض الأماكن،
وصوتها ذا الطبقة العالية الذي يصدر صريرا عاليا
مثله مثل مقبض الدلو.
وفي الليالي التي يصعد فيها القمر البدر كبد السماء
كان يمر على جملون بيتها
ويسقط من خلال النافذة ويتمدد
في وعاء الماء الموضوع على المائدة.
وكلما انحنيت لاشرب مرة أخرى، ولكي
أكون مخلصا للنصيحة المكتوبة على كأسها،
كنت أهمس لنفسي قائلا: "تذكر المعطي الوهاب ".
انسان تولند
1
في يوم من الايام سأذهب الى آروس
لأرى رأسه البني بلون نسيج نباتي نصف متفحم،
الأخاديد غير العميقة التي تطو جفنيه،
قلنسوته الجلدية المدببة.
في الأرض الريفية المنبسطة القريبة
حيث حفروا وأخرجوه،
كانت الحبوب الشتوية لآخر ثريد تناوله
مرصوصة جنبا الى جنب في معدته،
عاريا الا من
قلنسوته، والانشوطة والطوق،
سوف امكث هناك زمانا طويلا.
عريسا للالهة،
شدت طوقها المعدني حول عنقه
وفتحت باب مستنقعها،
تلك العصارات السوداء
تحوله الى جسد قديس باق لا يتحلل،
الاكتشاف النفيس لمجاريف على شكل
أقراص العسل تقطع الطبقة العليا للمرج.
وجهه الملطخ يضطجع
في آروس.
2
باستطاعتي أن أجازف بالتجديف،
أقدس المستنقع الذي يغلي كمرجل
وأكرسه أرضنا المقدسة وأصلي له
كي يجعل لحم العمال
الكامن المبعثر،
الجثث التي تعتمر قلنسوات
وتستلقي باكفأنها
في المزارع،
الجلد المحدر وأسنان
الاخوة الأربعة التي تنتشر
على عوارض السكك الحديدية، وتتناثر
لأميال عدة على خطوط السكة، أصلي له كي يجعلها
جميعا تنبت وتتوالد في التربة.
3
شيء ما في حريته الحزينة
وهو ينتقل في عربة السجناء المسوقين الى المقصلة
ينبغي أن يأتي الي مندفعا
ليردد على مسامعي أسماءهم
تولند، غرابول، نيبيلغارد،
مراقبا الأيدي الممتدة
لأهل البلاد،
وهو لا يعرف لغتهم.
هناك في أرض الجوت
في أبرشيات القاتل القديم
سأشعر انني ضائع،
انني حزين في وطني.
من جمهورية الضمير
عندما هبطت في جمهورية الضمير
كان الصمت يسود المكان بعد توقف المحركات
كنت استطيع سماع صوت الكروان فوق مدرج
الهبوط والطيران.
في دائرة الهجرة والجوازات كان الكاتب رجلا عجوزا
أخرج من جيب معطفه المصنوع من نسيج بيتي
محفظة
وأراني صوره جدي.
المرأة في دائرة الجمارك طلبت مني أن أصرح
بما عندي من كلمات الشفاء والمسرة العتيقة
لكي تشفي الخرس وتحول عنا العين الشريرة.
لا حمالين. لا مترجمين. لا سيارات أجرة.
عليك أن تحمل أعباءك بنفسك وسريعا
ما تختفي اعراض الامتيازات التي تبعث على الخدر.
2
الضباب هناك نذير مرعب لكن البرق
يتهجى كلمة الخير الكلية والآباء
يعلقون أطفالا في القماط على الشجر أثناء هبوب
العواصف الرعدية.
الملح هناك مادة نفيسة. والأصداف البحرية
معلقة بالآذان في الولادات والجنازات.
العنصر الأساسي لكل الأحبار والأصباغ هو ماء البحر.
رمزهم المقدس هو قارب مصمم على صورة معينة.
الشراع على هيئة الأذن، السارية على هيئة قلم حبر
مائل،
جسم القارب على هيئة فم، والعارضة التي تمتد على
طول قعر القارب عين مفتوحة.
في حفلات تنصيبهم على القادة الشعبيين
أن يقسموا معلنين تأييدهم قانونا غير مكتوب ويبكوا
للتكفير عن جرأتهم على احتلال المنصب –
ويؤكدوا ايمانهم بأن الحياة كلها انبجست
من ملح الدموع التي بكاها اله السماء
بعد أن حلم بأن عزلته لا نهاية لها.
3
عدت من تلك الجمهورية المقتصدة
ويداي بالطول نفسه، والمرأة في الجمارك
أصرت على أن نصيبي هو نفسي.
الرجل العجوز استطال بقامته وحدق في وجهي
وقال إن ذلك اعتراف رسمي
بأنني أصبحت الآن مواطنا مزدوج الجنسية.
وهكذا طلب مني أن اعتبر نفسي
ممثلا لهم حال عودتي الى بيتي
وان أتكلم باسمهم بلساني الخاص.
سفاراته، قال موجودة
في كل مكان
لكنها تعمل مستقلة عن بعضها البعض
لا سفير في هذه السفارات يتحرر من واجبه.
تقديم وترجمة: فخري صالح ( كاتب ومترجم من الاردن)