عزيزة الطائي*
إنّ الدارس لتجربة الكاتب، والصحفي مبارك العامري الأدبية يقف عند تنوع إنتاجها، وصدق طرحها، وغوصها في هموم الهامش. ورغم قلة إصداراته التي لا تتجاوز ثلاثة إصدارات، إلّا إنها تجربة ثرية مؤثرة ولافتة في مساحة الأدب العماني الحديث، لا لزخم إصداراته -كما نوهنا سلفًا- بل في تأسيسها التاريخي من جهة، والموضوعات التي تناولها من جهة أخرى، علاوة على تأصيلها الفكري لمسار الأدب الحديث في عُمان على مستويات هامة جدًا، وأبعاد أكثر أهمية، وهي شخصية مبارك العامري كإنسان وكاتب معًا.
ولعل الحديث عن ثقافة مبارك العامري وإنسانيته، لا يسعنا اختزالها -هنا- أقلها في هذه الورقة محدودة الكلمات؛ خاصة وإننا ارتأتينا الحديث عن عمل سردي لافت من أعماله، وله لبنة في تأسيس الرواية العمانية، وهو «شارع الفراهيدي». الرواية التي من عنوانها لفتت انتباه القراء والباحثين إلى تجربته الأدبية، حين خرج من ثوب مقالات الصحافة وحواراتها إلى عالم الإبداع.
تأتي أهمية الولوج إلى منجز مبارك العامري، في ثلاث:
أولها، إصداراته الثلاثة التي تمخض عنها العديد من الإشكالات التجنيسية.
ثانيها، الثيمة التي ركّز عليها كان لها التأثير على الكتاب في الأدب العماني المعاصر.
ثالثها، تنوع تجربته الأدبية، فقد جمعت بين السّرد والنّثر معا.
رابعها، تشخيص هموم المثقف والمهمش، والتعاطي معها.
خامسها والأهم، الشعبية التي حضي بها من الكتاب، مما زاد من حضوره الأدبي.
ومما لا شك فيه أنّ مبارك العامري يعد من مؤسسي الرواية في عُمان في فترة انقطعت فيها الإصدارات الروائية منذ صدور أول رواية عمانية، وهي «ملائكة الجبل الأخضر» لعبدالله الطائي عام 1965 ثم تلته أسماء روائية شكل مبارك العامري أحدها، ولعل أبرز هذه الأسماء التي نزامنت مع ظهور لإصداراته على التوالي الزمني، هي: سيف السعدي، وسعود المظفر، وحمد الناصري، ومبارك العامري، وسناء البهلاني، وبدرية الشحي.
يطالعنا مبارك العامري بثلاثة إصدارات، وهي: عملان (إن جاز لنا تسميتهما برواية)، واضعا لنا كقراء ومهتمين نموذجين سرديين مختلفين بنية وموضوعا، هما:
– مدارات العزلة الصادرة بطبعتها الأولى عام 1993، والتي مزج فيها بين السّرد والشّعر، بين سرد المتخيل والذات.
– شارع الفراهيدي الصادرة بطبعتها الأولى عام 1997، وهي رواية قصيرة (Novella) أكثر نضجًا من سابقتها، شخصت المكان والزمن والأشخاص، حيث لامس مؤلفها شؤون المثقف وغربته مع الأشخاص من حوله، إضافة إلى تأسيسه لزمكانية الفضاء الذي حاصرنا به منذ العنوان.
كما له ديوان شعري:
– بسالة الغرقى بطبعته الأولى عام 2010 عن دار الجديد في يبروت. وهو ديوان شعر نثري، عوالمه مستواحة من هموم الإنسان، وتجذر المكان.
– علاوة على مقالاته وحواراته الصحفية التي تعد بدايات كتابته، وجزءا لا يتجزء من وظيفته المعرفية والمهنية.
وهذا كله يقودنا إلى أنّ مبارك العامري بدأ ساردًا وانتهى شاعرًا، حيث تفاعل مع شاعريته كثيرون في قنوات التواصل الاجتماعي على حسابه في تويتر(Twitter)، أو منشوراته في صفحته في الفيسبوك(Facebook)، أو حسابه في الانستغرام (Instagram) .
سنخصص هذا المبحث لسبر مضامين روايته «شارع الفراهيدي» لأسباب عدة لعل، أبرزها:
– إيلاء فضاء مدينة مسقط/ العاصمة أهمية فكرية وثقافية من خلال شارع الفراهيدي.
– معالجة المشكلات اليومية التي تعيشها نماذج من الشخوص المثقفة.
– ملامسة أسئلة الوجود وعلاقة الذّات الباحثة عن رؤاها، وعلاقتها بالآخرين.
– أفق التعايش بين مقامات الإنسان الفكرية والعلمية وتجلي الأصالة والمعاصرة.
– انتقاء الذّات الساردة بضمير المتكلم المولعة بالفن والثقافة متمثلة في «غيلان».
– التطلع إلى أحلام عريضة من خلال الحلم والهواية لا التخصص والوظيفة.
كل ذلك تبين جليا في علاقة الشخوص بالمكان، وعلى رأسها الشخصية الرئيسية (غيلان) الذي يستمد المؤلف مرجعيته من الشاعر العربي المعروف (غيلان بن عقبة العدوي المعروف بذي الرمة) والعالم الفقيه (غيلان بن مسلم الدمشقي). من هنا تتأسس فكرة الرواية، وتقودنا ذاكرة العامري وثقافته حيث العلم والعلماء المؤثرين فكرا ومعرفة.
بنية السّرد ويقظة الذّات:
إنّ القارئ لإصدار مبارك العامري السردي الأول، مدارات العزلة، والتي تركه دون تجنيس، واضعا الأمر للقارئ والباحث؛ وربما الذي أوقعه في ذلك هو طبيعة بنية النص الإشكالية، فقد بدا متشظيا متناثرا مبعثرًا، نصوص يجمع قوامها السردي بين أنواع سردية عدة، هي: القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا، والقصيدة النثرية، وفلاشات متناثرة؛ يجمعها هاجس مشترك هو الهم الإنساني لا غير، ويظهر صوت المؤلف مبارك العامري صاخبا عاليا، رغم مراتب العزلة الصوفية التي بانت من عتبة العنوان، الذي يتناسق مع عزلة المتصوفة ومقاماتهم.
جاء النص في ستة فصول يتصدر كل فصل عنوان، كالآتي: تخوم الصّمت، الشّرارة الأولى، انكسار الضوء، عنق الزّجاجة، جمر السّلالات، ثلاث لوحات. وفي الفصل الأخير تتجلى خاصية القصة القصة القصيرة جدا، ونثريات اليومية بثلاث لوحات مضامينها تعتمد على تشظي بنية السرد.
سنتجاوز في هذا المبحث النّص الأول «مدارات العزلة»، فلها حديث يستحق الالتفات من حيث مضمون السرد، وقوامه الفني؛ لنتحدث عن المنجز الأقرب إلى الراوية القصيرة، والأكثر نضجا عن سابقتها، وهي «شارع الفراهيدي».
يقظة الذّات في سرد يتحرر:
إن القارئ لـ «شارع الفراهيدي» يقف عند أمرين فنيين:
أولا: التجنيس السردي: هاجس يشي بوعي كاتبه، كما تحيلنا بنية النص إلى السؤال الآتي:
ما الجنس السّردي الذي أختاره مبارك العامري لصياغة قالب نصه القصصي «شارع الفراهيدي» وإذا استثنينا إصداره الشعري اليتيم، نستطيع أن نجزم: أنّ مبارك العامري في سرديتيه، وأعني(مدارات العزلة، وشارع الفراهيدي) يختار جنس الرواية القصيرة (Novella) لبنية مشروعه السّردي؛ ويتجلى ذلك بالأخص والتحديد (شارع الفراهيدي) كما ذكرنا سلفًا- فقوام السرد فيها مبني على خصائص النوفيلا (الرواية القصيرة)، وهي كما يرى أحمد السماوي «نثر تخييلي قصصي أطول من الأقصوصة، وأقصر من الرواية»(1). وبطبيعة الحال، فإن البناء الروائي الذي سار عليه نص (شارع الفراهيدي) «تأثيث كون مرئي من خلال حدود سردية تشخيصية، ليس مقصولا عن الحدث باعتباره البؤرة التي تستوعب الزمان والمكان»(2)، وهذا يؤكد لنا سيرورة بناء الرواية؛ ولعل حضور الشخصية (غيلان) وتفاعلها مع مجموعة كائنات على مستويين المثقف، والبسيط في ذات المكان والزمان مكّن السرد من «البؤرة التي تتم داخلها صياغة الكائنات التي تتجسد بواسطتها مجموع القيم الدلالية في النص»(3). ذاك جوهر حبكة النص، ومبرر وجوده في نهر الأدب التخييلي، وبالتحديد رواية قصيرة.
ثانيا: العتبات النصية
i. عنوان النص «شارع الفراهيدي». الذي يحمل دلالتين: هما:
• فضاء المكان بكل تضاداته وتقاطعاته، والمتمثل في الشارع الذي يربط منطقة روي في العاصمة مسقط بكل عوالمها المعيشية وتناقضتها الثقافية والأجناسية.
• اسم الشارع، والذي يعود بنا إلى مرجعية تاريخية معرفية وفكرية، لها إسهامتها الأدبية، وهي شخصية «الخليل بن أحمد الفراهيدي» عالم اللغة وواضع علم موسيقا الشعر العربي/ العروض، وهنا عتبة تشي بروح ثقافة المكان، وكأننا في أرقى شوارع العالم الثقافية بما تحمله من لوحات، ومقاهي، ومسارح، وأدبيات.
ii. رسمة الغلاف: للفنانة بشرى الهادي، عتبة هامة مكتظة بالألوان، متشابكة الدلالات، كل حركة ولون له معنى رامز، ومستوحى من مضمون النص السردي وشخوصه، وعلاقة كل تلك التداخلات بالشخصية الرئيسة، والتي تتجلى في الغلاف، وهي تناظر مساحة المكان.
iii. الإهداء: «إلى فراس.. عينان تضحكان من بعيد» فراس، هو ابن المؤلف، وعيناه التي تضحك له من بعيد، أي من بين زوايا الشارع وأركانه وأرصفته المتقدة بالحلم والأمل، تعده بمستقبل أجمل وأرحب.
iv. التصدير: صدّر المؤلف روايته بفقرة تتجانس مع مضمون الرواية لـ»جورج تراكل»، وبالتحديد عن شارع المدينة بين صخب الصّباح وما يحمله من حياة بين أزقته وأرصفنه وأشجاره، وسكون المساء المفعم برائحة الأشجار، أحاديث العشاق، كاشفة الأحلام مع ضوء القمر.
ثالثا: الثيمة المركزية
يلفت النظر في رواية «شارع الفراهيدي» ذات الصوت السّردي الواحد المتمثل في الرواي العليم الي يحرك الشخصيات ويقبض على مسار الأحداث، الصوت السردي الذي جاء على لسان الشخصية الرئيسة «غيلان».
أنها رواية الشّخصيات المثقفة والمتثاقة، الشخصيات المأزومة بطموحاتها، المحاصرة بأحلامها، الشخصيات التي تتعايش معها الشخصية الرئيسة بكل ما تحمله من إرهاصات وتبعات. تبدو الشخصية الرئيسة/ غيلان، هي محركة دفة السرد في شارع الفراهيدي، بكل ما يحمله المكان من أفكار وأحلام وطموحات، من هواجس وعثرات وإحباطات في فترة كأن الراوي يناظر بها الإنسان مع مسار الزمان وتحولاته، مع عبق المكان وصيرورته نحو التطور؛ متجاوزا حقيقة واحدة، هي كنه وجوده الفلسفي على هذه الأرض. ويرى الدكتور إحسان صادق «أن التّجاوز في شارع الفراهيدي ذو منحى فني روحي، يتمثل في تعلق (غيلان) الشديد بالفن التشكيلي، ذلك التعلق الذي دعاه إلى أن يتجاوز تخصصه العلمي المتمثل في الهندسة، ويفكر في التفرغ لفنه»(4)، فالتجاوز أراه يبدأ من الصفحة الأولى «أنظر من الثقب حيث الشارع يعج بالسيارات، خصوصا أثناء ساعات الذروة، والأرصفة تعج بالسائرين، كل إلى مبتغاه، وبالهائمين على وجوههم من غير هدى. أجد متعة في الوقوف بضع دقائق بمحاذاة الباب…»(5) والتجاوز هنا كما نراه تحقق في بنية شخصية غيلان، وعلاقته بشخصيات مثّل كل منها حالة خاصة مع الحالة التي يعيشها غيلان، فعلاقته بالدكتور سقراط، كانت متنفسا لرغبته، وفي رفضه ممارسة العمل الهندسي، وتحويل مكتبه إلى جاليري للوحاته، ولعل هذا الحوار بين غيلان والدكتور سقراط دليل على عزوفه عن ممارسة عمله الهندسي، وانتصاره للفن. «فشلت الهندسة يا دكتور سقراط وانتصر الفن
– وما الذي تنوي فعله؟
– أن أحول المكتب الهندي إلى جاليري
– بهذه السرعة
– ومن الغد، سوف أجعل الحيز الأكبر من المكان صالة عرض…
– والأهل كيف ستقنعهم بقرارك المجنون؟
– كل عقدة لها حل.»(6)
هكذا يضعنا الكاتب منذ الصفحات الأولى في عمق حبكة الحكاية وشتاتها، الحبكة القصصية التي تدور حولها مشاهد الأحداث، وتطور حركة الشخصيات، فضاء المكان المتمثل في «شارع الفراهيدي». يطالعنا «غيلان» منذ طفولته من ثقب صغير في باب غرفته يناظر الحلم أن أصبح طبيبا نفسيا «كانت أمنيتي منذ الصغر أنفسي أن أصبح طبيبا نفسيا. قرأت فرويد ومن عاصره أو جاء بعده من علماء التحليل النفسي كادلج ويونج…»(7) وعلى طول صفحات السرد يطالعنا الراوي برغباته وأحلامه التي يسعى إلى اكتمالها لكنها لم تكتمل، وهو مكبل الرغبات بين ما تهواه نفسه والواقع المعيش من جهة، وبين علاقاته بشخصيات كل منها هربت بحلمها فكان الموت أسرع في القضاء عليها كـ(الدكتور سقراط وسناء) وانتشالها من حياته كـ(جلنار ووالده).
ترتكز الرواية على ثيمة المثقف وعلاقته بالمجتمع من حوله، من خلال تركيزه على فضاءات عدة، ثمثلت في إلغاء الحدود الفاصلة بين الواقعي واللاواقعي، فهو يسرد أحداثا ومشاهد وتفاصل حياتية يتمازج فيها الواقعي المعيش بالمتخيل الافتراضي الذي يسمح بحضور رغبة الراوي، وحلمه منذ الطفولة والمراهقة وحتى شبابه في تجلي تعاطيه مع العلم والثقافة، وكأن مبارك العامري يحلم بشارع مكتظ بإبداعات المثقفين، ومقاهي يضم شتاتهم في شارع الفراهيدي، ممثلا ذلك على سبيل المجاز بمقهى (الغرنيكا) الذي يجمع السياح في شارع الفراهيدي «قضيت بقية نهاري متنقلا بين مقهى الغرنيكا، وجمعية الفنانين التشكيليين، وسوق الظلام حيث أجد متعة خاصة في تنسم عبق الماضي المنبعث من أعماق الدكاكين القديمة، وتأمل حركة الباعة والمشترين»(8)، هكذا يتجلى التوق إلى ربط الماضي بالحاضر، الماضي البعيد بتراثه وثقافته وأصالته وإرثه، والحاضر بوعيه وجديده وفنونه وفكره.
إنها روح المثقف الأصيل، ذاك المثقف المتلبس بالماضي، والمتمرد على الحاضر، والناظر للمستقبل. إنها أزمة المثقف الذي يرتبط بأرضه، ويطمح بالتحرر من أزماته، وينشد المستقبل الذي يرتقي بالمكان والإنسان في آن على مر الزمان، ولن يتأتى ذلك حسب رؤية المؤلف إلّا بانصهار العلم بالفكر والفنون والثقافة في قالب واحد لتصبح عنوانا للمكان، وتجلي روحه، فيغدو كل إنسان حر في ممارسة فنه الذي يحبه، ويرقى بمكانه، فهناك المسرحي، والرسام، والشاعر، والكاتب. هكذا يبئر مبارك العامري موضوعه الذي أراد أن يقدمه في الرواية، وكأنه رسالة رامزة بين الشخوص في قالب المكان والزمان.
حياة تعطي للشخوص معنى:
تمثل أسماء الشخصيات رموزا ذات دلالات مرجعية وتاريخية وفكرية في رواية (شارع الفراهيدي)، فهي تتماس مع حلم المؤلف، وواقعية الحياة، بكل ما يحمله المتخيل السردي من كثافة حكائية تشتغل كما لو أنها اختزالا لحلم الكاتب في شارع ثقافي يتعايش مع الأنسان في عُمان، وهذا ما أكسب السرد في رواية شارع الفراهيدي مقروئية لأنها تشكلت عناصرها في لحمة واحدة، وهو ما أضاف لها الاندماج ضمن البنية الحكائية الشاملة للعمل ومدتها «بكل ما هي في حاجة إليه من الوضوح والشفافية»(9) هكذا جات الأسماء بمواقفها ورموزها دون أن تقدم الحكاية تأويلا إضافيا لوجودها. فغيلان يقول: «الأسماء لا تهمني كثيرا بالقدر الذي يهمني الإنسان»(10). الرواية مثّلت حكاية الشخوص المأزومة بالثقافة والفكر، وهذا ما يقره الدكتور سقراط في حديث له مع غيلان «لقد تساوينا في الألقاب يا غيلان على ما يبدو، أنا فيلسوف المسرح، وأنت فيلسوف الفن التشكيلي»(11).
إنّ هذه الأسماء ذات الكثافة الحكائية المركزة تشتغل كما لو أنها تقيم علاقة متوازية، ترابطية بين ثيمة الحكاية، وفكر الرّاوي. فغيلان تتشكل شخصيته منذ تمرده على ممارسة تخصصه، وشروعه بأول لوحة رسمها، وهي لوحة المرأة المأزومة، وفي نظرنا أن اللوحة أراد بها العامري الحياة الوجودية بكل ما تحمله من أبعاد وأفكار، والتي ستصبح لاحقا حقيقية يقابلها (غيلان) في معرضه الأول، ومع إصرار جلنار على اقتنائها، لأنها رأت نفسها من خلال اللوحة قدّمها غيلان هدية لها. وهكذا تتنوع الشخوص داخل الفضاء الروائي ضمن فضاء أوسع قد لا يتخيل اتساعه «فكل الأسماء الشخصية: معن، هند، جلنار، سقراط، غيلان، حسيب، مقهى الفرنيكا، لوحة المرأة المأزومة… إلخ «اسم وطنا وعالما آخر»(12).
إن الأسماء في رواية (شارع الفراهيدي) لها وجود رامز ودلالات نقف عليها عندما نحلل طبيعة الأفراد وعلاقتها بغيلان، وهو وجود تشترك فيه صيغة الأفراد:
أ) شخصيات استثنائية في حياة غيلان: تمثلت في:
– الصديق (الدكتور سقراط) مسرحي يحب الفلسفة.
– المرأة الحلم: (جلنار) رأت في لوحة المرأة المأزومة التي رسمها غيلان صورة تمثلها، ورحلت باحثة عن الحياة في إنجلترا.
– المرأة المثال (سناء) ذهبت إلى لبنان كمتطوعة المجاهدين مع واستشهدت، وهو ما يذكرنا بسناء محيدلي.
ب) شخصيات تتميز بالمظهر الشمولي الواقعي لحياة غيلان، تمثلت في أسرته:
– الوالدان (الأب، الأم) تربية، وتضحية، وعطاء، وموت.
– الأخ (معن) تخرج من الجامعة، وحقق هدفه العلمي، ثم اقترن بمن أحبها.
– الأخت (هند) التي تعيش لحظات الحب والدفء بين والديها ومع أخويها.
وهذه الشخصيات بمرجعيتها الواقعية إلا إنها تجعلنا نستعيد مرة أخرى ملاحظة إيان وات بخصوص «ابتعاد أسماء الشخصيات التخيلية عن واقع الأمر في الحياة الاعتيادية»(13). وفي شارع الفراهيدي يسعى الروائي، وهو يضع الأسماء لشخصياته أن تكون متناسبة مع دورها، وفاعليتها بحث تحقق مع فكرة النص انسجامها. وهذه «المقصدية التي تضبط اختيار المؤلف لاسم الشخصية ليست دائما من دون خلفية نظرية، كما أنها لا تنفي القاعدة اللسانية حول اعتباطية العلامة»(14). وهذا ما يؤكده فيليب هامون Ph.Hamoon، حيث يرى «من المهم أن نبحث عن الحوافز التي تتحكم في المؤلف وهو يخلع الأسماء على شخصياته»(15). ونرى أن العامري كان واعيا ومدركا لأسماء الشخصيات التي أطلقها بما يميز كل منها، وأعطاها بعدها الدلالي.
خلاصة:
تتجلى في هذه الرواية أزمة المثقف ومسؤوليته، حيث يعمد مبارك العامري من خلال شخصية غيلان إلى إلغاء الحدود الفاصلة بين الشخصية الواقعية واللاواقعية في آن، ويجعلنا نعيش واقع شخصيات المأزومة ثقافة وتطلعا بمفهوم أقرب إلى المفهوم الـ (كافكاوي) ضمن سيرورة تطور الأحداث التي لا تنفصل عن نمو أفعال الشخصيات، ولعل وفاة الدكتور سقراط، وسناء، وسفر جلنار ما هو إلّا حفر في الذات الباحثة عن المطلق والحياة والحلم من بين في زوايا المكان المبتهج بثقافة الفن المتمثل بالرسم، والأدب المتمثل بالمسرح، والغناءالمتمثل بسالم راشد الصوري، وكل هذه الفنون هي ملك للشارع والناس.
يقربنا من خلال المكان/ شارع الفراهيدي إلى أمكنة عامة شعبية، حيث سوق الظلام بمطرح، وأماكن الفقراء وعامة الناس من عمال وأجناس تقطن الأحياء الشعبية، ليعمق فينا دبيب الحياة وروحها بين الأزقة المهمشة، الممتلئة برائحة البساطة.
يصور المؤلف الزمان في عموميته من خلال فكرة النص وامتدادها في المكان، وتعالقها مع هواجس الشخصيات الثانوية التي انبثقت من علاقتها بالشخصية الرئيسة (غيلان). فتبدو الحكاية، هي حكاية المثقف في كل زمان ومكان وقضاياه، وما ينتابه من هواجس القلق والاغتراب؛ وهكذا تصطدم الأحلام بجدار المجتمع أمام تطلعات المثقف وأفكاره وأحلامه.
تتميز الرواية في بنائها المتعدد المكونات، الذي يلتحم ويتضافر من خلال الرمز الاستعاري الذي أضفاه مبارك العامري على شخصية (غيلان)، إذ جعل منه بصفاته البيولوجية والعائلية، ومغامراته الحياتية، استعارة لرحلة الإنسان المتعلم داخل عُمان منذ بداية السبعينيات إلى يومنا هذا. فإذا اعتبرنا غيلان هو الإنسان المثقف، جاز لنا أن كون معادلة لمسار الإنسان المثقف وشتاته، وكأنه يرسم لنا لوحة على شاكلة فسيفساء من الأحداث والمواقف والأفعال التي بدأ فيها السرد وأنطلق إليها، دون أن تكتمل رغبات الشخصيات، بل اصطدمت بالأبواب المغلقة؛ فتحولت باتجاه العنف والانتهازية وانعدام التواصل العاطفي الذي يتوق إليه الإنسان.
وأخيرًا، في هذه الرواية القصيرة رغم بنيتها السردية البسيطة والتقليدية، إلّا أها جاءت متماسكة الحبكة، وتنم أن المؤلف مبارك العامري أخذ من روافد ثقافية وتاريخية استطاع من خلالها أن يكتب رواية موضوعها يلامس ذات المثقف وأزمته، وعلاقته المتوترة بالحياة. كما أنه استطاع أن يصور لنا مسؤولية المثقف اتجاه نفسه والناس والمكان.
الهوامش
1 – مجموعة مؤلفين، معجم السرديات، ط1، دار محمد علي للنشر، تونس، 2010، ص224.
2 – بنكراد، سعيد، السرد الروائي وتجربة المعنى، ط1، المركز الثقافي العربي، 2008، ص225.
3 – م ن، ص225.
4 – اللواتي. إحسان صادق، في السرد العماني المعاصر، ط1، مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان، كتاب نزوى، ص123.
5 – العامري، مبارك، شارع الفراهيدي، ط1، 1997، ص10.
6 – شارع الفراهيدي، ص19.
7 – م ن، ص11. 7
8 – م ن، ص19-20.
9 – بحراوي حسن، بنية الشكل الروائي: الفضاء الزمن الشخصية، ط1، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2009، ص257.
10 – شارع الفراهيدي، ص49.
11 – م ن، ص34.
12 – الشيدي بدر، شارع الفراهيدي: دلالة الاسم والمكان، مجلة نزوى، العدد11 ،يوليو 1997.
13 – تر د يوثيل يوسف عزيز،العراق1980، ص19
13 – وات إيان، ظهور الرواية الانجليزية نصوص مترجمة من كتاب The Rise Of The Novel
14 – بحراوي حسن، م س، ص247.
15 – ويليك ووارين، نظرية الأدب، تر محي الدين صبحي، دمشق المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، 1972،ص449.