إدريس الخضراوي
في عام 1968 صدرت في الجزائر دراسة نقدية مغربية للباحث عبدالجليل الحجمري بعنوان: “صورة المغرب في الأدب الفرنسي”: من لوتي إلى مونترلان، L’image du Maroc dans la littérature française de Loti à Montherlantعن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع SNED، وفي عام 1999 ظهرت في المغرب طبعة جديدة لهذا المؤلف عن دار مرسم بعنوان مغاير هو: “مغرب الزمن الفرنسي”1، أي بعد أزيد من عقدين. في هذه المقالة نعود إلى هذه الدّراسة التي اقتحمت قضايا الصورة وخباياها، في مسعى للإضاءة على الأسئلة النظرية والنقدية التي انطلق منها المؤلف، وقوة التأملات التي بلورها، سواء من منظور السياق النقدي والثقافي الذي كتبت فيه، حيث كان الأدب المقارن العربي إبان الستينيات يتلمس الطريق نحو الشرعية، أو من زاوية السياق الثقافي المعاصر الذي لم يكف فيه الأدب المقارن عن مواجهة الأسئلة التي تضع وجوده على المحكّ، على الأقل كما يتبدّى من النصّ الشهير لغاياتاري سبيفاك: “موت نظام معرفي”2.
نظرة إلى الكتاب من منظور سياق الإنتاج
نعتقد أن الأهمية الحقيقية لكتاب “مغرب الزمن الفرنسي” سواء بالنظر إلى السياق الذي أحاط بتأليفه، أو من منظور القراءة النقدية المعاصرة، واستنادا إلى التحولات التي شهدها مفهوم الأدب ونظرية الأدب، ومناهج النقد منذ النصف الثاني من القرن العشرين وحتى مطلع الألفية الثالثة، تكمن في المنافذ التي فتحها للتعرّف على الأدب المقارن من جهة، وعلى مبحث الصورلوجيا من جهة ثانية، وذلك في فترة كانت فيها البلدان المغاربية حديثة العهد بالاستقلال، وكان النقاش على أشدّه بين الكتاب والمثقفين حول الثقافة بوصفها الحامل للهوية الثقافية، وللقيم الحداثية ولمبادئ العقلانية والديمقراطية العلمانية والحرية، وفي المنابر والمجلات المغربية مثل “القصة والمسرح”(1964)، و”أقلام”(1964) و”أنفاس”(1966) و”آفاق”(1964) و”الثقافة الجديدة”() وغيرها. وضمن هذا الخط الثقافي والفكري اندرج الاهتمام بدراسة الصورة عند المثقف المغربي الحجمري لأنها “تجعل الناس يدركون هذا الكم الواسع من الأساطير التي يحملونها في داخلهم، والتي تقوضُ معرفتهم بالحاضر الذي يعيشونه، وبحقيقة الآخر الذي ينظرون إليه”3.
لقد كان الأدب المقارن، خلال الفترة التي ظهرت فيها هذه الدراسة يبحث عن الاعتراف الكامل في حقل الدراسات العربية التي كان يهيمن عليها درس الشعر وتاريخ الأدب، كما كان المشتغلون بهذا المبحث يسعون إلى تجاوز زمن البداية مع روحي الخالدي الذي نشرت دار الهلال عام 1904 مؤلفه الرائد “تاريخ علم الأدب عند العرب والإفرنج وفكتور هيغو”، وأعيد طبعه عام 1912. في هذا الكتاب4 جمع الخالدي، شأنه في ذلك شأن المثقفين الحداثيين في عصره المتأثرين بالاحتكاك بالغرب وأوروبا، بين الدّعوة إلى تجديد مفهوم الأدب ونقد الاستبداد الذي يمسك بخناق البيئة العربية، ويحول بينها وبين الانتقال إلى زمن الحداثة الذي قوامه الحرية والديمقراطية والمساواة.
في العقد الستيني الذي ظهر فيه كتاب “مغرب الزمن الفرنسي” لعبدالجليل الحجمري، وهو باحث في الأدب المقارن ومثقف يضطلع بالحوار بين الثقافات، ومدّ الجسور بين الحضارات، ويتميز مساره المهني بوصفه مسارا جامعيا، ومن مظاهر بروزه تقلده مناصب أكاديمية رفيعة، حيث يشغل في الوقت الحاضر منصب أمين السرّ الدائم لأكاديمية المملكة المغربية التي شهدت تحولا نوعيا بحيث باتت قبلة العديد من المفكرين والباحثين من المغرب ومن الخارج، وفيها تناقش كثير من القضايا والإشكاليات الفكرية التي ليست مفصولة عن التحديات التي تواجهها المجتمعات في هذا العالم المعولم الذي تتعرّض فيه الثقافات لتحولات متسارعة، ويشهد “هجرة الأجساد والرموز والصور التي تجري أمامنا، في كلّ لحظة، وأحيانا على الرّغم منا، تخلخل كلّ هوية مستريحة إلى اطمئنانها”5. إذًا، في العقد الستيني، كان حقل الدراسات العربية يتعرّف على مبادرة مختلفة ستتعين بوصفها منعطفا في تاريخ الأدب المقارن العربي، تمثلت في كتاب”الأدب المقارن” للناقد المصري محمد غنيمي هلال الذي عرّف هذا المبحث بأنه “دراسة الأدب القومي في علاقته التاريخية بغيره من الآداب الخارجة عن نطاق اللغة القومية التي كتب بها6”. إذًا، على أرضية كتاب غنيمي هلال بنى خلفه من المقارنين العرب سواء من خلال الاستفادة من المفاهيم التي وضعها أو بنقدها وإبراز حدودها في مسعى لتطويرها وفتحها على ممكنات جديدة، ولهذا السبب، ربما، يجمع دارسو النقد الحديث على اعتباره رائد هذا المبحث بلا منازع. ولا شكّ أن دراسة غنيمي هلال التي جاءت في وقت لا تزال فيه مكانة الأدب المقارن في الجامعة العربية تعاني من غياب الاعتراف الكامل، لم يدْعُ صاحبها فقط إلى تجديد الأدب المقارن بالحثّ على الاستفادة من العلوم الإنسانية واستثمار مكاسبها في دراسة الظاهرة الأدبية من منظور مقارن، وإنما دعا أيضا إلى ترسيخ النقد المقارن وبنائه على أساس موضوعي لا يقضي على ذاتية الناقد.
ومن المسلم به، بحسب محمد غنيمي هلال، “أن أعمق ما يشف عن روح الأمة هو أدبها، كما أنه لا يُكشف شيء عن وحدة روح الإنسانية -في جهدها الدائب في سبيل التحرير والسلام وإقرار حرية الفرد والأمة- ما يشف الأدب الإنساني كله. ومعرفة كلا الأمرين حقّ المعرفة تتوقف على معرفة الآخر. فلا يستطاع تقويم الأدب القومي حقّ التقويم، ولا توجيهه خير توجيه، إلا بالنظر إليه في نسبته إلى التراث الإنساني جملة، كي يتاح له أن يقوم بوظيفته الإنسانية من ثنايا قوالبه الفنية، وأن يؤكد القيم الحضارية بتأديته لرسالته القومية والإنسانية”7.
وبقدر ما شكّلت دراسة محمد غنيمي هلال البوصلة في التاريخ للأدب المقارن العربي، فإن دراسة الباحث عبد الجليل الحجمري جسّدت أيضا الأساس الذي سينسج على منواله عديد من الدارسين، وبالتحديد فيما يرتبط بدرس هذا المجال المشحون انفعاليا، كما هو الحال على سبيل المثال بالنسبة لمحمد أنقار الذي سيلفت الانتباه في مطلع التسعينيات إلى أهمية دراسة الصورة في السرد عموما والرواية على وجه الخصوص، وسيصدر دراسة تعدّ مرجعا في هذا الباب حملت عنوان: “بناء الصورة في الرواية الاستعمارية: صورة المغرب في الرواية الإسبانية”8، وسعيد علوش في “مدارس الأدب المقارن”، وعبد النبي ذاكر الذي اهتم بالصّورة في الرحلة المغربية والأوروبية والأمريكية من منظور الصورلوجيا والأدب المقارن سواء في المؤلفات التي نشرها منذ أواخر التسعينيات وتركزت على مساءلة التخييلي والواقعي أو في مؤلفه الموسوعي “الرحلة العربية إلى أوروبا وأمريكا والبلاد الروسية”9، ومحمد نور الدين أفاية الذي فكّر صورة الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط في كتابه “معرفة الآخر10″، وصولًا إلى الباحثَين فريد الزاهي وسعيد بنكراد اللذين قدّما مساهمة مهمة في هذا الباب ليس من خلال التأليف وحسب، وإنما أيضا من خلال الترجمة.
ويبدو لي أن ريادة عمل الحجمري ليست بالمعنى الزمني وحسب، وإنما هي أيضا في نزوعه نحو النقد المزدوج الذي أرسى أسسه المفكّر المغربي عبد الكبير الخطيبي. ولما كانت اللغة الفرنسية لغة المستعمر الذي تعدّ ثقافته الأدبية من أشدّ الثقافات تأثيرا في الأدب العربي ونقده خلال الحقبة المعاصرة، فلا غرابة أن نجد الباحث في دراسته يشدّد على الحاجة الماسة لتعزيز الاستقلال السياسي بالنقد الثقافي المضاد الذي يَعتبرُ نزع الطابع الاستعماري عن التاريخ والأدب الأوروبي من أكثر التحديات التي تواجه ليس فقط مثقف العالم الثالث، وإنما أيضا المثقفين الذين يصدرون عن النزعة الإنسانية، ذلك لأن فهم الخلفيات التاريخية والاجتماعية والنفسية التي تغذي الصور النمطية والتصورات القبلية والأحكام الجاهزة “يسعف على خلق أفق ممكن للكشف عن الالتباسات الراهنة”11. في هذا السياق يقول الحجمري: “إن نزع الطابع الاستعماري عن التاريخ والأدب، وإعادة التفكير، والنهوض بقراءة جديدة لهذه الأعمال كلها التي شكّلت على مرّ القرون المزاج الفرنسي، وغذّت الوعي الغربي، معناه تدمير أسلحة الدفاع عن النفس التي لا مفرّ منها”12.
لقد كانت وما تزال هذه الرؤية المناضلة عظيمة بالنسبة للناقد المقارن، لأننا نجدها واقعة في صميم النقاشات المعاصرة الساعية لانتزاع هذا المبحث من شرنقة التحيزات التي تستحكم به في الدوائر الأوروبية والغربية. لذلك فالأدب المقارن بالمعنى الدقيق، وكما يفهمه الحجمري في هذا الكتاب، من المهمّ أن يعرف المشتغلون به أن من بين الرهانات التي يتعيّن مواجهتها هي تنقية الوعي الجماعي، وتحصينه من أجل القدرة على مقاومة الأخطاء والصور النمطية التي تحول دون المعرفة الحقيقية، وتقوض الجهود المبذولة لإرساء الفهم والتعايش بين الأنا والآخر13.
لنقل إن الأدب المقارن المتنبّه لقضيته الأساسية، وهي اللقاء بين الحضارات والثقافات، تتمثل بدايات خطوطه العريضة في الخروج من الدائرة الضيقة للصورلوجيا التي تتحرّك فيها أغلب الدراسات الغربية في هذا الباب، فالاهتمام بصورة إنجلترا أو الولايات المتحدة في الأدب الفرنسي، على سبيل المثال، يظل معه الباحث في إطار ضيق، ما يؤدي إلى تجنب مجال أدبي واسع، مثل آداب العالم الثالث، يعكس في حدّ ذاته صورة مختلفة عن تلك التي يتوقعها المرء. ولا يخفى، ها هنا، أن هذه الدراسة إذ تتنزّل في إطار الأدب المقارن والصورلوجيا وتاريخ الأفكار الذي تنهل هذه الأخيرة من معينه بكل قوة، تراهن أيضا على إعادة تحديد مفهوم الأدب بنقشه في السياق الاجتماعي والتاريخي، ذلك لأن النصوص الأدبية تضفي البعد التاريخي والاجتماعي على ما تقوله وتتناوله، ولكن بحكم ما تتمتع به الخطابات الاجتماعية من استقلالية نسبية، فإنها تنجز ذلك بطريقتها الخاصّة. وبهذا المعنى ينهض الأدب بدور حيوي في بناء معرفة بالعالم قمينة بحماية الفرد والجماعة من الرؤى المختزلة، أو المنغلقة على ذاتها.
اهتمت دراسة الحجمري بموضوع يوصف بأنه من أعقد الإشكاليات التي كان ينظر فيها المثقفون والمفكرون والمقارنون في سنوات الستينيات والسبعينيات التي تميزت بالحضور اللافت لدراسات ما بعد الاستعمار، سواء مؤلفات غرامشي وإدوارد سعيد، وعلى سبيل المثال كتاب “الاستشراق”، أو فانون وسارتر وإيمي سيزار أو أعمال منظري مدرسة التابع، الذين شكّلت نصوصهم مادة إلهامية لمجموعة واسعة من كتاب ومثقفي المنطقة المغاربية، والعالم الثالث. ولا شكّ أن ما هو أساسي ومختلف في كتاب “مغرب الزمن الفرنسي”، هو هذه المغامرة البحثية بدرس “صورة المغرب في الأدب الفرنسي” بالاستفادة من أدوات الأدب المقارن والصورلوجيا التي بمقتضاها تتعين الصورة بوصفها ذاك النسق اللاواعي الذي يوجه ويستحكم بالطريقة التي يرى بها الفرد نفسه، ويرى بها الآخر، وأيضا هذه النزعة النقدية العلمانية ذات الأساس الإنساني العابر للأوطان والثقافات والتي لطالما شدّد إدوارد سعيد على أهميتها وفاعليتها التي تتمثل في تصحيح الأفكار المشوهة، والصور المضللة التي تعمّق الهوة بين الأنا والآخر، إسهاما في عالم جديد متنوع ومتحرّر من أغلال المركزيات بما في ذلك المركزية الأوروبية. من هذه الزاوية، نعتبر هذه الدراسة من المساهمات النقدية والنظرية الجادة في مبحث دراسات ما بعد الكولونيالية الذي يتقصّد إلى دراسة الخطاب الاستعماري والكشف عن تناقضاته، والرؤى المتمركزة التي ينطوي عليها.
المنهجية المقارنة في عصر ما بعد الكولونيالية
لا شكّ أن المتتبع لإنتاجات هذه الفترة، يلاحظ أن الاهتمام بهذا المبحث لم يكن غائبا عن السياق العربي. ففي عام 1961 صدر كتاب “معذبو الأرض” للمفكّر فرانز فانون الذي ناضل ضدّ الاستعمار في الجزائر والمغرب، وصدر في ترجمة عربية لكل من سامي الدروبي وجمال الأتاسي، وفي المغرب تبلورت محاولات لافتة للتفكير من منظور ما بعد الاستعمار في عديد من الإشكاليات المطروحة على المجتمع العربي ومجتمعات العالم الثالث، وقد أشرت في كتابي “الكتابة النقدية عند محمد برادة: المرجعية والخطاب”(2020)، لجوانب مفيدة من هذا التفكير المناهض للاستعمار منذ الستينيات في المغرب سواء من خلال العمل الذي أنجزه مولود معمري ومحمد برادة ومحمد زنيبر بعنوان “فرانز فانون أو معركة الشعوب المتخلفة” (1962)، أو عبد الكبير الخطيبي في “النقد المزدوج” والاسم العربي الجريح”، أو من خلال مجموعة من المقالات والملفات التي تضمنتها المجلات الصادرة في تلك المرحلة مثل أقلام ولاماليف Lamalif وآفاق وأنفاس والثقافة الجديدة على سبيل المثال لا الحصر، مما يقدّم أوفى دليل على جدية وراهنية الأسئلة التي طرحتها مجموعة من الدّراسات، بما في ذلك دراسة الحجمري، والتي تنهل كلها من معين الطابع الديمقراطي للنزعة الإنسانية التي تتأسّس، بحسب الناقد الفرنسي إيف كلافارون، على “القراءة النقدية والتساؤل الحر، في ديمقراطية واعية بذاتها، متعددة الثقافة ومتعددة اللغة”14.
يدرس المؤلف مدونة من النصوص لكتاب فرنسيين يجمع بينهم الاهتمام بالمغرب، والحرص على تمثيله وإنتاج مجموعة من الصور النمطية حوله. ولا شكّ أن المرويات والخطابات التي شكلتها فرنسا حول المنطقة العربية منذ الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، واحتلال الجزائر ابتداء من ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وصولا إلى وضع المغرب تحت الحماية سنة 1912، “لعبت دورا ثقافيا وسياسيا حاسما في التنظير للممارسات الكولونيالية، والتشجيع عليها ومنحها الإلهام والتبرير، وذلك من خلال تأويلات معينة لمفاهيم الحضارة والتاريخ”15. لهذا يرى ستيوارت هول أن التجربة الكولونيالية تنطوي على بعد فاجع. “إن الشعوب السوداء والتجارب السوداء أخضعت لأنظمة التمثيل السائدة التي فرضت عليها مواقع معينة مستخدمة التوظيف الخطير للنفوذ الثقافي والتطبيع. فلم نكن فقط مختلفين ومشكلين بوصفنا الآخر في تصنيفات الغرب المعرفية بالمعنى الذي قصده إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق”، بل كان لهذه الأنظمة من السطوة ما جعلنا نرى أنفسنا ونحسّ بها بوصفها الآخر”16.
إذًا، ليس غريبا أن الكتاب الفرنسيين الذين كتبوا عن المغرب تلتقي أعمالهم إلى درجة غير عادية فيما يسميه أندري شوفريليون “الشعور بالمسافة العرقية”17 التي يعبّر عنها من خلال الانطباعات عن المغرب كأرض مغلقة على الأوروبيين، ويختلف سكانها عنهم حتى في أبسط العادات الخارجية. وإذا كان المؤلف يلاحظ أن البحث في هذا المتن، يظهر إلى أي مدى يتعين الاهتمام الواسع بالمغرب لدى الكتاب الفرنسيين من بيير لوتي إلى مونترلانت بأنه غير بريء، بل هو اهتمام موجه لخدمة أهداف تتصل بتعزيز ودعم الوجود الفرنسي على هذه الأرض سواء خلال فترة الاستعمار أو بعدها، أكثر مما هو معني بتقديم حقيقة معينة. “فالحقيقة يجب أن تتوافق لدى كل المؤلفين الذين يعنون بالمغرب مع الرؤية القاتمة لأمة معادية18، فإنه من جهة أخرى ينبّه منذ البداية إلى الصعوبات التي يطرحها البحث في الصورة، والمحاذير التي لا يمكن للباحث غضّ الطرف عنها أو عدم الاكتراث لها، بما في ذلك المحاذير التي تدخل في صميم موضوعات مثل الاختلاق والتخييل ومفاعيل النصوص19. ومن اللافت جدا، ولا سيما مع المنحى المقارن الذي نحته هذه الدراسة، هو الوعي بالتحديات المنهجية التي كانت تضع المقاربة المقارنة على المحكّ في تلك الفترة، خاصّة لما يستحضر المرء الدلالات الواسعة التي تنطوي عليها المفاهيم الموظفة في التحليل مثل الأسطورة والصورة والمسكوكات والقوالب الجاهزة، وغيرها من المفاهيم التي لم يكن عليها اتفاق مفهومي واضح، وكانت جديدة على الأدب المقارن في تلك المرحلة.
رغم أن عبد الجليل الحجمري ينبّه إلى بعض الأعمال التي كانت رائدة في تعميق المعرفة بمشكلات الدراسة المقارنة بصورة عامة، ومبحث الصورلوجيا بصورة خاصّة، مثل دراسة الباحثة سيلفين ماراندون التي حملت عنوان: “صورة فرنسا في إنجلترا الفكتورية”، فإن الإضاءات التي قدّمها حول واقع الدراسة المقارنة في تلك الفترة، والتحديات المنهجية التي تعترضها، ورغبة الباحث في الأدب المقارن في بناء معرفة تتميز بالصّرامة والموضوعية والتماسك، تظلّ إضاءات راهنة، خاصّة عندما ننظر إليها في مرآة أعمال بعض المقارنين الذين يتناولون هذا الموضوع في الألفية الثالثة مثل جون مارك مورا من خلال كتابيه: الأدب الأوروبي والعالم الآخر(1998) L’Europe et l’ailleurs و”صورة العالم الثالث في الرواية الفرنسية المعاصرة”(1992) L’image du tiers-monde dans le roman français contemporain.،أو ويليام ماركس في مؤلفه “النجوم الجديدة: عندما يكتشف الأدب العالم (2021) Des étoiles nouvelles : quand la littérature découvre le monde، ذلك أننا نجد عند هذين الباحثين، مثلما نجد عند الحجمري، ذلك التشديد على أن ينهض الأدب المقارن بما هو من صميم رسالته العالمية التي أرهص بها الفيلسوف الألماني غوته في مطلع القرن التاسع عشر، أي التعرّف إلى الآخر، ورفع المرساة للعبور نحوه لا بهدف التطابق بين الذات ونقيضها، وإنما، كما يقول عبد السلام بنعبد العالي، بهدف “الانتقال نحو توحيد لا يصالح بين الأضداد، وإنما يعرضها أمامنا مجتمعة في الحضور ذاته”20. في هذا السياق يقول الحجمري: “إن الأدب المقارن إذ يجدد أدواته، فإنه يفتح مسارات للنظر مهمة، كما سيفيد على وجه الخصوص من مساهمة العلوم الإنسانية (علم النفس، علم الاجتماع، وما إلى ذلك)، ويبتعد عن المسارات المطروقة، ويمنح الناقد أداة فعالة. ولأن هذه المنظورات تسمح للأدب برفض التمثيلات والصور، والتشكيك في التحيزات والقوالب الجاهزة، فإنه ينقي المعرفة حول الشعوب من المعتقدات والتمثيلات الكاذبة”21.
على هذا الأساس، تتعين المهمة الأساس للأدب المقارن بكونها التقريب بين الثقافات والحضارات، وحفز الأفراد والجماعات على ارتياد المجهول في مسعى لاكتشاف الغيرية التي بدونها لا يمكن الوعي بوجود الذات في العالم. وهذا المشروع يبقى بعيد المنال إذا ظلّ التصور عن الصورة ضيقا أو مؤطرا ضمن مجال محدود كالمجال الأوروبي على سبيل المثال.
ولما كان الناقد مهتما في هذه الدراسة ببحث معان وقضايا إنسانية كثيرة، وفي مقدمتها قضايا وطنه وأمته العربية، ويريد شرحها من خلال الأعمال الأدبية التي يحللها، فإن من أولى الأولويات للنهوض بهذا العمل هو التحكم في العقبات التي لا يفتأ المتن الفرنسي يولدها أمام الدّارس، بما في ذلك العقبات التي تتصل بتأويل التمثيلات المختلقة، والصور النمطية التي تفرض الاستعانة بمتون أخرى قصد تلمس نقط ارتكازها الاجتماعية والنفسية والتاريخية. ها هنا يجد الباحث نفسه في وضعية محيرة، ليس فقط لأن الأرشيف الذي بين يديه أو في مكنته الاطلاع عليه هو الأرشيف الاستعماري الذي يشمل ما كتبه الرحالة والمؤرخون وعلماء الاجتماع وأعضاء البعثات الدبلوماسية، وهو أرشيف ليس خاليًا من هذه الصور النمطية والأحكام القبلية، وإنما أيضا لأن زمن الكتابة لم يشهد بعد انطلاقة حقيقية وحاسمة لعملية إنهاء الاستعمار، وانتزاع التاريخ والأدب والثقافة من سطوته. يقول الباحث: ” فالصورة التي نرمي إلى دراستها في نشأتها التاريخية، وفي استمراريتها الحالية تفترض مسبقا معرفة موضوعية بالنموذج Modèle في تاريخه، وواقعه الاجتماعي، وماضيه وحاضره. لا توجد تحقيقات تاريخية، أو تحليلات اجتماعية كان من الممكن أن تساعدنا في تناول النموذج. لا يمكننا اللجوء إلى الوثائق التاريخية والإثنولوجية والاجتماعية التي تركها الباحثون الاستعماريون كإرث محرج، لأنها تنطوي على ضروب من التحيزات ومسكونة بالأسطورة والصور والقوالب النمطية التي يجب أولًا تخليصها من هذه المواضعات والتفسيرات الخاطئة، قبل أن يكون من الممكن استخلاص أي معلومات تاريخية أو اجتماعية أو نفسية منها”22. هذا ما يفرض، بحسب الباحث، ليس فقط نزع الأسطرة عن التراث، والدفاع عنه ضدّ المخططات الاستعمارية الهادفة إلى تشويه صورته، وإنما أيضا إخضاع التراث للنقد والاستجواب في مسعى لخلق وضعية ثقافية جديدة. إن الإخفاق في بلورة هذا المسعى، معناه الاستمرار في النظرة إلى مجتمعنا من خلال منظور الأجنبي، والاستمرار بطريقة أخرى في تشكيل صورة ذاتية غير أمينة هي الأخرى23.
تركيب:
يتبيّن قارئ كتاب “مغرب الزمن الفرنسي”، وهو دراسة في الأدب المقارن كما أسلفنا، أن الأسئلة والقضايا التي عني بها مؤلّفه خلال تلك الفترة تظلّ أسئلة راهنة جديرة بالتفكير والبحث. وليس هذا فقط لأنه فكّر في الصورة الثقافية، وفي صورة المغرب في أدب دولة أخرى هي فرنسا، في زمن لم يكن فيه الاشتغال بهذا المبحث بذلك الرسوخ الذي هو عليه الآن في الدراسات المقارنة وفي الأدب العالمي، وإنما أيضا في الطريق التي مهدها لمجموعة من الباحثين الذين اشتغلوا على الصورة في الخطابات المختلفة. من هنا نعتقد أن هذه الدراسة التي أضاءت على موضوع لم تتبلور حوله كثير من الأعمال في الثقافة العربية خلال فترة إنجازها، تنطوي على قيمتين: تاريخية ومنهجية. فالقيمة التاريخية تتجلى، ولا شك، فيما يتيحه هذا العمل من إمكانيات للتعرّف على السّياقات والشروط التي كتبت فيها مجموعة من الأعمال النقدية المجدّدة، خاصّة الأعمال التي حرّرها أصحابها بلغات أجنبية، وثمة حاجة ماسة لترجمتها وإتاحة المجال للطلاب والباحثين ليطلعوا عليها، لأن في ذلك قيمة بحثية مفيدة تتمثل في استكشاف الأدوات والمفاهيم التي كان النقد العربي سواء المكتوب باللغات الأجنبية أو بالعربية يفكّر بواسطتها في موضوعاته وإشكالاته. لذلك فإن العلاقة بهذا العمل من منظور معاصر ليست أقل فائدة من العلاقة التي نقيمها مع مدارس واتجاهات النقد في مطلع القرن العشرين. أما القيمة الثانية، وهي القيمة المنهجية، فنعتقد أنها ماثلة فيما يتيحه لنا الكتاب على مستوى تلمّس الوعي النقدي سواء بخصوص الصورة بوصفها موضوعا نقديا، والإشكاليات التي تحيط بها، أو بأهمية الإسهام من خلال هذا المقترب في القيام بنقد مزدوج، أو من خلال المنظور الذي أطر الدراسة، والتوجهات البحثية التي يمكن استخلاصها منها، ومستوى إسهامها في تعميق المعرفة بحقل الصورلوجيا.
الهوامش
1 – . Abdel Jalil LaHJOMRI, Le Maroc des heures françaises, Editions Marsam, Rabat 1999.
2 – نشر هذا الكتاب للناقدة البنغالية غاياتاري سبيفاك بالإنجليزية بعنوان: Death of a Discipline عن منشورات جامعة كولومبيا عام 2005، وقامت الباحثة سمر حمود الشيشكلي بترجمة مقدمة الكتاب بعنوان: موت نظام معرفي، ونشرت في مجلة الجسرة، العدد 51، 2019.
3 – . Le Maroc des heures françaises,p.21.
4 – أعادت مجلة الدوحة طبع كتاب روحي الخالدي ضمن سلسلة “كتاب الدوحة”، العدد 68، مايو 2013، مع دراسة مهمة للناقد الفلسطيني فيصل دراج تضيء على أهمية الكتاب وريادة مؤلفه في مجال الأدب المقارن.
5 – محمد نور الدين أفاية: الغرب المتخيل: صورة الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 2000، ص8.
6 – محمد غنيمي هلال، مقدمة الطبعة الأولى لكتاب الأدب المقارن، في: سعيد علوش: مدارس الأدب المقارن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 1987 ص303.
7 – محمد غنيمي هلال: الأدب المقارن، دار نهضة مصر، ط9، القاهرة 2008، ص4.
8 – محمد أنقار: بناء الصورة في الرواية الاستعمارية: صورة المغرب في الرواية الإسبانية، مكتبة الإدريسي للنشر والتوزيع، تطوان 1994.
9 – عبد النبي ذاكر: الرحلة العربية إلى أوروبا وأمريكا والبلاد الروسية، دار السويدي للنشر والتوزيع، أبو ظبي 2005.
10 – محمد نور الدين أفاية: الغرب المتخيل: صورة الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 2000.
11 – المرجع نفسه، ص8.
12 – Le Maroc des heures françaises,p.18.
13 – Ibid. , p16.
14 – إيف كلافارون: إدوارد سعيد الانتفاضة الثقافية، ترجمة محمد الجرطي، دار صفحات، سورية 2017، ص79.
15 – أزراج عمر: من أين جاءت ما بعد البنيوية، ترجمة فادي أبو ديب، دار فضاءات، الأردن 2018، ص41.
16 – ستيوارت هال: الهوية الثقافية والشتات، ترجمة فريال غزول، مجلة ألف، العدد 32، السنة 2012، ص78.
17 – Le Maroc des heures françaises,p.428.
18 – Ibid., p.70.
19 – Ibid.,p.15.
20 – . عبد السلام بنعبد العالي: المسارات الحديثة في الدراسات الفلسفية، مجلة ألف، العدد 40، 2020، ص17.
21 – Ibid.,p15.
22 – Ibid. , p33.
23 – Ibid. , p34.