يلعب التجريد في خيال نظرية وحدة الوجود لـ "ابن عربي" دورا رئيسيا : فهو يبدو المصدر الخلاق للتجلي ، والسبب القوي الذي يمكننا من البقاء بحالة تواصل مستمر مع المطلق . وقد نجح ابن عربي عبر مفهوم الخيال أن يميز بين آليتي الخلق الالهي والخلق الانساني، الاختلاف الذي استخدمه لحل التناقض بين قدم وحدوث العالم . تهدف هذه الدراسة للبحث في مظاهر مفهوم الخيال المعقد عند ابن عربي، وتوضيح الأبعاد المبهمة والوجودية . وتتبنى منهجا تأويليا للنصوص الأصلية ، مع التأكيد على الشروط التأويلية التي تأثرت بالاستغراق بالابداع الفني والرغبة بفهم آلية الخلق على المستويين المقدس والانساني بإطار وجودي أوسع من مجرد الاحتمالات التاريخية .
أبوبكر محمد بن علي بن محمد ابن العربي الحاتمي الطائي، يعرف بـ "محيى الدين ابن العرب " ( يختصر الى ابن العربي)، وهو واحد من أكثر الشخصيات الخصبة والمؤثرة في تاريخ الاسلام . ولد في مرسيليا الاسبانية عام 560هـ 165 م ، يعرف بين الصوفيين بالشيخ الأكبر. ومثل معظم الشيوخ الصوفيين ، قضى ابن عربي حياته بالسفر عبر العالم العربي واتصل مع معظم الثقاة الروحيين البارزين في ذلك الوقت . واستقرأ خيرا في دمشق حيث توفي عن عمر يناهز الثامنة والسبعين عاما لعام 638هـ/ 0 24 ا م ، ودفن في جبل قاسيون في ضاحية الشيخ محيى الدين التي تحمل اسمه حتى اليوم . ترك ابن عربي مجموعة ضخمة من المعرفة التي تبلغ ، على حد قوله ، نحوا من منتين وتسعة وثمانين كتابا ورسالة ، أو خمسمائة كتاب ورسالة على حد قول عبدالرحمن جامي صاحب كتاب "نفحات الأنس " ، أو أربعمائة كتاب كما يقول الشعراني في "اليواقيت والجوهر".
إن طبيعة المواضيع المعقدة التي تعامل معها، والأعمال الضخمة التي أنتجها مثل "الفتوحات المكية . ، و "تفسير القران " الذي يقول فيه صاحب "فوات الوفيات " أنه يبلغ خمسا وتسعين مجلدا ، ومنها "فصوص الحكم " و"محاضرة الا برار" و"ا نشاء الدوائر" و" عقلة المستوفز" و"عنقاء مغرب " و" ترجمات الأشواق " و "مناهج الارتقاء"(2) وغيرها، قد قدمت إسهاما ضخما للاسلام ، بالاضافة الى أنه يمكن لأي شخص ومن خلال إلقاء نظرة على التعليقات الكثيرة على أعماله أن يقدر أهمية فكره وتعاليمه بالنسبة للاسلام بشكل عام وللصوفيين بشكل خاص.
في مقدمة لترجمته "فصوص الحكم " ، يعتبر أو ستن ابن عربي بأنه يمثل "الذروة " ليس فقط في الشرح الصوفي ولكن أيضا في التعبير الفكري الاسلامي. وقد جسد ابن عربي من خلال كتاباته وتعاليمه وجهة نظر حول العالم محكمة ومتماسكة مبنية على بنية وجودية معقدة ،وحملت نظريته حول وحدة الوجود غنى في المعرفة الفلسفية ، واللاهوتية ، والعلمية ، واللغوية ، والتجريدية ، والباطنية مطورا إياها الى نظرية متعددة الأبعاد شديدة التماسك . وازداد الاهتمام بكتابات ابن عربي وتعاليمه في العقود القليلة الأخيرة ، وخصوصا في الغرب ، ولكن طبيعة نصوصه الصعبة والمعقدة جعلت الكثير من أعماله وخصوصا الفتوحات ، متعذرا فهمها بشكل جيد للقاريء غير العربي.
ومهما يكن ، فإن بعض الدراسات العميقة لتجارب ابن عربي الفلسفية والباطنية متوافرة باللغات الأوروبية ، من بينها دراسة كوريين "الخيال الابداعي في صوفية ابن عربي" ودراسة تشيتيك "طريق المعرفة الصوفي " ، اللتان تعتبران من أكثر الدراسات الوثيقة الصلة بالموضوع .
يلعب الخيال دورا رئيسيا في نظرية وحدة الوجود عند ابن عربي. فهو يبدو كمصدر خلاق للتجلي ، والسبب الفعلي لوجودنا ، والوسيط القوي الذي يمكننا من البقاء بحالة تواصل مستمر مع المطلق يعتبر ابن عربي الخيال وسيلة معرفية أساسية وأن "ذلك الذي لا يعرف منزلة الخيال ، خال من المعرفة "(3) تركز دراسة كوريين في الخيال بشكل أساسي على الدور المتعدد الأبعاد في تحقيق التجربة الباطنية : عملها في البحث في أصل الألهة وفي نشأة الكون ، ودورها المعرفي في التجلي ، وتوسطها في الحوار بين الاله والانسان ، المعبود والعابد ، المحبوب والمحب . كما يؤكد كوريين على الفرق بين الخيال والخيال الجامح . حيث يستمد الخيال قوته الخلاقة من امتيازاته الوجودية ، أما الخيال الجامح فهو ممارسة الفكر بدون وجود أساس له في الطبيعة ، إنه "حجر زاوية المجنون ".
وتركز دراسة تشيتيك ، من ناحية أخرى، على العلاقة بين الميتافيزيقيا والخيال موضحا طبيعة الخيال الميتافيزيقية والوجودية ودورها في فهم ميتافيزيقية ووجودية ابن عربي ، مبالغا باهتمامه بتعاليم ابن عربي كما جسدها هو ، كما غطى مساحة أكبر من "الفتوحات " التي تناقش مفهوم الخيال من تلك التي غطاها كوريين في دراسته . ومهما يكن ، فإن التحليقات التأويلية تتوسع في تفسير مفهوم الخيال خلف الحدود المحافظة للتفسيرات النصية لتشيتيك . ولكن كلتا الدراستين القيمتين تركت مظهرين لمفهوم الخيال عند ابن عربي بحاجة لتوضيح أكثر: الأول الفرق بين آلية الابداع عند الانسان والخيال الالهي. والثاني ، الطريقة التي يحل بها مفهوم الخيال عند ابن عربي التناقض بين القدم وحدوث العالم . هذان المفهومان مترابطان بشكل لا يمكن فصمه ، وذلك بسبب الاختلاف الأساسي الذي أسسه ابن عربي بين الخلق الانساني والالهي الذي يستعمله لحل الفكرة الاشكالية "الخلق من العدم " وذلك بالتركيز على الوظيفة الابداعية للخيال . وتهدف هذه الدراسة الى بحث هذين المفهومين والى تجسيد الابعاد المبهمة والوجودية التي يعززها ابن عربي للخيال آخذا إياها بعيدا وراء حدود علم النفس البشري. تتبنى الدراسة المنهج التأويلي للنصوص الأصلية ، وذلك بالتأكيد الشديد على الحالات التأويلية أكثر منه على الاحتمالات التاريخية . في هذه الحالة نرى أن الشرط التأويلي متأثر بالاستغراق بالابداع الفني والرغبة بفهم الآلية الابداعية للخيال على المستويين الانساني والالهي وذلك في لاطار الأوسع الذي يحدث به .
الخيال الخلاق بوصفه البرزخ
يبدأ ابن عربي المرتبية الوجودية المعقدة ، بالتمييز طبقيا بين ثلاثة مستويات كونها الاشياء الأولى الممكن إدراكها (المعلومات ) حول الوجود الكوني، وتلك المستويات هي : الوجود المطلق والذي هو واجب الوجود لنفسه ، والعدم المطلق وهو العدم لنفسه ، والوسيط أو الفاصل الذي يتم بواسطة تمييز أحدهما عن الآخر(4) . يطلق ابن عربي على ذلك الوسيط اسم البرزخ ووظيفته الفصل بين الأمرين والتوسط بينهما في نفس الوقت . ومفهوم البرزخ كعالم وسيط مشتق من القرآن الذي أشار أكثر من مرة الى طبيعته : "بينهما برزخ لا يبغيان ".
إن طبيعة البرزخ المتحدة – المنفصلة ، تجمع كلا الحقلين ولكن لا تسمح لهما بالامتزاج . وبطريقة سماكة ، فإن العالم الوسيط للبرزخ يشكل الخط الفاصل بين المطلق والعدم . كما يمكن للمرء أن يدرك الخط الفاصل بين الضوء والظل ، يحدد البر نطاق البعدين الجارين ويمنع كلا منهما أن يقيد خصائص الآخر، وهو يعمل كأفق عادي يعكس حقائق كلا العالمين المتاخمين(5) كما أكد على أنه بالرغم من مواجهة البرزخ لحقلين مستقلين فإنه ليس بالوسيط الثنائي الجانب ، وذلك يعني أن الوجه الذي يقابل أحد الحقلين غير ذلك الذي يقابل الحقل الآخر (6). وعلى العكس تماما ، فإن الوجه _ الذي ليس سوى روح البرزخ _ الذي يقابل أحد الحقلين هو تماما نفسه الذي يقابل الآخر. وبمعنى آخر ، سيكون هناك برزخ ضمن برزخ ، البرزخ نفسه سينقسم ال ثلاثة حقول ، حقلين مستقلين والوسيط الذي يجمعهما، في حين أن البرزخ هو وجود واحد.
إذا كانت هذه الحال فإن هذا الوسيط الموحد يجب اعتباره بالبرزخ الحقيقي ويرى ابن عربي أيضا أن العالم الوسيط للبرزخ يتم بواسطته خلق وانتاج العالم ، وأن طبيعته الموحدة _ الانفصالية – مسؤولة عن تحويل ثنائية المطلق والعدم الى شكل منتج ، ويمكن القول أنه بواسطة البرزخ فقط يتم تسليم العالم من الامكانية الى الفعل ، ويصبح العالم ، كما لو كان ذلك الطفل المولود من زواج خصب بين المطلق والعدم .
من خلال هذه العلاقة المنتجة يميز ابن عربي النموذج الذي يمكن اعتباره المفهوم الأساسي للكون ويتكشف هذا النموذج عبر العلاقة الحقيقية بين الثلاثي والتربيعي، حيث الثلاثي محدد بالحقول الثلاثة التي تم تعرفها للتر : المطلق ، العدم والبرزخ . أما التربيعي فهو ثنائية مشاركة البرزخ مع الحقلين الآخرين . وهكذا إن التربيعية صفة ملازمة ضمنيا للترتيب الذي يجعل تلك الحقول الثلاثة مولدة ومنتجة . وقد عرض ابن عربي كيف انعكس ذلك النموذج المولد مباشرة في القياس المقولي مقررا العملية المنتجة للتفكير القياسي ، ولنصل الى استنتاج قياسي يفترض وجود مقدمتين منطقيتين : مثلا، لكل حيوان جسد (مقدمة منطقية رئيسية ) الانسان حيوان (مقدمة منطقية ثانوية ) لذلك فإن الانسان يملك جسدا (نتيجة ) . هذه العملية الذهنية تتألف من ثلاثة عناهر واضحة : مقدمتان منطقيتان ، تمثلان المطلق والعدم ، والنتيجة المتمكة بالعالم . النتيجة هي نتاج ، كما قلنا الزواج بين المطلق والعدم المطلق . ولكن هنالك عنصرا خفيا رابعا لا يكون بدون حدوث هذا الزواج ، وهذا العنصر هو مفهوم "الحيوانية " : إنه البرزخ الذي يتوسط المقدمتين المنطقيتين ، ويتجل في تكرار كلمة "حيوان " في كلتا المقدمتين . ذلك التجلي المزدوج لكلمة "حيوان " في كلتا المقدمتين المنتجتين ، يكشف ظاهريا العلاقة المبدئية بين الثلاثية الواضحة والرباعية الضمنية بطريقة عكسية ، فأصبحت الثلاثية ضمنية في العناصر الواضحة "انسان ، حيوان ، جسد"، وأصبحت الرباعية واضحة في صياغة كلمة "حيوان " مرتين فعليا.
المقدمة ( 1) لكل حيوان جسد
المقدمة (2) الانسان حيوان
النتيجة : للانسان جسد
وبناء على الترتيب المقدم ، يرى ابن عربي بأن العالم المتجلي يكون ثلاثيا : أعلى ، وأدنى ومتوسط . العالم الأعلى هو عالم "الغيب " الكائن الروحي للأشكال الملائكية ، عالم المعاني المثالية . أما العالم الأدنى فهو عالم الشهادة ، الوجود المادي للأشكال الحسية والمحسوسة ، عالم الاجساد، يتم فيما بعد إدراك الأشياء بالبصيرة في حين أنه سابقا كان يتم
تصورها بالتبصر. وكما هو الحال مع المطلق والعدم فإن العالمين ينفصلان ويرتبطان بنفس الوقت بواسطة وسيط ، عالم اخر، ويدعوه ابن عربي بـ "عالم الخيال "(7).
يقول ابن عربي بأن عالم الخيال يجمع ميزات الحقلين الحدودين له : إنه المكان حيث روحاني"غير المرئي" تتحد مع مادية "المرئي" ليخلق حدة الخيال . إنه المستوى الوجودي حيث تتحد الأرواح الحسية مع المعاني المجردة لتتخذ أشكال أجسادهم (8). عالم الخيال هو عالم الأحلام حيث كل شيء لا يزال أصليا مثل الشبح ، الذي لا يمكن لمسه ولا يمكن الوصول اليه . الأشكال المتخيلة مثل الأحلام ، لها خاصية شبحية وخيالية : إنها قابلة للادراك ، أشكال لها معنى بدون حضور مادي. فهي ليست بالحسية الصافية ولا بالمجردة الصافية . مثل الصورة في المرآة إنها مرئية ومع ذلك هي ليست هناك ، مرئية ولكن بدون جسد، مثل سراب خادع ، موجود ولا يمكن الوصول اليه(9) ، تلك هي صفات العالم البرزخي للخيال ، تستمد الصور الخيالية طبيعتها الخادعة من وظيفتها التوسطية بين المجرد والعياني، والروحاني والمادي، الدلالي والحسي . عالم الخيال هو مستوى الوجود حيث يتم حل هذه الازدواجية : عندما يتجسد المجرد ويتجرد الجسد. الخيال هو العالم حيث يتم تزويج الشكل بالمعنى، وينتجان عالما جديدا الذي يتحد وينفصل في نفس الوقت عن حقليه الوالدين ، تماما مثل منطقة الشفق حيث يتحد وينفصل في نفس الوقت : النور والظلام .
المطلق ، الخيال المنفصل ، والخيال المتصل يقول ابن عربي : "فإن قلت وما عالم البرزخ قلنا عالم الخيال"(10) . وفقا للترتيب المذكور سابقا هنالك برزخان : أحدهما يتوسط بين المطلق والعدم ، والآخر بين مستوى الوجود الروحاني والمادي . ميز ابن عربي بين نوعي البرزخ آخذا بعين الاعتبار ذلك الذي يتوسط المطلق والعدم ليكون في مرتبة أعلى : إنه كما يعرفه ابن عربي "برزخ البرازخ " ، لذلك إذا كان عالم البرزخ ليس سوى عالم الخيال ، فهل هنالك عوالم مطابقة أو ترتيب وجودي مختلف المستويات مختلفة للخيال : الخيال المطلق ، الخيال المنفصل ، والخيال المتصل(11) . يتطابق الأول مع البرزخ الأعلى والثاني مع الأدنى، بينما يرمز الثالث الى المستوى البشري للخيال في اطاره السيكولوجي (كونه البرزخ بين مادية وروحانية الانسان ). يوضح تشيتيك في "طريق المعرفة الصوفية " هذا التطابق أيضا بالتمييز طبقيا بين ثلاثة شواهد كلاسيكية مختلفة والتي أصبح بها الخيال مدركا: في الخيال المطلق حيث الوجود متطابق مع الخيال ، وفي الخيال المنفصل حيث العالم الوسيط بين الروحي والمادي هو خيالي ، وفي الخيال المتصل حيث يتم اعتبار الروح البشرية كحقيقة متميزة عن الروح والجسد المتصلين بالخيال . إن العلاقة بين العوالم الثلاثة للخيال أو مستويات البرزخ ليست بالمستقلة أو المتقابلة بل هي علاقة احتواء حيث كل منهم محتوى ضمن الآخر.
"فاعلم أنك خيال وجميع ما تدركه مما تقول فيه ليس أنا خيال ، فالوجود كله خيال في خيال"(12) حمل ابن عربي في "الفتوحات " حضرة الخيال دلالات كثيرة وأعطاه أكثر من معنى، وبذلك جعل التطابق بين المرتبية داخل عالم البرزخ وذلك الداخل عالم الخيال أكثر تعقيدا وغموضا من تلك العلاقة البسيطة التي ذكرناها سابقا. بينما يكتسب عالم البرزخ ميزته الرئيسية من دوره التوسطي، للخيال قوة خلاقة ، لهذا السبب فإن العالم الذي ينتجه يملك بالاضافة لدلالته التوسطية ارتباطا بالدلالة الابداعية . ووفقا لذلك فإن التطابق في المرتبية الموضحة للتر يكون مفهوما فقط عندما تتم دراسة عالم الخيال من وجهة نظر وظيفته التوسطية كبرزخ وليس كنتاج للقوة الخلاقة للقدرة أو الخاصية . فعندما يتم فصل الخيال عن مصدره الخلاق ، يترك المرء مع الهرم الوجودي الذي يستلزم خاصتين خلاقتين – الخيال الالهي والخيال الانساني – وثلاثة عوالم من الخيال (أو أربعة طبقا لتفسيرات تشيتيك ).
إن الاستقلال الوجودي المتصل النسبي الذي يخضع لقوة الخيال (سواء كان بشريا أو الهيا) استنادا الى مقدرته الابداعية ، يحمل المرء على التساؤل حول الافتراض الوجودي للمستويات التي لا تبدو بأنها تتصل مباشرة بالمصدر الخلاق . بمعنى أخر ، فإن الحالة الوجودية للخيال المنفصل فيما يتعلق بالخيال المطلق أو بالخيال المتصل ، تثير تساؤلات ليس فقط حول من يتخيل في تلك المرتبة ، ولكن أيضا حول الألية الابداعية لعالمه ، إن نص "الفتوحات " لا لبس فيه على الاطلاق بخصوص هذه المسألة ، حيث يناقش ابن عربي باختصار الخيال المتصل والمنفصل ويشرح بتفصيل أكبر الخيال المطلق ويعلق الخيال المطلق بالخيال المتصل (13)، ولكنه لا يناقش طبقيا العلاقات بين الخيال المطلق والخيال المنفصل . ومن المثير للاهتمام الى حد ما ملاحظة أنه عندما يميز ابن عربي بوضوح مفهوم الخيال ، وذلك في مقدمة الفصل الذي يناقش فيه العوالم الثلاثة للخيال ، فإنه يشير الى الخيال بعالميه المتصل والمنفصل فقط . في هذا السياق ، إذا أخذنا بعين الاعتبار عالم الخيال من وجهة نظر مصدره الخلاق ، ينزع المرء لدراسة عالمي الخيال المتصل والمنفصل على انهما مرتبطان بالخلق الالهي
والانساني. إن "الخيال المتصل " يرتبط بالروح الانسانية بينما يرتبط "الخيال المنفصل" بالذات الالهية . وبذلك يمكن اعتبار الخيال المطلق والمنفصل تابعين للمصدر الالهي الخلاق ، بينما الروح الانسانية ومقدرتها التخيلية تخص البشر ، الأول يسمى بالمنفصل والثاني بالمتصل .
يوضح ابن عربي أن قوتنا في تخيل الأشياء، ويعني بذلك قدرتنا على إدراك صورهم المفصولة عن أجسادهم الحسية تخص "الخيال المتصل " . ويشار اليه بالمتصل لأنه كما أوضح كوريين : "خيال يتحد مع الموضوع المتخيل وغير قابل للانفصال عنه ". يشير كوريين لذلك "بالخيال التابع " لأنه يعتمد في وجوده على الخيال المنفصل ، الذي يدعوه بالخيال المستقل ، الخيال المفصل أو المستقل يشير الى حالة وجودية أعلى للكائن الذي يشكل العلة الأولى لوجود كل الصور التي يمكن تخيلها. إن الصور المدركة بالخيال المتصل أو التابع استخرجت بواسطة الحواس من الصور الطبيعية التي تشكل جزءا من الصور الكونية وتخص حضرة قائمة بذاتها منفصلة عن الموضوع المتخيل ومستقلة عنه تماما. وذلك ما يعرفه ابن عربي بـ "الخيال المنفصل " لانه بكل بساطة حضرة مستقلة منفصلة عن انعكاسه الأدبي، "الخيال المتصل " . الخيال المنفصل هو خيال الهي، بينما الخيال المتصل هو خيال انساني يتخيل الانسان صور الكائنات التي بعثت الى الوجود بواسطة القوة الخلاقة للخيال الالهي ، إنه حضرة الأشياء في العقل الانساني، يعتمد "الخيال المتصل " على "الخيال المنفصل "، والعمل الانساني في التخيل ليس أكثر من مجرد مشاركة في النهاية ، يقول ابن عربي أدمن هذا الخيال المنفصل يأتي الخيال المتصل "(14) .
وبالرغم من أن كيهما يملك طاقة خلاقة فإن الخيالين المنفصل والمتصل مختلفان جوهريا. عالم الخيال المنفصل ذو حضرة مستمرة أما عالم الخيال المتصل فحضرته مؤقته . يستمد الأول استمرار يته من السرمدية الالهية بينما تعكس أنية الأخير طبيعة الانسان السريعة الزوال .
الفرق بين الخيال المتصل والخيال المنفصل هو أن المتصل يتلاشى عندما يتلاشى الشخص الذي يتخيل ، بينما الخيال المنفصل هو حضرة ذاتية تستقبل بشكل مستمر معاني وأرواحا ، لذلك تجسدها بمقدرتها الخاصة "
(15).
وكحضرة مؤقتة ، يقسم ابن عربي الخيال الانساني الى نوعين : الحالم والمتخيل . الأول فعل لا إرادي ، بينما الثاني إرادي(16). الفعل الإرادي المتخيل يستلزم الاحتفاظ بالصور المدركة من خلال الحواس بواسطة القوة المصورة . إن مفهوم ابن عربي للخيال المتصل مشابه في البنية والوظيفة لنظرية الخيال التي تمت صياغتها من قبل الكثير من الفلاسفة المسلمين التقليديين . وبشكل عام يفهم الخيال على أنه قوة بشرية قادرة على استقبال صور جميع الأشياء المحسوسة وعلى تخيلها عندما لا تعود على اتصال مع الحواس ، وعلى التخيل أو التوهم بعد إدراك المكونات الأولية بواسطة الحواس _ الأشياء التي تملك حقائق متماثلة وتلك التي لا تملك . وبالمطابقة مع الفكرة التقليدية للصورة والمادة ، فإن طبيعة الخيال تقارن قياسيا بمادة رقيقة جدا تدعم الصور المتخيلة المنفصلة بواسطة الحواس عن عادتهم المحسوسة (17) لذلك ستندمج وتنصهر بسهولة . فالطبيعة الخلاقة للخيال تعطيه القوة في التعامل والمعالجة ببراعة مع الصور المجردة بأية طريقة يمكن تصورها . على سبيل المثال ، يمكن لاحدهم أن يتصور جملا يقف على شجرة نخيل أو شجرة نخيل على ظهر الجمل ، طير بأربعة أجنحة ، حصان بجناحين ، حمار برأس إنسان…(18).
هنا تم إدراك القوة الخلاقة للخيال البشري كمقدرة على تحليل الصور المتاحة وبناء أشكال جديدة ذات معنى والتي هي طبعا الأساس الجوهري لكل ابداع أدبي، ويؤكد ابن عربي على أنه بالرغم من أن الحواس قد لا تدرك الصور الجديدة المؤلفة من قبل الخيال البشري في صورهم المؤلفة ، فإن مكوناتها الأولية يجب أن تدرك حسيا. فالخيال البشري لا يستطيع التعامل مع أي شيء لا يملك جزئيا أو طيا شكلا حسيا(19) وهذا يعني أن خيالنا الشخصي مقيد بشكل لا ينفصم الى العالم الحسي . إن جميع البيانات الأولية التي تملا خزان مخيلتنا مقيدة بحواسنا من خلال التواصل مع العالم الظاهري، لذلك فإن خيالنا لا يملك قوة الخلق من العدم . ومع ذلك نستطيع أن نركب الأشياء بشكل خلاق في خيالنا طبقا لنماذج جديدة وغير مألوفة مثلا ، على سبيل المثال ، نركب صورة مخلوق نصفه بشر والنصف الآخر حصان ، بالرغم من عدم وجود نموذج لتلك الصورة . كما أن صورتي الرجل والحصان ليستا نتاجا خالصا للخيال ، ولكنهما ليستا أكثر من انعكاسات متخيلة للنماذج الأصلية المحسوسة .
ومنذ اصكك الخيال الانساني قوة المشاركة في عالم الخيال المتصل ، وذلك في عالم الممكنات ، فإنه قادر على تأليف عدد غير محدود لأنواع مختلفة من الصور، ولكن تقيده بالمجال المحسوس جعل معلوماته محدودة . وذلك يعني أنه خارج المعلومات المحدودة الموجودة تحت تصرف الخيال الانساني، يملك الانسان القدرة على تركيب أشكال بقدر الاحتمالات الكامنة في عالم الخيال المنفصل . وهكذا فإن قوة التخيل البشرية بالمقارنة مع قوة التخيل الالهية التي تنتمي الى الحقل الداخلي للخيال المنفصل ، تذوي الى تفاهة ، وبالرغم من الاحتمالات اللانهائية المتوافرة للاله ، فإن الصور المؤلفة من الخيال الالهي والتي تنكشف لنا من خلال عملية التجلي ، تتبع نماذج محددة ومعينة . والسؤال الذي يمكن طرحه عندئذ: إذا كان الخيال الانساني قادرا على تأليف صور غير محدودة والتي تتضمن كما وصفها "إخوان الصفا" الصورة التي تحلل حقائق مطابقة وتلك التي لا تملك (20)، فما قيمة الاشكال المؤلفة التي ليس لها حقائق سماكة أو نماذج بدئية ؟ ما قيمة الشكل المتخيل لنقل ، نصف الانسان ونصف الحصان إذا كان مجرد احتمال ؟ تخمين كهذا وأسئلة ذات صلة يمكن أن ~ملقي ضوءا جديدا على قيمة ومعنى الفن الاسلامي التقليدي وفن العمارة .
وبالرغم من أن ابن عربي لم يطرح هذا السؤال ، إلا أنه يمكننا أن نقع على بعض الكسيحات في تعاليمه . عندما يتطابق الشكل المتخيل مع حقيقته في عالم الخيال المنفصل ، عندها وعندها فقط ، يجعله يقع في فئة الوجود الذهني الذي يشكل واحدة من مرتبات الوجود الأربع الواضحه (21) : الوجود الذهني هو المعروف كونه متخيلا في الروح طبقا لما هو عليه في الواقع ، ولكن إذا كانت الصورة المدركة لم تثبت في الواقع ، فلن يكون لها وجود المعروف في الواقع(22).
كحضرة مستمرة ومنجزة ، فإن عالم الخيال المنفصل يمكن أن يرى عندها كمسيطر عل الخيال المتصل البشري بوضع شيفرة ثابتة له ، تعتبر هذه الشيفرة ، التي تتألف محتوياتها من حقائق كونية ، ضرورية لمنع الخيال البشري من الانحطاط الى نوع من الوهم . إن المشاركة بعالم الحقائق هذا يمكن الخيال البشري من أن يصبح مصدرا قيما للمعرفة عندما لا يذعن لحقائق تلك الشيفرة ، أو يتحول الى وهم محرف عندما لا يذعن . والأكثر من ذلك أن من بين تعاليم ابن عربي أن الشخص الجاهل هو الشخص الذي يتحدث ويعتقد بما يصوره في روحه ، بينما لا يملك ما صوره أي صورة مطابقة غير ذاتها. إن أي صورة متخيلة ، ليس لها حضرة وجودية يحدد وجودها ، يتم انتاجها بالجهل ، ومنتجها جاهل ، يقول ابن عربي : "وأي شيء لا يملك أي صورة غير التي في روح قائلها يتلاشى من الوجود مع تلاشي قوله أو تلاشي تذكره لما هوى من حديثه ، لأنه لا يملك حضرة وجوديه تحدد وجوده "(23) وقيما يتعلق بالمعلومات فكيفما تم تشكيلها في مخيلة الانسان لا يمكنه أن يهرب من النماذج الأصلية ، التي قال ابن عربي بأنها تحتوي جوهر الممكنات . ولكن فيما يتصل بالصورة المتخيلة ، إذا كانت لا تملك نموذجا أصليا فإنها ستفقد أهميتها لأنها ستدل عل العدم . ويتم انتاج الصورة الحسية طبقا لصورة متخيلة غير ذات معنى لا تملك ، حسب ابن عربي ، مفهوما أبويا يقرر وجودها ، ولكنها تملك فقط مبدأ أموميا، الا وهو المنتج نفسه (24)
الخلق من خلال النفس الالهي بالرغم من أن لكلا الخيالين المتصل والمنفصل قوة خلاقة ، فإن الألية التي يخلق فيها كل خيال تختلف بشكل كبير. إن الانتاج الخيالي ليس نفسه تماما في مستويي الوجود الالهي والبشري ، وفكرة الخيال المنفصل ليست ببساطة إسقاطا لصفة مجسمة على العالم الالهي. ولفهم الالهية الخلاقة للخيال المنفصل ، يحتاج المرء للتألف مع وجهة نظر ابن عربي في الخلق . ألف ابن عربي نظرية معقدة في الخيال وذلك استنادا الى الآية القرانية "إنما قولنا لشيء إذا أردنا أن نقول له كن فيكون " (سورة النحل الآية 40) والى الحديث الشريف "خلق اته العالم من خلال نفس الرحمن " . فهو يقول بأن العالم قد خلق من خلال لفظ الكلمة المبدئية لـ "كن " التي تتوافق مع زفير النفس الالهي أو النفس الرحماني وتجلي العالم . ويعتبر ابن عربي أيضا أن خلق العالم وتجلي الذات الالهية هي تعابير مترادفة . وفي شرحه أن تجلي الذات له شكلان واضحان :
أولا : التجلي الذاتي حيث يتجلى المطلق كالعيان الثابت . ثانيا : التجلي الشهودي حيث يتجلى المطلق كالعيان الظاهري.
وكونه فعلا باطنيا ذلك الذي يحدث داخل الذات أو الوعي الالهي ، فالمتجلي الذاتي الجوهري لا يبرز ظاهريا في الآخرية التي تختلف عن تماثل الجوهر. "العيان الثابتة " التي تجلت بواسطة هذا الفعل الجبري ليست أكثر من أسماء وصفات الماهية . تحدث الآخرية فى تجلى الذات المسى عندما ينفس الاله زافرا القداس الأول الكثيف المضيء(25)
"بخار رحماني" (26) وذلك هو النفس الالهي. النفس الالهي هو الأداة التي يتم من خلالها تجسيد الأسماء الالهية ، طافحا بالكلام من العالم الباطني للكائن اللاصوري الى العالم المادي للوجود الصوري، من الحالة الامكانية الى الحالة العقلية . ذلك هو جوهر العالم ، حيث وجدت جميع
الاحتمالات الكامنة للتجلي الصوري (27) يقول ابن عربي: فالكل في عين النفس كالضوء ´و ذات الفلس(28) يحقق العالم الأشكال المنشورة احتماليا في النفس ، بنفس الطريقة التي يحقق النهار جميع الحوادث المرسومة والتي تم الكشف عنها في فجره .
يشرح ابن عربي أكثر فيقول "فمن أراد أن يعرف النفس الاله فليعرف العالم فإنه من عرف نفسه عرف ربه الذي ظهر فيه "(29).
يعادل النفس الالهي الجوهر الهيولاني الذي يشمل جميع صور العالم :"فهو كالجوهر الهيولاني، وليس إلا عين الطبيعة ، فالعناصر صورة من صور الطبيعة وما فوق العناصر وما تولد عنها فهي أيضا من صور الطبيعة وهي الأرواح العلوية الي فوق السمرات السبع (30) وهو يشكل المادة المتجاوزة لجميع الصنائع الالهية . يمكن أن يقارن النفس ، فيما يتعلق بالعالم ، قياسيا الى الحبر وعلاقته بجميع النصوص التي تمت كتابتها أو البياض في صفحة خالية من الكتابة وعلاقته بجميع الأشكال التي تم رسمها. النفس هو المصدر حيث جميع الممكنات تنصهر سوية في وحدة غير متمايزة .
النفس ، العلماء ء والخيال المطلق إذا تم انجاز الخلق عبر القول الأصلي وزفير النفس الالهي، فما هو دور الخيال في عملية الخلق ؟ طابق ابن عربي بين فعل التنفس وفعل التخيل (لأنه من خلال التنفس جسد اته أشكال جميع المخلوقات )، كما طابق بين عالم الخيال المطلق والنفس الأساسي ، وبين النفس الأساسي والقيمة الأساسية . سئل النبي محمد تمينو مرة "أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق ؟ فقال في عماه ما تحته هواء وما فوقه هواء"(31) .
يقول ابن عربي ان العماء المذكور في هذا الحديث الشريف هو الصورة الأولى التي اتخذها النفس الالهي ، والتي من داخلها ميز الاله صور جميع الأشياء في العالم.
(32) أما القيمه الأساسيه فهي الصورة المكانيه ايجابيا للتجلي الكوني حيث حقائق العالم تتحول من الامكانية الى الفعلية ، من الحالة اللاصورية الى الوجود الصوري.
"إذن اعلم .. بأن حقيقة الخيال المطلق هو المسمى بالعماء الذي هو أول ظرف قبل كينونة الحق .. ففتح الله تعالى في ذلك العماء صور كل ما سواه من العالم . إلا أن ذلك العماء هو الخيال المحقق . الا ترده يقبل صور الكائنات كلها، ويصور ما ليس بكائن ، هذا لاتساعه ، فهو عين العماء لا غيره وفيه ظهرت جميع الموجودات . وهو المعبر عنه بظاهر الحق في قوله (هو الأول والآخر والظاهر والباطن ) ولهذا في الخيال المتصل يتخيل من لا معرفة له بما ينبغي لجلال الله يتصوره . فإذا تحكم عليه الخيال المتصل فما ظنك بالخيال المطلق الذي هو كينونة الحق فيه ، وهو العماء. فمن تلك القوة ضبطه الخيال المتصل … وهو من بعض وجود الخيال المطلق الذي هو الحضرة الجامعة والمرتبة الشاملة "(33).
يتساوى العماء مع الخيال الالهي ليس لأنه فقط يتلقى بشكل كامن جميع الصور، بل لأنه أيضا يعطي الكائنات صورهم فعليا .) ` تلك هي إذن الوسائل التي بواسطتها تخيل الاله ماهيات الكائنات الممكنة مثل الصور الكونية الممكن تخيلها والواسطة التي تعمل لتفعيل النماذج المبهمة للحقائق الالهية مع العماء وفعل التخيل الالهي، وخلافا للبشري، يظهر من دون ماهية وليس من داخل الماهية . مثل قولك بأن اته قد أحدث العالم في اللحظة التي تخيله فيها، وليس طبقا لمثال متخيل منذ الأبد. وقبل وجودهم في العماء فإن صور العالم لم توجد كصور في الذات الالهية ولم يتخيلهم آت في بصيرته قبل إحداثهم . هذه النظرة تختلف بشكل ما عن تفسير كوريين : "…. علينا أن نفكر بالأحرى بعملية زيادة الاشراق والرفع التدريجي للاحتمالات الكامنة منذ الأبد في الكائن الالهي الأصلي الى حالة من ،الاشراق "(35). إن زيادة الاشراق تقتضي ضمنا وجودا مبطنا للصور في الماهية الالهية . بينما يؤكد ابن عربي على أن الاحتمالات المستترة سرمديا في الكائن الالهي الأصلي مثل العيان الثابتة ، عرفت من قبل ان كما كانت عليه ، وكما ستكون عليه عندما يتم حدوثها صوريا، لكن لم يتم تصورها. إذن فالمثال الأبدي للعالم هو معرفة آلله ، الذي من وجهة نظر ابن عربي، تختلف عن تخيله(36) يتطابق الفعل الالهي لتخيل صور العالم مع حدوثهم من خلال نفسه ، وذلك هو سبب مطابقة ابن عربي النفس الالهي مع عالم الخيال المطلق .(37) ويضع ابن عربي فرقا حادا بين
المعرفة والتخيل (38)، وانسجاما مع هذا الفرق الذي وضعه بين فعل المعرفة وفعل التخيل ، يميز بوضوح بين الصورة والمعنى. تجسد الصور معاني لاصورية وما هو متقبل للخيال الانساني ، فبمجرد وجود صور روحية صافية ستوجد أيضا صور عيانية مادية ، وصور واضحة ودقيقة . يشكل كلاهما الصور الكونية التي تجسد العيان الثابتة اللاصورية ، ولهذا السبب فإن مخطط الخلق عند ابن عربي، "الكوني" و"الصوري" هي عبارات متقابلة . المعنى من ناحية أخرى مقبول للفكر ويمكن أن يعرف بدون ضرورة تخيله . المعاني الرئيسية ليست سوى الماهيات الثابتة ، لذلك فإن الصور التي يتحدث عنها ابن عربي الموجودة في العماء أو الخيال المطلق تختلف عن الماهيات الثابتة القابلة للتمييز والتي "لم تشم أريج الوجود" وكأنها تكمن في الذات الالهية .
إن الفرق بين الصورة والمعنى متناغم مع ايمان ابن عربي الراسخ بأن المعرفة ليست صورة المعروف مطبوعة في روح العارف ، بمعنى آخر، لا يتخيل العارف صورة المعروف . وقد وجد دعما لايمانه هذا في الاسم الالهي "بديع " المذكور في الآية القرانية "بديع السموات والأرض ،
فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون"(39) (سورة البقرة ، الآية 117). هذا الاسم مشتق من "ابداع " الذي يعني "خلق شيء أصلي ، جديد لم يسبق الى مثله " ومنه عبارة بدعة التي تعني "الاصالة "و"الجدة " . وتعليقا على الآية المذكورة يقول ابن عربي بأن خلق السموات والأرض مرتبط بالاسم "بديع " لأنها لم تخلق طبقا "لمثال " مسبق . طالما أن صورة الكون متطابقة مع الأعيان الثابتة في العدم فإن آتو لن يكون بديعا ، لأنه سيكون قد خلق طبقا لمثال موجود مسبقا في معرفته ولن يكون هناك خلق من العدم :
"يقول تعالى (بديع السموات والأرض ) لأنهما خلقتا وفق مثال . إن أول ما خلق اته كان الفكر أي القلم – إنه أول مخلوق "المفعول الابداعي" تجلى من خلال الله واسع الرحمة . وكل مخلوق ليس على مثال يكون مبدعا، ويكون خالقه مبدعا وعليه تكون المعرفة إحاطة بالمعروف كما يدي بعض الناس في تعريف حد المعرفة أي أن الانسان يجب الا يكون مبتدعا لأنه هو من روح من ابتدع ذلك المثال الذي بموجبه جاء الى هذا الكون . لتحقيق هذا التعريف للمعرفة فإن ذلك يعني أن اته لم يبتدعها في ذاته كما يفعل المحدث عندما يبتدع صورة لم يسبق أن جيء بها من قبل ، لكنها موجودة في ذات ذلك المصور وليس من أجل أن تكون مشابهة لها بحد ذاتها لأن ذات امته ليست المكان لما يبتدع . وعليه فإن تعريف المعرفة لا يعني إعطاءها صورة الأشياء المعروفة . يكون الأمر ذاته بالنسبة للعارف فهو واحد من القادرين على إدراك الصور المتشكلة بقدرة الخيال أو ربما يكون ممن يعرفون الصور دون القدرة على تجسيدها أي غير قادر عن إعطائها صورة ، وهكذا فإنه بالنسبة الله إعطاء الصورة عملية تتم من الخارج وهو لا يتلقى شيئا ضمن ذاته ليقوم بتصويره على شكل صورة من الخارج بل هو يعرفه ويعرف كذلك أن الابداع لا يكون ممكنا إلا في صور بحد ذاتها أو بعينها وبالتالي يمكن ابداعها وخلقها. بالنسبة للمعاني فليس أنا منها مبتدعا لأنه لا يمكن خلقها وبالتالي لا يمكن ابداعها على الرغم من أنه من الممكن إدراكها على أنها ثابتة بالضرورة "(40).
طور ابن عربي هذه النظرة من خلال تأويل الآيتين الكريمتين : "كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام " (الرحمن 6؟ ، 27)" ملمحا في نفس الوقت الى طبيعة الصور الكونية المحتواة في العماء. والحديث الشريف :"خلق الله الانسان على صورته " نفس اللاحقة الضميرية "هي" يمكن أن تشير أيضا الى "الانسان " ، وفي تلك الحالة سيقرأ الحديث " : خلق اته الانسان على صورته أي (صورة الانسان ).
بعد ذلك أوجد في العماء كل صور العالم التي يتحدث عنها أي العالم بأنها زائلة ، أي أنه فيما يخص صوره إلا أن "وجهه " أي فيما يخص الحقيقة فأنها لا تزول . ولكن فيما يتعلق بحقائقه فإن العالم ليس فانيا ولا يمكن أن يكون كذلك . لأنه إذا فنيت صورة الانسان على سبيل المثال فلن يبقى لها أثر في هذا الوجود وحقيقته التي تم تعرفها والمماثلة لحد الانسان لن تفنى. نحن نقول إن الانسان "حيوان ناطق " دون الاشارة الى خلوده أو فنائه لأن هذه الحقيقة ما انفكت منطبقة عليه مع أن ليس صورة في الوجود"(41).
بالرغم من الطبيعة الغريبة والواضحة لهذا ، فإن ايمان ابن عربي بتعاليمه أمر جوهري وذلك لأنه من خلالها أمكنه حل تناقض الخلق : عدم وحدوث العالم ، وطبقا لعقيدة الخلق من العدم التي ثعتبر واحدة من المصادر العقائدية في الاسلام ، فإن للعالم بداية ومتكون له نهاية . فلسفيا ، هذا يخلق مشكلة . فوجود العالم يقدم تغييرا عرضيا للاله الذي وجوده الابدي يحتم ، من وجهة نظر فلسفية ، تجاوزا لكل التغييرات والتحولات . نفس الشي ء ينطبق عل نهاية وجود العالم . وهذا قاد الكثير من فلاسفة الاسلام التقليديين للتمعن أو الحديث حول أبدية العالم ، وذلك بأن يتصاحب وجود العالم مع آت ، التي بالمقابل قادت الى مسألة نهاية العالم التي باتت موضع شك . وهكذا فإن التناقض كان : كيفية أن يكون العالم أبديا، وذلك لا يتعارض مع تفوق الله .وفي نفس الوقت خلق من العدم ، أفلا تكون بذلك العقائد الاسلامية توفيقية ؟
شغل هذا التناقض لفترة طويلة عقول الكثير من اللاهوتيين والفلاسفة والصوفيين التقليديين ، وكانت هذه المسألة الأكثر أهمية على المستويين الديني والاجتماعي كونها ترتبط مباشرة بخلق ونهاية العالم ، وتهتم بحقيقة العدالة الالهية في الحياة الآخرة . لا شيء يشهد للأهمية العظيمة لهذه المسألة أكثر من المناظرة الموثقة في "تهافت الفلاسفة " للغزالي ، و"تهافت التهافت " لابن رشد، حيث قدم كلاهما الماعات ناضجة وفعالة واستهلكا في محاولاتهما لاضعاف نظرية كل منهما للآخر بخصوص هذه المسألة . ومهما يكن ، فإن حججهما تترك المرء بحس من الشك والرغبة أكثر بالطريقة التوفيقية ، وجاء ذلك من خلال مفهوم الخيال عند ابن عربي بأن هذه القضية المتناقضة والمثيرة للنزاع قد وصلت الى حالة من التوفيقية
الايجابية . ومن خلال البناء الوجودي لعالم الخيال ، كان قادرا على التأكيد على الوجود الابدي للعالم في المعرفة الالهية كعيان ثابتة ، بالاضافة الى المبدأ الاسلامي في الخلق من العدم(42)
إن عبارة الافتتاحية من الفتوحات تلخص رؤية ابن عربي ببلاغة : "حمدا لله الذي خلق الوجود من العدم وعدم العدم "، حيث يثبت العدم الأول حداثة العالم في الخلق من العدم ، أما العامان التاليان فيؤكدان أبديته .
الهوامش :
* ترجمت هذه المقالة عن مجلة "المجلة البريطانية للدراسات الشرق أو سطية " للاستاذ سامر عكاش المحاضر في إحدى جامعات استراليا.
1 – أبو العلا العفيفي ، مقدمة "فصوص الحكمة " ص 5.
2- في هذا العمل يحتوي كل فصل على عشرة فصول فرعية ، تم ذكره من قبل ابن عربي في التدبيرات الالهية ".
3- ابن عربي "الفتوحات المكية " (بيروت دار صادر) ج 2ص 3ا3.
4 – نفس المصدر ج 3ص 46- 7.
5 – نفس المصدر ج 3ص 46- 7.
6- نفس المصدر ج 3ص 518.
7- نفس المصدر ج 3 ص 42 .
8- نفس المصدر ج 2ص 129، ج 3ص 42.
9- نفس المصدر ج 1 ص 304.
10- نفس المصدر ج 2ص 129 .
11 – نفس المصدر ج 2ص 209- 13 .
12- فصوص الحكمة ج ا ص 104.
13- الفتوحات ج 2ص310.
14- نفس المصدر ج 2ص 311.
16 – نفس المصدر ج 2ص 311ص 375.
17- نفس المصدر ج 2ص 691.
18 – اخوان الصفا "رسائل اخوان الصفا" ج 3 ص 16 4 (بيروت دار صادر).
19 – الفتوحات ج 1 ص 163 ، 125 – 6.
20- اخوان الصفاج 3ص 416.
ا 2- الفتوحات ج 2ص 309- 10.
22- نفس المصدر ج 2 ص 309.
23- نفس المصدر ج 4ص 203.
24- نفس المصدر ج 4ص 203.
25- الفتوحات ج 3ص 420.
26- نفس المصدر ج 2ص 310.
27- نفس المصدر ج 2ص ا 33ح 2ص 452.
28- عفيفي «فصوص الحكمة » ج 1ص 145.
29- نفس المصدر ج ا ص 145.
30 – نفس المصدر ج 1ص 144 .
ا 3- الفتوحات ج 2 ص 310.
32- نفس المصدر ج 3ص430.
33- نفس المصدر ج 2ص310.
34- كوريين ص 185 .
35- نفس المصدر ص 216.
36- الفتوحات ج 1 ص 119.
37- نفس المصدر ج 1ص 305.
38- نفس المصدر ج 2ص 311.
39- نفس المصدر ج 4ص 315 – 16 ، ج 2ص ا 42.
0 4- نفس المصدر ج 2ص ا 42.
41- نفس المصدر ج 3ص 420.
42- نفس المصدر ج ا ص ا 4.
ترجمة واعدا: نجاح رئيس سفر (مترجمة من سوريا)