يعد الشاعر والناقد والروائي عبده وازن من القامات الإبداعية والثقافية التي يتفق الجميع على حضورها النوعي والقوي في قلب المشهد الثقافي العربي إبداعا ونقدا وترجمة وتحقيقا وإعلاما … وذلك نظرا الى ما تميزت به تجربته من عمق واختلاف ومغايرة على مدى أربعة عقود من الزمن استحق خلالها أن يكون واحدا من الرموز التي فرضت ابداعها انطلاقا من رؤى جمالية مفارقة أربكت- وماتزال – في كثير من الأحيان، المقولات النقدية الجاهزة ووسعت من تلقينا للأدب الذي يفكك الحدود ويدفعنا إلى اكتشاف الإنساني والكوني بلغة تتجلى وتفكر سواء في القصائد أم الروايات والنصوص أم في المقاربات النقدية التي واكب خلالها الابداعات الجديدة في مستوياتها المتعددة لا سيما عبر عمله كرئيس للقسم الثقافي في صحيفة «الحياة» اللندنية.
ترجمت مختارات من شعره إلى لغات عديدة منها: الفرنسية والإنجليزية والبرتغالية والإسبانية والألمانية والتركية وترجمت روايته «قلب مفتوح» الى الفرنسية وصدرت عن دار اكت سود. وترجم كتابه «حديقة الحواس» الى الفرنسية وكان مادة لبحث اكاديمي في جامعة تولوز الفرنسية . فضلا عن مشاركاته العديدة في مؤتمرات أدبية وثقافية في العالم العربي وأوروبا، وفي محترفات للترجمة والمسرح، وعضويته في لجان تحكيم جوائز أدبية: جائزة نجيب محفوظ، وجائزة البوكر للرواية العربية.
صدر له في الشعر: «الغابة المقفلة» (1982)، و«العين والهواء» (1985)، و»سبب آخر لليل» (1986)، و«حديقة الحواس» (1993)، و«أبواب النوم» (1996)، و»سراج الفتنة» (2000)، و«نار العودة» (2003)، و«حياة معطلة» (2007)،، و«الأيام ليست لنودعها» (2010)، و«غيمة أربطها بخيط» (2017). وفي الرواية سير ذاتية: «غرفة أبي» (2013)، وفي الرواية: «قلب مفتوح» (2009)، و«البيت الأزرق» (2017). وفي الترجمة: «الأمير الصغير» و«زيارة السيدة العجوز»(1984)، و»عشرون قصيدة من أجل حب» (1987)، و«جاك بريفير: خمسون قصيدة» (1997). وفي النقد: «محمود درويش: الطائر يقع على نفسه» (2006)، و«شعراء من العالم» (2010)، و»مدخل إلى رواية الحرب اللبنانية» (2012). وفي التحقيق: «ديوان الحلاج مع دراسة مطولة»(1998). ويصدر له قريبا ديوان جديد بعنوان «لاوجه في المرآة» عن دار المتوسط.
نقترب في هذا الحوار من عبده وازن الشاعر والروائي والناقد.
uv لنبدأ مع نص «غرفة أبي» الذي تقاطعت فيه سيرة عبده وزان مع سيرة الأب المجهولة لتنتفي معهما الحدود بين صورتي الكاتب والأب. كيف تفهم كتابة السيرة الذاتية؟
– لطالما احببت كتب السيرة الذاتية ولطالما اقبلت على قراءتها. كتاب «الايام» لطه حسين هو من اكثر الكتب السردية التي احبها، اضافة طبعا الى رواية «دعاء الكروان» التي تجلت فيها لغته البديعة. قرأت بمتعة كبيرة كتاب «الكلمات» لجان بول سارتر و«طفولة» لناتالي ساروت هذه الكاتبة الفرنسية الرائعة. وسواها طبعا وأحدثها سيرة الروائي الاميركي الكبير بول اوستر وعنوانها غريب»4321». بعدما اجريت عملية القلب المفتوح وبعدما تعافيت قلت سأكتب عن هذه التجربة. لم يلبني الشعر فوجدت نفسي اكتب نصا وجدته يتجه تلقائيا نحو سيرتي الذاتية. كتبت عن تجربة العملية الجراحية والمستشفى ورحت استعيد معالم من طفولتي وماضيّ. فإذا الكتاب نص من السرد السسيري او السرد الشخصي او اتوفيكسيون كما يقال بالفرنسية. اعجبني هذا النوع اوالصنف من الكتابة وقررت خوض غماره اكثر فأكثر. كتبت «غرفة أبي» وهو رواية سير-ذاتية بامتياز. انطلقت من فكرة انني اصبحت اكبر من ابي الذي توفي شابا، وهنا كان التحدي: ان اكتب عن اب اجهله تقريبا وقد اصبحت اكبر منه. ولم يكن البحث عن سيرة ابي الا بحثا عن سيرتي انا، الأب غاب باكرا ولم يترك الا شذرات حياة وذكريات. حتى صدقاؤه باتوا قلة قليلة. هكذا تقاطعت سيرتي بسيرته. لا سيرة للأب بعيدا عن سيرة الابن. كتبت عن مكانه وعن زمانه الذي اعتبره اجمل الازمان لأنه تحديدا زمن الأب. الا انني منذ ان بدأت كتابة سيرتي قررت الا اكتب سيرة ذاتية تقليدية اي بحسب «ميثاق السيرة الذاتية» وهي مقولة شهيرة للناقد الفرنسي فيليب لوجون، خنت هذا الميثاق، ولم التزم المعايير الكلاسيكية لمفهوم السيرة الذاتية بل جعلتها سيرة لي ولأبي وللمكان على تعدده وللزمن. اي انني كسرت الاطار المحدد للسيرة الذاتية وانطلقت نحو رواية سير- ذاتية. والآن اكتب كتابا يضم سيرتي الذاتية من خلال سيرة امي. والنص الروائي هذا سيكون جزءا من السلسلة السير- ذاتية.
uv تقول في مقطع من «غرفة ابي»: «سيظل يمشي ويمشي ولن يجد بيروت. حتى نحن يا أبي نمشي ونمشي ولا نجد بيروت». هل وجدت بيروت التي تحبها؟ وما علاقتك ببيروت الذاكرة؟ وكيف أثرت في تخييلك الشعري والسردي؟ وهل أنصفتك حقا؟
– في «غرفة ابي» استرجع بيروت التي عرفها ابي وأقارن بينها وبين بيروت التي اعرفها انا. كان أبي وأمي يلتقطان الصور التذكارية تحت تمثال الشهداء في ساحة البرج. احببت كثيرا هذه الصور التي تمثل بيروت الجميلة او الحقيقية. اما بيروت التي اعرفها وعرفتها فلم تكن سوى نسخة مشوهة عن بيروت الاولى. لقد دمروا ذاكرة المنطقة تلك، ذاكرة قلب بيروت. عندما قرروا اعادة بنائها المزعوم راحت الجرافات تقتلع معالمها الجميلة والفريدة. لم يتركوا سوى القليل من الذكريات. لم يعد قلب بيروت مقصد الناس، اصبح مشروعا عقاريا تجاريا. لم يتركوا ساحة ولا مكتبة ولا مسرحا ولا سوقا شعبية… حولوا بيروت الى مدينة عصرية اي مصطنعة وغير حقيقية. لم تعد بيروت هي بيروت الأب، اصبحت بيروت مدينة بلا قلب ولا ماض ولا ناس. اصلا اعتبر ان لا علاقة لي ببيروت هذه. انا اصلا لست بيروتيا انا من ابناء الضواحي التي احبها كثيرا. رمز بيروت سقط مثلما سقط رمز لبنان اصلا. فكرة لبنان كانت فكرة جميلة لكن الواقع كان اقسى منها فدمرها. فكرة لبنان الذي يمثل فسيفساء الاديان والافكاروالتعدد لم تنجح. هذا البلد الذي يضم سبع عشرة طائفة والذي كان يعد وطن الحوار والانفتاح والتعدد والحرية والديمقراطية والذي كان يلجأ اليه المضطهدون لم يستطع ان يقاوم الحروب التي هدفت الى الغائه. لم يستطع لبنان ان يستفيد من هذا التعدد الثقافي والديني والفكري الذي يتفرد به . لقد اصابت الطائفية منه مقتلا. ولا خلاص له الا عبر الخروج من الحال الطائفية التي تثقل كاهله وترهقه وتفتت كيانه.
uv لأنك عبده وازن صاحب «قلب مفتوح» نحب أن نشاطرك فكرة يجدها القارئ حاضرة في نصوصك، وهي إقامتك في برج «الأفق المفتوح» ليس على مستوى التجنيس وحسب، بل حتى على مستوى إمكانات الانفتاح على تجربة حياتية ووجودية، شعرية ونثرية او سردية يتم دمجها بوعي جمالي خاص في طبقات النص وما يرتبط بها من فنون اخرى. ماذا عن هذا الافق المفتوح في الكتابة لديك ؟ لماذا تصر على إرباك القارئ والناقد في تجنيس أعمالك؟
– صحيح انني لا استكين على نوع او صنف. بدأت شاعرا وسأظل شاعرا والشعر كان وسيظل هو منطلقي الى الكتابة المتعددة الهويات. لكنني اضافة الى كوني شاعرا كنت مولعا بالنثر على اختلافه. كنت اقرأ الروايات مثلما اقرأ الدواوين وكذلك الكتب النثرية او ما يسمى النثر الجمالي. واعتقد ان اكثر ما اثر بي هو الكاتب ابراهيم اليازجي الذي عاش في عصر النهضة وتحديدا في ترجمته البديعة والساحرة للكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد. في هذه الترجمة العربية الرائعة بلغ اليازجي ذروة الابداع في اللغة العربية. قرأت عيون النثر العربي مع الجاحظ وابن المقفع ثم مع احمد فارس الشدياق وصولا الى امين نخلة والأدب المعاصر. في الوقت نفسه انكببت على قراءة الشعر العربي القديم والنهضوي خصوصا والحديث وقرأت الشعر الفرنسي والعالمي بالفرنسية والعربية. اضافة الى الروايات والقصص والنصوص الميتولوجية والصوفية. وجدت نفسي مشدودا الى كتابة الشعر والنثر معا. حتى الشعر الذي كتبته وأكتبه سعيت عبره الى التعرف الى آفاق جديدة وغير مطروقة وحاولت الابعاد عن النمذجة التي تحكم الشعر التفعيلي وكأنه هو الشعر. طبعا كانت قصيدة النثر فضاء واسعا ومفتوحا امامي كما امام الشعراء الذين سبقوني او جايلوني او شعراء الاجيال الجديدة والشابة. لكنني في كتابتي قصيدة النثر لم اتخل عن النفس الغنائي المشرع على الاعماق الداخلية او على حركات الروح كما يعبر بودلير. حتى في القصيدة المختصرة والمكثفة وفي القصيدة الشذرة حافظت على نفس داخلي وعلى ايقاعات صامتة هي ايقاعات الذات واللغة في آن واحد. كان الشعر هو حافزي على كتابة نصين مفتوحين الاول هو «العين والهواء» وهو نص وحشي يحفر في اللغة ليجعلها لغة الموت لأنه كتاب عن الموت وقد اعجب به الشاعر انسي الحاج كثيرا وكتب عنه كلمة رائعة، اما الثاني فهو «حديقة الحواس» وهو نص مفتوح عن الموت والجسد على ضوء التجربة الاروسية الوجودية والفلسفية. بعد هذين النصين الشعريين –النثريين بدأت كتابة السيرة الذاتية من غير ان أتوقف لحظة عن الشعر الذي هو مرجعي الأول والأخير. وخضت ايضا غمار الرواية فكتبت «البيت الازرق» التي هي رواية صرف وقائمة على الفن الروائية والتقنيات السردية. وقريبا يصدر لي ديوان جديد عنوانه «لا وجه في المرآة» وحاليا انني غارق في كتابة رواية جديدة . هذه هي معالم الأفق المفتوح الذي سألتني عنه وقد اضيف اليه مقالاتي النقدية والتعليقات التي اكتبها دوريا في الصحافة. فانا ناقد ايضا وصحفي . في هذا الافق المفتوح امارس الكتابة بحرية وكما تفرض علي التجارب التي اعيشها او اعبرها. كل تجربة تفترض لغتها واسلوبها ونوعها. وعلى رغم ايماني الشديد والنهائي بالشعر اعتبر ان هناك قضايا شائكة جدا تواجهنا لا يستطيع الشعر ان يعبر عنها او ان يحيط بها لأن الشعر هو الشفافية بعينها .كيف نكتب مآسي العصر وكوارثه الفظيعة وجنونه وخرابه؟ هنا يأتي النثر او السرد ليجاريا الشعر والقصيدة.
uv ألا تخيفك تجربة الموت بعد عملية «القلب المفتوح»؟ وهل ساعدتك الكتابة على بناء الجسد الروائي في هذا العمل تحديدا؟
– طبعا تجربة الموت تخيف. الجميع يخاف الموت مهما تحدثوا عن مواجهته او فلسفوه. الكلام عن الموت شيء وعيش التجربة شيء آخر. حتى المسيح خاطب اباه السماوي وهو على الصليب طالبا منه ان يجيز عنه الكأس. ولا اعتقد ان سقراط لحظة تجرعه السم لم يعش رهبة تلك اللحظة القدرية. كانت فعلا تجربة صعبة ولم تكن كتابتي لها في «قلب مفتوح» الا محاولة لتخطيها. اما الجسد هنا فلم يكن الا جسدي بعذابه وبالجروح التي تركتها العملية الجراحية. وكم كان مصيبا رولان بارت عندما اشار الى ان الجسد يملك نفسه وانه قائم بذاته. فعلا شعرت انني كنت اتحاور مع جسدي بصفته ذاتا وليس جسدا فحسب.
uv تعود في رواية «البيت الأزرق» الى الجسد ايضا لكنه هنا جسد بطل الرواية الذي يدعى بول او جسد الشاب السجين المتحول الذي كان ذكرا وأنثى في وقت واحد؟
– الجسد هاجس اذا صحت هذه الكلمة في كتابتي. حتى «حديقة الحواس» كان كتاب الجسد، الجسد الانثوي، الحسي والروحي. في «البيت الازرق» ينتهي الأمر بالبطل بول جسدا محمولا على اكتاف المسعفين، اما الشاب الاخر المتحول جنسيا فكان يعيش طوال الوقت ازمته الجسدية المتمثلة في فقدان هويته الجنسية، فلا هو ذكر ولا هو انثى. وقد تطرقت لمشكلة الهوية الجنسية الضائعة بعمق واحساس وجودي.
uv يلمس قارئ رواية «البيت الأزرق» إمكانات سردية مهمة على مستوى تحبيك النص خصوصا وقدرة الروائي على الجمع بين المتنافرات، بين التراجيدي والوقائعي والبوليسي. هل هي تقنية تسعى نحو التجريب أم انها طبيعة التجربة السردية التي فرضت هذا التنويع بما يقتضيه من تعدد في الأسلبة وهو ما نجحت فيه على مستوى قوة حضور الشخصيات في الفضاء الروائي؟
– في رواية «البيت الازرق» حاولت ان اتخلى عن الشاعر الذي يكمن فيّ واتجهت نحو العمل السردي القائم على التقنيات وعلى اختبار اللعبة الاسلوبية. اعتمدتم التحقيق البوليسي انطلاقا من جريمة قتل وقعت وكان ضحيتها شاب بريء هو احد ابطال الرواية. هذا التحقيق فتح نوافذ عدة داخل الرواية او الصنيع الروائي وافترض خلق شخصيات عدة. والطريف ان الشخص الذي تولى التحقيق في الجريمة هو روائي بدوره، اما الشاب الذي اتهم بارتكاب الجريمة وهو براء منها فيكتب داخل السجن ما يشبه المذكرات التي تقع بين يدي الروائي نفسه الذي يقوم بالتحقيق مؤمنا جدا ان هذا الشاب بريء. هنا تتعقد اللعبة ويدور نصفها خارج السجن والنصف الاخر داخل السجن من خلال المذكرات التي طلب من الروائي – الراوي ان يعيد كتابتها لتصبح صالحة للطباعة. وخلال التتحقيق ووقائع المذكرات تبرز شخصيات كثيرة وقصص حب ووقائع منها مايتعلق بالراوي ومنها ما يتعلق بالسجين البريء. عالم الخراج يقابله عالم السجن بما يحوي من قصص واشخاص غريبي الطباع. هذه هي اللعبة التي اعتمدتها وهي تطلبت مني جهدا لأن عناصرها متشابكة ومعقدة التشابك.
uv لماذا «البيت الأزرق» ونحن نعرف دلالات هذا اللون وجنوح تعبيراته نحو التأمل والهدوء والطمأنينة؟
– انها مجرد صدفة حقا. خلال بحثي عن السجن الشهير في لبنان وهو سجن رومية الذي يشهد حينا بعد حين مواجهات واضرابات اكتشفت ان هناك داخل مجمع السجن الكبير سجنا صغيرا سمي «البيت الازرق» وجدرانه زرقاء فعلا. والطريف انه مخصص للسجناء المساكين الذين يسمون مجانين وهم ليسوا سوى مرضى نفسيين يعانون كثيرا ولا يجدون الرعاية الطب- نفسانية الواجبة. معظم هؤلاء يموتون داخل السجن لأن النظام يقضي بعدم اخراجهم الا بعد التأكد من انهم شفوا من مرضهم النفسي. يعيش بطل الرواية فترة في هذا السجن الذي لا علاقة له بما يسمى مصحا عقليا وينقل اجواءه في مذكراته ويكتب عن المرضى الذين يقبعون فيه.
uv لماذا تعتمد النهايات المفتوحة في رواياتك؟
-لأنني اؤمن ان ليس هناك من خاتمة واحدة تستطيع ان تعبر من مسار الرواية والشخصيات، لذلك اترك هذه الشخصيات لقدرها. أحب النهايات المفتوحة تلك التي تطل على المجهول. مثلا بطلا روايتي «البيت الازرق» لم تعرف لهما نهاية مع ان البطل الثاني وهو بول اقدم على الموت بالاضراب عن الطعام داخل السجن لكن نهايته ظلت عرضة للتأويل، مات هو لكن قضيته لم تنته او لم تغلق. انها مثل قدره نفسه. اما البطل الاول او الراوي فهو لم يصل الى اي نتيجة ولم يحقق اي هدف.
uv يحضر الانتحار بشدة سواء في شعرك ام في رواياتك. كتبت قصائد عن اوفيليا المنتحرة وعن اصدقائك المنتحرين كما كتبت عن شخصيات اقدمت على الانتحار. وفي نصوصك السير- ذاتية كتبت عن فشلك في الانتحار. ما سر هذا الهاجس لديك؟
– الجواب على هذا السؤال يؤلمني. عشت مرتين تجربة الانتحار لكنني كل مرة كنت افتح الباب وامشي حتى اتخلص من الفكرة الرهيبة. اعتقد ان حالات الاكتئاب التي عشتها كانت دوما وراء هذا الهاجس. لكنني انسان مؤمن ولكن غير متدين وارى ان الايمان مسألة شخصية وفردية. في هذا المعنى انني لا انتمي الى جماعة، الايمان مسألة خاصة لدي. واعتقد ان هذا الايمان هو الذي كان يحول دوما دون اقدامي على الانتحار. اؤمن بالروح واعمالها والشعر والفن هما طريقي الى الماوراء الذي هو الله كما افهمه انا. ثم ان الانتحار هو كما يقول الشاعر الالماني نوفالس والكاتب الفرنسي البير كامو مسألة فلسفية بل هو اكثر المسائل الفلسفية اشكالاً. ماذا يعني فعلا ان نقدم على الانتحار؟ هذا سؤال لا جواب نهائيا او قاطعا له.
uv يدخلنا ديوانك «الأيام ليست لنودعها» في جدلية الزمن النوستالجي والرغبة في استعادة ما تلاشى في الذاكرة، والإقامة في العزلة باعتبارها قوة في رصد التجربة الوجودية. ماذا تعنيك الإقامة في جماليات قصيدة النثر؟ وهل تصر على هدم كل التوابث التي ما يزال النقد يرددها؟
– لم اكتب سوى قصيدة النثر. فقط في الصفوف الثانوية والجامعية اضطررت الى نظم بعض القصائد العمودية طلبا من الاساتذة الذين كانوا يدرسوننا مادة العروض. لكنّ هذا لا يعني انني لا احب الشعر العروضي او التفعيلي. لقد قرأت الكثير من عيون الشعر القديم او الكلاسيكي وتوقفت مطولا عند الشعر النهضوي في مراحله كافة وكتبت عن شعراء نهضويين كثر مثل احمد شوقي وخليل مطران والياس ابو شبكة وفوزي المعلوف وسواهم. لكنني حاولت تحاشي الوقوع في نمطية القصيدة العمودية وكذلك القصيدة التفعيلية وهاتان القصيدتان استنفدتا حقا ايقاعاتهما وتراكيبهما ونظامهما الموسيقي والاسلوبي. نادرون هم الشعراء العموديون او التفعيليون الذين يستطيعون ان يجددوا في بنية هاتين القصيدتين وان يخلقوا مناخا جديدا. معظم ما يكتب من هذين النوعين هو استرجاعي واستعادي على كافة المستويات. قصيدة النثر لا يمكن استنفادها بتاتا، انها فضاء مفتوح على التجارب والمصادفات والايقاعات الداخلية والموسيقية وعلى الصور والتعابير. انها تظل غابة عذراء ولا يمكن اكتشافها كلها واكتشاف مساحاتها. انني اكتب ايضا ما اسميه الشعر الحر الذي هو من طبيعة قصيدة النثر. انه الشعر الذي وقع خطأ عربي نقدي في فهمه وتحديده اذ اعتبر الشعر التفعيلي شعرا حرا وهذا خطأ ارتكبه بعض رواد القصيدة التفعيلية وفي مقدمهم نازك الملائكة. الشعر الحر هو شعر النثر اما الشعر التفعيلي فهو شعر العروض الحديث او المتطور.
uv تقول في قصيدة «امرأة»: «امرأة لا يليق بها إلا أن أخبئها في كتاب لئلا يبصرها أحد من الملائكة أو الجنود»، والملاحظ أنك تجعل المرأة في مكانة المقدس. هل يعني هذا أنك تنتصر للأنثوي في مقابل هيمنة الذكوري؟ أم أنها استعارة لهشاشة هذا الكائن في عين الشاعر؟
– للمرأة موقع اساسي سواء في حياتي ام في كتابتي. العالم بلا امرأة جحيم. جمال المرأة هو الأرقى، جمال صارخ وأليم وحارق. وجه امرأة جميلة يختصر كل مفاهيم الجمال، كل فلسفة الجمال، لأنه ينفذ الى اعماق الروح ويخاطب الحواس. كذلك جسد المرأة بناره وثلجه. لن اكون تقليديا واقول المرأة اأم والأخت والزوجة ووو…. بل اقول المرأة التي يلفحها نسيم الفردوس وتؤججها نار الحب والرغبة، المرأة التي تبدو كأنها البداية والنهاية، الحياة والموت، الاحتراق والحبور.
uv كيف تقيم تجربة كتابة المرأة في الأدب اللبناني؟ ماذا عن الجيل الجديد من الكاتبات وكتابتهن؟
– لم افرق يوما بين كتابة الرجل وكتابة المرأة. بل احاول دوما الا انتبه الى هذا الفرق بين الكتابتين. الكتابة كتابة ولا يهمني من يكتبها، ذكر ام انثى ام شخص متحول جنسيا فلا هو بذكر ولا انثى. ولعل الكتابة الحقيقية هي التي تدمج بين الذكورة والانوثة. في الرجل أثر انثوي راقد وفي المرأة اثر ذكوري راقد ايضا. والكتابة لا تكتمل الا اذا ايقظت هذه الآثار او الأحاسيس الداخلية. قالت الروائية الفرنسية ناتالي ساروت: عندما اكتب لا اكون امرأة ولا رجلا بل انسانا يكتب. وقال الروائي فلوبير: انا مدام بوفاري. لا كتابة ذكورية ولا انثوية. هناك كتابة ولكن طبعا هناك حساسيات ومقاربات تختلف بين انسان وانسان، بين رجل وامراة، بين شاب وعجوز. لدينا في لبنان روائيات وشاعرات مهمات جدا مثلما لدينا روائيون وشعراء مهمون. أحيانا يغلب عدد الرجال أحيانا عدد النساء. ليلى بعلبكي وحنان الشيخ وعلوية صبح ونجوى بركات وهدى بركات وهدى النعماني وسواهن ممن لا تحضرني اسماؤهن. لم اقرأهن مرة بصفتهن نساء يكتبن بل بإبداعهن. اما بالنسبة الى الجيل الجديد فهناك اسماء واعدة جدا مثلهن مثل الشباب زملائهن.
uv يحس القارئ وهو يرتاد معك منطقة الأحلام في كتابك «غيمة أربطها بخيط» بعالم من القصائد والأقاصيص والأصوات والاطياف والتخيلات وكلها تتناثر في فوضاها الطبيعية داخل العمل الشعري الذي جاء وفق قصيدة الكتلة بعيدا عن الانواع او الاجناس الادبية المعروفة. ماذا عن هذا الكتاب الغريب؟ هل تعده مجموعة قصصية ام مجموعة قصائد نثر؟
– حيرني هذا الكتاب عندما اعددته للنشر. اصلا لم اكتب نصوصه الا بوصفها احلاما. انه في هذا المنحى ينتمي الى ما يسمى كتابة حلمية او «اونيريكية» كما يقال بالفرنسية. كتبت احلامي، احلاما ابصرتها في الليل واحلاما نهارية او «ريفري». احيانا كنت انطلق من صورة ابصرها في نومي او طيف او وقيعة فأطورها حتى اجعل منها نصا. احيانا تميل نصوص الكتاب الى أن تكون قصائد واحيانا الى ان تكون قصصا حلمية التي كان اندريه بروتون الشاعر السوريالي الكبير يصنفها في اطار القصيدة السوريالية. كتب الشاعر الصديق امجد ناصر عن الكتاب واعتبر نصوصه قصائد نثر. بعض النقاد اعتبروه قصصا حلميا. واعترف انني اعتمدت في كتابة النصوص تقنيات الكتابة الحلمية متكئا على نظريات فرويد ثم نظريات يونغ العالم الكبير الذي اقرأه دوما واعتبره واحدا من اساتذتي. وقد ارفقت النصوص بدراسة عن مفهوم الاحلام كما وردت في التراث العربي والعالمي وفي كتابات علماء النفس ثم وفق تجربتي الخاصة ونظرتي اليها او عيشي لها. انا انسان يحلم كثيرا، اقصد يبصر احلاما ما ان يغمض عينيه ولا ادري سر هذا الابصار الحلمي لدي.
uv ما هي هذه «الغيمة» التي ربطتها بخيط؟
– حلمت مرة انني اكتب قصيدة ولما استيقظت للفور تذكرت منها هذه الجملة «غيمة اربطها بخيط»، نهضت من السرير ودونتها للحين كي لا انساها. ثم اخترتها عنوانا للكتاب فهي الجملة الوحيدة التي بقيت من تلك القصيدة. ماهي الغيمة؟ هل هي القصيدة؟ هل هي فكرة عابرة؟ طيف لصورة عابرة؟ لا ادري..
حاورته: ليندا نصار *