نادين سنو – أكاديمية ومترجمة من جامعة فرجينيا
ترجمة: عائشة الفلاحي – مترجمة عُمانية
وُلدتُ وترعرعتُ في بيروت أثناء الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990). وغادرتها في عام 2001 إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمواصلة تعليمي العالي واستتبع ذلك عملي في المجال الأكاديمي هناك، الأمر الذي قادني إلى تقسيم وقتي وقلبي بين البلدين. ولطالما هيمنت على ذكرياتي البصرية عن بيروت صور شوارعها؛ بجدرانها التي ثقبها الرصاص ومبانيها المهدمة وملصقات الزعماء السياسيين الأحياء منهم والأموات، وشعارات الميليشيات المختلفة. ارتبطت شوارع بيروت في مخيلتي بالميليشيات والبلطجية والفتية الذين يعملون كحراس لأحيائهم، مثلي في ذلك كمثل الكثيرين من أبناء جيلي. في حين لم نكن نحن المهرولين عبر الشوارع الخطرة والقذرة للانتقال من مكان إلى آخر سوى عابرين. وحتى بعد انقضاء الحرب، لم تنفك شعارات الميليشيات والرسومات الطائفية المهينة عن احتكار المشهد الحضري، لتذكير سكان بيروت وزائريها بصلابة الطائفية وهشاشة السلام والتعايش فيها.
إلا أنه بمرور السنين، وخصوصًا في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدا أن ظاهرة جديدة كانت تتشكل، فأثناء زيارتي للبنان، بدأت ألاحظ أنواعًا غير مسبوقة من فن الجرافيتي: شعارات ملونة تحمل أسماء فرق رسامي الجرافيتي، وجداريات تحمل تعليقات اجتماعية ذكية، ورسومات فنية متقنة تكرم الفنانين اللبنانيين وغيرهم من الفنانين العرب.
استوقفتني تلك المشاهد غير المتوقع رؤيتها هناك، كتلك التي تصور المغنية اللبنانية المحبوبة فيروز والشاعر الفلسطيني الشهير محمود درويش، أو تلك الساخرة المناهضة للحرب ببراعة، ودفعتني للتسكع في شوارع المدينة مشدوهة بجمالها الفني ومستغرقةً فيه. شعرت بعلاقة جديدة تتخلق بيني وبين بيروت لحظتها، وأغوتني جداريات شوارعها الجرافيتية بالتنزه والتجول بحثًا عن المزيد من الأعمال الفنية. متسائلةً عما أو ماذا قد ينتظرني في الشارع التالي أو في الزقاق المخفي؟ لم أكن في عجلة من أمري. بيد أنه، سرعان ما اتضح لي أن هذه الرسومات الجرافيتية الفنية الجديدة لم تحل محل الأنواع الأخرى من الرسومات الجرافيتية والرموز البصرية على جدران المدينة. بل إن الجداريات الفنية كانت تقف جنبًا إلى جنب مع، أو فوق، أو تحت شعارات حزبية، وملصقات سياسية، وخربشات عابرة عن الحب القديم أو الجديد، وشخبطات مجهولة تعبر عن الإحباط من الحكومة. بعبارة أخرى، كان المشهد الحضري مُتنافسًا بين ممثلين قدامى وجدد يتنافسون على إعادة إنتاج الفضاء بصريًا، واجتمع فيه الجميع؛ رسامو الجرافيتي الحزبيون، والرسامون العابرون، والمواطنون المحبطون، وفنانو الشوارع المحليون والعالميون. ولم تعد الميليشيات وأتباعها وحسب من يراقب فضاء المدينة ويصمم جدرانها.
لم تكن تلك الجدران متعددة الأصوات تثير اهتمامي الشخصي وحسب، وإنما كان الباحث الأدبي بداخلي يتوق إلى دراستها عن كثب بالمثل، فهي وإن كانت نصوصًا غير رسمية، غير أنها صادقة في تسجيلها لهموم ومخاوف وطموحات سكان بيروت ما بعد الحرب، كما رأتها عيون رسامي الجرافيتي. كنت أتوق لتوثيق ودراسة تلك الآثار البصرية، التي غالبًا ما كانت تنخرط في حوار مع بعضها البعض وكذلك مع الأحداث الخارجة عن المألوف والسرديات الثقافية سواءً بشكل صريح أو عبر التلميح والمحاكاة. أردت معرفة المزيد عن مدينتي وتحوّلاتها والمجهولين وراء هذه الثقافة البصرية الجديدة متعددة الأشكال. وإذ أسرتني تلك الكتابات والصور على الجدران، كان لزامًا عليّ توثيقها قبل أن تختفي.
تصوير جدران المدينة
تجولنا أنا وزوجي في أحياء بيروت، مسلحين بكاميرا رقمية عالية الدقة غير ظاهرة، باحثين عن الجداريات الجرافيتية وفنون الشارع لأكثر من ثماني سنوات.1 وقد التقطنا آلاف الصور لجدران بيروت، عازمين على توثيق كل الجداريات الفنية البصرية التي صادفناها أثناء تصويرنا لجدران المدينة، بغض النظر عن رسالتها واشتمالها على الجمال من عدمه. مضت جولاتنا في أحياء المدينة المختلفة بسلاسة في أغلب الأحيان. كنا نتوقف لنتيقن من الرسومات الجرافيتية التي تلفت انتباهنا، فيما يواصل الناس من حولنا أعمالهم اليومية بلا تطفل. وفي بعض الأحيان، يوقفنا أفراد من الجيش اللبناني أو من الشرطة ليسألونا عن دوافعنا وانتماءاتنا. وفي الغالب يكتفون بإجابتنا بأننا نلتقط صورًا للمدينة لأغراض بحثي الأكاديمي. في الوقت نفسه، كنا نتلقى تعليمات متكررة بعدم التقاط صور في المناطق الخاضعة للمراقبة المكثفة والتي كانت تعتبر “مناطق أمنية” أو أهدافًا محتملة للتفجيرات. وفي الواقع، كانت قد وقعت ثلاث تفجيرات انتحارية في غضون أسبوع واحد من صيف عام 2014، أثناء أول رحلة عمل ميدانية رسمية لنا. حيث استولى تنظيم الدولة الإسلامية على مدينة الموصل العراقية في ذلك الصيف، فكان الجيش اللبناني في حالة تأهب قصوى بسبب المخاوف الأمنية وداهم العديد من الفنادق في منطقة الحمرا في بيروت، إذ كان مسلحو تنظيم الدولة الإسلامية يستعدون لإطلاق سلسلة من التفجيرات2. بيد أن تلك المخاوف الأمنية غدت بلا أدنى ريب ذريعة لعمليات الشرطة المشددة، وخاصة فيما يتعلق بالحماية.
ذات مرة، حين كان زوجي يلتقط صورة لجدارية تمثل نبيه بري (رئيس مجلس النواب اللبناني وزعيم حركة أمل)، اقترب رجل يرتدي ملابس مدنية منا وأمره بالتوقف عن التقاط الصور، ثم قطع على سيارتنا بدراجته النارية وبدأ في استجوابنا. وبعد أن طلب رؤية الصورة التي التقطها زوجي للتو، طلب منا تصريحًا. وحين فشلنا في تقديم التصريح، وبّخنا لأننا التقطنا الصور دون “إذن رسمي”. وبعد إجراء مكالمة هاتفية والتشاور مع مجموعة من الشباب الذين حضروا مسرعين إلى الموقع، أمرنا الرجل بمغادرة حي المزرعة على الفور.
وفي بعض المرات، كان التقاط الصور بصحبة صديقة أسهل من اصطحاب زوجي. فرغم أن رفقة زوجي جنبتني بعض الهتافات المزعجة بين الحين والآخر، إلا أنها عرضتنا للتدقيق بسبب مظهره الذي يشي بأجنبيته بوضوح. إذ كثيرًا ما يُشتبه في الأمريكيين الذين يتسكعون في شوارع بيروت على أنهم جواسيس أو عملاء لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أو حتى أعضاء في جماعات متطرفة سرية، وربما يعود ذلك جزئيًا إلى التاريخ المشين للتدخلات الأمريكية السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط. لذلك حين صرت ألتقط الصور بصحبة صديقتي روان، سهل علينا إقناع المُستجوبين، سواء أكانوا من الشرطة أو حراس الحي، بأنني مجرد أكاديمية مهووسة ولا أنوي الأذى. وفي بعض الأحيان، كان ضباط الشرطة يسمحون لروان بركن السيارة في أماكن غير قانونية كي يسهل علي التقاط الصور. إلا أنني، ورغم قضائي النصف الأول من حياتي بالكامل، وكل صيف تقريبًا، في لبنان، لم اعتد على التعامل مع مثل هذه “الإيماءات النبيلة” إلا بحذر دون استخفاف بالأوضاع الأمنية. فقد استلهمت حذري من تكتيكات رسامي الجداريات الجرافيتية، الذين التقيت ببعضهم شخصيًا وأوضحوا لي أهمية الحذر في التعامل مع السياسات المعقدة للشوارع والتعاون مع السلطات لتحقيق أهدافي.
وبغض النظر عن المشاعر النسوية، فأنا ممتنة للطف والمساعدة التي قدمها لي أولئك الرجال والتي ساعدتني في بحثي. كما أفدتُ من دراجة أخي النارية، حيث هيئت لنا الفرار من بعض الأماكن مثل مركز المدينة بعد التقاط صور للجداريات الجرافيتية المناهضة للحكومة، حالما نحسُّ بنظرات الريبة التي يلقيها علينا حراس الأمن وضباط الشرطة أو يتجهون نحونا للاستجواب (أو هكذا اعتقدت) بالأخص حينما كنت أوثق بعض الرسومات الجرافيتية التي ظهرت استجابة لأزمة القمامة في لبنان في عام 2016.
كنت أضطر للتردد على نفس المكان أكثر من مرة أحيانًا بعد أشهر أو سنوات من توثيقي الأول للرسومات الجرافيتية الموجودة فيه، حيث استطعت بالعودة لتصوير نفس المواقع معرفة أيٍ من تلك الجداريات الجرافيتية بقيت وأيها تعرضت للعبث أو التشويه وأيها أعيد نقشها مرة أخرى على جدران المدينة، فإن وجود بعض الجداريات واختفاءها وظهورها مجددًا يحكي الكثير عن السياسات المثيرة للجدل، والسيطرة الحكومية، والمشاركة المدنية في لبنان بعد الحرب.
بجانب توثيقي للجداريات حرصت على التحدث إلى العديد من فناني الجرافيتي، إما بمقابلتهم على أرض الواقع أو عبر برنامج سكايب، فتحدثت إلى أشكمان ويزن حلواني وعلي رافع وSiska وPhat2 وEpS. وكنت أسارع بزيارة أماكن عملهم أو منازلهم أو محلاتهم كلما سنحت لي الفرصة. وأشعر بالأسف للظروف القاهرة التي منعتني من لقاء بعض رسامي الجرافيتي الذين يشتمل كتابي على بعض أعمالهم، كما أدرك أنه من المستحيل حصر وتحليل كل ما ظهر من فن الجرافيتي وفن الشوارع في بيروت خلال السنوات العديدة الماضية، بيد أنني قد بذلت كل جهد ممكن لإدراج عينة متنوعة وممثلة إلى حد ما لتلك الفنون من حيث الأساليب والمواضيع والأطر الزمنية. وأنا على ثقة من أن الدراسات المستقبلية سوف تشمل أعمالًا أخرى لم أتناولها هنا. وقد آمنتُ بضرورة إعطاء الفنانين الذين تمكنت من التعرف عليهم والالتقاء بهم فرصة للتعبير عن أعمالهم ومناقشتها، مدركة أن تأويلاتي وتأويلات القرّاء لجدارياتهم وفنونهم قد تختلف عن رؤاهم الخاصة. وسأظل مدينة لأولئك الفنانين الذين أغنوا ببصيرتهم وطرق عيشهم للحياة -وليس إنتاجهم الثقافي وحسب- بحثي ومنحوني الأمل الذي كنت في أمس الحاجة إليه، وإن كانوا هم أنفسهم في كثير من الأحيان غير متيقنين مما يكتنف مستقبل البلاد.
الشارع لنا، إعادة تصور ثقافة بيروت البصرية
“كانت بيروت مصدر إلهامنا الرئيس في صغرنا، فقد كنا نذهب إلى المدرسة سيرًا على الأقدام، وكنا نصادف رسومات وشعارات الميليشيات في الشوارع. فكانت تلك أول تجربة لنا مع فن الجرافيتي. أحببت هذا النوع من الفن لأنه وسيلة للتعبير. وفي لبنان، إما أن تحمل سلاحًا وتطلق النار على الناس، وإما أن تعبر عن نفسك بطريقة أخرى”3.
عندما صادفتُ لأول مرة الجداريات الجرافيتية لفيروز وصباح وأسمهان في بيروت، غمرني شعور بالإعجاب بموهبة الفنانين الذين أبدعوها. وسرعان ما تحول إعجابي إلى شعور بالامتنان؛ فقد بذل مبدعو تلك الجداريات جهدًا ووقتًا هائلين لإنجازها، نبع امتناني من حقيقة أن تلك الجداريات استطاعت رسم البسمة على وجهي. وبصفتي أستاذة للغة العربية، شعرتُ بسعادة غامرة لوجود شباب يُقدّرون المطربين العرب لدرجة سعيهم للاحتفاء بهم وإحياء ذكرهم في الشوارع. أردتُ التقاط صور للجداريات لأُثبت للطلاب روعة الفن الموسيقي العربي، وأن العربية بحد ذاتها يمكن ربطها بنساء موهوبات خالدات، وبفنانين جدد عصريين. لقد دلفت إلى عالم جديد، عالم مختلف كل الاختلاف عن عالم بيروت التي عرفتها كطفلة. وبعد أن تحدثت إلى الفنانين وتحريت عن الموضوع أكثر، أدركتُ أن الجداريات مستوحاة من ذكريات وحكايات بيروت العائدة لسبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، تلك المدينة التي حُفرت شوارعها المُخيفة في ذاكرةِ طفولتي. وبينما واصلتُ تجولي في شوارع المدينة، أدركتُ أن وراء كل بقعة أثرية جميلة أصداءً لصدمات ماضي المدينة، ووعودًا قطعها أصحابها لذواتهم وللغير بمواجهة العنف المُتبقي من ثقافة الحرب البصرية. أدت الحرب الأهلية اللبنانية والنظام الطائفي السائد في البلاد دورًا رئيسًا في تحفيز فناني الجرافيتي على ابتكار أعمال فنية تُعيد تصوير المدينة بطرق تسعى إلى تغيير ثقافتها البصرية المستقطبة. ورغم التزامهم بخلق ثقافة بصرية وروح بديلة، استلهم فنانو الجرافيتي الشباب من التدخلات البصرية التي خلّفتها الحرب؛ وهي ذات الصور والرموز التي رغبوا في استبدالها. والأهم من ذلك، أن تلك الأعمال الفنية التي ابتدعوها بعد الحرب تستجيب بالمثل للرموز الطائفية والملصقات السياسية المعاصرة، وهي صور لا تنفك عن الظهور على جدران المدينة، لا سيما أثناء الانتخابات أو فترات الصراع.
وفي لبنان ما بعد الحرب، حتى عندما يُركز فنانو الجرافيتي على جماليات أعمالهم، وحتى عندما يتجنبون وصف فنهم بالسياسي، خوفًا من الارتباط بجماعات سياسية حزبية، فإن الأعمال الفنية التي يغرسونها وراءهم لا يمكن فصلها عن سياسة البلاد المنفلتة. كما تُجادل سابرينا دي تورك في مناقشتها لفن الشارع اللبناني، “حينما تظل في المدينة أحياء بأكملها، حتى الآن، بدون خدمات مدنية تعمل بكامل طاقتها، وحينما يُعدُّ بعض تلك الأحياء خطيرًا جدًا على الغرباء، لا يُمكن أبدًا استبعاد السياسة بالكامل من الخطاب العام، حتى، بل ولربما بالأخص، حين يُدير فن الشارع المُزعزع للاستقرار ذلك الخطاب4.
يُقدم هذا الفصل تحليلًا سياقيًا لجداريات ورسومات مُختارة رُسمت على جدران بيروت، لتوضيح الكيفية التي استخدم بها فنانو الجرافيتي فنهم كوسيلة لاستعادة الثقافة البصرية للمدينة وتغييرها. يتناول الفصل، من بين أمور أخرى، الأسئلة التالية: كيف سعى فنانو الجرافيتي إلى كسر هيمنة جرافيتيات زمن الحرب والطائفية في بيروت ما بعد الحرب؟ وكيف سعى بعض الفنانين إلى إحياء اللغة العربية في عالمنا المُعولم اليوم؟ وكيف خلّدُوا ذكرى أبطال الثقافة البديلة على أمل إزاحة -أو على الأقل- مشاركة الفضاء مع القادة السياسيين الذين احتلت ملصقاتهم وشعاراتهم المدينة لعقود من الزمن؟ كيف وَظَّف فنانو الجرافيتي فنهم كوسيلة لتعزيز الشعور بالانتماء المجتمعي في مواجهة التوترات الطائفية والفصل المكاني طويل الأمد؟ وما هي بعض تحديات الفنانين وتكتيكاتهم وانتصاراتهم في بيروت ما بعد الحرب، حيث لا يُعدُّ الجرافيتي فنًا غير قانوني في الواقع، ولكنه دائمًا ما يكون عرضة للتشويه على يد الجهات الحكومية وغير الحكومية؟ وقبل الخوض في هذه القضايا، من المهمّ النظر بإيجاز في تطور فن الجرافيتي في مدينة بيروت ما بعد الحرب، حين شرع المواطنون العاديون بالانخراط في ممارسات محلية بديلة لتصميم الأماكن.
من الوسوم المستوحاة من الغرب إلى فن الخط العربي (الكاليجرافيتي)
تتشابه الموجة الأولى من فن الجرافيتي غير الطائفي في بيروت ما بعد الحرب، إلى حد كبير مع الموجات الأولى لفن جرافيتي الهيب هوب وفن الشوارع في الغرب. استخدمت معظم الأعمال المبكرة لفناني الجرافيتي، (الذين كانوا يُلقَّبون بألقاب أجنبية مثل Fish وFrez وRek) اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ولم تكن لها صلة تُذكر باللغة العربية. يُفسر باسكال زغبي ذلك بأن الفنانين الأوروبيين لعبوا دورًا هامًا في تشكيل مشهد الجرافيتي المبكر في بيروت5. وقد بدأ تطور جرافيتي الهيب هوب في البيئة الحضرية لنيويورك في سبعينيات القرن الماضي. حيث كان فنانو الجرافيتي يضعون وسومًا تحدد مناطقهم باستخدامهم لألقاب مكتوبة بحروف منمقة6.
وقد ظهرت في بيروت، الكتابة على الجدران المستوحاة من تلك الفنون الغربية في مواقف السيارات المهجورة وتحت الجسور وفي الأماكن التي يصعب الوصول إليها وفي ثنايا البنية التحتية وغيرها من زوايا البنية التحتية المتداعية للمدينة. كانت هذه الجداريات تُضفي اندفاعات أمواجٍ مباغتة من الألوان تُعيد الحياة إلى جدران باهتة أو متضررة.
ومن بين فناني الجرافيتي اللبنانيين البارزين الذين بدأوا العمل بهذا الأسلوب، Phat2 (جورج خوري). وُلِد في عام 1989 في حي الأشرفية ببيروت، حيث نما لديه الشغف بالجرافيتي والتصميم الجرافيكي منذ سن مبكرة. وقد تأثر Phat2 بأعمال صانعي الجرافيتي في الولايات المتحدة ونيوزيلندا وأستراليا، بالإضافة إلى الفرق الجرافيتية اللبنانية الرائدة. ومع مرور الوقت، صقل أسلوبه الخاص، جامعًا بين الألوان الصاخبة والحروف المعقدة أثناء تجواله في المدينة، حيث كان يخط اسمه في أكثر الأماكن خطورة. فيظهر مثلًا وسم من عمل Phat2 يتضمن لقبه بحروف وردية جريئة، تزين سقف مبنى متهدم. ويُعد هذا الجرافيتي الوردي شهادة -ليس على محاولة الفنان تجميل مبنى مهجور ذا مظهر كئيب وحسب-، وإنما على جهده وتكتيكاته للتوغل إلى موقع مغلق؛ وليتفاخر بمهارته تلك نقش عبارة: “لا يمكنك الإمساك بي، لا يمكنك كبح جماحي، لا يمكنك إيقافي، ناهيك عن السيطرة عليّ” و”بالمثل، ثمة جدارية مرحة لفريق (ACK Another Crushing Kill، وهي فرقة كان Phat2 ينتمي إليها سابقًا) على جدار شرفة صغيرة لمبنى تاريخي في الأشرفية (الشكل 1).
تُظهر هذه الجدارية الجرافيتية المهارات الفنية والحركية للفرقة وقدرتهم على التنقل حتى في الأماكن الأكثر انكشافًا وخطورة. يستذكر Phat2 تسلقه للسلالم المكسورة ووقوفه على حافة ضيقة أثناء رسمه للجدارية التي يصعب الوصول إليها، وشعوره الغامر بالبهجة بعد انتهائه من العمل قائلًا: “بعد أن أكملت عملي، نزلت وتأملته، وكان حقًا يستحق. طالما هو ماثل7” تُردد كلمات Phat2 صدى تصور ميشيل دي سيرتو للتكتيكات كممارسات تعيد تشكيل “حقل المصائب” من خلال مزيج من “التلاعب والاستمتاع8.” توفر المباني المتضررة بالحرب في بيروت، التي لا تعد ولا تحصى، “حقل المصائب” الأمثل للفنانين الذين يسعون لتحسين تقنيات رسمهم وفي ذات الوقت تجميل المدينة.
على الرغم من إعجابهم بالجرافيتي الغربي الذي كان مصدر إلهامهم الأول والذي أسهم في تطوير مهارات الكتابة والرسم لديهم، انزاح العديد من فناني الشوارع اللبنانيين في نهاية المطاف عن تقليد الغرب. من خلال تجربة لغات ورموز واستعارات متعددة، وابتكارهم لأشكالٍ هجينة من فن الشارع تُبرز الطابع المحلي للمدينة عبر استلهام تراثها العربي اللبناني، دون رفض بالضرورة للتأثيرات الخارجية أو واقع بيروت المتأثر بالعولمة.
ولد محمد وعمر قباني (مواليد 1983)، التوأمان المعروفان باسم فرقة “أشكمان” باللهجة اللبنانية المحلية (والتي تعني “أنبوب العادم” أو “كاتم صوت السيارة”)، ونشآ وترعرعا خلال الحرب الأهلية اللبنانية. يرى الأخوَان أن الميليشيات والقنابل والجرافيتي الحربي أهم مصادر إلهامهما. كما تأثرا بلا شك بفناني الجرافيتي الغربيين، بمن فيهم بانكسي، شيبارد فيري، ومستر برين واش، بالإضافة إلى موسيقى الهيب هوب الغربية. وقد بدأ الأخوَان فرقة هيب هوب باللغة العربية في عام 2001، حيث غالبًا ما كانا يُقدمان أغاني تتناول قضايا العدالة الاجتماعية مثل الحرب والفساد والتفجيرات والهجمات الإرهابية. وفي عام 2007م، أطلقا خط ملابس خاصًا بهما وافتتحا متجرًا صغيرًا مستوحىً من فن الجرافيتي في الحمرا9.
ويعدُّ الأخوَان قباني من أوائل فناني الشوارع اللبنانيين الذين دمجوا الخط العربي لإنتاج جداريات “كاليجرافيتي” فريدة باللغة العربية. والكاليجرافيتي هو تكوين بصري هجين يجمع بين عناصر فن الخط وفن الجرافيتي، ويتميز بدمج التناقضات الظاهرية مثل السيطرة والفوضى، والحداثة والتقاليد، والنص والصورة. تجمع جداريات الكاليجرافيتي بين مجموعة متنوعة من العناصر، مثل الخط العربي، والوجوه، والتصاميم الهندسية، والنصوص الإسلامية10. ويُظهر أحد أعمال “أشكمان” صورًا مستوحاةً من فن الهيب هوب وُشِّجت بالخط العربي؛ يتمحور العمل حول تمثيل أنيق لاسم الفريق بأحرف عربية ملونة بألوان زاهية، مصحوبة بصورة صغيرة لكاتم صوت سيارة كرتونية على شكل جمجمة مبتسمة (الشكل 2). يتألف حاجب الجمجمة من علامة الشدة العربية، وهي إحدى العلامات المميزة لأشكمان.
وبالمثل، تحول فنان الشارع البارز يزن حلواني (مواليد 1993م) من كتابة اسمه بالإنجليزية في محاولة لتقليد “فناني نيويورك” إلى تعلم الخط العربي، وغدت أعماله تحتفي بالتراث العربي الإسلامي الذي يفتخر به11. تندرج جهود الفنانين الرامية لإدماج اللغة العربية في أعمالهم ضمن نقاشات ومبادرات أوسع تجري في العالم العربي حول تغير مكانة اللغة العربية في زمن العولمة المتسارع، والحاجة الماسة لإحيائها كي لا يفقد الشباب ارتباطهم بلغتهم وهويتهم وشعورهم بالانتماء. وكما ترى بسمة حمدي فإن “اللغة العربية لغة قوية ومعقدة، تحمل دلالة راسخة على الهوية الجماعية للشرق الأوسط… وكغيرها من اللغات، تُسهم اللغة العربية في بناء الرابطة المُتخيلة بين الأفراد، وتوحدهم رمزيًا مع مجتمع عابر للحدود والأمم”.ومن خلال توظيفهم المُتعمد للغة العربية، لا يُحيي الفنانون الشباب اللغة العربية فحسب، بل يُشجعون الشباب على الاحتفاء بتراثهم اللغوي وانتمائهم للعرب في جميع أنحاء العالم، و يكسرون احتكار القادة السياسيين للغة العربية، الذين استغلوها لتأكيد شرعيتهم وتفوقهم الديني. علاوة على ذلك، وكما تُشير حمدي، غالبًا ما ارتبطت اللغة العربية بالعنف والتطرف، لأن جماعات مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) حاولت الاستيلاء عليها، وقالت حمدي: “يُعد الخط العربي عنصرًا طبيعيًا في آلة الدعاية للدولة الإسلامية، مما أدى إلى خلق ارتباط لا واعٍ بين العربية والتطرف الإسلامي. ويساهم هذا الارتباط في تزايد الحوادث العدائية تجاه العربية المحكية والمكتوبة في الغرب. وبما أن العربية هي لغة الإسلام، وبما أن الدولة الإسلامية تعلن الإسلام كمبدأ إرشادي لها، فإن الارتباط الحتمي بين العربية والعنف لا مفر منه.”
وبناءً على ذلك، سعى فنانو الجرافيتي لاستعادة سيادة العربية وإظهار أنها ملكٌ لمجموعة واسعة من المستخدمين، الذين يحملون اهتمامات اجتماعية وسياسية وفنية وأولويات وطموحات متباينة. وباستخدامهم المدروس للعربية في أعمالهم الفنية ومناقشة أهمية تبنيها علنًا، يُفند الفنانون الروايات التي تُصور العربية كلغة محتضرة لن تنجو من الهيمنة اللغوية للإنجليزية العالمية، وأنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأصولية والعنف، وأنها دونية مقارنة بلغات أخرى مثل الإنجليزية والفرنسية. إن إحياء وترويج الفنانين للعربية –كلغة عصرية وجميلة يجب احتضانها– يكمل جهودهم في تزيين الشوارع بطريقة تراعي الحساسية الثقافية، وتوحيد السكان عبر اللغة والتراث، وإحياء ذكرى الفنانين المحليين والإقليميين، ولا سيما المغنين والشعراء الذين يكتبون أو يغنون بالعربية.
احتضان المدينة المنكوبة وتعزيز الوحدة
مع تزايد تخلي فناني الشوارع في بيروت عن كتابة أسمائهم بالإنجليزية، بدأ الكثير منهم في استحضار روح بيروت نفسها، غالبًا، كرمز للوحدة ومناهضةً للطائفية. تصبح العاصمة، في رؤية هؤلاء الفنانين، مسرحًا يستطيع فيه المواطن التعبير عن خطاب معاكس للدعاية الطائفية وتوحيد الجماهير عبر شعور عميق بالفخر والمسؤولية المدنية. ومن الأمثلة على ذلك، العمل التعاوني لفريقي “سيسكا” و”برايم” بعنوان “بيروت ما بتموت”، والذي يُعدّ حجر الزاوية في رسم هوية بيروت الفنية الجديدة (الشكل 3). في حين أن سيسكا (إيلي ألكسندر حبيب) فنان تشكيلي ومخرج أفلام لبنانية، فإن برايم (شارل فالو) مواطن فرنسي أمضى وقتًا مع فناني الجرافيتي اللبنانيين في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث عملوا على إنشاء جداريات تعاونية وتبادل تقنيات الرسم.
بهذا الأسلوب الراقي، يُعيد فنانو الشوارع إلى الواجهة حكاية مدينة تحمل جراح الماضي وتطمح إلى مستقبلٍ يتوحد فيه الحاضر مع الذاكرة، في رحلة نحو إعادة تعريف الهوية الثقافية والفنية لمدينة بيروت.
إحياء ذكرى الرموز الثقافية
لم تترك الحرب الأهلية اللبنانية بصماتها على أجساد ونفسيات الشعب اللبناني وحسب، بل وعلى المشهد البصري والأخلاق الثقافية لبيروت. وأثناء الحرب، ولسنوات طويلة بعد توقف الصراع المسلح، عجّت جدران المدينة بالملصقات السياسية والشعارات الطائفية وشعارات الميليشيات المختلفة التي تقاتلت للسيطرة على شوارع بيروت، فعليًا ورمزيًا.
تشير زينة معاصري في تحليلها للملصقات السياسية في زمن الحرب، إلى أن أكثر من ثلث الملصقات التي جمعتها عن الحرب الأهلية اللبنانية كانت مخصصة حصريًا لـ”تبجيل الزعماء”. وتؤكد أن شخصية الزعيم (القائد الطائفي) غالبًا ما “تضخمت إلى بطل أسطوري، [مدافع] عن مجتمعه ومصالحه الطائفية”، وأن الملصقات السياسية كانت بمثابة المركبات التي يدخل بها الزعماء الطائفيون “عالم الأسطورة، مُرَسِّخين بما تحمله صورهم من رموز لحظة أيديولوجية مجمدة. [سقطت] فيها المدينة والشارع والأنصار تحت يقظة عونهم”.
وما انتشار الملصقات التي تعرض صور الزعماء إلا دليل على أن الناس قد نُشِّئوا اجتماعيًا على الاعتقاد بأن الزعماء الطائفيين هم القدوات الوحيدة الجديرة بالتبجيل والاتباع. ولأن العديد من رسامي الجرافيتي كانوا يسعون إلى تحدي تلك العلامات البصرية الطائفية، فليس بالمستغرب أنهم سعوا إلى عرض نماذجهم الخاصة من إعلانات الزعامة. وذلك بعرض جداريات تحمل صورًا للمطربين والشعراء والصحفيين المرموقين، فأبرز فنانو الشوارع وأحيوا ذكرى العديد من الرموز الثقافية التي تتخذ أهميتها من مساهماتها الفكرية والفنية في المجتمع وليس إلى انتماءاتها الطائفية أو إنجازاتها السياسية. ومثلما قال رافائيل شاكتر، سعى أولئك الفنانون إلى “مخاطبة الجمهور بجدارياتهم” لإيمانهم بأن آثارهم الفنية “أكثر ملاءمة وأكثر اجتماعية من الغالبية العظمى للثقافة البصرية الموجودة في الشارع.” وعلى النقيض من الشعارات الحزبية الاستقطابية أو ملصقات الزعماء الطائفيين، سعت الجداريات الجرافيتية إلى خلق ثقافة بصرية بديلة تهدف إلى توليد الشعور بالفخر والمشاركة المدنية والانتماء الوطني المتجذر في الإنتاج الثقافي بدلًا من إبراز (وتأجيج) النزعات الطائفية.
ومن الشخصيات الثقافية التي سعى بعض فناني الجرافيتي إلى إبراز حضورها، الفنانة فيروز. فما حققته هذه الفنانة الموقرة من مكانة مرموقة في لبنان وفي مختلف أنحاء العالم العربي لا يعود لصوتها الذي لا يضاهى وحسب، وإنما حظيت بإعجاب اللبنانيين من جميع الأديان والطوائف والانتماءات السياسية؛ وكنَّ لها الكثير من اللبنانيين الاحترام لبقائها في وطنها أثناء الحرب، رغم امتلاكها كل وسائل الهجرة. وكما تقول زينة طراف، “وعلى الرغم من تواطؤ أغاني فيروز في صياغة أشكال متناقضة من القومية (تتمحور أحيانا حول الطابع المسيحي وأحيانًا أخرى حول الهوية العربية القومية الداعمة للقضية الفلسطينية بشدة)، إلا أنها تُصوَّرُ في الغالب “كقوة رمزية تتجاوز الحدود الضيقة للسياسة.” ولذلك حين أعلن ابنها ومديرها، زياد رحباني، في مقابلة معه، أن والدته كانت معجبة بحسن نصرالله، زعيم حزب الله، أثار ذلك غضب بعض اللبنانيين12 لأن فيروز حُسِبت دومًا شخصية عامة توحد اللبنانيين عبر الخطوط الطائفية، عوضًا عن الانخراط في السياسة الحزبية. فأعلن وليد جنبلاط زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي ردًا على ما قاله الرحباني، أن فيروز “أعظم من أن تُصنَّف بالانتساب إلى هذا المعسكر السياسي أو ذاك13، أو إلى هذا المحور أو ذاك. وزعمت زينة طرَّاف أن مثل هذه التعليقات “لا تكشف عن التقدير الذي تتمتع به فيروز في الساحة الرمزية اللبنانية وحسب، بل وأيضًا عن المخاوف التي تتجلى عندما تُنتزع فيروز من موقعها كقوة موحِّدة ويُنزل بها إلى حضيض الانقسام السياسي اللبناني”14. وإقرارًا بالعمل القيّم لكريستوفر ستون الذي يستكشف الطبيعة الغامضة لمشاعر الحنين التي تثيرها أغاني فيروز، تثبت زينة طرَّاف بشكل مقنع أن “الحنين المتردد صداه في موسيقى فيروز يخلق فضاءً يتجلى فيه الانتماء الوطني15″. وذاك الشعور بـ”الانتماء الوطني” هو ما يستدعيه فنانو الشوارع في بيروت ويعززونه في فنهم العام. حيث تعود شعبية فيروز في جانب منها، إلى أن موسيقاها باتت وسيلة للارتباط العاطفي الذي “يشير إلى أساليب الانتماء الوطني” التي تتشكل من خلال “الألفة كتجربة عاطفية أساسية لبنية الانتماء16”.
بلا ريب فإن أغاني فيروز منحت الشعب اللبناني مصدرًا للأمل في زمن الحرب، وأصبحت طقسًا من طقوس بيوتهم وتجمعاتهم ومناسباتهم. ومن أشهر الجداريات التي رسمت بالخط العربي الجداري، بورتريه حلواني لفيروز في الجميزة (الشكل 4). تُظهر هذه الجدارية صورة جانبية لفيروز. فاتحة فمها قليلًا، كأنها رُسمت أثناء غنائها. وتتناغم ألوان اللوحة المختارة بعناية، الأسود والرمادي والبيج، مع الطلاء الباهت للجدار ذي اللون السلموني. ويتَتَبَّع البورتريه بمهارة مسار الدرج المؤدي إلى الشارع.
كان لحلواني غرضٌ آخر عند رسم فيروز، إلى جانب إنشاء جدارية جذابة جماليًا تتكامل بتناغم مع محيطها. إذ أراد حلواني أن يكبر الأطفال وهم يرون صور القدوات الفنية تحيط بهم، لا الشخصيات السياسية. ويتباهى حلواني مبتهجًا بأنه “يزيل وجوه السياسيين” حتى يتمكن من خلق سطح أكثر سلاسة لرسم لوحاته18.
وبهذا، تمثل جدارية حلواني تدخلًا حرفيًا وخطابيًا في المشهد الحضري، حيث تبني خطابًا بديلًا حول الشخصيات التي تستحق أن تتخذ كقدوات. في الوقت ذاته، لم يكن هدف حلواني مجرد إثارة شعور بالفخر لدى الجمهور لكونهم جزءًا من الثقافة التي أنتجت فيروز. إنما استخدم مهاراته في الخط العربي لنقش عبارة توبيخية تغنَّى بها مغني الراب الفلسطيني تامر نفار، والتي تقول: “اخترع أجدادنا الصفر، فأصبح أحفادهم أصفارًا.” حيث تنوِّهُ كلمات نفار، (التي تستحضر العصر الذهبي الإسلامي وإسهامات علمائه في الرياضيات) إلى تدهور أوضاع الدول العربية على مدى العقود القليلة الماضية.
لذا تسعى الجدارية إلى رفع معنويات أهل بيروت وإنذارهم في الوقت ذاته، من مغبة الرضا الذاتي القائم على المذهبية. ويبدو أن الرسالة التي تقدمها جدارية فيروز الجرافيتية تتضمن إشارات الفنان إلى عناصر طوباوية وأخرى ديستوبية في الثقافة العربية. ومن خلال الإشارة إلى الانحدار الحالي للمجتمعات العربية وركون الشباب إلى الإعجاب بالنفس، يتجنب حلواني تقديم رسالة قد تُفسَّر على أنها حنين غير نقدي أو تفاؤل ساذج. تثير جداريات حلواني التأملية الذاتية مشاعر متباينة، إذ تبعث على البهجة والإحباط في آنٍ واحد. وتردد جداريته الملتبسة صدى تحليل سفيتلانا بويم العميق لمفهوم “الحنين التأملي”، وهو شكل من أشكال استرجاع الماضي بأسلوب لا يخلو من “سخرية” و”طرافة”، ما يُظهر أن الحنين للماضي لا يتعارض مع وجوب النظر له بعين النقد، إذ إن الانغماس في الذكريات العاطفية لا تعفي صاحبها من التعاطف أو الحكم أو التأمل النقدي19.
وتتضمن جداريات حلواني رسائل اجتماعية قوية تسعى لدعوة جمهورها إلى تخيل منظور بديل، لا تعليمي. حيث تتميز إحدى الجداريات الشهيرة بصورة ورقة نقدية من فئة 100.000 ليرة طبع عليها صورة الأديب جبران خليل جبران (1883-1931) وتظهره الجدارية غارقًا في التفكير (الشكل 5).
تجسد جدارية حلواني أعلاه تصور إدوارد سوجا لـ”الفضاء الثالث” باعتباره موقعًا “حقيقيًا ومتخيلًا” حيث يجتمع “المتكرر والمختلف” و”المعلوم وغير المتصور” معًا20. وفي حين أن صورة الورقة النقدية وصورة جبران متكررتان ومعروفتان كلًا على حدة، فإن تلاقيهما غير المتوقع في الورقة النقدية المعلقة على الحائط يمثل حالة “مختلفة” لا يُمكن تصورها. لقد أعاد حلواني تصور ورقة المئة ألف ليرة كوثيقة من شأنها أن تخلد ذكرى فنان عربي معروف، وتذكر اللبنانيين بمساهمات جبران الفنية الجديرة بالتقدير. وقد لفتت هذه القطعة الإبداعية انتباه رياض سلامة، رئيس البنك المركزي اللبناني، الذي وجد اقتراح حلواني بطباعة صورة جبران على الورقة النقدية اللبنانية منطقيًا، وإن كان “معقدًا” في الممارسة العملية21. ربما كانت رؤية حلواني لوضع وجه فيلسوف وشاعر على العملة اللبنانية خيالية، ولكنها قدمت تدخلًا على الرغم من ذلك. فقد مكنت من خلق حوار عام حول تكريم الفنانين الذين ساهموا في إثراء التراث اللبناني والعربي باقتراح بقائهم مرئيين في الفضاء العام التفاعلي.
ورغم أن اللوحات الجدارية التي يرسمها حلواني والتي تركز على الصور الشخصية لا تتضمن عادة رسائل سياسية صريحة، فإن تصويره للراحل سمير قصير (1960-2005) ينضوي بلا شك إلى المجال السياسي (الشكل 6). ولد قصير لأب فلسطيني وأم سورية، وكان صحفيًا بارزًا وأستاذًا جامعيًا داعمًا للقضية الفلسطينية وهو من أشد المدافعين عن الديمقراطية العلمانية. يعتقد بعض اللبنانيين أنه اغتيل بسبب انتقاده المستمر للوجود العسكري السوري في لبنان. إذ كانت جريمة اغتيال قصير واحدةً من بين سلسلة من جرائم الاغتيالات المستقصدة التي ابتليت بها البلاد من عام من 2004 إلى 2008 22.
آمن حلواني بضرورة إحياء ذكرى قصير لما قدمه من إسهامات فكرية، ولتذكير سكان لبنان بثمن باهظ دفعه الصحفي لطرح آرائه في لبنان “الديمقراطي” المزعوم. بيد أن جدارية حلواني لا تخلو من بصيص الأمل؛ فإلى جانب صورة قصير، استشهَد حلواني بسطر كتبه قصير نفسه قال فيه: “إن اليأس ليس قدرًا”، وبذلك بث رسالة قصيرة عن الإصرار والأمل في مواجهة كل الصعاب.
كما وجد الشاعر الفلسطيني محمود درويش (1941-2008) طريقه إلى أحد جدران بيروت، عندما قرر حلواني أن الشاعر والناشط الموقر كان نموذجًا يحتذى به يستحق التكريم العام. إن اختيار حلواني لرسم جدارية ضخمة لدرويش في منطقة فردان الفاخرة له دلالات سياسية. ففي بلد يضم مؤيدين متحمسين للقضية الفلسطينية إلى جانب غير المبالين (أو حتى المعادين) لمحنة الفلسطينيين، لا يخشى حلواني إظهار احترامه علنًا للشاعر المشهور والقضايا التي يدافع عنها درويش، مع ضمان عدم اقتصار التكريم العام على الرموز اللبنانية. وبوضع صورة درويش على الحائط، تؤكد جدارية حلواني بالمثل، مكانة لبنان كوطن شرعي ومساحة تذكارية ملاءمة للشاعر، مما يُقر ويشرِّع حق الفلسطينيين في المدينة.
غير أن تخريب جدارية درويش يُظهر جليًا أن وجهة نظر حلواني لا يتفق معها الجميع (الشكل 7). فقد أُشيع أن رجلًا مشردًا يعاني من اضطراب عقلي وراء تشويه جداريات حلواني والخربشة على بعض الجداريات الجرافيتية بنصوص وصور دينية مسيحية، مثل؛ رمز الصليب وعبارة “الزنا حرام” و “يسوع الطاهر”، إنما لا يوجد دليل ملموس يدعم تلك الشائعات. وبغض النظر عن الحقائق الفعلية المتعلقة بالجدارية المشوهة، تعكس هذه الحادثة الصراعات المستمرة حول من يستحق التكريم ومن لا يستحقه. وعليه، يمكننا أن نستنتج بلا ريب أن الجداريات الجرافيتية، حتى الجذابة بصريًا منها، نادرًا ما تكون محايدة أو حاملة للجمال وحسب في بلد مثل لبنان، على العكس، وكما يوضح شاكتر، بالإمكان النظر إلى الفن العام باعتباره “قويًا بقدر ما هو ملوث”، ومن ثمَّ يحمل “القدرة على الجذب والصد بنفس القدر23”. وفي سياق شوارع بيروت المتنازع عليها، قد تَسْتَغلُّ أعمال حلواني وغيره من مصممي الجرافيتي الآخرين؛ القلق الفردي والجماعي بشأن من يتحتم عليه أن يجتذب انتباه عامة الناس في المدينة، ناهيك عن احتلال فضائهم العام.
لم تقتصر أعمال حلواني على إحياء ذكرى الشخصيات الثقافية المعروفة وحسب، بل شمل أيضًا تجسيد أفراد المجتمع الأقل حظًا.
إذ تُخلِّد إحدى جدارياته المؤثرة والمحفزة للتفكير ذكرى علي عبدالله، الرجل المشرد الذي كان يعاني من اضطرابات عقلية والذي توفي في شارع بلس خلال إحدى أبرد ليالي بيروت في يناير 242013. متسائلًا عما إذا كان عبدالله لينجو لو أنه تلقى المساعدة اللازمة. رسم حلواني وجه عبدالله ليكون “تذكيرًا دائمًا” بضرورة تقديم الرعاية للفئات المحرومة بانتظام، عوضًا عن الاكتفاء بالتدخل عند وقوع المآسي وحسب25. ويمكن اعتبار هذا النصب المؤقت محاولة لاستعادة بعض الكرامة لرجل تُرك فعليًا في البرد.
يُعيد العمل الفني التأكيد على أخلاقيات الرعاية، إذ تصبح قيم مثل “الحساسية، والتعاطف، والاستجابة، وتحمل المسؤولية” أساسًا لتواصل الناس مع بعضهم البعض26. ورغم تعرض الجدارية للتشويه في مرحلة من المراحل؛ إلا أن حلواني عاد ليرسم وجه عبد الله الحزين مرة أخرى بعد عدة سنوات، غير غافل عن التفاصيل الدقيقة مثل السيجارة التي كانت تتدلى من شفتيه (الشكل 8). وبجوار صورته، خَطَّ: “غدًا يوم أفضل”، في إشارة إلى عنوان أغنية لفرقة الروك اللبنانية “مشروع ليلى”27.
وعلى ذلك، فالجدارية الحوارية تتضمن طبقات مختلفة من المعنى، وتلميحات يفهمها محبو الفرقة. تبثُّ الجدارية المرمَّمة شعورًا بالأمل المتجدد فيما يتعلق باهتمام الجمهور بمشكلة التشرد، حيث إن قضية عبدالله المأساوية وجدارية حلواني ربما لفتتا الانتباه إلى مشكلة جرى تجاهلها منذ فترة طويلة. ومن خلال إعادة رسم صورة عبدالله، أكد حلواني على حق عبدالله في المدينة، مانحًا إياه نفس الاحترام الذي منحه الفنان للمطربين والشعراء والصحفيين المشهورين. ومن عجيب المفارقات جعل الجرافيتي –ذلك الوسيط الزائل– يتولى مهمة تخليد ورفع قدر من كان يومًا منبوذًا وتعزيز أخلاقيات الرعاية. داعيًا بذلك إلى ترسيخ أخلاقيات الرعاية والاهتمام.
وقد وسع حلواني الدعوة للحرص على أخلاقيات الرعاية لتشمل أولئك الذين اختفوا أثناء الحرب، بإنشاء جدارية جرافيتية تحمل عبارة “لا حي ولا ميت”. وبالإضافة إلى النص، رسم حلواني امرأة ترفع ذراعيها في الهواء. ويبدو أنها تنادي على أحبائها أو تستنجد بالآخرين للمساعدة وربما كلا الأمرين. ويتحدث النص والصورة عن المصير المجهول للضحايا. وعن الألم الذي عانته عائلات الأشخاص المختفين لعدة عقود. وفي هذه الجدارية، اختار حلواني جدارًا يعلوه سلك شائك، في إشارة إلى احتجاز الرجال والنساء المختفين، الذين تعرّض بعضهم للتعذيب أو القتل. وبحسب منظمة العفو الدولية، فإن الغالبية العظمى من المخطوفين كانوا من المدنيين “الذين اختطفوا عند نقاط التفتيش، أو أُخذوا من منازلهم أو من الشوارع، سواء أكان ذلك مقابل مبالغ مالية، أو للانتقام، أو لغرض خلق حالة من الخوف داخل المجتمعات28.”
ولا تزال أسر وأصدقاء المختفين ينتظرون أي أخبار بشأن مصير أحبائهم ويطالبون الحكومة ببذل جهود أكثر جدية لمعالجة قضية الاختفاء التي لم تُحل بعد. وهنا، يتشابك عمل حلواني الفني مع التزامه (السياسي) لتذكير الجمهور بإحدى إرثيات الحرب الأهلية اللبنانية وتقديم الدعم لعائلات المختفين وذلك بإبقاء ذكرى أحبائهم حية.
كما استخدم أشكمان جدارية الخط العربي كوسيلة بديلة لإحياء ذكرى الملحن والمطرب اللبناني الراحل وديع الصافي (1921-2013). حيث تعرض الجدارية صورة للصافي بالأبيض والأسود، إلى جانب عبارة “ذهب صافي” محاطة بعودين صغيرين (آلات العود) بدلًا من علامات الاقتباس، على خلفية أرجوانية (الشكل 9).
تدل عبارة “ذهب صافي” على البراعة اللغوية التي يتمتع بها آل قباني كفناني هيب هوب يتمتعون بميل للتلاعب بالألفاظ، حيث إن اقتران كلمة “ذهب” مع اسم المطرب “صافي” والتي تعني “نقي” حمل تشبيهًا جميلًا للمطرب بـ(الذهب الخالص)، ولكن العبارة تحمل معنى ضمنيًا آخر، فعبارة “ذهب صافي” تشير للرحيل والغياب بالمثل. ومن ثمَّ تندب جدارية الأخوين قباني رحيل وغياب أحد كنوز لبنان الوطنية. وتمنح هذه الجدارية المطرب الأسطوريّ التبجيل العام الذي أخفقت الحكومة اللبنانية في أن تمنحه إياه.
وعلى غرار حلواني، احتفى الأخوان قباني أيضًا بفيروز، وغالبًا ما ربطوها بالمدينة التي تحبها والتي خصصت لها العديد من أغانيها. وبالإضافة إلى جدارية “لبيروت” المذكورة أعلاه، رسم التوأمان جدارية لفيروز في منطقة المزرعة، بجوار جسر الكولا. وتضم الجدارية الضخمة، التي تمتد على مبنى من ستة طوابق في منطقة المزرعة، صورة لفيروز وتتضمن كلمات بالخط العربي مكتوبة باللون الأصفر على خلفية زرقاء. وقد زينت الشدة (العلامة المميزة لفريق أشكمان) أحد حاجبي فيروز. أراد الأخوين بإبرازهما لصورة فيروز على ذلك المبنى، “أن يستمتع سكان المنطقة بشرب قهوتهم الصباحية على شرفاتهم وهم يتأملون “فيروز، شمس لبنان”، ومن ثم وضعها في مركز الاهتمام وإعطاء الناس سببًا للابتسام29.
أضاف الأخوان تعليقات شخصية حول جدارية فيروز في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أشارا إلى ذكريات والدتهم وهي تقلّهما إلى المدرسة في بيروت زمن الحرب، بينما كانت تستمع إلى فيروز من الراديو. فكتبا: “كانت والدتنا تستمع إلى فيروز كل صباح حينما كانت تقلّنا إلى المدرسة. فعلقت أغانيها الهادئة بذاكرتنا الجماعية. جدارية الكاليجرافيتي هذه مهداة لكل شخص متفائل يسعى لإبقاء جذوة الأمل مشتعلة لإلهام الآخرين30.”
من المرجح أن تلقى تأملات الأخوين صدى لدى العديد من السكان الذين لا يزالون يستمعون إلى فيروز أثناء تنقلاتهم اليومية، وغالبًا ما يعلقون في زحمة بيروت، حيث لا تقدم لهم فيروز الترفيه وحسب، بل والأمل والعزاء وسط الاضطرابات السياسية والاقتصادية. في هذا المشهد، لا يُطبع الماضي بصورة مثالية ولا الحاضر، إنما يُجمعان معًا باستحضار الذكريات الفردية والجماعية. أما أغاني فيروز الهادئة، فقد كانت ملاذًا خلال فترات الحرب في بيروت، ويبدو أنها لا تزال تحمل الأهمية نفسها اليوم، خاصة في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية المستمرة. فالمحافظة على التفاؤل في مثل هذه الظروف الصعبة تعدّ إنجازًا بحد ذاته، مما يجعل فيروز رمزًا للأمل والاستقرار في عالم يعاني من عدم اليقين. وتعكس إشارات الحنين إلى الماضي القاسي (الذي تأقلم معه الناس رغم قسوته) التي يبثها الأخوان قباني رغبةً لا تتمثل في “العودة إلى حالة سابقة أو ماضٍ مثالي” بل إلى “التعرف على جوانب من الماضي كأساس للتجديد وكوسيلة لتحديد الاتجاه نحو المستقبل وسط غموض الحاضر31.
وهكذا، سعى جيل جديد من رسامي الجرافيتي إلى تحويل الخطاب السائد في الشوارع من خطاب يمجد الزعماء السياسيين ويؤجج الانقسامات الطائفية إلى خطاب يحتفي بالفنانين والإنتاجات الثقافية والمشاركة المدنية، وينتقد في الوقت نفسه الأوضاع الاجتماعية، وخاصة النظم الطائفية في لبنان ونخبها السياسية. وقد ركزتُ على فن الجرافيتي وفن الشوارع الذي هدفَ في المقام الأول إلى إحياء الشوارع المهملة، والاحتفاء بنماذج بديلة للقادة السياسيين والميليشيات، والتنديد بالطائفية، وتشجيع الحوار والمشاركة المدنية. كما عبر عن ذلك شعار أشكمان “الشارع لنا”، يُعبّر عن وعد آل قباني باستعادة الشوارع من ميليشيات الحرب الأهلية ووضعها في أيدي الأهالي والفنانين. بمعنى آخر، ولدت مناورات رجال الميليشيات في نفوس فناني الجرافيتي (القبانيين وغيرهم من جيلهم)، رغبةً في تدخل مكاني بديل. وفي أغنية هيب هوب بالعربية للأخوين قباني “الحِيطان عم تحكيني”، تُعبِّر الجدران عن معاناتها قائلة إنها “لم تعد تحتمل”، وتتوسل إلى الفنان “لحمايتها”، لأنها “تتوق إلى أن تكون في أيدٍ أمينة32”. يستخدم فنانو الشارع الذين نتناولهم هنا الرسم الجرافيتي وفن الشارع كأداة لإضفاء بُعد عاطفي على الفضاء العام، مع التركيز على ترميم الجدران المتضررة في المدينة واستعادة رونقها، والحرص دائمًا على الانسجام بين النسيجين المادي والاجتماعي للمدينة.
وقد عبر يزن حلواني عن موقف عاطفي مماثل تجاه جدران بيروت. حيث أوضح أنه في حين استخدم العديد من رسامي الجرافيتي في الغرب فن الجرافيتي كوسيلة لتشويه الفضاء العام من أجل التعبير عن استيائهم من النظام، فإن فناني الجرافيتي في بيروت تمردوا على السلوك السائد (المدمر) بالسعي إلى ترميم وإصلاح الأماكن العامة المتضررة في بيروت. وقال “لعل رسامي الجرافيتي في الغرب يرون أنفسهم في معركةٍ كمعركةِ داود وجالوت مع مسؤولي الحكومة والبلديات. أما هنا، فأرى الوضع أشبه بحال داود في مواجهة بيروت المريضة. هنا، الكل يدمِّر الأشياء. بينما، أقوم أنا بإصلاحها 33”.
إن تجسيد حلواني لبيروت باعتبارها سيدة مريضة ورؤيته لنفسه في دور القائم على رعايتها يوضحان الدور المتغير لفن الجرافيتي بتغير الزمان والمكان، وعبثية وضع كل فنون الشارع والجرافيتي في سلة واحدة. بمعنى آخر، ما يراه حلواني، هو أن فناني الشارع اللبنانيين يواجهون الخراب والفوضى في المدينة برسم الجداريات الجميلة، على عكس صانعي الجرافيتي الغربيين الذين ربما تدفعهم الرغبة بتدمير الأماكن الفخمة التي يشي بذخها بالثراء والامتياز. وكما تبين مارجريت سي رودمان، فإن “الأماكن ليست حاويات خاملة، بل هي بنيات سياسية، ثقافية، تاريخية، محلية ومتعددة البناء34”. “وفي حالة بيروت، يستخدم حلواني فن الشارع كوسيلة لتعزيز “أخلاقيات الرعاية القائمة على المكان35″، بدلًا من أن يكون وسيلة للتمرد المدمر ضد نظام غير عادل يهمشه كفرد، كما قد يشعر عضو عصابة في نيويورك في سبعينيات القرن العشرين. وإدراكًا منه لإخفاق الحكومة في رعاية المناطق البائسة في بيروت، فضلًا عن لا مبالاة الأهالي بالحفاظ على الفضاء العام، يتدخل حلواني عن طريق خلق فنٍ مشاع. فتمرده يتخذ شكل قيامه بشيء جميل للمدينة. إن أقوال وأفعال حلواني تعكس تصريح بانكسي بأن “بعض الناس يغدون مخربين لأنهم يبتغون جعل العالم مكانًا أجمل36”. ويبين حلواني أنه “يحاول أن يُظهِر للناس أن تغيير المدينة، واسترداد ملكيتها لسكانها من الساسة أمرٌ بالغ السهولة. ليشعر [سكانها] أن المدينة ملكهم وأنهم يتحملون مسؤوليتها ولهم الحق في الاعتناء بها37”. وتعكس كلمات حلواني جهوده الواعية ليس لتجميل مدينة مهملة وحسب، ولكن أيضًا لتذكير اللبنانيين بحقهم في المدينة، وواجبهم تجاهها.
إن أفعال صانعي الجرافيتي الميدانية في بيروت توضح السياسة المعقدة لإعادة تصور المدينة. وكثيرًا ما تعمل على تعقيد الفصل بين الهامش والمركز، والفن والانتهاك، والسائد والثانوي بحكم الوضع المتغير لفن الجرافيتي وفن الشوارع في نظر السلطات والجمهور وفناني الشوارع أنفسهم. ويذكرنا جرايم إيفانز أنه في الممارسة اليومية، تنقسم المدينة إلى قسمين: إذ العلاقة بين الجريمة والفن، والسيطرة والتسامح، “تتبلور في استمرارية تتحرك على طولها سلطات المدينة، والجمهور، وفنانو الجرافيتي وفنانو الشوارع، مع تغير الذوق والرأي (بما في ذلك وسائل الإعلام المحلية والوطنية)، وعلامة المدينة التجارية والتنموية بمرور الوقت38”. إن فن الجرافيتي وفن الشوارع ليسا بقانونيين ولا غير قانونيين في لبنان، حيث يعمل صناع الجرافيتي في ظل ظروف غير متوقعة وإملاءات يضعها أصحاب السلطة. على سبيل المثال، قد يختار بعض صناع الجرافيتي التفاوض مع الشرطة حين تقبض عليهم متلبسين. وفي مواجهة ضابط شرطة، فإن الاستجابة الأولى للفنان لا تكون غالبًا العراك ولا الهروب. حيث يوضح عمر قباني قائلًا: “حين ترسم الجرافيتيات، لا يمكنك أن تكون المتنمر”، و”يجب أن تتصرف بفطنة”. لقد تعامل هو وشقيقه مع ضباط إنفاذ القانون بطريقة حازمة، ولكن مهذبة. في إحدى المناسبات، استجوب ضابط شرطة الأخوين قباني واكتشف في النهاية أنهما فرقة هيب هوب أشكمان، لذلك طلب منهما التوقيع على أحد أسطواناتهم المدمجة لابنه وتركهما وشأنهما39. في واقعة مشابهة، وبعد أن استجوب الضابط حلواني وتأكد أنه لم يكن يشوّه الشارع، ابتسم بخفة وأشار إلى أن لوحاته تفتقر إلى بعض الألوان. فاجأه تعليق الضابط، لكن بدلًا من أن يبرر له أو يجادله، مدّ إليه فرشاة وطلب مساعدته في تلوين جزء من الجدار. كانت لحظة وئام نادرة بين الفن والسلطة، لحظة أضفت على المشهد روحًا من المشاركة غير المتوقعة.
إنما لم تكن كل لقاءاته مع الشرطة بهذه الوداعة. فقد واجه مواقف أقل لطفًا، كان أبرزها مصادرة أدواته لفترة وجيزة. ورغم ذلك، لم ينزلق إلى المواجهة، بل اختار التحلي بضبط النفس، مدركًا أن التصعيد لن يؤدي إلا إلى مزيد من القيود40. تكشف مثل هذه التفاعلات أن فناني الشوارع لا يسعون بالضرورة إلى تحدي السلطة بصورة جذرية؛ بل إنهم، في كثير من الأحيان، يفضلون التفاوض مع رجال الأمن، بحثًا عن مساحة لتنفيذ رؤيتهم وإعادة تشكيل المدينة على طريقتهم.
على الجانب الآخر، لم يكن جميع صناع الجرافيتي محظوظين مثله. إذ لم يلاق علي رافع وسمعان خوام، فنانا الجرافيتي اللذان كانا أكثر جرأة في انتقاد الحكومة والجيش، نفس التسامح. بل إن خوام دفع ثمن جرأته بالسجن، حيث لم يُطق ضباط الشرطة صبرًا على الفن حين غدا مرآةً تُظهِرُ ما لا يرغبون برؤيته.
وبالمثل، غالبًا ما كانت علاقة فناني الشارع بالمؤسسات الاجتماعية –كوسائل الإعلام والبلديات– معقدة ومتناقضة. ففيما يعبر فنانو الجرافيتي عن مواقف انتقادية لوسائل الإعلام الرئيسة أو لأوجه تقصير الحكومة، فإنهم، عند الحاجة، لا يتوانون عن استمالة هذه المؤسسات والتعاون معها. فعلى سبيل المثال، حينما صدر في فبراير 2015 قانون يقضي بإزالة الملصقات السياسية والشعارات الطائفية، أدى إلى إزالة إحدى جداريات أشكمان، سارع بعض فناني الجرافيتي بالتعاون مع وسائل الإعلام لإنقاذ الجداريات الباقية41. ومن المفارقات أن جدارية أشكمان المُزالة تضمنت عبارة “أنت حر أو لا تكون”، إلى جانب ثلاثة قرود تُمثل المثل الشهير “لا أرى شرًا، لا أسمع شرًا، لا أتكلم شرًا” (الشكل 10). أُزيلت الجدارية، التي تحتفي بحرية التعبير، بذريعة أنها سياسية ويجب طلاؤها كغيرها من الرموز البصرية ذات الدوافع السياسية والمذهبية.
أصبحت لوحة جرافيتي أشكمان أول ضحيةٍ لفن الشارع على يد سلطات إنفاذ القانون، مع أنها لم تكن طائفيةً ولا مخالفةً للقانون، وقد حصل الأخوان على إذنٍ مسبق من رئيس البلدية ومالك المبنى لرسمها. إن إزالة الجدارية -التي لم تكن سياسيةً بشكلٍ صريح، ولكنها مع ذلك أثارت حفيظة مسؤولي إنفاذ القانون- تُشير إلى الوضع المُلتبس لفن الشارع في بيروت. بعبارة أخرى؛ لا يُنظر إلى هذا الفن على أنه مجرد زينة، أو مجرد شكلٍ بريءٍ من أشكال الزخرفة. وإنما لديه القدرة على إثارة الجدل والنقد، مما يدفع السلطات إلى التساؤل عما إذا كان ينبغي لها السماح لهذا الفن بالازدهار في شوارع بيروت أم لا، خاصة في الوقت الذي تسعى فيه تلك السلطات لطمس الشعارات السياسية في المدينة.
وأعلنت مؤسسة “مارش” المدنية (التي ينتمي إليها الأخوان قباني الساعية للنضال من أجل حرية التعبير في لبنان) عن استيائها الشديد، ردًا على ما اعتبرته المؤسسة فعلًا رقابيًا ظالمًا.
ساندت المجموعة الأخوين خلال اشتباكهما مع البلدية42. وأصدرت بيانًا على صفحتها على فيسبوك تنتقد فيه الحكومة لقمعها الحقوق المدنية وطمسها لفن الشارع البنّاء. وجاء في مقتطف من الرسالة: “هل هذا هو الحل لمشاكل لبنان؟ إسكات الأصوات المنادية بالحرية، وطمس الرسائل الإيجابية حرفيًا؟ هل تُراعي حكومتنا أبسط الحقوق المدنية لمواطنيها43؟” خصص مقدم البرامج الحوارية الشهير زافين قيومجيان حلقة من برنامجه التلفزيوني لمناقشة مصير جداريات أخرى، بما في ذلك لوحات حلواني المحبوبة. كما أُجريت مقابلات مع سكان المنطقة، الذين أعربوا عن غضبهم من القرار الحكومي بإزالة الجداريات الفنية التي أدخلت البهجة إلى نفوسهم. في نهاية المطاف، أفضت الجهود المشتركة لفناني الشوارع والمدونين والمنظمات الشعبية ووسائل الإعلام إلى صدور اعتذار من رئيس البلدية زياد شبيب. ودعا رئيس البلدية الأخوين قباني إلى إعادة رسم الجدارية في نفس المكان44.
تضمنت الجدارية المعاد رسمها النص نفسه، “أن تكون حرًا أو لا تكون”، ولكن أُضيف إليها شيء جديد؛ صورة استفزازية، لذراع تتحكم بدمية الضفدع “كيرميت” (الشكل 11). تلمح الجدارية إلى رسالة واضحة: أن الحياة الشبيهة بحياة الدمى بلا قدرة على التعبير والتصرف، هي حياة لا تستحق أن تُعاش.
وبحسب دي تورك، فإنّ اختيار الأخوين، لشخصية كيرميت الضفدع، وهي شخصية محبوبة في الثقافة الشعبية ومتصلة بذكريات الطفولة، “يضفي على العمل عنصرًا من البساطة الظاهرية، مما يُخفف من وطأة رسالته اللاذعة45”. إضافة إلى ذلك، فإن محو الجدارية وإحياءها مرة أخرى يدلان على طبيعة الثقافة البصرية في المدينة، حيث تتداخل أصوات متعددة (فنانو الشوارع، والمسؤولون، ووسائل الإعلام، وسكان المدينة) في صراع دائم حول تشكيل هذه الفضاءات وإعادة تفسيرها.
وكما ترى كارلا سارمينتو وريكاردو كامبوس، فإن الثقافة البصرية “ليست مجرد انعكاس لواقع واحد، بل هي نسيج معقد من عوالم متداخلة، لكل منها فاعلوه ووسائله الخاصة في الإنتاج والنشر والتلقي، وهي دائمة “التجدد” بفعل “علاقات قائمة على التعاون أحيانًا، وعلى الصدام أحيانًا أخرى46”.
اعتمادًا على مصطلح “ما بعد الجرافيتي” لمناقشة أشكال النقوش الحضرية المعاصرة التي تتحدى الثنائيات الجامدة في الإنتاج والدوران والتلقي، يؤكد لوك ديكنز أن فنان الشارع الشهير بانكسي، رغم معارضته الصريحة والحادة لمسؤولي البلدية المتعصبين، غالبًا ما يتخذ موقفًا أكثر تسامحًا في ممارساته47.
ويمكن إسقاط منظور ديكينز بالمثل على فناني الشوارع في بيروت، الذين قد يثورون غضبًا على مسؤولي البلدية، لكنهم يظلون منفتحين على الحوار معها والمصالحة. فيراوحون في مساحة بينية، يتعاونون حينًا ويقاومون حينًا آخر، في سعيهم إلى إعادة تشكيل المشهد البصري للمدينة وتعزيز التفاعل المجتمعي داخلها.
ويؤكد مارتن إيرفين في نقاشه عن ثقافة الشارع في عصر العولمة المتسارعة، أن فنَّ الشارع المعاصر يناهض بشكل متزايد “التصنيفات الاختزالية”، وأن “أبرز أعماله تمثل أشكالًا هجينة مُفاجئة تنبثق من منطق الإبداع في التعديل والتهجين48. وتعكس اختيارات فناني الجرافيتي في بيروت اهتمامهم بالخطابات المحلية والعالمية المتقاطعة في المكان. وكما ذكرتُ سابقًا، ارتقى الأخوان قباني وحلواني برموز الثقافة المحلية بنقش وجوهها على جدران المدينة. كما اضطلع الفنانون بالترويج للغة العربية وتعزيز حضورها، سواء في صورها المحكية أو المكتوبة. وفي الوقت ذاته، أَدْخَلَ قباني شخصيات عالمية، مثل الضفدع كيرميت، وبومبرمان، وجريندايزر، وهي شخصيات مألوفة لدى الجمهور اللبناني نظرًا لانتشار السلع العالمية، والبرامج التلفزيونية والأفلام الأجنبية، والشركات متعددة الجنسيات. عرَّبَ الأخوان تلك الشخصيات وهجّنُوها، وطوّعوها لتلائم شوارع بيروت.
يُدرك فنانو شوارع بيروت أيضًا ما للإنترنت من دور محوري، وخاصةً وسائل التواصل الاجتماعي، في تسهيل تداول فن الشارع عالميًا. لذا، يسعون بوعي للاستفادة من الفرص التي يوفرها الفضاء الرقمي في توثيق أعمالهم ونشرها. تنتشر جداريات الجرافيتي في شوارع بيروت وتمتد إلى خارجها، حيث تظهر على منصات إلكترونية محلية ودولية. وحتى عندما تُزال من شوارع المدينة، فإنها تظل حية عبر الإنترنت، حيث “تتنقل باستمرار بين المدينة ككيان مادي و”رقمي” كمركز للمعلومات.”49 لذا، يصمم فنانو الجرافيتي أعمالهم، وينفذونها، ويوثقونها رقميًا، مدركين أن هذه اللوحات ستنطلق قريبًا في رحلة عابرة للحدود على شبكة الإنترنت.
لا يُخفي بعض فناني الجرافيتي، مثل الأخوين قباني وحلواني، توقهم لترسيخ مكانتهم كفنانين محترفين، بينما يواصلون في الوقت ذاته إضفاء لمساتهم الإبداعية على شوارع بيروت. يرى الأخوان قباني، اللذان تلقيا تدريبًا في التصميم الجرافيكي، نفسيهما فنانَيْنِ عصاميَّيْن ورائدي أعمال، حيث يوفر لهما متجرهما للملابس المستوحاة من الجرافيتي وأعمالهما التعاقدية “لقمة عيشهما” ومصدرًا لتمويل فنهما العام50. ورغم اعتزازهما ببداياتهما كفنانين هاويين للجرافيتي ومكافحين، فإنهما يعدّان أعمالهما اليوم علامة تجارية متنامية.
كما أنهما يصران على رفض التخلي عن أسلوبهما الجمالي الفريد لمجرد إبرام صفقات تجارية، ويحرصان على التعاون مع عملاء يتيحون لهما التعبير عن رؤيتهما الفنية وحسب. أو كما وصف آدم يوينز نهج فنان “الكاليجرافيتي” نيلز شو مولمان: “دعهم يمارسون ما يجيدونه بطريقتهم الخاصة51”.
أما يزن حلواني، فقد أوضح أن تكلفة رسم جدارية في بيروت قد تتراوح بين ثلاثمائة دولار وبضعة آلافٍ من الدولارات، ما يفرض عليه البحث عن وسائل لتمويل مشاريعه. وأكد قائلًا: “لا يمكن للفنان إنجاز عمله ما لم يكن قادرًا على تمويل نفسه، لذا عليه إيجاد طريقة لتغطية تكاليف الجدارية. وأكد أن “الفنان لا يسعه إنجاز عمل ما إلا إذا كان قادرًا على تمويل نفسه كفنان. وأكد “أنا شخصيًا أقيم معارض فنية بجانب رسمي للوحات قماشية، أبيعها للأغنياء ثم أهبها للفقراء، أي لسكان المدينة52”.
وهب الأخَوان قباني وحلواني وقتهما ومهاراتهما للمنظمات غير الربحية، وكسبا عيشهما من بيع أعمال فنية فردية أو إدارة ندوات تعليمية في لبنان وخارجها. ويجادل لوك ديكنز بأن “الناسخين المعاصرين” هم “أفرادٌ مُلِمّون بالإعلام” يُنتجون بوعيٍ أعمالًا ثقافية “تعمل عبر شبكات اجتماعية ومهنية وريادة أعمال متزايدة التطور”، وأنه من المنطقي اعتبار هذا “الانتماء المُستجدّ للمؤسسة جزئيًا ومُتفاوضًا عليه وغامضًا”، بدلًا من كونه “بيعًا شاملًا”53. واتباعًا لديكنز، من الضروري النظر في السياق الذي يقع فيه فن الشارع، ومقاومة رفضه على عجل باعتباره مُتهاونًا أو غير سياسي بناءً على وجهة نظر اختزالية مفادها أنه ما لم يكن مجهول الهوية، وغير قانوني، وسياسيًا بشكل صريح، وما لم يمتنع مُنتجوه عن استخدام مهاراتهم الفنية لكسب عيشهم، فإن فن الجرافيتي “لا يُحتسب”.
بعد أن عانوا من الرقابة والتحقيق، يسعى بعض فناني شوارع بيروت إلى تغيير المدينة من خلال نقش صور ونصوص تحويلية محاولين في الآن نفسه تقليل نسبة المجازفة. من المهم أيضًا الإقرار بأن هؤلاء الشباب وجدوا يومًا ما سبيلًا لكسب عيشهم داخل لبنان، في وقتٍ اضطر فيه العديد من الشباب، ممن يتمتعون بمهارات تعليمية وفنية، إلى الهجرة بحثًا عن فرص عمل أكثر أمانًا وربحًا، فضلًا عن الأمان الشخصي. وهكذا، لا تنقل الجداريات رسائل مبدعيها الصريحة حول الفن والعدالة الاجتماعية فحسب، بل تنقل أيضًا دلالات ضمنية غير معلنة حول التكيف مع محدودية الموارد في ظل التوترات السياسية المتصاعدة، والإهمال الحكومي، وتناقص فرص العمل في بيروت. تعكس رؤى وأعمال القباني والحلواني الفنية، المُعبّر عنها ذاتيًا، جماليات وروح ما يُطلق عليه شاكتر “الزخرفة التوافقية”، أو “التصاميم البصرية الواضحة، المتطلعة نحو الخارج والمحتضِنة للمجتمع”، والتي تجسد رغبة ممارسيها في تحقيق الانسجام والتواصل وإقامة علاقة بينية مع الفضاء العام الأوسع54. يُقدم تصور شاكتر للتزيين، على أنه يمتلك “قدرة ليس على إعادة تشكيل بيئتنا المادية فحسب، وإنما على إعادة بناء فهمنا للعالم ذاته”، إطارًا مفيدًا لفهم الأبعاد الزخرفية والتحويلية لجداريات بيروت55.
تمثل جداريات فناني الجرافيتي (بمن فيهم حلواني وسيسكا وأشكمان ورفيعي) لوحات فنية محورية تتمحور حول المجتمع، تنبع وظيفتها من رغبة في إحداث تحول بصري واجتماعي، بدلًا من الأغراض الزخرفية أو الاستهلاكية البحتة. وبينما أبدع بعض فناني الجرافيتي جداريات معقدة في محاولة لتعطيل هيمنة الرموز الطائفية وتغيير علاقة السكان بالفضاء العام، اختار فنانو جرافيتي مجهولون آخرون استخدام قوالب مرحة وكئيبة أو كليهما للفت الانتباه إلى استمرار العنف والهشاشة في بيروت ما بعد الحرب، مع حث السكان في الوقت نفسه على رفض النظام الطائفي.
وهكذا، من خلال سعيهم لكسر هيمنة الملصقات السياسية الطائفية وغيرها من الرموز البصرية، يُظهر رسامو الجداريات الجرافيتية في بيروت أن “الانخراط في السياسة لا يعني اقتصار دورك على التعبير عن الآراء السياسية، بل ضرورة التوجه نحو المجتمع، والتفاعل مع هياكل السلطة القائمة وتحديها56. وبغض النظر عمّا إذا كان المرء يُحب أو يكره الجداريات الجرافيتية وفنون الشارع اللبنانية، من المهم الاعتراف بأنه في سياق لبنان، حتى أكثر الجداريات الفنية التي تبدو زخرفية في ظاهرها تثير جدالات محتدمة حول المسؤولية المدنية والطائفية والفن والفضاء العام وحق المواطن في المدينة.
الهوامش
1. شملت الأحياء التي قمنا بزيارتها، من بين أحياء أخرى، ما يلي: العاملية، الأشرفية، العدلية، عين المريسة، عين التينة، بدارو، البراد اليوناني، بلِس، برج الغزال، كليمنصو، كورنيش النهر، وسط المدينة، الجميزة، الحمراء، الحكمة، حرش بيروت، القنطاري، الكرنتينا، قريطم، الملعب، المنارة، مار إلياس، مار مخايل، مار متر، المتحف، المزرعة، صالومي، الصنايع، الصنوبرة، التباريز، تلة الدروز، الطريق الجديدة، فردان، الوطى، واليسوعية
2. وقع أول تفجير انتحاري بتاريخ 20 حزيران/يونيو 2014 في شرق لبنان (ضهر البيدر)، بينما وقع الثاني بتاريخ 24 حزيران/يونيو 2014 في بيروت (الطَيّونة)، والثالث بتاريخ 27 حزيران/يونيو 2014 في بيروت (الرملة البيضاء – الروشة).
3. مراسلات بيني وبين عمر قباني، 13 يوليو 2014.
4. شختورة، حرب الجرافيتي، 70، 103، 132، 77. جميع الاقتباسات من ترجمتي.
5. شختورة، 6.
6. معاصري، خارج عن المألوف، 17.
7. سلطي، «مخطوطات حضرية»، 620.
8. هاوجبول، «التحولات المكانية»، 72.
9. كريدي، مدون القاهرة العاري، 121.
10. بيات، الحياة كسياسة، 13.
11. بيتيت، 143.
12. طراف، «المناظر الطبيعية العاطفية»، 148.
13. مقتبس من طراف، 148.
14. طراف، 148.
15. طراف، 149.
16. طراف، 154، 155.
17.الجميزة، حي في منطقة الأشرفية ببيروت. يعدُّ هذ الحي عمومًا بوهيميًا وفنيًا، يضم مباني تاريخية تعود إلى الحقبة الفرنسية. تعرّض لقصفٍ عنيف خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وخضع لبعض الترميم، لكن آثار الحرب لا تزال باقية فيه. يضمّ حاليًا حاناتٍ ومقاهي ومطاعم، ويتميّز بحياة ليلية نابضة بالحياة.
18. يزن حلواني، اتصال شخصي (سكايب)، 1 أغسطس/آب 2014.
19. بويم، مستقبل الحنين، 49-50.
20. سوجا، ثيرد سبيس، 56-57.
21. يزن حلواني، اتصال شخصي، 1 أغسطس/آب 2014.
22. يزن حلواني، اتصال شخصي، 1 أغسطس/آب 2014.
23. شاكتر، «الزخرفة والنظام»، 35.
24. يقع شارع بلس في منطقة الحمرا، في حي رأس بيروت، وهو مقر الجامعة الأمريكية في بيروت. تضم هذه المنطقة مباني تاريخية وتجارية والعديد من المطاعم التي تلبي احتياجات طلاب الجامعة. كما تضم مقاهي يجتمع فيها الطلاب والأساتذة والفنانون والناشطون للتواصل ومناقشة كل شيء بدأ من الموضة إلى السياسة.
25. يزن حلواني، اتصال شخصي، 1 أغسطس 2014.
26. هيلد، «أخلاقيات الرعاية»، 119.
27. تشتهر فرقة «مشروع ليلى» بأغانيها الجريئة والساخرة التي تستكشف القضايا الاجتماعية في المجتمع اللبناني، مثل الحرب والاغتيالات والتمييز.
28. لين معلوف، «لبنان: حق المعرفة لعائلات المفقودين»، منظمة العفو الدولية، 13 أبريل/نيسان 2019، https://www.amnesty.org/en/latest/news/2019/04/lebanon-the-right-to-know-for-the-families-of-disappeared/.
29.هوفسيبيان، «جدارية ضخمة لفيروز».
30. أشكمان، «من قلبي سلام لبيروت»، فيسبوك، 29 مايو 2017، https://m.facebook.com/ASHEKMAN/photos /10158848154420360
31. بيكرينغ وكييتلي، «أشكال الحنين»، 921.
32. أشكمان، «سأذهب إلى المستشفى».
33. يزن حلواني، اتصال شخصي، 1 أغسطس 2014.
34. رودمان، «تمكين المكان»، 205.
35. تيل، «لقاءات فنية في مسرح مابا»، 150.
36. بانكسي، جدران وقطع، 8.
37. براملي، «فنان جرافيتي بيروتي».
38. إيفانز، «من صناعة القطع إلى صناعة المكان»، 174.
39. عمر قباني من أشكمان، اتصال شخصي، 13 يونيو/حزيران 2014.
40. يزن حلواني، اتصال شخصي، 1 أغسطس/آب 2014.
41. لمزيد من التفاصيل حول الحملة، انظر «إزالة اللافتات السياسية، واستمرار الحوار»، ديلي ستار، 6 فبراير/شباط 2015، http://www.dailystar.com.lb/News/Lebanon-News/2015/Feb-06/286594-political-banners-removed-dialogue -goes-on.ashx
42. تأسست «مارش» عام 2011، وهي منظمة غير حكومية تُعنى بالنضال من أجل الحق في حرية التعبير (ضد الرقابة، وخاصةً في مجالات الفن والثقافة، وحقوق المرأة، والتنوع، وحل النزاعات. لمزيد من المعلومات، يُرجى زيارة موقع مارس الإلكتروني : https://www.marchlebanon.org.
43. مارس لبنان، «فن بيروت العام يدفع ثمن التنازلات السياسية»، فيسبوك، 5 فبراير/شباط 2015،
https://www.facebook.com/marchlebanon/photos/a.397998033570929.77264.348852438485489/792150690822326/?type=1&comment_id=792210434149685¬if t=comment mention.
44. نجيب، «محافظ بيروت زياد شبيب».
45. دي تورك، فن الشارع، 65.
46. سارمينتو وكامبوس، «النظريات والمنهجيات»، 14.
47. ديكنز، «وضع ما بعد الجرافيتي»، 488.
48. إيرفين، «العمل في الشارع»، 236.
49. إيرفين، 242.
50. عمر قباني من أشكمان، اتصال شخصي، 13 يونيو 2016.
51. إيوينز، مقدمة في فن الخط، 17.
52. يزن حلواني، اتصال شخصي، 1 أغسطس 2014.
53. ديكنز، «وضع ما بعد الجرافيتي»، 477.
54. شاكتر، الزخرفة والنظام، 50، 55 .
55. شاكتر، 10.
56. رايان، فن الشارع السياسي، 140.