سميحة خريس
كاتبة وروائية أردنية
تقلبت الأشياء، كما لو أن العالم على مفترق تاريخي، واهتز الوضع العربي في كل مناحي الحياة، رغم أن هذه التغيرات الانقلابية المذهلة والمخيفة لم تكن جديدة بالكامل، فكل مسار الأحداث والظروف كان يؤشر لمثل هذه الانقلابات، لكننا وبسبب من خدعة زمنية رزحنا تحت هدأتها لفترة ظننا أن مسار الحياة اعتيادي ، ثم توالت المتغيرات متسارعة وقاسية، وبعضها درامي للغاية، فانتبهنا، كأن الجنس البشري لم يلحظ مثل هذه المتسارعات من قبل.
اقتصاديًا، كان الوضع خانقًا على الأغلبية العظمى من البشر ، تحديدًا على الدول النامية في كل من أفريقيا وآسيا، حيث ننتمي في أغلبيتنا.
سياسيًا، تتبدل الأفكار بسرعة الريح، تنقشع منظومات كبرى سيطرت على الوعي والتفكير، بل ورسمت طريقة نضالنا وكفاحنا لعقود، فتحل محلها منظومات جديدة مغايرة تمامًا، شهدنا انهيار زمن الأحلام والرومانسية والأفكار والآمال العريضة، فأصيب العقل العربي بذهول، وإنكار، ثم نهض في محاولات مستميتة للتأقلم مع الوقائع الجديدة.
عدا عن تلك الأحوال المناخية التي تنسب إلى الطبيعة، بينما يد الإنسان محرك أساسي لها، كان البشر يدمرون كوكبهم بصورة متوحشة ظهرت نتائجها في العقود الأخيرة، ليجنوا ثمرة المناخ الملوث والأوزون المثقوب والتغير المناخي الحاد.
على أن النوايا وحدها لا تصنع الفرق، فقد غفل العلماء عن الآثار المصاحبة، وباتت الطفرة العلمية والتكنولوجية ملوثًا آخر يبحثون له عن حلول صعبة في ظل تصارع تلك الطفرة المتغيرة باستمرار، بل وهناك مؤشرات اتهامية تدل على انحراف العلم إلى ظلامية لا تليق به، مثال القنابل الذرية، وإمكانية تورط المختبرات العلمية في خلق وباء وجائحة مثل كوفيد 19 التي غيرت وجه الحياة، وأثرت على القيم السائدة وطرائق العيش.
إذن مهما قيل عن أن البشرية عرفت مثل هذه الكوارث سابقًا ونجت بنفسها، إلا أننا لا نملك إزاء الماضي إلا حسن القراءة والاستفادة من العبر، ولكن الذي يعنينا هو حاضرنا المخيف ومستقبلنا المبهم، ودورنا الإنساني والحضاري للتصدي لهذا الانهيار.
هنا لا بد من التساؤل عن دور الثقافة أساسًا قبل دور المجلات الثقافية، ذلك أني رأيت الثقافة محيدة أو مهمشة في الغالب الأعم، لا دور لها في معالجة تلك الشرور التي تعتري العالم، وبات المفكرون كأنهم زوائد تجميلية لا فائدة لهم، عدا عن إصابتهم بالذهول أمام ما يحدث .
نعم العالم دون الثقافة بمفهومها الواسع والتفصيلي في خطر، ذلك أنه متروك لفئة من المقامرين والمغامرين واللاهين، حتى إن أصحاب القرار مصابون بنرجسية عالية تجعلهم غير قادرين على رؤية سواهم، وبهم زهو خادع يمنعهم من الاستعانة بأصحاب الفكر والحل، عدا أن مصالحهم لا تتلاقى بمصالح المفكرين والمصلحين.
مع ذلك فإن بؤرًا ثقافية معدودة تشتعل وحدها في كل كهف عربي، محاولة إنارة ضوء ولو كان خفيتًا أمام المبصرين، ربما بتوجيه الانتباه إلى مكامن الخطر، وبمحاولة فهم سياق التغيرات، وأسبابها، وإيجاد الحلول والتأشير نحوها، علَّ ضميرًا حيًا يلتقط الفكرة ويتبناها، وإن كانت ما تقوم به الثقافة اليوم يعد في باب -أضعف الإيمان-. توقفت بعض المجلات الثقافية التي صنعت فارقًا وعلامة حقيقية في المشهد الثقافي العربي، وقدمت أسماء المفكرين والمبدعين وناقشت قضاياهم، لم تستطع الصمود أمام الظروف الاقتصادية، وهو أمر معيب خاصة أننا أمة تحظى بموارد كثيرة. لقد اختفت في الأردن مثلًا مجلة عمَّان التي كانت تستقطب كتابًا عربًا وتتناول قضايا حيوية، واختفت في بيروت المجلة الملهمة الصادرة عن دار الآداب التي أغنت المشهد تمامًا، لم تشفع لها مكانتها. لهذا أظن أن مسيرة ما تبقى من مجلات مسيرة عصيبة، علينا أن نحاول بكل ما أوتينا من قوة النضال من أجلها.
تتحرك المجلات الثقافية في زاوية من زوايا الثقافة، تصارع وحدها متغيرات التكنولوجيا التي تدفع بها كمقروء ورقي إلى الخلف، بحيث لن تكون المجلة متاحة في كل بيت ومدرسة وشارع كما في الماضي، وإذا قيض لها بعض المخلصين، تحولت إلى مجلة إلكترونية استجابة لمتطلبات العصر، فدخلت في منافسة غير عادلة مع ملايين المنشورات السطحية والتافهة والترفيهية التي تستهدف الفكر العربي. مع ذلك استمرت مجلات رائدة وجادة في الصدور، متصدية لمختلف الإشكاليات بنسب متفاوتة، وفق وعي القائمين عليها، والجهات الرسمية التي ترتبط بها هذه المجلات، ومدى اتساع أفق الحرية أمامها، ومنهجها الذي تعالج فيه الموضوعات الشائكة.
واظبت مجلات ذات أهمية على مخاطبة العقل العربي، أذكر منها: الدوحة- نزوى- العربي- الهلال- الفيصل- الشارقة الثقافية- الهلال- فصول- الجديد- إبداع- أفكار، الأردنية، على محدودية توزيعها. ذلك أن العاملين في هذه المجلات والمتحمسين لها، وأنا منهم، ما زلنا نؤمن أن علينا قولة الحق حتى النهاية، فقد تصيب رسالتنا فئة من الناس يبنى عليها وحولها مستقبلًا، لهذا نواصل القيام بمهامنا التوعوية والثقافية، مستخدمين نسيج التحولات الكبيرة بإخضاعه للتفسير والتحليل والتقييم.
هناك مجلات عربية معدودة تقوم بهذا الدور التنويري، تتناثر بين عواصم عربية عديدة، ولكن تتلقفها أيدي المثقفين العرب في كل بقعة، ورغم تباعد المسافات، مستفيدين أحيانًا من التطور التكنولوجي نفسه الذي رغم مخاطره ينطوي على فوائد كثيرة.
هذه المجلات ما زالت توحد المثقفين العرب حول عدد من القيم والثوابت الأخلاقية، وتمنحهم الفرصة لمقولة التغيير المبنية على الوعي والتدبر، رغم قلة الفئة المستفيدة منها إلا أنها تظل على قدر من الأهمية.
وقد كان لي شرف النضال على تلك الجبهة، فأشرفت على مجلات كانت مؤقتة، مرتبطة بأحداث ثقافية مثل مجلة عمَّان ومجلة أرابيلا، كما أترأس حاليًا تحرير مجلة أفكار العريقة، والتي صدرت منذ الستينيات عن وزارة الثقافة الأردنية، وحمل لواءها أسماء من المبدعين والمفكرين في الأردن، واستمرت إلى يومنا هذا رغم كل المعوقات .
رضخت هذه المجلة أحيانًا إلى منظومة ترى في الإبداع الأدبي بصنوفه المحدودة، الشعر- الرواية- القصة- موادّ تمثل أغلبية أبواب المجلة، وتوسعت في أحيان أخرى إلى الدراسات النقدية، وشهد العقدان الأخيران تطورًا جعل المجلة تعنى بكل أبواب الثقافة، بما فيها الفنون ممثلة بالفن التشكيلي والمسرح والموسيقى والأغنية، إذ تمثل هذه المناحي نهرًا رقراقًا وسط المادة الجافة، فكان أن توجهنا إلى ما يشبه المعرض الفني باستغلال الأغلفة والملزمة الملونة في المجلة، لعرض اللوحات ولإغناء الذاكرة البصرية بالجمال، ثم خرجت تلك المجلة تحديدًا من نطاقها المحلي، وفتحت آفاقًا واسعة للمفكر والمبدع العربي للمشاركة في كتابة النصوص والدراسات والأبحاث، رغبة منا بتوسيع جمهورنا وري الأرض العطشى بمختلف المغذيات الفكرية.
كانت هذه هي سياسة المجلة الرئيسة، ولكننا وإزاء العصف في كل مناحي الحياة، نلتفت بين الفينة والأخرى إلى ما يحيط بنا من متغيرات، وما يصنع فارقًا في تقدمنا الثقافي، إلى جانب اهتمامنا بالشخصيات المبدعة والمثقفة والمفكرة التي صنعت فارقًا في حياتنا في الأردن وفي العالم العربي، نفرد ملفات تبدو للعامة غير ذات اختصاص، لكننا نعتقد أنها في قلب الاختصاص الفكري والتنويري، كأن يكون هناك ملف يناقش أزمة المناخ، يناقش فيه عدد من المفكرين مختلف الظواهر التي تهدد كوكب الأرض، أو ملف حول الوضع السياسي في هذه المرحلة العصيبة التي تطيح بأمان واستقرار عالمنا العربي، خصوصًا ما يتعلق بقضية فلسطين، والصراع الدامي الذي انتهى بأحداث غزة الدامية، وما سيترتب عليه مستقبلًا، أو العلاقة الشائكة بين الثقافة والرياضة أمام جمهور يبحث عن الممتع والسهل، أو الثورة التكنولوجية وأثرها على القيم، أو البيئة وما تتعرض له من تدمير، ودور العلم في صناعة المستقبل، كل هذه المواضيع الحيوية التي هي جزء أصيل في حياتنا تأتي جنبًا إلى جنب مع الدراسات النقدية للنتاج الإبداعي، وتسليط الضوء على تجارب فريدة، وطرح أفكار نقدية تتعلق باللغة أو الأسلوب أو الشكل، أو حتى تبادل تلك المعرفة العميقة بين الشرق والغرب، ولا يعني ذلك بأن المسيرة سهلة، فكثيرًا ما خذلتنا أسماء المشاركين الذين يتناولون مواضيع بهذه الأهمية بطريقة فيها استسهال، وبسطحية لا تليق بالبحث العلمي. لذلك فإن كل ملف يدور حول أزماتنا المعاصرة يتطلب جهدًا خاصًا وانتقاء دقيقًا، وجرأة وإيمانًا عميقًا بدور المجلة في توعية القراء .
في الواقع سأظل ممتشقة قلمي، وأصارع من مكاني من داخل المجلة الثقافية “أفكار”، التي أعتبرها منبرًا حرًا، وإن كنت أعرف يسير التأثير الذي نحظى به، لكن التجربة الإنسانية كلها بنيت على أصغر الشرر، وفي الأردن نقول: صرارة* تسند الزير.
الهوامش
– الصرارة هي حجر صغير.