شهدت السنوات الماضية سلسلةً من الأزمات التي تركت أثرًا بالغًا في المشهد العالمي؛ فمن أزماتٍ سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة إلى إشكاليّات بيئيّة وثقافيّة مختلفة، واجه معها العالم منعطفاتٍ حادّةً استدعت قراءات واستجابات على أصعدة مختلفة. في هذا السياق، تضطلع المجلات الثقافية بدور مهمٍ ومحوريٍّ في تقديم مقاربات لقضايا الراهن، لفهمها وتفسيرها ونقدها، بوصفها- أي المجلات – فضاءً حيويا تتدافع فيه الأصوات الثقافية للنقاش المُعمّق والتحليل المُستفيض؛ إذ تُقدّم رؤى مُتباينة تُسهم في فهم التحولات الراهنة، وتشكيل الوعي النقدي إزاءها. ومن زاوية نظر أخرى، تركت الأزمات والتحولات السياسية والاجتماعية والتكنولوجية علامتها في واقع المجلات الثقافية، وعلى المسألة الثقافية برمّتها، التي تواجه هي الأخرى تحديات كبيرة في مواجهة المتغيرات الثقافية، والأنماط الاتصالية.
تخصص مجلة ملفا يتناول خطاب المجلات الثقافية العربية في زمن الأزمات والمتغيرات، وكيف أسهم في فهمها وتفسيرها ونقدها، كما يسعى إلى قراءة راهن المجلات الثقافية وقدرتها على مجابهة الواقع المأزوم. فيكتب عبده وازن عن واقع الصحافة الثقافية العربية؛ ففي حين يرى أن الصحافة في عصرها الذهبي استطاعت الإسهام في صنع الواقع الثقافي، إذ خاضت معارك تنويرية كبيرة، كمعركة الحداثة والتنوير وصنعت أجيالا من الكتاب والقراء على السواء؛ إلا أنها في الواقع الرّاهن تشهد حالًا من الاضطراب والارتباك الناتج عن الوضع الثقافي المأزوم بالأساس، فإذا كانت الثقافة مأزومة؛ فهل يمكن للصحافة الثقافية أن تنجو بنفسها من هذه الأزمة؟
ويكتب عماد عبداللطيف عما اصطلح عليه بـ” قفلة القهر” التي تواجهها المجلات الثقافية إزاء التقييد والمراقبة، حيث يرى أن قول الحقيقة في كثير من أمور الشأن العام بات عملًا باهظ الثمن؛ فلم يعدّ ثمة خيار إلا الصّمت، أو الكلام في المساحات الآمنة. ونتيجة الإكراه المتواصل للذات نتجت حالة من “قفلة القهر”، التي تبدو ردة فعل طبيعية في المجتمعات التي تعاني من الإكراهات، كما يرى أن الطريق الوحيد للتعامل معها، هو مواجهتها بوصفها تحدّيًا معرفيًا جماليًا قبل أن تكون تحديًا سياسيًا أو اجتماعيًا؛ فالعبرة ليست دومًا بما يُقال، بل بكيفية القول ووسائله ووسائطه.
وتذهب الباحثتان سمية اليعقوبي وشيماء العيسائي إلى اعتبار الصحفي في حقل الثقافة بوصفه مراقبًا للتوتر الخفيّ بين النص المكتوب والعالم الخارجي، حيث لا يمكن فهم النص الثقافي بمعزل عن القوى المهيمنة في الواقع. وخلصتا في دراستهما لخطاب صحيفة الجمهورية الإلكترونية للأحداث السياسية في سوريا، إلى أن الكتابة الثقافية في هذه الصحيفة لم تكن مجرد آراء فردية أو تعبيرات صحفية عابرة، بل شكلت ممارسات خطابية ترتبط بسياقات اجتماعية وتاريخية، ما أتاح لها إعادة إنتاج السلطة الخطابية، أو تحدى وجودها.
في حين يكتب عمر مغربي مقالته عن أزمة المجلات الثقافية العربية الجديدة؛ المتمثلة في عدم قدرتها على إنتاج خطابٍ يواكب أزمة “الذاتية” العربية وتحولاتها، كما يثير سؤال إشكالية الأزمة الهيكلية في الصحف والمجلات العربية، الناتجة عن اعتمادها على التمويل الأجنبي، الذي تعاظمت أجنداته في الوقت الراهن، ففي ظل هذه التحديات المركبة المتعلقة بالتمويل والرقابة، تبرز الحاجة مُلحَّةً إلى إعادة التفكير في مستقبل المجلات الثقافية العربية، وفي طبيعة الخطاب الثقافي الذي يمكنها إنتاجه؛ الأمر الذي يستلزم عودة المجلات إلى حواضنها الاجتماعية والمحلية التقليدية.
في حين يرى ياسر عبدالحافظ أن الترابط بين الأزمات والمجلات الثقافية قائم منذ بدايات صدورها في عالمنا العربي؛ حيث يشير تاريخها إلى أنها لم تنقطع عن محاولات التأسيس والعمل على تبني خطاب تتعامل به مع الأزمات السياسية والاجتماعية، كما يرصد مرحلة تغيرات كبيرة يمر بها العالم، لن ينأى أحد عن التأثر بأحداثها بما يشمل المجلات الثقافية التي ضربتها دوامة الفوضى والأزمات بعنف بما يهدّد وجودها نفسه. وتتساءل سميحة خريس عن تحييد وتهميش أدوار الثقافة والمثقف عن معالجة الأزمات التي تعتري العالم، رغم وجود بؤرٍ ثقافية معدودة تشتعل وحدها في كل كهف عربي، محاولة إنارة ضوء ولو كان خفيتًا أمام المبصرين.