تشكل روايتا "عودة المواطن " وقلب الظلام " طيفين من أطيافا التأملات العاطفية الحادة النابعة من الذات المتحضرة الخاصة بمرحلة وجود الانسان ما قبل الحضارة (1)، فالحضارة وما تحدثه من تأئير في وعي الفرد، والتعارض والحنين الدائم والتوق الى عالم مفقود، وما يتمخض عن ذلك من موقف متشكك، بل عدائي امني، لما يمكن تسميته " التقدم " هو القوى البنيوية في النصوص. وتصبح الرغبة في أسباب الدعة المادية التي تغدقها الحضارة للانسان، والتي أثرت في موقفه من أقرانه، أمرا قابلا للجدل. فالمجد الظاهري الذى تمنحه الحضارة للانسان غير كاف ولا يساعده اطلاقا، على العيش مع ذاته بوئام، وهكذا، تنشأ حالات الصراع في الروايتين من الصراعات المحتهدمة داخل المنظورات الثقافية للراويين اللذين ينجذبان الى دوامات هي في حقيقتها سلسلة من الجدل الداخلي في القيم التي نجحت الحضارة في التأثير فيها أو تغييرها.
وقد لاحظ النقاد ان الجوانب الثقافية لهاتين الروايتين هي: صراع القيم أو موثوقية الحضارة، فالناقد روي يرى ان: "في عودة المواطن يكون اقحام قيم الثقافة الحضرية على القيم الاجتماعية والثقافية الريفية جزءا لا يتجزأ عن الموقف المأساوي" (2). بينما يشير دونالد بنس الى ان قلب الظلام يمكن ان تعد رواية تتناول طبيعة الحضارة وامكاناتها واصولها- بمعنى انها تتناول ما هو انساني من حيث الجوهر.." (3)، لكن برغم الملاحظات المتعلقة بالمشكلات الثقافية التي تثيرها هاتان الروايتان، لم تسبرني الروايتين نزعة العقل المتحضر المتكررة وميله الى اعادة تقدير قيمة الحضارة بوصفها قوة رئيسية، انطلاقا من المنظور البنيوي، اذ من الممكن ان تبين الدراسة البنيوية ان كلتا الروايتين، وبرغم الاختلاف في المواقف والاسلوب والشخصيات، فانهما تنبعان من نزعة بدائية تكمن في وعي الراويين اللذين يسردانهما، نزعة شمولية حقا(4). ولا تمثل الملامح السياسية البارزة في قلب الظلام والخلفية الاجتماعية في عودة المواطن سوى سياقين مختلفين يتم فيهما اضفاء الصفات الدرامية على النزعات البدائية (5).
أما الشخصيات فهي عبارة عن تحشيد للعناصر الثقافية (6). وتعد الرواية – الخطاب ظاهريا التحلي الخارجي للصراع الثقافي الداخلي الذي يشترك به الراويان. ولا يكون من الصعوبة القول ان أغدن هيث في عودة المواطن والأدغال في قلب الظلام تمثلان حالات الوعي وتبلورات البدائية msitivimirp التي تشكل الروايتين وتتحكم فيهما وفي تطورهما، ومن الملاحظ أن هذا النقاش يأخذ بالنقد الى صميم النص ويعين الناقد على التركيز على الاندفاع الداخلي في وعي الراوي والذي منه ينبجس المعنى متجليا في انسيابية الخطاب. وعلى العكس من أسلوب النقد التقليدي الذي يميل الى ان يعد الشخصيات أفرادا، ويعد الحوادث أمورا محتملة ترى البنيوية في الشخصيات والاحداث والمشاهد عناصر متكونة بفعل قوى غائبة او" شفرات "(7),sedoo اما النص فهو بنية هذه العناصر التي يقع مركزها خارج تناهي (او محدودية ) النص، وضمن اطار لا تناهي الخطاب الذي هو شكل من اشكال المفاهيم اصلا.(8)
وتعتمد المنهجية البنيوية التي أوظفها في تحليلي للنصوص على النظرية التي طورها رولان بارت في تحليله لقصة، "سارازين" في كتابه. (9) z/s ومن غير الممكن تطبق منهجية بارت على تحليل الرواية او القصة القصيرة وذلك لانه عمد الى التقسيم الاعتباطي للنص الى وحدات قراءة saixel (تتراوح من كلمة واحدة الى مقطع طويل، ويعزى السبب الثاني الى النزعة العلمية التي تنطوي على مفارقة) lacixodarap بسبب اعتباطيتها)(10)، الا ان المفهوم الذي صاغه بارت ينطوي على قدر واضح من الاهمية لانه يفترض ان تأويل أي جانب من جوانب النص يعد تأويلا لواحدة من "الشفرات "…"القوة الغائبة "، التي تعمل بصمت في عوالم المعنى المضطربة ضمن اطار " شبكة اللغة المتاخمة " التي تشكل انسيابية النص.(11) تنتقل الدراسة النقدية بحثا عن المعنى على امتداد واحدة من الشفرات ضمن تناهي النص الى لا تناهي الخطاب. وايا كان العنصر الموجود في النص، والذي يسعى الناقد الى فك رموزه وتفصيله والتعليق عليه، فإن من المرجح انه (أي الناقد) سيكشف مركزا او فكرة او مفهوما يقع خارج نطاق النص. وتبعا لما يرده ج. فيليس هيلر، ليس من الضرورة ان يكون كل تأويل هو التأويل الصحيح مادام من الممكن ان يكون المركز الذي يؤدي اليه مضللا.(12)
ان التأويل الوافي لروايتي "عودة المواطن " و" قلب الظلام "ينبغي أن يركز بما فيه الكفاية على العناصر الثقافية في تلك النصوص، ومن شأن تحليل تلك العناصر ان يقود الى العوالم الثقافية في وعي الراويين وتحجيم أغدن هيث والادغال المظلمة وتحويلها الى اشكال عينية من البدائية المجردة، والى صيغ متبلورة من مشاعر الحنين المبهمة الى عالم ما قبل الحضارة المفقودة. ومع ذلك تواجه الناقد البنيوي مشكلة (او بالأحرى مسؤولية) غير اعتيادية عند شروعه بتحليل عودة المواطن وقلب الظلام فطبيعة السيرة الذاتية في هاتين الروايتين تطرح سؤالا وثيق الصلة بالموضوع يخص العلاقة بين وعي الراويين ووعي الكاتبين، او العلاقة بين النقد البنيوي ونقد السير.(3ا) وسأعرج على ما يتراءى لي انه اجابة بنيوية عن تلك الاشكالية على الرغم من انني لا انوي الخوض فيها..
ان اوصاف اغدن هيث والادغال في الروايتين اللتين أتناولهما هنا بالتحليل توضح انشغال الروائيين غير الاعتيادي بتلك الامور، فاغدن هيث تؤثر في تفكير الراوي من حيث الزمن والمشاهد والعواطف:
ان وجه أغدن هيث، بسحنتها المجردة، قد زادت على المساء نصف ساعة، وبإمكانها، وبالطريقة ذاتها، أن تؤخر بزوغ الفجر، وتنثر الحزن على البحيرة، واستباق تجهم العواصف التي نادرا ما تثور، وتزيد من عتمة منتصف الليل التي نأى عنها القمر، وتحيل الليل الى حالة من الارتجاف والرعب.
ومرة أخرى نقول " ان بالامكان الاحساس بها بصورة افضل، حين لا يمكن رؤيتها بجلاء"
(NRص11) ونلاحظ أن "علاقة القرب من الليل " تنشر تأثيرها من الفجر الى الغسق، من الضوء الى الظلام، من افق الى آخر، وهكذا، من خلال ربط النقائض ومزاوجة الاضداد المتصلة والمنفصلة، تبدو هيث بوصفها شكلا عينيا لتفسير الافكار المجردة.. شكلا لما يصحو وينام (NR12)، برسم حالة الوعي والادراك، وتتطلع أغدن القفر الى "غريزة اكثر شفافية وندرة "(5" )، انها " غريزة هائلة وغامضة تماما"NR) ص12) عدوها الحضارة وهي رداء الأرض البدائي (NRص 13)،" لقد تغير البحر والحقول والانهار والقرى وتغير الناس، لكن بقيت أغدن دون تغير" أغدن هيث السرمدية، البعيدة، البدائية والغامضة هي " عدو الحضارة ".
وانا أرى انه في ذلك السياق ان أغدن هيث تكتسب معناها وتنفخ ذلك المعنى في الشخصيات وافعالهم، وبتلك الطريقة تكتسب اهميتها الكبرى وكثيرا ما تفتقد التقنيات النقدية هذا المنظور. ويذكر".س.دافن "العبارة الآتية في معرض تعليقه على اهمية أغدن هيث:
انها في الحقيقة قصة اغدن هيث.. فليست أغدن هيث مشهدا من مشاهد الحكاية فحسب، بل تسيطر على الحبكة وتحدد مسارا لشخصيات.. انها تمتلك القدرة على الحواس، فهي تشعر وتتكلم وتقتل. ويبدأ الكتاب بعرض مقدمة عن ذلك.. عن ذلك البطل الدرامي.(14)
ويبين ج. فيليس هيلران " اغدن هيث… تجسيد لبعض الاساليب التي ربما يحياها البشر (15). ويمضي ناقد آخر الى القول: ان " هاردي" (مؤلف رواية عودة المواطن) قد صور أغدن القفر على انها امتداد من المستنقعات التي هي اكبر من روض بحجم جيد تقريبا بالسعة نفسها التي عليها دارتمور وعزلة بودهن، والسبب في ذلك يتمثل في ان تلك هي الكيفية التي تكشف لهاردي حينما كان صبيا(16). ومع ذلك تقترب مارجريت داربل من الحقيقة حين تقول:
ان أغدن هيث في عودة المواطن ما هي الا أغدن هيث بالنسبة الى تومازين، فهي في الحقيقة تحب وجهها المتجهم العجوز، الا انها تبدو لشخص غريب، مثل او ستشيا، عدوا حقيقيا، اذ ترى في النهاية جذورها الملتوية وفطرياتها الكثة وكأنها" كبد متعفن ورئتان لحيوان كبير الحجم .(17)
وثمة ملاحظات أخرى تشير الى اهمية أغدن هيث ومكانتها البارزة في الرواية (18).
وثمة ملاحظات أخرى تشير الى اهمية أغدن هيث في السياق الثقافي، بالعلاقة مع كل من كلم يوبرايت واو ستشيا من منظور بنيوي. وانا أرى ان أغدن هيث حالة تمثل وعي الراوي، حالة غير متغيرة وغير قابلة للتغير، بدائية وكائنة منذ البداية، تكتسب معناها من خلال تعلقها بمجتمع باريس المتحضر ومجتمع الفلاحين الريفي. ولهذا تكون أغدن هيث عبارة عن دال reifingis يمكنه الدلالة في ضوء عالمين: عالم الفلاحين الريفي وعالم الموضة الخاص بالمتحضرين، اما الشرخ في وعي الراوي فهو ثقافي بالمعنى الذي يتم فيه تصوير اتجاه الحضارة والتحقق منه بصورة ستشككة. وتمثل كلم واو ستشيا ذلك الشرخ. وقد لاحظ ريتشارد كاربنتر التعقيد في العلاقات القائمة بين أغدن القفر وكلم واو ستشيا ويمضي في القول: ان " كلا من كلم واو ستشيا يتبينان الخصائص التي يحملانها في الرواية ويرجع السبب في ذلك الى علاقتهما بأغدن هيث "
(19)، ونواه يذهب في تحليله للعلاقة المتداخلة الى الاستنتاج بان أغدن القفر تمثل " رمز العالم الذي تحت ظله يقوم الانسان بصنع قدره "، وهو يبدو حيا، " لانه مدرك اسطوري وليس لانه تربة وصخور ونبات فحسب بل انه شيء اشبه بالآلة، شيء يملك كينونة طبيعية "(20). وتوسع القراءة من أغدن هيث وتبالغ في اهميتها، اما كونها " رمزا للعالم الذي تحت ظله يقوم الانسان بصنع قدره " فهو افتراض غير مقبول من الناحية النقدية، وانا أرى ان تلك القراءة تمنح أهمية في غير محلها للوصق الظاهري أغدن القفر، وتفشل في الاستبطان الاعمق لعقل الراوي. فالناقد يجد معنى يشعر بوجوده بينما يتجاهل حالة الوعي التي تتشكل اعدن هيث خارجها.
ان أغدن هيث خاوية من المعنى. ومفصولة عن سياق الآخرين.. العالم الريفي المحيط بها أو بالقرب منها، وعالم الموضة البعيد عنها. ويعني كل من هذين العالمين بعض مراحل الحضارة الانسانية التي يبحث عنها وعي الراوي. فالحضارة هي، قبل كل شيء، مصطلح نسبي.. ويتوارى في العقل المتحضر توق مبهم الى عالم مفقود تتراءى فيه الحياة أقل تعقيدا وأكثر معنى.(21) وان هذا ليس بالعالم القريب، ولا العالم البعيد.. انه عالم تصوري مطوي في ثنايا سراب التأملات الحبيسة عن الماضي، نصفه ممكن تخيله ونصفه الآخر لا يمكن ادراكه بالنسبة الى الخيال نفسه، فاغدن هيث هي الشكل العيني للادراك الذي لا شكل له، الادراك الذي يمثل اساس البدائية، وتكمن اهمية أغدن هيث في انها تكتنف النزعة البدائية التي هي محور الرواية.
اما الادغال في رواية قلب الظلام، فعلى الرغم من انها لم تكن بارزة في الرواية بقدر بروز اعدن القفر في عودة المواطن، فانها أثارت الذكريات والعواطف، واتسمت بالتعقيد، فالأدغال وقلب الانسان المتوهش تجمعهما الحياة الغامضة للعالم المتوحش. ان الادغال المستغلقة على الفهم " و"المقيتة " تسبغ على مارلو فتنة غريبة، وهو يمثل مشروع الوعي عند الراوي… تلك الادغال الكثيفة "داكنة الخضرة تجعلها تميل الى السواد، تتخللها طيات بيضاء.." انها في مركز الارض فهي تحيط بالقرارة الداخلية، ان غموضها وضخامتها يمثلان الحقيقة المدهشة لحياتها المضمرة قد اوجدت لنفسها موقعا دائميا في القلب البشري، فهي تضم "جثة حيوان نهري ضخم، تضوع منه رائحة "الطين البدائي" وتلقي بظلال "صمت كثيف " على الادغال البدائية. وان الصمت المطبق على وجه الادغال الشاسعة يعد تضرعا فضلا عن كونه تهديدا اذ تثير تلك الادغال نوعا من الاحساس الغريب: كنا رحالة على أرض ما قبل التاريخ.. على الارض التي ارتدت جانبا من الكوكب المجهول، ولعلنا نتصور اننا اول من امتلك ميراثا ملعونا، وباننا يقهرنا الالم العميق والكدح المفرط.
تذكرنا الادغال بـ"ليل الازمنة الغابرة.. تلك الازمنة التي ولت تاركة بالكاد اشارة… اشارة من دون ذكريات) انها ثابتة كقناع، ثقيلة كالباب الموصد في السجن – "لقد تم الاستشراف بأسلوب ينم عن المعرفة الباطنة والتوقعات الصبورة والصمت المستغلق عن الوصول " .ان تلك الادغال تمور بالحيوية وقاطنيها تملؤهم الانسانية، وان حالة التناقض تلك هي التي تعطي المسوغ لتفسير الادغال بانها تمثل الخير او الشر، الحقيقة او الزيف، او كليهما، ويرى توماس موزع resom samohT ان:
تلك الادغال ترمز الى "الحقيقة"، "الى الواقعية المدهشة وقد تمكن كونراد من مضافاتها بالمواطنين الافارقة الذين يكونون ووحدهم مليئين بالحيوية، اما البيض فما هم سوى رجال جوف nem wolloh. لكن، مع ذلك، يقصد بالادغال " الموت المتواري" و،الظلام الدامس والشر". تلك المضامين التي تخص حياة بشر ما قبل التاريخ، او انها الارث، وليس في وسعنا التغاضي عن ذلك الإرث..(22)
ويشير دونالدبنس الى ان " معظم القراءات لرواية قلب الظلام تؤكد هوية تلك الادغال والظلام الذي يتخلل القصة كلها، مع التأكيد في الوقت نفسه على نزعة الشر الكامنة في قلوب الناس ".
(23) وانا أرى ان الادغال في قلب الظلام ليست خيرا أو شرا، انها على النقيض من ذلك، تمثل حالة عقلية متأججة تعين الراوي على مقاربة ومقارنة اوروبا بالكونغو، اذ يتمازج أصحاب الحضارة مع ما قبلها. فالأدغال، مثلأغدن القفر، تقع بين هذين العالمين. وهي ليست نقيضة اوروبا المتحضرة ولا هي نظيرة الكونغو، بل انها عالم قائم بذاته، مظلم، غامض، ميت وما الى ذلك، وهي عالم من الوعي المحير والباعث على الحيرة، والادغال، بوصفها مملكة مظلمة تغشاها اشعة الافكار المضطربة والتأملات الحائرة، تمثل النزعة البدائية المعقدة لدى الراوي، اذ ان افكار الراوي التواقة الى الادغال والخائفة منها هي رد فعل على تفاهة الحياة في اوروبا وتلوثها في الكونغو، واذن، فان الادغال، مثلما يقول احد النقاد، تكتسب معناها من "تطابقها مع ما هو بدائي في الطبيعة .(24) وبتعبير فلورس رياليyaldeR ecnerolF فان الادغال تمثل احساسا بانها برغم قفرها توضح درجة الصلة بين الانسان المتحضر والبدائي.(25)
ان ما ذهبت اليه، من انأغدن هيث والادغال تمثلان اشكالا عينية (مجسدة )، etercnoc لنزعة بدائية تجريدية، من الممكن ترسيخه بدرجة اكبر من خلال التحليل المبتسر للطريقة التي يتم بها حمل الشخصيات على ابداء رد فعل على أغدن هيث والادغال. على الرغم من ان الشخصيات تدرس في اغلب الاحيان كما لو انها تعيش على نحو انفرادي، تواني أصر على انها تمثل بؤرا تتمركز فيها العناصر او الشفرات. وبحسب الاصطلاح الذي يذكره بارت، تبدو اسماء العلم اشبه بحقول مغناطيسية تتمركز عندها الشفرات، وهكذا تحتاج الشخصيات المركزية في روايتي عودة المواطن وقلب الظلام الى نوع من التحليل بغية فهم ماهية العناصر الرئيسية التي تتمركز فيها. اما معنى هذه الشخصيات، وهو ما أزمع توضيحه، فانه متعلق باغدن هيث في عودة المواطن والادغال في قلب الظلام. وان كلا من كلم واوستمشيا في عودة المواطن ومارلو وكيرتز في قلب الظلام هم شخصيات مركزية، فمن خلال علاقة كلم واوستشيا باغدن هيث وعلاقتهما معا، تتعزز دراماتيكية الفكرة البدائية في عودة المواطن. اما مارلو وكيرتز فيظهران رد فعلهما على الادغال، ويصوران الفكرة ذاتها في قلب الظلام على الرغم من اختلاف السياق وتغاير انماط المواقف، ومن المنظور الثقافي، يعتمد معنى تلك الشخصيات، الى حد ما على علاقتها باغدن هيث والادغال ورد فعلها عليها ويتم التعبير عن البدائية، بوصفها قوة في وعي الروايتين، ويوصفها فكرة مركزية في الروايتين، من خلال علاقة هذه الشخصيات بكل من أغدن هيث والادغال ونظرا الى ان الروايتين تصوران هذه الافكار في سياقات مختلفة وتوظفان اساليب مختلفة، لذا اروع دراسة المشكلة في الروايتين بصورة منفصلة موضحا حالات التوازي بينهما. اذ يكتسب كلم معناه بدلالة اوستشيا، وتكتسب اوستشيا معناها بدلالة كلم. ويصبر الراوي النظير الجمعي لاصواتهم.. وهكذا يصبر العالم الريفي المحيط باغدن هيث والعالم المتحضر في باريس قطبين مركزيين، افقيي الوعي، فالفلاح الذي ينتمي الى ذلك العالم الريفي يكون في الغالب غير مبال باغدن القفر، على العكس من يوبرايت المتحضر:
ان الفلاح في نزاهته وفي ابتساماته التي يدحرجها على الحشائش، ينظر بعين ملؤها التوق لمجيء الذرة، ويتحسر بحزن على اللفت المأكول ولا يمنح الافق الممتد من أغدن هيث شيئا افضل من العبوس. لكن بالنسبة الى يوبرايت فانه حين يلقي ببصره من المرتفعات على طريقه لا يمكنه منع نفسه من الانغماس في قناعة بربرية وهو يلاحظ أغدن هيث… (nRص181).
ويكون للامبالاة الفلاح باغدن هيث وموقف كلم منها، معنى من منظور ثقافي لان البدائية الثقافية بوصفها نزعة او موقفا تؤدي عملها في العقل المتحضر فقط، فرد الفعل المقيت او العدائي الذي يصدر عن العقل المتحضر بازاء الحضارة هو من الاعراض الدالة على البدائية. وفي هذا المنحى تكون البدائية نتاجا متناقضا مع الحضارة نفسها، ويمثل كلم تلك النزعة البدائية التي تتعزز من خلال مواجهتها مع اوستشيا التي تمثل النزعة المضادة للبدائية، انهم يتفاعلون مع أغدن هيث ومع بعضهم موطدين حالة من التوتر، ويثيرون في الوقت ذاته تساؤلات تتعلق بالقيم المتحضرة.
يعد كلم "انتاج" أغدن هيث الا انه، " ينفذ الى اغرارها، عبر مشاهدة عادتها وروائحها"(26) (NRص180) اما اوستثيا فهي على النقيض منه فهي تجد في أغدن هيث جحيمها وسجنها, ومكان "تكون مجبرة على الالتزام به "(27) (NRص 76)، انهما يمثلان نزعتين دائمتين على أغدن هيث، والتي يمكن تلخيصها بهذه الجملة " خذ مختلف حالات الكراهية التي تشعريها اوستشيا من أغدن هيث وترجمها حالات حب فسيكون بحوزتك قلب كلم". NRص181 ويتم اظهار كلم، بوصفه نتاج أغدن هيث، وكأنه قد مر بعملية تحضر وذلك عبر انتقاله الى بدموث ومن هذه المدينة الى لندن ومن لندن الى باريس. ان ذلك الانتقال من المكان الاقل تحضرا الى المكان الأكثر تحضرا، والذي يبلغ ذررته في مهنة كلم الاخيرة التي هي تجارة " همها الوحيد الانغماس في الملذات والخيلاء" (NRص176) هو الذي يفسر تفاهة الحضارة التي يمكن للبدائية الثقافية تجريبها(28). وتعكس ملاحظات كلم عن باريس شعورا بالاسى وتحدث موقفا معكوسا وترسم تغيرا في المفاهيم:
حين ابتعدت عن موطني اول مرة ظننت ان ذلك المكان لا يستحق ان نقلق بشأنه، كنت احسب ان حياتنا هنا موضع ازدراء، ان تطلي حذاءك بالزيت بدلا من دهان الاحذية الاسود، ان تزيل غبار معطفك بعصا بدلا من الفرشاة: فهل ثمة شيء اكثر سخرية من ذلك (NRص178).
وفي المقطع الآخر نجد:
وجدت انني كنت احاول التشبه بالناس الذين لم يكن ثمة شيء يجمعني بهم سوى النزر اليسير من الشبه.. كنت اسعي الى التخلص من نمط واحد من انماط الحياة لاجل الحصول على نمط آخر، والذي لم يكن في حقيقته افضل من الحياة التي عرفتها قبلا… كنت ببساطة، مختلفا (NRص178).
ان رغبة كلم وتوقه الى العودة الى الحالة البدائية تجد قناعة مؤقتة في " القناعة البربرية " التي ينالها من وجه أغدن هيث، الكئيب، المظلم ,( NRص181)، ومع ذلك كانت تلك القناعة قصيرة الامد، فكونه لا يستطيع ان يصبح واحدا من ابناء أغدن هيث يتضح بجلاء من خلال سعيه الى بلوغ حالة راقية من التفكير والعيش البسيط، وشغفه باكتساب الحكمة وسعيه وراء تعليم الفلاحين وتبصيرهم بالحياة – كلها دلائل على الحضارة. ويبد وجليا ان ليس بمقدور كلم ان يكون واحدا من سكان أغدن هيث او ان ينصهر في بوتقة العالم المتحضر الذي تمثله باريس، " مركز جذب عالم الموضة " (NRص117) وفي الحقيقة، يتم اظهار كلم على انه يتطلع الى عالم مثالي بين العالم الذي تمثله أغدن هيث والعالم الآخر الذي تمثله باريس:
لقد كان موقفا اخلاقيا، فقبل ثلاثة أشهر، كان هذا الشخص بالكاد يثق بنفسه، وحينما عاد للعمل في تلك الحياة الهانئة كان قد توقع مهربا من سخط الضرورات الاجتماعية. لكنه تطلع، اكثر من أي وقت آخر، الى عالم لا يكون فيه الطموح الشخصي صفة التقدم الوحيدة المعترف بها- ربما تكون تلك الحالة في وقت او آخر حينما يشع القمر بنوره الفضي على هذا الرجل (NRص202).
ويتضح عدم وجود ذلك العالم المثالي من خلال الافتراض التأملي لاحتمالية وجوده في الكرة الفضية… في القمر. وان توق كلم لعالم مثالي هو حصيلة رد فعل عدواني على العالم المتحضر يعكس شعوره بالأزمة في ظل الحضارة (29). وتصبر أغدن هيث ممثلا للحالة العقلية، صيغة متبلورة في الحنين المتجدد الى عالم أكثر بساطة وأوغل قدما مما يعرضه العالم المتحضر. ويتواجد ذلك الحنين في غياهب الوعي محاطا الى النصف بستار النسيان.
ونجد في حالة اوستشيا الصورة المعاكسة فيما يخص احكام القيم والمفاهيم الاجتماعية. فهناك مشاعرها المولعة ببدموث وتوقعها المتلهف الى باريس وازدراؤها المطلق لحالة الفلاحين ورد فعلها على أغدن هيث (30). وهنا يصبح لـ اوستشيا معناها الواضع بوصفها عنصرا ثقافيا، وقوة، ولا سيما في علاقتها بوايلديف، الذي ترمز مهنته – مهندس – الى الحضارة التكنولوجية التي يبدو انها مارست تأثيرها في تعرية القيم الاخلاقية والمعنوية، وهو يشارك اوستشيا احتقارها للعالم الريفي ويشجع تطلعاتها نحو عالم أكثر تحضرا، فهو يتساءل: " ما الذي تعنيه لنا تلك الأدوية والأبخرة، نحن الذين لا نرى شيئا آخر؟ ويتساءل ايضا "لماذا ينبغي علينا البقاء هنا؟ الا تأتين معي الى أمريكا؟ (NRص94) ان حماستهما ورغبتهما في حياة ملؤها الدعة واشتياقهما الى عالم اكثر جمالا من العالم المحيط بهما هو الذي يجعلهما يتغاضيان عن قيم الزواج المتعارف عليها، والمسؤوليات العائلية والاجتماعية التي تسم الحضارة، سواء في الماضي أم في الحاضر (NRص174). وان يكون ويليام الفاتح وسترافورد ونابليون بونابرت يمثلون أبطالا عند اوستشيا (NRص78) لهو أمر يعزز من فكرة ان طبيعتها المتمردة وعدم مسايرتها للمجتمع هي شواهد على المعايير التي تتماشى مع ذلك الجزء البارز من الحضارة الذي تشكل بفعل أنانية الانجاز الشخصي وعاطفيته، فحبها عاطفة فحسب، مشاعر خلو من الوفاء. ونلاحظ ان كلا من اوستشيا وكلم، من خلال زواجهما الذي ينطوي على مفارقة xodaraP, ومن خلال اتحاد نزعاتهما المتضادة وتطلعاتهما ومواقفهما، يخلقان حالة من التدهور على نحو يضخم الشعور بالأزمة في الحضارة التي تتشكل في وعي الراوي. ويمثل كلم واوستشيا قوتين في ذلك الوعي الذي، عبر التفاعل والجدل، يغالي في التساؤل عما اذا كانت الحضارة قد سارت بالانسانية في الاتجاه الصحيح؟ فالرواية هي السطح الخارجي والتجلي الواضح للصراع الباطني الذي يعتمل في ذات الراوي. وتتبلور عناصر الصراع بهيئة شخصيات، وحينما نتجاهل وعي الراوي الذي يشكل المصدر الرئيسي لأصل الرواية ونركز على الشخصية أو الحدث فان ذلك يعمل على الابقاء على سطحية الخطاب. وكثيرا ما يتغاضى النقد السطحي عن الراوي ويركز على الشخصية. فالعبارة النقدية التي مؤداها ان عودة المواطن "…. معنية، من حيث الجوهر، بالترحال الروحي الذي ينتهجه كلم، بدلا من الالتفات الى حالة الصراع القائمة بين اوستثيا وأغان القفر.." هي النتيجة الطبيعية للحكم السطحي (31). ولا بد لي من دراسة توظيف عناصر البدائية في قلب الظلام قبل أن أقدم ملاحظتي الخيرة على عودة المواطن، فضلا عن توضيح السياق البنيوي.
إذ ينبغي الالتفات الى تشابه النمط الأساس الذي تم فيه توظيف البدائية في عودة المواطن وقلب الظلام، فمارلو وكيرتز، مثل كلم واوستشيا، يمثلان قوتين تضطرمان وسط وعي مضطرب، وكثيرا ما يعمد النقاد في قلب الظلام الى عزل مارلو وكيرتز على انهما فردان ويكرسون جهدهم لاكتشاف المعنى، فهذا توماس موزع يقول:
ان مارلو هو الشخصية الثالثة في مجموعتنا الثالثة المهمة التي تضم بواكير ابطال جوزيف كونراد: انه البطل الحسي… انه ذلك النوع من الناس الذي يتبع شفرة الملاح البسيطة الا انه يمتلك خيال الخونة وشكوكهم ووساوسهم الذاتية، وهو يواجه أزمته بنجاح.(32)
ويمضي موزع الى القول ان كيرتز يمثل النقص في الانسان الحديث، وانه من خلال كيرتز يحصل مارلو على معرفة الذات. ويؤكد البرت جيرارد ان قلب الظلام، من خلال تركيزها الواضع، تعد معنية بمارلو ورحلته الى بعض أوجه الذات وامكاناتها" (33)، ويرى ان القصة تدور حول مارلو، ويؤكد ان مارلو هو الراوي(34)، وعلى الرغم من المضامين الثقافية التي يلاحظها بيتو جلاسمن namssalg retep في رحلة مارلو الى الكونغو، نجده يحاول قراءة المضامين كلها من خلال مارلو(35)، الا ان تلك التقييمات النقدية كلها تتجاهل الاهتمام الرئيسي بالراوي والتوتر الحاصل عنده (اذ كثيرا ما يعرف مارلو بأنه هو الراوي، مثلما يفعل جيرارد، لكن مارلو صوت واحد بين الاصوات الاخرى، وهو الصوت الرئيسي الذي يصنع الراوي). ومن الممكن ارجاع التوتر والاهتمام الموجودين في النص الى حالة البدائية. اذ يمثل مارلو وكيرتز ضدين في السياقات الثقافية، كما يرى فلورس ريالي ذلك (36). "لقد اسهمت أوروبا كلها بصنع كيرتز" (DHص561). فالحضارة التي أنتجت كيرتز قد عملت على تشكيل مفهومه الذي يقول فيه "… انطلاقا من نقطة التطور التي بلغناها نحن البيض، ينبغي علينا أن نبدو "متوحشين" ضمن طبيعة الكائنات الخارقة…" انه صوت الحضارة الجوفاء الذي يعظ بالأخلاق التي أساسها غرض مرتزق أناني، وكان صوته هو موهبته الأساس:
ان الموضوع يتمثل في كونه مخلوقا موهوبا، وان من بين مواهبه كلها التي برزت بجلاء وحملت معها شعورا بحقيقة الوجود هي قدرته على التحدي، كلماته – موهبة التعبير، مجرى الضياء النابض الذي يبعث على الارباك، والتنوير، الأكثر سموا، والأكثر ازدراء، أو الانسياب الخادع من قلب الظلام العصي على النفاذ (DHص557).
"صوت، لم يكن هذا الشخص سوى صوت ليس الا" (DHص558), وان كون ذلك الصوت، كيرتز، يصبح في نهاية المطاف واحدا من أصوات المواطنين في الكونغو وبالكاد يمكن تمييزه من بقية المواطنين هو الذي يوضع فكرة ان الذات المتحضرة تفقد هويتها وتكتنف وتقهر في النهاية حينما تواجهها حالة أقل تحضرا. ومثلما لاحظ أحد النقاد فان: " كيرتز، حين أجبرته حالة الفقر على الاعتراف بقرابته من الانسان البدائي ومنحته الفرصة في الانغماس بشهواته البدائية الى أقصاها، يذعن كلية "(37).
ويكتسب مارلو معنى واضحا في ضوء الضعف والخواء المستشري في الحضارة التي تتداعى حين تواجه حالة أقل تحضرا، ويقف مارلو، العارف بعقم الحضارة المتمثلة بأوروبا والحالة الأقل تحضرا الممثلة بالكونغو… تلك الحالة التي لا يمكن تعريفها، بين الحالتين تتملكه حالة عقلية مرتكبة تمثل الموقف البدائي للراوي، اما مدينة مارلو فهي " متوحشة "، " تولد الظلام في وضح النهار" (DHص493), ولما كان هوا لرجل الذي "تبع مسار البحر" فانه قادر على استنهاض روح الماضي العظمي (DHص500) وتصبح رحلة مارلو صوب " القرارة الداخلية " سبرا لغور الحضارة.
ونرى كيرتز، الذي يمثل نتاج الحضارة الأوروبية الداعية الى خلق حضارة مماثلة في مجتمع أقل تحضرا، لا يقيم حالة التوتر بمفرده، ويتضر اكتشافه بأن عملية الاستعمار والدعاوي والنفاق القابع وراء تلك السياسة التي يروج لها عملية مناسبة، ومن خلال الحقيقة المتمثلة في قبوله الأساس الأيديولوجي لتلك العملية. فهو يشعر بالراحة في وسط مجتمع الكونغو الأقل تحضرا والمتوحش الى حد ما. والحق ان " الأمر كان يتمثل في معرفة أصل انتمائه، وما عدد قوى الظلام التي ادعت انه لها" (DHص559), وعلى النقيض من ذلك يواجه مارلو مشكلة التمييز، ويتضر احتقاره للعالم المتحضر في أوروبا بما فيه الكفاية. أما عدم تمكنه من تمييز هويته بين مواطني الكونغو فيتجلى تماما حين يقول:" لقد شعرت بثقل لا يحتمل يكلأ صدري، رائحة الأرض الرطبة، الوجود المجهول للفساد المستشري، ظلام قوة عصية على الاختراق.." (DHص580) وتعليقا على موقف مارلو من الحضارة الأوروبية يقول بيتر جلاسمن:
أية أوروبا تلك التي يردها مارلو: فهو يقف قبالة الحياة المرتقبة للقفار الأفريقية… يكتشف خواء مريعا يكتنف الثقافة التجارية… إحساس قاس بازاء الجنون واللاكينونة التي تغمر روحه وتشجعه على أن يقرر أن يكون مختلفا.(38)
أما عن رد فعل مارلو على بروزس فيقول جلاسمن:
انه يجد في بروزس، تحديدا، مكانا غير طبيعي وقبيحا يبعث على السخرية: وتتمثل له المدينة في عبارته الشهيرة التي يقول فيها: انها ظهرت له بصورة مقبرة متشحة بالبياض، تغشاها الظلال الداكنة وتحيط بها الملائكة الغلاظ والصمت الموؤود.(39)
وليست الكونغو أفضل من اوروبا، فليس لها نمرض جديد، او مجد، الا انها لا تبعث على الالهام بل انها قاحلة، ويمثل " صوت " كيرتز رجع الصدى ويستجلب ذكريات العالم الذي تركه مارلو. وبذا يكون كيرتز صوتا داخل مارلو. أما الاشكالية التي يواجهها مارلو فهي أزمة ثقافية لأن المشكلة تتعلق بالحضارة. فالأكثر تحضرا والأقل تحضرا يتساويان في خوائهما من المعنى، وكلاهما يعرضان حالة من الفراغ الروحي. وهكذا نجد ان "الاسراع المريض واللهاث" الذي تمارسه اوروبا وحالة الظلام في الكونغو هما مصدر خطورة على الروح الانسانية، وانه من خلال ذلك الموقف المؤلم تصبر تأملات مارلو بشأن غموض الأدغال ذات معنى. ومثلما أوضح أحد النقاد:
لأن مارلو لا يجد شيئا مجديا ليقوم به، ومن دون ان تخطرني باله أية فكرة يقوم بأعبائها، ولأنه محاط بالمعتوهين وتذهله اللاكينونة فانه يخطو نحو أسراره تتملكه فكرة مرعبة مؤداها ان الحياة الانسانية مجدية في أيما مكان وان أوروبا وافريقيا لا تختلفان من حيث خوائهما، وان ثمة محافل للشركات في العالم، لكن ليس ثمة محفل واحد للذات.(40)
ان الصعوبات التي تواجه مارلو، بوصفه واقعا بين مرحلتي الحضارة، أولاهما الأكثر تقدما والأخرى الأكثر تخلفا، نسبيا، تمثل اعراض الحضارة اما عملية الحضارة برمتها فتصور على نحو متشكك. ويوضع انشغال مارلو بالأدغال حالة التفكير التي يعيشها الراوي. وتمثل تلك الحالة تمردا على آراء الحياة وقيمها المقبولة القائمة في مجتمع متحضر. ويرى مارلو، من خلال الدوافع الخفية التي تبطن المسعى الاوروبي الرامي الى التوغل في الكونغو، الفرض الحقيقي المتمثل في السعي وراء الثروة، وان كراهية مارلو للبحث عن العاج تشابه كراهية كلم للماس، وان حماسة كيرتز للماس تشابه رغبة اوستشيا الجارفة لعالم الماس.
فالرغبة في الثروة التي يرعاها كيرتز وينميها هي الاساس الي يقف عليه ذلك النوع من الحضارة التي أحدثت الانحلال الاخلاقي. وان أكثر ما يمقته مارلو هو الطمع والأنانية التي اماتت المشاعر الانسانية عند كيرتز وعند المستعمرين وجعلتهم قساة، وجعلت من الحياة مجدبة من كل ما هو روحي. وحين يتأمل مارلو الأدغال، يحاول كلم الاحتماء باغدن هيث، التي تصبح هي والادغال حالتين عقليتين ترمزان الى العوالم الخيالية. اذ يعتقد الراويان باختفاء بعض المعنى او الغرض. ويمكن القول ان استحالة فصل نفسيهما كليا عن الوعي الذي يمثل نتاج الحضارة هو السبب في حصول التوتر. ومع ذلك تبقى العوالم الأقل تحضرا مثارا للشكوك، وتخلق تلك الصعوبة حالة من عدم التأكد العقلي… أزمة، حالة من الاضطراب، تصور من خلال أغدن هيث والادغال.
ومن خلال ذلك المنظور يصبح كل من مارلو وكلم على قدر غير كبير من الأهمية… انهما عنصران يقوم الراويان بربطهما بهدف تصوير الفكرة… فكرة البدائية. أما كيرتز واوستشيا فهما عنصرا المقابلة اللذان أضفيا عنصر التأثير على عملية التصوير. وهناك من النقاد من يرى ان الموضوعة الرئيسية في قلب الظلام هي المشكلات ذات الصلة بتحضير (تمدين) المتوحشين وآثار عملية التحضر على الأوروبيين والافارقة (41) وأنا أرى ان الاشكالية المركزية هي الصراع المحتدم داخل الراويين، على الرغم من امكانية ان يكون التأويل المذكور آنفا واحدا من التأويلات الممكنة. ومن منظوري أنا تصبح الرواية عبارة عن رحلة الى الداخل (42). وبالطريقة ذاتها يتعمق الصراع في عودة المواطن على نحو أعمق في وعي الراوي، ويجد تعبيرا له في ضوء الخلفية الاجتماعية. اذ ان زواج اوستشيا من كلم وتحول كلم الى العمل في قطع الجولق ونبذه الحياة في باريس، كلها سياقات تتجلى من خلالها الصراعات التي تعزى الى البدائية في وعي الراوي من خلال الخطاب.
ومما لا شك فيه ان العملين اللذين تناولتهما في هذا الفصل يثيران تساؤلات تخص الاتجاه الذي تسلكه الحضارة. اذ أن موقف الراويين لا يدعو الى العودة الى ما هو بدائي، كما ان العالم الطبيعي لا يقدم ملاذا مقبولا للعقل الذي يفر من ترهات الحضارة، فأحدهما بارد، قاس، عدواني والآخر فارغ، خادع.. ويبحث العقل عن عالم مثالي، عالم لا وجود له… انه عالم خيالي يتبلور الخيال فيه على شكل أغدن هيث والادغال. ومن الجدير بالإشارة ان تأويلي لكل من اغدن هيث والادغال بأنهما حالتان عقليتان تمثلان الصراعات الثقافية في الوعي لا يوضح فقط ان هاتين الروايتين تعبير مختلف عن فكرة واحدة فحسب، بل يظهر ايضا ان السياقات والشخوص والاحداث تمثل التجليات الخارجية في لغة تلك الحالات العقلية. ويقدم كل نص من هذه النصوص مدخلا الى عالم الخطاب، ويخرج النقد، من خلال تركيزه على لغة النص، من نطاق النصوص الى عالم الأفكار، التي تشكلت أصلا بواسطة الخطاب، فالكتاب يتواجدون في عالم الأفكار، عالم الخطاب، تماما مثلما يتواجد القراء فيه. وبإمكان النقد توضيح الكيفية التي يتكون فيها المعنى وذلك من خلال استحضار العناصر او الأفكار وربطها معا بنقطة مركزية وهي الفكرة الأكثر طغيانا، وحسبما أرى فان البدائية هي فكرة هذين العملين.
وفي الرواية التي تقوم على السيرة الذاتية يبلغ الراوي حالة من القرب مع المؤلف ويشاطر الراوي المؤلف: معتقداته وأفكاره على الرغم من انه لا يستطيع ان يمثل المؤلف، لكنه يتمكن برغم ذلك من اعطاء لمحات عن عقل المؤلف، وهكذا، ثمة احتمال كبير لتوصل الناقد البنيوي وناقد السيرة الذاتية، ومع ذلك ففي الوقت الذي يجد فيه ناقد السيرة، المتسلح بتفصيلات تخص معتقدات المؤلف، ان تلك المعتقدات تؤدي وظيفتها في رواية السيرة الذاتية، يجد الناقد البنيوي، من خلال دراسته بنية العناصر في السيرة الذاتية، المعتقدات التي يشكلها الراوي من خلال الخطاب، وفي تحليل رواية تقوم على السيرة الذاتية، يتبنى كل من ناقد السيرة والناقد النبيوي عملية معكوسة من العمل الا انهما يتوصلان الى استنتاجات مشابهة. وعند تحليل أعمال السيرة الذاتية لا يمكن للنقد البنيوي الوصول الى قراءة مختلفة جذريا عن تلك التي يتوصل اليها نقد السيرة، الا ان النقد البنيوي يبرهن على ان الشخوص والأحداث في رواية السيرة الذاتية تعد تعبيرات خارجية عن الفكرة الداخلية. ويتعالى النقد البنيوي على سطح لغة النص الظاهرة وذلك من خلال الأخذ بعين الاعتبار مضامين تلك اللغة وسبرغور الفكرة المركزية. وهو يظهر الكيفية التي يتركز فيها المعنى حول فكرة ما تمثل محور الرواية: وهكذا نجد ان الفرق بين النقد البنيوي ونقد آخر يتناول نصا واحدا، كما أرى، يتمثل في تحول المركز او الفكرة المركزية وما يترتب عليه من تحول في المعنى.. والمركز الذي اكتشفته روايتا عودة المواطن وقلب الظلام هو البدائية، التي تعرف بأنها ظاهرة عقلية شمولية أدت الى تشكل اثنين من الرواة في روايتين مهمتين ضمن هذا السياق.
الهوامش:
1- توماس هاردي، رواية عودة المواطن evitaN ehT fo nruteR ehT (لندن ومالبورن وتورنتو: مطبعة ماكميرن، 1965) وسنرمز للاقتباسات المأخوذة من هذا الكتاب بالحرفين.) (NR) (بينما سنرمز الى الاقتباسات المأخوذة من رواية جوزيف كونوا قلب الظلام ,ssenkraD fo traeH في كتاب "كونراد كاملا" تحرير مرتن داوين زابل (نيويورك: مطبعة البنغوين 1977) بالحرفين.) (DH)
2- روي هس، "التغيير الاجتماعي والانحطاط الاخلاقي في روايات توماس هاري" مجلة دالهوسي 47 (1967) ص 32.
3- دونالدر. بنس "قلب الظلام: أمس الحضارة في عالم مغترب"، مجلة دراسات تكساس في الأدب واللغة، 7(1966) ص 340.
4 – يوضح ميشيل بيل "ان التوق الذي يشعر به الإنسان المتحضر الى العودة الى الحالة البدائية أو حالة ما قبل الحضارة، قديم قدم الانسان على التأمل بذاته. وانها لصفة مألوفة في طبيعة الانسان، وهي ان كل خطوة تقريبا تكون متميزة بالتعقيد أو التقدم المتزايد يصاحبها تغيرات تؤدي الى الشكوك بشأن مشروع الحضارة كلها… ويشير مصطلح البدائية الى صفة انسانية شمولية وموغلة في القدم حقا.." من كتاب "البدائية " (لندن: مطبعة ميثيون، 1972) ص1.
5- لقد وضحت رواية قلب الظلام، على نحو لا لبس فيه، المشروع الأوروبي الرامي الى مد بساط الاستعمار في افريقيا وتسليط الضوء على الاطار الذهني المنافق الذي يكمن خلف هذا المشروع: "ان هذا المشروع يتسم بالزيف شأنه شأن أي شيء آخر- مثل تظاهر المحسنين بحب الخير، مثل حديثهم، مثل حكومتهم، مثل ريائهم، وكان الشعور الحقيقي الوحيد هو الرغبة بالحصول على وظيفة بمنصب تجاري لبيع العاج حتى يتمكنوا من جني الأرباح".(وعلى هذا الغرار نجد في عودة المواطن ان الحياة المحيطة باغدن هيث تحكمها أعراف الزواج الاجتماعية والاحتفالات على نحو يشكل السياق أو سلسلة من السياقات. وكمثال على ذلك التعليق على الخلفية الاجتماعية التي تكتنف أغدن هيث: "لقد أحاطتها غرائز انجلترا المرحة وأضفت عليها نشوة غير اعتيادية، كما ان السمات الرمزية التي أضفاها التراث على كل فصل من فصول السنة كانت كما لو انها واقع في أغدن هيث" (NR ص 390)، ومع ذلك، لا يمكن ان تكون هذه سوى سياقات يخلقها الراويان لكي يجلبا الى السطح الحاجة الملحة التي تعتمل في اعماق الوعي.
6- تعمد نظرية البنيوية عند بارت على اعادة توضيح الشخصية في الأدب الروائي. وهكذا، ترى هذه المنهجية انه لا مكان للممارسة الاعتيادية التي تعد الشخصية مجرد فرد، فاسم العلم يعمل أشبه بالحقل المغناطيسي، وحينما تتمركز الشفرات وتمر عبر هذا الحقل، تخلق الشخصية، وان تقاطع الشفرات هو الذي يبين الطابع الشخصي للشخصية. وقد لاحظ أحد النقاد عند تعليقا على نظرية بارت ان الشخصية، تبعا لما ترده هذه النظرية، هي، امكان تغطية المعاني semes و "الراوي" – "امتزاج الاصوات"، وهي ايضا القارئ لصوت النص، ينظر: بيغي روزنثال "فك شفرة z/s)
(ط كوليج اجـ ش 37(1975) ص 125.
7- يقسم بارت النص الى وحدات قراءة saixel ويعرف كل وحدة قراءة بأنها واحدة من الشفرات sedoc الخمس: الشفرة التخمينية eciteriaorp والشفرة التأويلية cituenemreh الدلالية citnames والشفرة الرمزية cilobmys والشفرة الاحالية laitnrefer, رولان بارت، z/s ترجمة ريتشارد ميلر (نيويورك: مطبعة هيل دوانج 1974) ص 19.
8- ينظر: جاك دريدا "البنية والعلامة واللعب في خطاب العلوم الانسانية" في "الجدل البنيوي"، تحرير ريتشارد ماكزي وايوجينو دوناتو (بلتيمور ولندن: مطبعة جامعة جون هوبكنز، 1970) ص 247- 272.
9- ان النص، الذي يمثل مجموعة من الدوال التي يجمعها معا فعل الخطاب والذي يمنح القراءة امكان ادراك السطح الرقيق من الممكن تقسيمه الى "سلسلة من الشذرات الموجزة المتجاورة التي نطق عليها اسم "وحدات قراءة saixe وتشتمل وحدة القراءة الواحدة على كلمات قليلة، وفي بعض الأحيان على بضع جمل، ويكفي أن تكون وحدة القراءة أفضل مكان ممكن نستطيع أن نلاحظ المعاني فيه…" (رولان بارت، Z/S، ص 13).
10- لا يمكن تطبيق ´ هذه المنهجية، الى حد ما، في تحليل كل عمل ابداعي، وفضلا عن ذلك فانها تفرغ النقد في قالب الحقل المعرفي العلمي، وهذه هي نقطة الضعف والقصور في منهجية بارت، الا انه بين، رغم ذلك، ان هناك شفرات… قوى غائبة، تعمل خلال الكلمات والجمل التي تحتاج الى " تشريح وتمفصل " في سيرورة التأويل noitaterpretni fo. ssecorpوأنا أرى ان العناصر الثقافية – التي أطلق عليها انا اسم الشفرات الثقافية – هي ابرز ما نجده في روايتي عودة المواطن وقلب الظلام. ولهذا السبب أبحث أنا عن القوى الثقافية التي تعمل خلال الراويين.
11- يرى بارت ان، الشفرة هي منظور التنصيصات، سراب البنى الذي لا نعرف عنه سوى اغتراباته واياباته.. أي الوحدات التي تمخضت عنه…" Z/Sص 20. وتعد الشفرة "قوة غائبة" تنتزع الاسطر اطار النص الى لا تناهي الخطاب على نحو يجعل المعنى ممكنا. وتعيد ج. هيليس ميلر صياغة مفهوم بارت على النحو الآتي: " ان النص الأدبي نسيج من الكلمات تصل خيوطه وأسلاكه الى بنية اللغة السابقة الوجود. ويضيف الناقد أنسجته لشبكة النص او يحل بنية خيوطها ويعريها ثم يعيد نسجها، أو انه يتتبع احد خيوط النص ليكشف التصميم الذي يغلفه، أو انه يفصل النسيج كله بشكل معين او آخر"… (من: تمهيد كتاب ) "توماس هاردي: المسافة والرغبة " (كامبردج: مطبعة جامعة هارفارد، 1970 ) صIIIV، من الممكن تفسير هذه العبارات بوضوح اكثر لتسليط الضوء على النص والكاتب والقارئ. فالنص عبارة عن مادة متنامية من الشفرات (او الكلمات او الجمل ) التي تصنع المعنى، ويكون موجودا ضمن لا تناهي من الشفرات، اما الكتابة فتشتمل على استحضار هذه الشفرات معا وتحويلها الى أشكال مرئية. ولهذا تكون كلها موجودة ضمن عالم الشفرات الذي يصنع الأدب. في حين ان القراءة هي السيرورة المعاكسة للكتابة. ويخرج القارئ، الذي يتحرك على مسار الشفرات، من النص الى لا تناهي الشفرات ويكتشف المعنى.
12- ج. هيليس ميلر، التمهيد ص.IX
13- لقد لاحظ النقاد طابع السيرة الذاتية الذي يتجلى في روايتي عودة المواطن وقلب الظلام. فالناقد هارفي كيرتسي وبستر يعرف المؤلف هاردي بشخصية كليم بمعنى ان وجهتي نظرهما متشابهتان تماما:، في عودة المواطن يشاطر هاردي الشعور مع كليم في ان الجهود التي ترمي الى احداث التحسن الاجتماعي لا يتمخض عنها سوى أمل ضعيف بالنجاح". (من كتاب: "في السهل المعتم: فن توماس هاردي وفكره" (شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو، 1975) ص 119، ينظر ايضا: روبرت جيتنكر: "هاردي الاكبر" (لندن: مطبعة هينمان، 1978) ص 9، 78، 15-16" في قلب الظلام تجد ان الخبرة الرابضة خلف الوقائع هي التي تمنح نقد السير أفقه"، ويعلق نورمن شيري قائلا: "ان المادة الأساسية التي استند عليها جوزيف كونراد في روايته قلب الظلام، في حقيقتها، خبرة شخصية قصيرة للظروف التي حصلت في الكونغو للفترة من 1890- ا 189، والتي يظهر تحت سطحها (أي الخبرة) كارثة شخصية " (من كتاب) "عالم كونراد الغربي" (كامبردج: مطبعة الجامعة، 1971/ ص 339 ينظر ايضا: "جوزيف كونراد: سيرة نقدية" (لندن "مطبعة ويدنفيلد وينكلسن 1959) ص 105.
14- هـ. س. دفن، "توماس هاردي: دراسة لرواياته" (مانشستر: مطبعة جامعة مانشستر، 1916) ص 57.
15– ميلر "المسافة والرغبة "، ص 91.
16- دنيس كي- روبنسن، "روايات هاردي" في: "عبقرية توماس هاردي" تحرير مارجريت درابل (نيويورك: مطبعة نويف 1976) ص 114.
17- مارجريت درابل، "هاردي والعالم الطبيعي" في: "عبقرية توماس هاردي" ص 165.
18– "الصورة المائلة واللازمانية التي خلقها هاردي في مدينة أغدن القفر هي مشهد عودة المواطن"، ريتشارد كاربنتر: "توماس هاردي" (نيويورك: مطبعة جامعة تودين، 1964) ص 91.
19- كاربنتر، " توماس هاردي" ص 93- 94.
20- المصدر نفسه، ص 97.
21- ينظر أرثر لفجوي وجورج بواس، "البدائية وأفكار قديمة" (نيويورك: اوكتاجون بوكس، 1973) ص 7. "ان معايير الحضارة الحقيقية ذات طابع ذاتي وليس موضوعيا، فهي أشبه بالمفاهيم، تتولد في اذهان الناس لأسباب يجهلها الجميع… فهي الكلمات والافكار والذكريات والعادات والصلات"، رولاند سترومبرج: "ارنولد توينبي: مؤرخ لعصر الأزمة" (لندن وامستردام: مطبعة فيفر وسيمونز 1972 ) ص.72،
22- توماس موزر، "جوزيف كونراد: الانجاز والانحدار" (كامبردج: مطبعة جامعة هارفارد، 1997) ص80.
23- دونالد بنسن، "قلب الظلام: أسس الحضارة في عالم مغترب" ص 344.
24- المصدر نفسه.
25- فلورنس ردلي: "المعنى المطلق في قلب الظلام" مجلة "أدب القرن التاسع عشر الخيالي" 18 (1963) ص 46.
26- ينبغي الالتفات الى الأوصاف التالية للتعرف على علاقة كليم بمدينة أغدن: "لقد فتح عينيه لأول مرة ها هنا ليرى معظم ظاهر هذه المدينة الصور الاولي التي انطبعت في ذاكرته وامتزجت على نحو لون نظريته الى الحياة بألوانها. كانت الدمى التي يلعب بها عبارة عن سكاكين حادة ورؤوس السهام التي كان يجدها هناك… من عودة المواطن ص 180، اما في ص 175 فنجد "لقد كان كليم ممزوجا مع مدينة أغدن القفر في صباه الى الحد الذي لا يستطيع فيه أي شخص النظر اليها دون ان يتذكره".
27- يكون لأوصاف علاقة اوستشيا بمدينة أغدن القفر معنى واضح حينما نطلع على وصف علاقة كليم بالمدينة ذاتها. ،لقد كانت أغدن بمثابة مثوى الأصوات بالنسبة لاوستشيا، اذ انها منذ مجيئها الى هنا أحست بطابع العتمة الذي يغلفها "، عودة المواطن ص 75.
28- "البدائية وافكار أخرى في التراث" ص 7.
29- "… تنشأ البدائية من الشعور بالأزمة في الحضارة، وتعرف بأنها النتاج المتناقض للحضارة ذاتها". "البدائية " ص 80.
30- تتوق اوستشيا بعمق الى مدينة بدماوث التي يمكن ان نعدها أحدى مراحل الحضارة، أما حينما يذكرها ديجوري فين بعجائب بدماوث فانها تنذهل قائلة: "أوه، يا الهي، بدماوث… لكم ارغب لو كنت هناك ".عودة المواطن، ص 101. وتتأجج عاطفة او ستشيا الى العالم المتحضر
حالما ترى كليم: ،لقد قضت الجزء الأعظم من الظهيرة هائمة في خيال التصور والتحليق في أجواء الروعة التي تحيط برجل جاء مباشرة من باريس الجميلة – مشبعا بمناخ باريس وعطرها، مؤتلقا مع سحر ما"،ص 123. ويجد نفور اوستشيا من العالم الريفي ما يعبر عنه عبر رد فعلها على الفلاحين حينما نقرأ الوصف الآتي لها: " لكم كان يسخطها مرأى ابناء مدينة أغدن البسطاء في يوم الأحد وهم يسيرون وايديهم بجيوبهم، وبجزماتهم المدهونة حديثا وغير مربوطة الاشرطة، يمشون باستمتاع بين الحشائش ونباتات الجولق التي يحصدونها كل يوم ويرفسونها بأقدامهم كما لو ان احدا لا يراهم "، ص 78.
31- كاربنتر " توماس هاردي " ص 97.
32- موزع، " جوزيف كونراد: الانجاز والانحدار"، ص 23.
33- البرت جيرارد، " كونراد روائيا" (كامبردج: مطبعة دامعة هارفارد). 1951-ص 38.
34 – المصدر نفسه ص 37.
35- بيتو جلاسمن، "اللغة والكينونة: جوزيف كونراد وأدب الشخصية" (نيويورك ولندن: مطبعة جامعة كولومبيا، 1976) ص 198- 206.
36- فلورس ردلي "المعنى المطلق لرواية قلب الظلام"، ص 45.
37- المصدر نفسه.
38- جلاسمن، "اللغة والكينونة" ص 200.
39- المصدر نفسه.
40- نفسه، ص 205.
41- ينظر: دونالد بنسن ص 339- 347.
42- جيرارد، "كونراد روائيا" ص 38.
سنكران رافيندران
خالدة حامد (كاتبة ومترجمة من العراق)