عماد عبداللطيف
باحث وأكاديمي مصري
يعاني كثيرون من قفلة الكاتب في فترة أو أخرى من فترات حياتهم، يتوقفون خلالها عن الكتابة، وكأن صنبور تدفق الأفكار والكلمات قد أغلق تمامًا. تشبه قفلة الكاتب حالة الخرس، حين يفقد المرء القدرة على النطق، مع أن عقله مشحونٌ بطوفان الكلام. تتعدد أسباب قفلة الكاتب؛ فقد يكون سببها مرور الكاتب بحالة افتقاد الدافعيّة، أو اهتزاز الثقة، أو تشتت الذهن، أو وهن الجسد، أو ضغوط الحياة، أو غيرها من أسباب. لكن خلال السنوات الماضية ألاحظ حالة خاصة من قفلة الكاتب، ترتبط بالشعور بضيق منافذ النشر الحرة الرّصينة التي يمكن من خلالها التعبير عن الرأي بشأن الأزمات الرّاهنة بحريّة وأمانة دون أن يحسب الكاتب على تيار بعينه أو يصنف تصنيفًا معينًا، أو يتعرض للأذى. هذا النوع من قفلة الكاتب سأسميه «قفلة القهر».
منذ نشأة الفضاء العمومي في العالم العربي، وظهور وسائل الاتصال الجماهيري مثل الصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون، أَرغَم الكثير من الكتاب والباحثين العرب أنفسهم على تجنب الكتابة أو التحدث عن أزمات راهنة كان يتعين عليهم الكتابة عنها والتحدث بشأنها مثل الخضوع للهيمنة الخارجية، والقهر والاستبداد الداخلي، وتحولات القيم، والفساد، وتقييد الحريات، وغيرها من أزمات تعصف بمعظم البلدان العربية. زادت وطأة هذا الإرغام بعد هزيمة الربيع العربي، وصعود الاستبداد، وتعاظم الهيمنة الخارجية. تتعدد أسباب ودوافع تجنب الكاتب قول ما يجب عليه قوله وكتابته، أهمها هو تجنب أذى لا يمكنه احتماله. فكل كاتب وباحث ومبدع وفنان وأديب يحيا في عالمنا العربي يعي القوانين التي تنظم إنتاج الكلام وتداوله في معظم المجلات العربية في اللحظة الراهنة، وأهمها قانون «الإكراه على الصمت» الذي يمكن صياغته في عبارة موجزة هي: من يرغب في تجنب الأذى، أو حيازة المنافع، فعليه أن يصمت عن كل ما يمكن أن يسبب له الأذى، أو يحرمه من المنافع. ويسود هذا القانون، لا سيما في البلدان التي انحازت إلى القهر بوصفه أداة أساسية للحكم. فقد أصبح الإكراه على الصمت أداةً لإخفاء الواقع، استنادًا إلى أن ما لا يتكلَّم عنه الناس غير موجود، وأن ما لا يُذكر لا يُرى. إزاء هذه الأزمة يجد كتَّاب معظم بلدان العالم العربي أنفسهم أمام خيارات محدودة. أعرضها فيما يأتي:
أولًا: الصمت التام
هذا هو الاختيار الأصعب الذي يحوِّل التوقف عن الكتابة من «قفلة» مؤقتة إلى تقاعد مبكر. وتزداد ضراوة هذا التقاعد على نفوس أصحابه بالنظر إلى أن الكتابة عند البعض تكاد تكون هويَّة يدركون أنفسهم من خلالها، وليست مجرد عمل أو حرفة. لذا لا يتقاعد ممارسوها بإرادتهم، ولا يتركون أقلامهم إلا حين يُكرَهون على ذلك. ويؤدي الولع بالكتابة حين تضيق فرص النشر إلى نوع آخر من الصمت هو الصمت عن النشر لا الكتابة. فيستمر الكاتب في كتابة ما يمليه عليه ضميره الإنساني والمهني، ويحدوه رجاء أن تزول الإكراهات المحيطة، حتى يتسنى له نشر ما كتب. وفي مقابل هذا الصمت التام، يختار كتاب آخرون صمتًا آخر هو الصمت النسبيّ عن طريق الاقتصار على الكتابة الآمنة.
ثانيًا: الكتابة الآمنة
يبدو اختيار الكتابة الآمنة هو الاختيار الأكثر شيوعًا في زمن الأزمات. فالحرص على تجنّب الأذى ودرء المخاطر سلوكٌ طبيعيٌّ عند معظم البشر. وبعض الكتاب يستطيع التكيّف مع القيود المفروضة على حرية التعبير عن طريق الكتابة الآمنة التي تتجنب الموضوعات التي قد تُسبب أي نوع محتمل من الأذى، بما فيها الأزمات والموضوعات الشائكة. وهذا النوع من الكتابة الآمنة ينتج عنه ما يمكن أن نسميه «الصمت النسبي». ونتائجه قد تكون أخطر من الصمت التام؛ ففي حين يثير الصمت التام التساؤل عن أسباب التوقف عن الكتابة والنشر، فإن الصمت النسبي يجعل الأمور تبدو عادية، إذ يُنظر عادة إلى موضوعات الكتابة، لا سيما في المجلات الثقافية والأدبية، على أنها اختيار حرٌّ للكاتب في معظم الأحيان. ويشترك اختيارا الصمت النسبي والصمت التام في أمرين: الأول أنهما يكشفان عن تخلي الكاتب عن مهمة مقدّسة؛ هي أن يكون صوت الحقيقة، ولسان من لا لسان له في ظروف أزمات عاصفة، تحتاج فيها البلدان العربيّة إلى عقول أبنائها العارفة النزيهة. والثاني أنهما يمكِّنان الكاتب من الحفاظ على حد أدنى من مصداقيته ونزاهته، فالصمت التام أو النسبي أشرف كثيرًا من أن يخادع الكاتب قراءه، كي يحقق منفعة لنفسه، على نحو ما نرى في الكتابة المنافقة.
ثالثًا: الكتابة المنافقة
قطاع كبير من الكتاب يتعاملون مع الكتابة على أنها حرفة يتكسبون منها. يصبح القلم سلعة تباع وتُشترى لمن يدفع أعلى ثمن. وهؤلاء قادرون على التعامل مع أي أزمات أو تحولات بسهولة متناهية؛ على طريقة مات الملك، يحيا الملك. فهم بحارة بارعون، قادرون على تغيير اتجاه أشرعة أقلامهم بحسب اتجاه الرياح المربحة. ولا يجدون غضاضة في الانتقال من دعم وجهة نظر صباحًا، إلى نقدها عصرًا إذا كان في هذا التحول ما يخدم مصالحهم قبل أي شيء. وللأسف فإن هؤلاء الكتاب يُصبحون أهل الثقة والنفوذ، إذ تُسبغ عليهم السلطة من الثروة والقوة والصلاحيات ما يحولهم إلى مراكز قوى، تستميل الموالين، وتعاقب المخالفين. وهؤلاء لا يشعرون بحرج من الكتابة عن أي موضوع؛ لأنهم سيتماهون مع موقف السلطة المسيطرة، ويتبنون رأيها، ويدافعون عن مصالحها، وينشبون أنيابهم في الكتاب المخالفين. ويجد الكتاب المتمسكون بالمهمة النبيلة لمهنتهم -أعني قول الحقيقة في زمن الإكراه على الصمت أو النفاق- أنفسهم أمام اختيارين: إما اللجوء إلى الكتابة المراوغة، أو الكتابة الشفافة.
رابعًا: الكتابة المراوغة
الكتابة المراوغة هي التعبير غير المباشر عن رأي ما، بحيث يُتاح للكاتب التنصل منه عند الضرورة. تُمكِّن الكتابة المراوغة الكاتب من التعبير عن رأيه فيما يخوضه المجتمع من أزمات، بطريقة لا تجعله عرضة للأذى قدر الإمكان. وتعتمد الكتابة المراوغة على حيل التلميح والتضمين والمداراة والمواربة والإيحاء والغموض والكناية والتعريض والتورية والفكاهة والنكتة وغيرها من أساليب البلاغة والتعبير التي تمكِّن المرء من أن يقول شيئًا لم يقله مباشرة، ويتنصل منه حين يُستجوَب بشأنه. تتيح الكتابة المراوغة التحايل على الصمت المفروض، وتحول بين الكاتب والتقاعد، لكنها تسلبه حق تسمية الأشياء بأسمائها، وحرية التعبير الجريء عن الفكر والرأي والموقف الأمين. وفي بعض الأحيان، قد تؤدي الكتابة المراوغة، حين تُصبح اختيارًا دائمًا، إلى التواء العقول، كما تلتوي الألسن. فتتحول الكتابة إلى ممارسة تواصلية زئبقية، لا يمكن الإمساك برؤى كاتبها، ومواقفه، وتصبح الكتابة المراوغة حينها حلقة في مسلسل تخلي الكاتب المراوغ عن قيمه المهنية، قد ينتهي بتحول الكاتب من الكتابة المراوغة إلى المنافقة. لذا تبقى الكتابة الشفافة هي النوع الأكثر نصاعة ونبلا، والأكثر تكلفة وضررًا في الآن نفسه.
خامسًا: الكتابة الشفافة
أقصد بالكتابة الشفافة تلك الكتابة التي يقوم فيها الكاتب بالتعبير عن رأيه وموقفه من الأزمات التي يمر بها مجتمعه بوضوح ونزاهة، لا يخشى في محبة الوطن والحق لومة لائم. وهذا الاختيار من أصعب ما يكون في معظم عالمنا العربي الراهن. فالقوى التي تسعى للحفاظ على مصالحها تجيد استعمال ثنائية ذهب المعز وسيفه للسيطرة على ما يُكتب ويُنشر في الفضاء العمومي. وقلة محدودة من الكُتاب هي التي تختار رفض الذهب ومقاومة السيف عن طريق الكلمة الحرة. وقلة هي المجلات التي تنشر ما يكتبه هؤلاء، وقلة أقل منها هي التي تنشر الكتابة الشفافة وليس لها هدف إلا الحقيقة والخير والمصالح الحقة للشعوب والأوطان، وليس تحزبًا لطرف أو آخر من أطراف الأزمات التي تواجه مجتمعاتنا.
المجلات الثقافية العربية
وقضايا الواقع
ما ينطبق على الكتابة يكاد ينطبق على وسائط النشر مثل المجلات والصحف. فبعض المجلات تختار الصمت التام، بأن تحتجب مؤقتًا أو تتوقف تمامًا، وأخرى تختار النشر في المساحة الآمنة، وتقصر صفحاتها على الموضوعات التي لا تثير أي جدل أو حساسية، وتعيد هندسة سياسة النشر فيها لتتلاءم مع مقتضيات الواقع. أما المجلات التي تُغير بوصلتها بحسب اتجاه رياح مصالح القائمين عليها، فتجد في الكتابة المنافقة، والكتاب المتلونين كنزًا لا يفنى. في المقابل تظل حفن معدودة من المجلات والمنصات قابضة على جمر الحقيقة، متمسكة بأخلاقيات المهنة، تنشر أعمال قلة من الكتاب المؤمنين بقيم النزاهة والصدق والصلابة الأخلاقية، الذين جعلوا البحث عن الحقيقة وقولها الواجب الأسمى لكتابتهم.
لقد جعلت السنوات الماضية قول الحقيقة في كثير من أمور الشأن العام عملًا فدائيًا، باهظ الثمن. فاختار أغلب الناس الصمت، أو الكلام في المساحات الآمنة. ونتيجة الإكراه المتواصل للذات على الصمت يعيش بعض الكتاب، بين الحين والآخر، حالة من «قفلة القهر». الذهن مكتظ بالأفكار والكلام، والقلم عاجز عن كتابة حرف واحد. وكأن عقلنا الذي اعتاد أن يكتب غير ما نريد قد تمرد علينا، فحرمنا من القدرة على الكتابة ذاتها.
«قفلة القهر» تبدو ردة فعل طبيعية في المجتمعات التي تحتفي بالكذب. فمجتمعات القهر تجعل الفضاء العمومي حكرًا على كل كذوب، وتضع الأقدر على المتاجرة بالكلام في مقدمة الصفوف، وتشوش وتشوه وتغلق فم كل ناطق بحق أو كاشف لحقيقة. في هذه الظروف يرخُص ثمن الكلام، ويسود الكلام الرخيص. ويندر الكلام الذي يوزن بميزان الذهب لأنه يتسم بالصدق والنزاهة والبصيرة.
كيف يمكن التعامل مع قفلة القهر؟
يُمكن لمن يُعاني قفلة الكاتب العادية أن يقاومها بوسائل مختلفة، منها استثمار وقت القفلة في أنشطة تخدم الكتابة مثل القراءة والبحث، ومواصلة الكتابة في أنواع وأنشطة غير تلك التي اعتادها الكاتب، كأن يكتب مذكراته الشخصية حين يواجه قفلة أثناء كتابة عمل شعري أو روائي، أو يكتب مقالًا صحفيًا حين يواجه قفلة أثناء كتاب بحث علمي…إلخ. كذلك يمكن مواجهة قفلة الكتاب بواسطة الكتابة عنها، وتأمل أسبابها، وتهيئة الظروف المساعدة على الخروج منها. لكن مواجهة قفلة القهر تحتاج إلى أساليب مقاومة مغايرة؛ لأن العوامل المؤثرة فيها خارجية بالأساس.
لعل أهم سبل مقاومة قفلة القهر هو الوعي بطبيعتها وأسبابها. فحين يُدرك المرء أن عدم القدرة على الكتابة نتاج صراع داخلي بين إرادة الحرص على قداسة الكلمة وقيمتها والخوف من تبعاتها وآثارها، تهدأ بعض مشاعر القلق المصاحبة لقفلة الكاتب، وتنكشف بعض السبل والاختيارات البديلة. فالقلق من أن يكون المرء قد فقد القدرة على الكتابة شعور مؤلم يصاحب من يعانون قفلة الكاتب العادية، ويُنغِّص عليهم الاستمتاع بفترة الانقطاع عن الكتابة بوصفها فترة راحة مؤقتة. مثل هذا القلق لا سبب له لدى من يعانون من قفلة القهر، وهم من ثمَّ أقدر من غيرهم على مقاومتها.
يمكن لقفلة الكاتب أن تتحول من أزمة إلى فرصة هائلة للكاتب. فالتعامل الإبداعي مع القهر يؤدي بالكاتب إلى ابتكار أشكال تعبيرية جديدة، قادرة على نقل رسائله، والتعبير عن رؤاه بسبل أكثر أمانًا من التعبير الصريح المباشر. ولعل الدرس الأعظم في هذا الاتجاه يأتينا من كُتاب عظام قدموا نقدًا جذريًا لسلطة غشوم، وضمِنوا لأعمالهم حضورًا جماهيريًا كبيرًا لأنهم طوروا من أساليبهم التعبيرية. ويمكن أن نستحضر في هذا السياق أعمال نجيب محفوظ في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. فقد ضمَّن أعماله نقدًا جذريًا لنظام يوليو، في ذروة سطوته، دون أن ينخرط في صدام مباشر معه، على نحو ما نرى في رواياته «اللص والكلاب، 1961»، و»ثرثرة فوق النيل، 1966»، و»السمان والخريف، 1962» و»ميرامار، 1967»، وغيرها. لقد روى نجيب محفوظ أن عبد الحكيم عامر كان على وشك النيل منه بسبب ما تضمنته رواية «ثرثرة فوق النيل» من نقد سياسي. لكن براعة محفوظ في تقديم هذا النقد في إطار سردي يُظهره على أنه «كلام مساطيل» عن طريق أسلوب التداعي الحر، أتاح له فرصة التعبير عن رأيه من ناحية، وتطوير أدوات فنية من ناحية أخرى.
ربما يكون من المفيد استحضار صوت نجيب محفوظ نفسه، وهو يتأمل تجربته مع نقد السلطة بقوله «أستطيع أن أقول وأنا مرتاح الضمير إنني قلت كل ما أريد قوله في أعمالي الروائية، وعبرت عن كل آرائي خلال فترة حكم عبد الناصر، والرأي الذي لم أستطع التصريح به مجاهرة أوصلته للناس عن طريق الرمز. فمن مزايا الفن الكبرى أن الفنان يمكنه أن ينقد ويعترض ويقول كل ما يريد قوله بشكل غير مباشر»(1). وقد يبدو أن «التحايل» الأسلوبي لقول ما لا يمكن قوله ممكن في الأعمال السردية المتخيلة، وغير ممكن في أنواع كتابة الرأي، مثل المقال. لكنني أظن بأنه ممكن في كليهما.
إن التعامل مع قفلة القهر على أنها تحدٍ معرفي جمالي قبل أن تكون تحديًا سياسيًا أو اجتماعيًا هو الطريق الوحيد لمواجهتها. فالعبرة ليست دومًا بما يُقال، بل بكيفية القول ووسائله ووسائطه. فإذا لم يتمكن المرء من التعبير عن رأيه في أزمة راهنة مثلا، فإن بإمكانه التعبير عن نقده لأزمة تاريخية مشابهة. وإذا لم يتمكن من الإشارة إلى حدث أو مكان محدد، أو أن يسمي فواعل معينين، فيمكنه قول ما يمليه عليه ضميره عن طريق الإشارات الضمنية إلى المكان أو الزمان أو الشخص، أو عدم الإشارة إلى عناصر سياقية دقيقة ويركز على القضية معزولة عن حدث محدد. وإن لم يستطع كتابة مقال لتحليل التغيرات في القيم أو الإشارة إلى مكامن فساد مثلا، فإن بإمكانه كتابة قصة قصيرة أو رواية أو مسرحية أو قصيدة عن الموضوع ذاته. وإن لم يتمكن من التعريف بعمله في وسائل التواصل الجماهيرية العمومية، فبإمكانه تقديمه عبر وسيط افتراضي. فمهما سعت القيود لخنق الكلام فإن المبدع قادر دومًا على أن يوصل رسالته النبيلة بشتى السبل والأدوات. وينطبق الأمر نفسه على المجلات الثقافية والفكرية التي تجد نفسها مقيدة ومراقبة، فهي تستطيع ابتكار طرق تمكنها من تقديم رؤاها بشأن القضايا الأكثر أهمية وراهنية في مجتمعاتها، دون أن تدخل في مواجهة مباشرة مع قوى الرقابة والمعاقبة التي تؤسسها مجتمعات القهر للسيطرة على الفضاءات العمومية.
الهوامش
رجاء النقاش، صفحات من مذكرات نجيب محفوظ، دار الشروق، 1998، ص:146.