سمع دق كثير على الباب، أنا جالس قرب زوجتي، متكئ على أريكة البهو المقابل لمدخل المنزل، تزايد الطرق، اصطنعت ربة البيت الهدوء، لفتت انتباهي إلى الخبط المتوالي، لكن لانشغالي بخصومة معها، فقد رفضت استقبال أي زائر. انفتح الباب وحده، تراءي لي من نصفه المشرع حشد من البشر؛ جماعة من الرجال والنساء تبينت منهم أقارب لها.ولأنني رجل ذو مزاج لا يقبل الحلول الوسطى ولا تجزيئا للمشاكل ولا تفريدا للأفراد، فقد ماهيت الزوار مع ربة البيت. لم أقم لاستقبال أي كان. اجتهدوا في إيجاد سبيل لتجاوز الإهانة التي «ألحقتها» بهم من خلال تجاهلي إياهم ؛ افتعلوا الاختصام ؛ ها هم يتبادلون كلمات متفاوتة الخشونة، يتشادون بالأيدي، يتدافعون، يصطنعون زحاما لا يزيدهم إلا بعدا عن مدخل البيت. ابتعدوا عن الباب قليلا. بعضهم يشزرني بنظرة غريبة، تسمرت عيناي في عين أكثر من واحد منهم.
وهأنذا أجد نفسي وسط ما يشبه كابوس، طريح الفراش، في الهزيع الأخير من الليل، داخل غرفة دامسة، تكاد أنفاسي تنقطع، تجتاحني حرارة مفرطة. يفيض بداخلي ذبيب عرمرم مجتاحا جسمي قاطبة ؛ يسري في الأوعية والأعصاب والعظام، يتسرب إلى الداخل بكل شقوقه ومخابئه وتجاويفه ونتوءاته، مخي الآن يحترق. شبه نور خافت ينزل فوق السرير مكونا هالة كأنها قبة من نور. أريد أن أصرخ، لا أقوى على الصراخ، أريد أن أحرك أي طرف من جسدي،لا أقوى على الحراك، أثن بأقوى ما أوتيت من قوة، لا تلتقط أذني إلا صمتا رهيبا، فقد استحال الداخل في إلى فضاء رحب يبتلع كل صرخة أو أنة وصداهما، كأنني صرت الآن بئرا موغلة العمق. أشعر بغبن شديد، أدرك بيقين لا يقبل أي دحض أنني الآن إلى الموت مساق. أحس بأنامل كف توضع على شفتي السفلي وبأصابع أخرى تندس تحت رأسي لتسنده. أجهد عيني على الآنفتاح، تنفتحان بالكاد. أرى رأسي شبحين أحدهما عن يميني والأخر عن يساري. تتكلم امرأتان، لا ألتقط من كلامهما إلا صوت المرأة التي عن يميني: إنها أمي. تقول:
"كأن شفتيه قطعتا ثلج. الله، ثم الله، ابني مسكين يموت ! ابني يموت.."، يتكرر هذا الكلام مرات بصوت مزقه قرب الفقدان. لا التقط من المرأة الجالسة عن يساري سوى ترنح ونحيب،بكاء خافت،عرفت من هي: إنها زوجتي. زوجتي وحدها هي التي حرصت منذ مرضت على إظهار رباطة جأش نادرة، على عدم ابداء أي انكسار أمامي. ظلت مستمسكة كأنها قطعة فولاذ، وكلما كلمتها في المرض استصغرته واحتقرته، ثم اصطنعت حيلة لتغيير مجرى الحديث إلى أفاق أخرى.تلك كانت طريقتها في الحرص على عدم دفعي إلى الآنهيار، وهي طريقة كانت صائبة دون شك، إذ لولاها لكنت انتقلت إلى اقامة الموتى منذ أربع سنوات على الأقل ؛ فأمام مرض عضال، كالذي أعاني منه الآن، ليس بوسع المرء أن يفعل أي شيء أخر عدا الركون إلى أحد تصرفين متناقضين ؛ فإما يؤمن بقوة المرض، ويستسلم له، ويقتنع بطابعه القدري، فينهار أمامه، يقول: "لم يبق لي في الحياة إلا أشهر معدودة…"، فيعد عدة الرحيل، يصفي ممتلكاته، ثم يجهز سرير الاحتضار، وذلك ما يحدث له بالفعل، إذ ما يمضي ردح من الزمن حتى يجد نفسه بالفعل طريح الفراش، ويدخل سيرورة الموت الفعلي. أو (وهذا هو التصرف الثاني) يأخذ مرضه مأخذ جد دون أن يأخذه مأخذ جد، بمعنى أنه يعرف أنه إن يواصل التصرف على نحو ما تصرف به إلى حدود معرفة مرضه، ينقض عليه الداء، ولذلك تراه (المرء) يواجه المصير القدري الذي يرتسم أمامه بإرادة تفوق كل إرادة، برغبة في البقاء، فيتخذ من المرض مناسبة لمراجعة أسلوب حياته، لاكتساب عادات جديدة، مبتكرا بذلك حظوظا للبقاء، حظوظا للشفاء، وفي المسلك الثاني اختارت زوجتي الزج بي منذ هوى علينا خبر المرض كالصاعقة…
يتواصل الصوت الممزق والبكاء الخافت،كأني الآن بصدد الإنصات إلى أغنية حزينة منكسرة ما يوقعها إلا الترنح والبكاء. أتمزق أنا الأخر في أعماقي إشفاقا عليهما، أحاول القيام بأي حركة، النطق بأي كلمة، كي أتظاهر بأنني لم أصل بعد إلى طور الاحتضار، بأنني مازلت حيا، بأنني سأبقى حيا… لا أقوى على فعل أي شيء، أدرك أن الانقضاض علي قد تم فعلا، وأن جثتي الآن لا تعدو مجرد فريسة في يد هذا الكائن الجبار الذي يدعوه الأحياء موتا.
يتوارى الكابوس والحلم، يشرق الواقع بكل مرارته ؛ يدخل أهل الزوجة إلى الغرفة، يحيطون بالسرير، أفطن إلى أنهم لم يأتوا صدفة، لم يجيئوا لإصلاح ذآت بين بيني وبينها كما خيل الي قبل قليل، بل جاءوا خصيصا لحضور جنازتي، أنا الآن أحتضر، ولعلم ربة البيت بقرب موتي فقد أخبرت آلها، فجاءوا من مدن بعيدة خصيصا لحضور موتي وتشييع جنازتي، تصرف إحدى المرأتين الجماعة، ينتهي الى أذني وقع أقدام وغمغمات، من الغرفة المجاورة لغرفة نومي أسمع جلبة أخرى.
أنا الآن ماض إلى حتفي، جسدي انهار بحيث لم أعد أقوى على القيام بأدنى حركة، ولكن ذهني في توقد ويقظة وتركيز لم أعهدهما طوال حياتي، منشغل بالتفكير في أمور عديدة جدا ما الفلسفة أمامها سوى ضرب من السفسطة والاستمناء بالعقل. أتمزق حسرة على عدم قدرتي على موافاة الحضور بما يعتمل في ذهني، بالحقائق المشرقة الآن في عقلي، أريد أن أقول أشياء عديدة، لا أقوى على قول أي شيء، أتمزق حسرة، أريد فقط أن أنهاهم عن الآنكسار حسرة على فقداني. يا معشر الناس، للحياة برازخ، أنا الآن في أحدهما، أعجب كيف نقنع من الحياة بكل ما تمنحنا إياه، بالنصيب الذي تخصنا به، جميلا كان هذا النصيب أم قبيحا. أعجب من تنوع درجات إدراك الحياة والإحساس بها، من كوننا نظل متعلقين بها ملتصقين بها رغم انقلابها علينا؛ فعندما كنت في صحة جيدة، كان يعسر علي تصور قبول الاستمرار في العيش إذا ما انقلبت علي الحياة في يوم من الأيام ؛ كنت أقول: "إن يصبني عمى أو شلل أو سرطان يجبرني على القعود في الفراش أضع على الفور حدا لحياتي"… لكن هأنذا الآن مقعد، طور الفراش، على مشارف الموت ومع ذلك أقبل البقاء على هذه الحال، أقبل أن أكون فريسة للموت تاركا له أمر الآنقضاض علي متى شاء، كأنه بانقضاضه ذاك سيرحمني، كأن انقضاضه علي رحمة أو شفقة… وأنا الذي كان بوسعي الآنقضاض عليه يوم كنت أقوى على المشي والوقوف واتخاذ قرار وضع حد لحياتي… أكثر من ذلك، قبلت قضاء سنوات خمس في التنقل بين مباني المختبرات وأسرة المستشفيات وابتلاع جبال من الأدوية وتلقي مثلها من الحقن في سبيل شفاء وهمي إلى أن يئس الأطباء من شفائي، نفضوا أياديهم مني، وأمسكوا عني كل دواء، وأحالوني على البيت لألازمه إلى أن يحين أجلي، أفطن إلى أنني لست في ذلك إلا أسير الشرط البشري، وأن حالتي لا تشكل أي استثناء، فالمرء يعيش ردحا من الزمن في صحة جيدة، ثم يفقد ذات يوم بعضا من أعضائه، فيجد نفسه بين عشية وضحاها قد صار أعمى أو مقطوع اليدين أو الرجلين أو هما معا، وبدل أن يثور على قسوة الحياة بأن يضع على الفور حدا لوجوده، تراه يقنع بشرطه الوجودي الجديد، ويجند مجهوداته قاطبة للتكيف مع الكائن الجديد الذي صيرته الحياة إياه، فيضاعف حواس اللمس والشم والسمع، ويقبل أن يستمر في الحياة مشكلا عبئا على الآخري، يقبل أن يتولوا مد فمه بلقمات الطعام، وتغيير ملابسه، وغسل جسده. وحمله يوميا، كما لو كان صبيا، لقضاء أكثر حاجياته البيولوجية أولية، كالتبول والتبرز…
شريط حياتي يمر أمامي، تنقلني الألأم المبرحة إلى أيام كنت أبذر حياتي تبذيرا، بدون حساب ولا تقتير، بكرم لا يضاهيه أي كرم، في ليالي سكر طوال، في إدمان التدخين واحتساء القهوة السوداء، وسهر ليالي ما كان يؤذن بانتهائها إلا اشتعال قرص الشمس في كبد السماء… الخطأ خطئي، فقد أنذرني المرض من قبل، لكنني لم أخذ انذاره مأخذ جد، لو كنت أقلعت عن التدخين واحتساء الرحيق والبن لما وصلت إلى ما أنا عليه الآن… أتساءل بدون توقف: هل كان بوسعي القيام بغير ما قمت به ؟ ما معنى ما حدث ؟ ما معنى أن المرض زارني، وأوجعني ردحا من الزمن، ثم اختبأ في الجسد، فعشت متوهما أني سليم، لكن الداء كان ينخرني من الداخل ؟ أي شيء كان الوهن يفعله، وهو في طور الكمون، إلى أن انقلب إلى هذا الورم المتوحش الذي على إثره أنا الآن طريح الفراش ؟ بالنظر إلى حالتي المزرية في هذه اللحظة، يمكن القول إن كوني الآن طوع الفراش، أتمزق ألما، كوني على مشارف الموت هو المكافأة التي نالها المرض مقابل ما أبان عنه من صبر وأناة طوال المدة التي كنت فيها "سليم البنية"، لكن أيضا مقابل كده واجتهاده، للاطاحة بجسدي، فكان له ذلك، أتخيل المرض لم يصبر ولم يجتهد في الإطاحة بي، أتساءل: كيف كان سيكون الوضع ؟ كنت سأرقى إلى مصاف الآلهة، كنت سألج الخلود. من هذه الزاوية يمكن اعتبار المرض والموت تعبيرا عن رفض ما، صادر عن جهة ما، لنصير نحن معشر بني الإنسان خالدين،خلدنا يقلقهم، بأي وجه يقلقهم ؟ لست أدري!!
أتخيل الكرة الأرضية برمتها لا تعدو مجرد عضو صغير داخل جسد أكبر سيستحيل علينا إلى الأبد معرفة ما هو وما هي حدوده، كأن الأرض طحالي أو إحدى كليتي، أنت يا حنجرة، وأنت يا رئة، أنتما اللتان تمزقانني الآن ألما من الداخل، أتعرفان أنكما مجرد عضوين في جسدي؟ أنني أكبر منكما؟ أنني لا أتكون منكما فحسب، بل ومن أعضاء عديدة أخر؟ أعرف ذلك حق المعرفة، لكنني لا أعرف ما يروج بداخلكما: لا أعرف – ولن أعرف إطلاقا- ما إذا كنتما تعقلان أم لا. نعم، لقد تواصلنا من قبل كثيرا، غير أن "التواصل" بيننا لم يتم دائما إلا بإرسالكما لي «إشارات » الآن فقط أدرك أنها كانت بمثابة ضوء أحمر «هو الوجع أو الألم » ينذرني إنذارا… لم يكن في إمكاني أن أستجيب لإنذاراتكما المتكررة إلا بأحد تصرفين:
إما أفهم تلك الإنذارات، وأخذها مأخذ جد، وأستجيب لها، فأقلع عن فرط التدخين واحتساء الرحيق والبن، أكف عن تبذير الجسد في ليالي السهر الطوال، أكل جيدا وأنام جيدا, أخذ أقساطا وافرة من الراحة، أتصرف كما تتصرف تلك الجثث التي كان أصحابها من وراء مكاتب العيادات وشباكات الصيدليات ينظرون الي، أنا الجسد العليل الذي هرم قبل الأوان، بأجساد تفيض حيوية وعيون ناصعة البياض والسواد، تكاد تطير من محاجرها حيوية، أجساد كدت أنسبها إلى الخلود لولا أنني فطنت دوما إلى أنها إلى نفق الموت الذي أقيم فيه الآن أيلة طال الزمن أو قصر. وهذا التصرف فاتني إلى الأبد لأنني الآن إلى الموت مساق. للمرء مواعيد كثر مع الموت، من يصب موعده يسق إلى مقام الموتى، ومن يخطئه ينتظر حينا ثم يساق، وبوصلتي الباطنية أنبأتني أن موتي يستعجل لقائي لفرط ما أخلفته من مواعيد…
أولا أستجيب له أستخف به، لا أخذه مأخذ جد، فأفعل كأن شيئا لم يحصل، وذلك ما فعلته، وها أنتما الآن «تنتقمان » مني، بإيلامي وإلزامي الفراش ووضعي على مشارف الموت. الآن فقط أدركت، وبعد فوات الأوان، أن الصمم الذي واجهت به دوما رسائلكما هو الأصل في ألمي الحالي، هو ما أنضج و«هيج » تلك الألأم الصغيرة التي تجاهلتها على الدوام إلى أن اجتمعت فاتحدت واحتشدت جاعلة من نفسها جيشا عاتيا قادرا على الآنطاق بي إلى المنعطف الأخر، إلى الموت الذي اجتزت الآن أطوارا منه: المرض الأولي، استفحال المرض، إلى ملازمة الفراش، فالاحتضار، فمغادرة الحياة، هذا التصرف هو ما فعلته، وها أنتما الآن تنتقمان مني بإيلامي وإلزامي الفراش ووضعي على مشارف الموت.
شريط التطبيب يمر أمامي، ينتابني الهلع مما جند لإنقاذ هذا الجسد العليل دون جدوى: أسرة مستشفيات، أيادي أطباء،خدمات ممرضات، جبال حقن وأقراص، علاجات كيماوية… ومع ذلك، فهأنذا في نفق الموت أقيم.
أتذكر مرضى القرون الخالية، الذين حصدتهم أمراض صار لها الآن علاج، ينتابني إحساس كبير بالغبن لكوني سأموت من مرض سيتوصل الطب حتما إلى إيجاد علاج dله ,أتخيل أنني مت، وما مضى وقت قصير جدا حتى صار المرض الذي اغتالني مجرد مرض بسيط لا يقطب علاجه أكثر من حقنتين أو علبة أقراص، يا معشر الناس، إني الآن، وإن كنت أقيم بينكم وأنتمي إلى زمنكم، فقد جعل مني الوهن والكسل الذي يوجد عليه الطب حاليا مريضا جذريا أو زهريا في القرن الماضي أقيم.
ينتابني حقد كبير على المؤسسة الطبية الواهنة، لا أرى في عجزها عن مداواتي سوى مظهر لكسل الإنسان الحالي وعماه عن الرؤية الواضحة، اصح يا طبيب. دواء دائي أمامكم، يناديكم بالأصابع مشيرا اليكم أن «هأنذا»، وأنتم عنه غافلون، لا ترونه ولا تسمعون نداءه، ويوم ستسمعون هذا النداء زاعمين أنكم قد اكتشفتم أخيرا دواء ما أودى بحياتي وحياة الكثيرين من المرضى أمثالي، ستضحكون على أنفسكم، ستستخفون منكم، من بلادتكم وقصر نظركم، نعم، ستفعلون ذلك وكلكم في الإحساس بالذنب غريق، لأن للموتى المغبونين الذين كان بالإمكان إنقاذهم أصواتا وترنحات لا تنقطع رغم انقطاعهم عن الحياة. ستحاصركم أصوات الموتى المغبونين ستدوي بدواخلكم كما تدوي الآن بداخلي لفرظ ما انسدل من الحجب بيني وبينها، يا معشر الأطباء. لكل داء دواء، ولكل دواء نداء، لكن لا يسمع هذا الضرب من النداءات إلا العباقرة، لأن العباقرة قوم يستبقون زمنهم ويغرفون من مياه هي عادية جدا في زمنها، لكنها تكون – أو تبدو بالأحرى- بعيدة جدا في الأزمنة السابقة لها. كل جديد ماله القدم. مهما يبلغ من الجدة ما يكتشفا المرء وينال عنه لقب «عبقري»،فهو سيصير عاديا في يوم ما…
تلاشى بداخلي إحساس الغبن، حلت محله مشاعر الشفقة على الجسد الطبي، الشفقة، لأن للطبيعة في الجهة الأخرى مهام لا تنقطع: أمراض تختفي وأخرى تظهر، مسعى سيزيفي هذا الذي يسلكه الإنسان مع المرض !. ليس الطب العصري، في نهاية المطاف، سوى تعبير عن رغبة في دمقرطة الحياة: دمقرطة الحياة بمعنى منح أكبر عدد من الناس فرصة للبقاء على قدم المساواة، والحيلولة بينهم وبين الموت غير الطبيعي، بينهم وبين الموت المبكر والمفاجئ، غير أن هذه الرغبة تخالف ناموس الطبيعة الذي اشتغل منذ العصور السحيقة إلى ظهور هذا الطب الذي ينعت نفسه بالـ" عصري" والذي لا يكف بني البشر عن التصفيق له والإشات بما حققه متمثلا في تمديد متوسط العمر، وتقليص عدد الوفيات من خلال القضاء على أوبئة قاتلة يا ما قتلت: في الماضي، ملايين لأرواح البشرية دفعة واحدة: الطاعون، الجذري، الملاريا، الكوليرا، الخ. نعم، كان من نتائج هذه الديمقراطية أن تضاعف عدد سكان الكرة الأرضية بمئات المرات، ربما بحجم لم تعرفه البشرية منذ "ظهورها" حتى اليوم، بسبب عدد اللقاحات الإجبارية، والمتابعة الطبية، الخ. لكن هل هذا التضاعف تحقيق لتلك الرغبة ؟ إن قانون الطبيعة الأول، وهو البقاء للأقوى والانتخاب الطبيعي، هو السائد حتى اليوم. ومن مظاهر سيادته كون عدد كبير من الأمراض لم يتم التغلب عليها بعد؟ فمرض الزهايمر يقعد حاليا 350 ألف شخص في فرنسا وحدها، والسرطان وحده يحصد ستة عشر ألف روح سنويا في كل دولة، والسل يسوق من سكان المعمورة مائة ألف شخص سنويا إلى المقبرة، ناهيك عن السيدا وأمراض أخر…
بهذا المعنى يكون مسعى الطب العصري هو منح الحياة لفاقدها أصلا. إنه يجعل أناسا يعيشون رغم أنفهم ورغم أنف الطبيعة، يمدد حياتهم بينما هم في الأصل موتى. تشرق في ذهني الحقيقة التالية: لقد مرضت لأنني غير صالح للبقاء، لأن الطبيعة صفتني تصفية منذ ولادتي، كان لي موعد مع الموت منذ ولدت، كان موتي مقررا في الطفولة المبكرة جدا، وما أطال عمري إلا عدد اللقاحات التي أجريت لي، وترددي على الأطباء لمعالجة الأمراض التي كانت من لإيجاع بحيث أجبرتني على الاستنجاد بهم إلى أن حل بي المرض اللعين الذي يقف أمامه الطبيب في هذه المرة جاهدا عاجزا، أتخيلني مت منذ ولدت،منذ كان عمري بضمة أشهر أو بضع سنين , أتساءل: ما معنى الأعوام التي فصلت بين موتي المخطئ, موتي الذي كان مبرمجا من قبل لكنه لم يتحقق بسبب تدخلات الأطباء، وموتي المحقق , موتي المقرر الآن، والذي يبدو أن أمر الحسم فيه قد تم بما لا رجعة فيه ؟ ما تلك الأعوام إلإ فائض حياتي، هبة حياتية كبرى حظيت بها. يتوارى الغبن، أقبل أن أموت، أقبل موتي بصدر رحب , أقبله بشوق، أفطن إلى أنني إن أمت ينزع عني الإحساس بحيث أحرم حتى من طعم نشوة. اللقاء بموضوع شوقي، أتمزق , حتى من معرفة أني مت وبالتالي تخلصت من الألأم المبرحة التي تقطعني الآن أطرافا, أتشظي حسرة.
مخطئ الخطأ كله من يعتقد أن مقعد المرض يكون في وحدة قاعة، ومقعد المرض هو المرء الذي تمزقه الام مبرحة – كالتي تمزقني الآن – بحيث تمنعا حتى من ترجمة تألمه بلغة الأنين، فأحرى أن يتواصل مع الآخرن أو يستجيب لمطالب الجسم لأكثر أولية، كالأكل والنوم. ففي ملازمة الفراش يتحقق اللقاء الأكبر مع الذات، لكل امرىء موعد مع نفسه ,وهذا اللقاء لا يتم إلا في مقامين: مقام المرض، ومقام الاحتضار.
لقاء المرض يتفاوت بتفاوت الأمراض، ذلك أن أدنى ألم يصيب عضوا ما من أعضاء الإنسان ما هو إلا نسخة ((version اللقاء الفعلي لهذا الإنسان نفسه مع الموت الذي ما البشر سوى كائنات منذورة له. وأشد الناس لقاء بأنفسهم الأطفال الصغار، ذلك أن هشاشة صحتهم تجعلهم معرضن للأمراض على الدوام. وفي كل مرض يتحقق الاختلاء بالنفس والانصات لها. وبذلك لا يمكن تفسير غياب كلام الطفل منذ الولادة (مرحلة ما قبل الكلام) إلإ باعتباره انشغالا بالنفس، اقترانا بين الروع والجسد. لكن المجتمع يتخل باللغة والضابط، فيحدث شروحا بين المرء ونفسه، شروحا تزداد بتوغل الفرد في الكبر… أه لأن فقط أفطن إلى أنني لم أعش دوما إلإ خارج نفسي، كنت أتوهم أنني في صحة جيدة، وكلما كان المرء سليم البنية لف جسده برداء من النسيان.. بهذا المعنى فالمرض عودة إلى الطفولة، ولحظة الموت تعادل لحظة الولادة، أنا الآن لن أموت، سأولد من جديد، أستعجل موتي بفارغ الصبر، أنا الأن أحتضر، وفي احتضاري لقائي بنفسي التي افتقدتها دوما أو أجبرت بالأحرى دائما هي افتقادها.
أول ما خطر بذهني، لما أخبرني الطبيب بطبيعة مرضي، بالضربة القدرية التي تنتظرني، أن أضع حدا لحياتي. لكنني (والآن فقط أفطن لذلك)، كنت جبانا، ولذلك عوض أن ألقي بنفسي من سطح عمارة أو أبتلع أدوية قاتلة تشبت بأمل وهمي في الشفاء: سعيت إلى عقد صلح مع الجسد واليوم عندما أقارن بين السبيلين لا أنتهي الا إلى كونهما في العمق متشابهين ؛ سواء أأضع حدا لحياتي أو أسعي إلى العلاج، فكلا التصرفين لقاء مع الجسد لأول مرة. نعم، فيما وراء اختلاف النوايا والغايات الكامنة وراء اللقاءين فهما يظلان متشابهين: التقيت بجسدي لأول مرة أملا في أن أعقد شبه صلح معه، وكنت أرمي من وراء ذلك اللقاء إلى استعادة القوة، إلى التخلص من المرض، إلى الاستمرار على قيد الحياة، تم كل شيء كأنني كنت أرى جسدي يعذبني، يعاقبني على القطيعة التي أرسيتها معه من قبل، على الإهانة التي ألحقتها به عندما لم أستجب للإنذارات المتكررة التي وجهها الي قبل أن يجبرني على ملازمة الفراش.
ليس مرضي الحالي إلا رد إهانة بأخرى؛ فقد أهنت جسدي من قبل، وها هو الآن يهينني: أهنته عندما كنت أكل وأشرب وأدخن وأسهر وأحتسي القهوة بإفراط دون أن أكترث لما قد يترتب على ذلك كله من متاعب: كنت أراكم «الإساة » إلى عضو أو عدة أعضاء مني عبر مدها بما لا تطيقه، أو إكراهها على قبول ما لا تقبله.. كنت أنعم – أو كان يخيل الي أنني كنت أنعم – بالصحة فيما كان جسدي يرزح تدريجيا تحت المرض إلى أن أخذ هذا الوهن شكل ورم خبيث، هيأة جسد (مشوه) داخل الجسد الأكبر، قنبلة بداخلي يمكن أن تنفجر في أي لحظة فألقى على إثر انفجارها حتفي…
أما الإهانة الأخرى، فكوني الآن ألازم الفراش، أسعى إلى الشفاء،لا يوجد لدائي دواء؛ قد عاقبني جسدي على القطيعة التي أرسيتها معه ناسيا أنني منه كنت أستمد الحالة التي غابت عني إلى الأبد، وهي الصحة التي أحاول استعادتها الآن.كأن الإهانة التي ألحقها بي جسدي الآن رسالة تقول لي: "بما أنك لم تعرني أدنى اهتمام بما أنك أهملتني، فلا حاجة لي بالبقاء. عما قليل سأرحل، وبرحيلي سأسلبك مما أنت إياه، سأحرمك من مقومات الحياة "، ولقد استعد جسدي فعلا للرحيل، وأخذت بوادر هذا الرحيل في الظهور من خلال الأعراض التي أشكو منها.
لقد فشلت كل مفاوضاتي الأخيرة مع الجسد، إذ لم يفد أي إجراء علاجي؛ أنا الآن بين يديه، نحن الآن مجتمعان، هو ينتقم، ولانتقامه شكلان ربما سأرحل دون أن أعرف على أي شكل سيستقر، لأنه متى استقر على شكل كنت فارقت الحياة، وكان الإحساس والفكر قد غابا عني وغبت منهما إلى الأبد:
الشكل الانتقامي الأمل أن أموت دون أن أخلف لسلالتي أي أثر من مرضي، والى هذا النوع من المرضى أتمنى أن يكون انتقائي، فشلي في العلاج (أو الانتقام الأول الذي ألحقه بي الجسد) هو أيضا لقاء بالنفس، بل هو تحقيق للقاء الأسمى بالنفس، ذلك أن كلينا حل في الأخر بحيث صرنا وجهين لبعضينا، لقائي الآن بنفسي عودة إلى حالة الطفولة، إلى مرحلة ما قبل الكلام، هو انفصال لي عن المجتمع، بل ربما موعودة إلى رحم الأم، ليس الأم البيولاجية، وإنما الأم الكبرى التي تجسدها الطبيعة. المرض رحيم والموت جميل. موتي مكافأة لي عما رزحت تحته من مرض طوال فترة لزومي الفراش واحتضاري. كأن الطبيعة الأم حنت الي الموت باعتباري طفلها، جزءا مفقودا منها، فأرسلت الي رسولا، هو الموت، كي ينتشلني من المجتمع ومن الحركة. بهذا المعنى يمكن اعتبار فشل المفاوضات العلاجية أو انتقام الجسد مني نجاحا وربحا للطرفين معا: للحوت ولي، ولطبيعة ولجسدي.
أما الشكل الانتقامي الثاني للجسد فهو أن أموت وأخلف لسلالتي أثرا من مرضي لسلالتي، في هذه الحالة لن يكون الموت رؤوفا، لن يتحقق اللقاء بيني وبينه على انفراد، لن يميتني إلا باعتباري جزءا من جماعة، بديلا عنها. في هذا المستوى، كل شيء يتم كما لو كان هدف الموت هو أن يميت بني البشر قاطبة، أن يمحوهم دفعة واحدة من الوجود. لكن بسبب من عجز- ظلت معرفته إلى اليوم عالقة-، فإن اللقاء بين الموت وبين البشر لا يتحقق دفعة واحدة، وإنما يتلاحق ؟ يتحقق في فرد من السلالة، هو الميت، هو الأب الذي يخلف مولودا يظل في صحة جيدة، لكن في يوم من الأيام يأتي الطبيب ويقول للنجل: "أنت مريض بسرطان وراثي، لقد ازددت وبذرة الموت الفجائي مودعة فيك "، وفور امحاء الابن من الوجود يتحقق اللقاء من جديد مع الموت… والنموذج الأصلي لموت هؤلاء المرضى هو الصراع الأبدي بين الإنسان والموت. الموت لم يمت إلا أفرادا دون أن يميت النوع البشري لحد اليوم. هذا النوع من المرضى يحملون هم البشرية جمعاء، بمفردهم، ذلك أن الموت تجزيئي، ومهما كبر عدد الموتى الذي يموتون لحظة واحدة، وفي مكان واحد، فإن لا أحد منهم يموت كما يموت الاخر، لا أحد يعرف ما إذا كانت تنتابه أحاسيس وأفكار مطابقة لجاره وشريكه في الموت أم لا.
رغم أن الموت يصيبنا جميعا، رغم أن لا أحد منا يفلت منه، فنحن نتغلب عليه عن طريق التوالد والتكاثر. والتوالد في نهاية المطاف محاولة إفلات من الموت، محاولة يجريها البشر رغما عنهم، يقوم بها ما يمكن تسميته بـ"العقل البشري" أو "العقل الغريزي"، وهذا العقل هو الذي يسيرنا، وليس الثقافة أو اللغة أو المجتمع، هو الذي يدير حياة الأفراد، وربما هو الذي يوزع علينا الأدوار إذا افترضنا أن موتنا إن هو إلا تقديم أو اخير لكل واحد منا، يجريه العقل الغريزي، في لعبته مع الموت.
نفق الموت معتم، أنا الآن في منتصفه، يزداد ترنح المرأتين، ترتفع جلبة الغرفة المجاورة، أريد أن أتكلم، لا أقوى على الكلام، أريد أن أنقل كل ما يروج في ذهني من أفكار، لا أقوى على الكلام… أتمزق ألما وإحساسا بالغبن. ذات يوم، كنت مازلت في صحة جيدة، وصلني نبأ موت أستاذ زميل في كلية الآداب بمكناس، فصعقت. في الليل استيقظت وسط كابوس، رأيت نفسي طريح الفراش، عن يميني امرأة كانت تقول: "كأن شفتيه قطعتا ثلج، الله الله، ابني مسكين يموت ! ابني يموت…" وعن يساري أخرى اكتفت بالترنح والنعيب. يومئذ استجمعت كل قواي، فاستمسكت، وقفزت صارخا لأجدني في فراش النوم وحيدا. لم يكن ثمة امرأتان ولا أقارب، قمت على الفور، فكتبت نصا، أروى فيه الكابوس على نحو ما عشته، ووضعت له عنوان: "لغة الأعضاء: من دفاتر المرض "، لكن الآن ! أنا الآن أيضا وسط الكابوس نفسه، عن يميني امرأة وعن يساري أخرى، الأولى أمي والأخرى زوجتي، تروج في ذهني أفكار أعمق من كل ما كبته يومئذ، لكنني لا يمكنني الآن أن أنقل أي شيء مما يروج في ذهني, استمسكت مرارا، وحاولت مرارا الكلام، لم أستطع الحراك قيد أنملة ولا تلفظ ربع كلمة، أعرف حق المعرفة أنني الآن،خلافا للمرة السابقة، على عتبة الموت الفعلي من جراء مرض عضال. أحس بالمأساة، تمنيت لو أني لم أولد، لكنني لو لم أولد لما كان لهذه الأمنية أي معنى، بل لما وجدت بداخلي أصلا، إنني أتمزق.