هذه المسافات الطويلة بين الشوارع تصيبها بالإعياء.. كان الناس يمشون وعلى جلود وجوههم وشم الخوف يجذبهم مجهول غامض الى ما لا يعرفون.. جلست على دكة خشبية أمام مساحة من العشب الأخضر.. كتفت سكونها كلمات عابثة من بعض المارين.. يئسوا.. فسكتوا ثم انصرفوا.. قابلتها عجوز خرفة :
تنتظرين ؟
– ليس شأنك
اعتراها الذهول عندما نظرت اليها.. كانت تشبهها في كثير من الملامح.. ارتبكت..محاولة التنفس بعمق.. أغمضت عينيها.. ( واحد، اثنان، ثلاثة).. ( واحد. اثنان. ثلاثة).
شهيق.. زفير.. اووف.
فأخرجت من حقيبتها ورقة مطوية أطبقت عليها أصابعها فاستشعرت قليلا من الراحة وقامت لتمشي رغم برودة الجو.. كانت الحديقة الوسعة قد غسلتها أمطار الصباح فسقطت عن أشجارها ستائر أتربة العام الطويل فصارت ذات بهجة.. ورغم غياب الشمس كانت مسحة ضوء غريب قد انتشرت فعمت المكان وأصبح للهواء الآن رائحة تذكرها بأشياء تجتاح دائرة مغلقة.. الشحوب يكسو وجهها مع لمحة حزن تزيدها وقارا.. نظرة أخيرة وكأنها تستودع المكان شيئا عزيزا.
عند مغامرة الحديقة وأمام بوابة الخروج الحديدية صافحتها ابتسامة العجوز وهي تجلس على دكة خشبية تطبق يدها المعروقة على ورقة مطوية.. فتظاهرت بالمعجلة.. واستسلمت لطوفان من الزحام في احد الاتوبيسات.
يوما ما من ديسمبر
شقوق منتشرة.. غائرة في كعب القدم واطراف مثلجة.. متجمدة.. وارتعاشة مزمنة صاحبتها حتى اخر الطريق.. جسد
لا يتحمل هذا البرد.. برد ثقيل لم تشهده القاهرة منذ عقود طويلة..برد جديد!
(حاولي لو كانت لديك القدرة ان تتحملي شعورك بالانقسام.. دفء له إيقاع داخلي وصقيع اوروبي خارجي)!!
تدثرت بنفسها.. حاولت الغناء، خرجت الحروف مكسرة.. مبتورة (تذكري إن استطعت مقطعا من قصيدة أم كلثوم التي تعشقينها وترددين أبياتها بلا ملل.. اخلعي هذه الألوان الداكنة وتفتحي رغم جثوم الشتاء القارس برده).
أشارت الى التاكسي.. توقف.. جلست تفرك يديها تارة وتنفخ فيهما تارة أخرى.. مساحتان تتراقصان يمينا ويسارا واغنية همجية تسحق الأذن.. وسائق يترك عجلة القيادة ليعد جنيهاته.. السيارة تسير بانطلاقها هي.. حرة.. لا تشعر بالخوف قط بل هي فقط تشعر بالبرد ثم تسلم قدميها للطريق.
في الشتاء تضاء واجهات المحلات قليلا وتتسخ عتباتها بالطين ولا يستحم الناس لأسابيع طويلة (تنتشر الشقوق في قدميك وتحتاجين لمزيد من الجلسرين.. حاولي ان تطلقي عنان خصلة من الشعر فوق الجبين وان ترتدي قرطك المجلجل.. وأن تظهري شينا من الفرحة ) سيدة تعثرت في الطريق وفقدت توازنها ثم سقطت وانتشرت الضحكات البلهاء فشعرت بالخزي ثم انزوت في ضباب كثيف.. وفتاة تناثرت على ساقيها قطرات من الماء الممزوج بالطين بعد مرور سيارة مسرعة في بركة من الوحل ومع هذا لم تتركها أعين الشباب اللاهي.. وكادت تلتهمها وهي مقوسة تنظفهما..
ارتعاشة وفراغ يملآن صدرها.. (آه هو هذا المقطع «استشف الوجد في صوتك.، آهات دفينة.. تتوارى خلف انفاسك كي لا استبينه» نعم حاولي الغناء).
تتعجل في خطواتها.. تسرع أكثر.. تخفت الإضاءة في الشارع الجانبي حتى تختفي تماما، تبدأ الغناء بصوت واهن لا يسمع.. تصعد درجات السلم فيعلو صوتها شيئا فشيئا.. تدخل شقتها القاتمة المظلمة.. تغلق غرفتها.
يظهر صوتها سليما، تردد باقي المقاطع.. منغمة.. تردد حتى داهمها نعاس يصاحبه الدفء والابتسامة الطازجة.
وفاء ابو زيد ( قاصة من مصر)